لمحة عن الرمزية عند زيد مطيع دماج

د. حاتم الصكر
 

 

الراحل العزيز الروائي العربي أولاً واليمني ثانياً زيد مطيع دماج حاضر في ذاكرة القراء وذلك لا أجد صعوبة في استرجاع ما قد كتبته سابقاً عن روايته الفذة «الرهينة» .

«الرهينة» كانت لها في بغداد أيام عافيتها قصة حيث أن أحد الزملاء وصلته ولا أعرف كيف وصلته وهو خالد مصطفى ـ أستاذ جامعي فاقترح علينا في اتحاد الكتاب أن نعقد حولها ندوة نقدية واذكر أنها كانت في أواخر العام في ذلك الحين ـ يعني في ايام الشتاء فكان الجمهور قليلاً ولكن مع ذلك الذي وصلنا عن الرهينة زاد تشوقنا لمعرفة هذا الكاتب.

ومنذ مجيئي إلى اليمن واشتغالي بالتدريس كنت أحاول الاقتراب من نص دماج فتكونت لدي الكثير من الأفكار واذكر بقراءة رمزية كنت قد قمت بها «للرهينة» لأن الرهينة هي موضع التباس وبلبلة في المجتمع اليمني من جهة وقراءات سياسية منحازة من جهة أخرى لكنني حاولت أن أسلط عليها جهات الرمزية ـ يعني أن اقرأ موجودات الرواية هذه على أنها ترميز.

إن الرهينة الصغير عند مايهرب وينجح بالهروب من قلعة القاهرة يجد أمامه مستقبلاً مجهولاً وأرضاً لايعرفها وهذا دليل على أنه يمثل الجيل الثوري في البلاد العربية والذي ينجز الثورات ولكن ليس لديه برنامج أيدلوجي أو سياسي ـ هذا واحد والدويدار هو في الحقيقة ميت بدوره ليس عند الروائي فقط وإنما دوره كجيل لأنه ممدد على السرير ويعطي نصائح للدويدار الصغير بأن يخدم نائب الإمام ولايتكلم وأن يطيع فقط ، وأعتقد أن هذا هو دور الجيل القديم في فلسطين مثلاً الذي مثلته رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس».

وفي اليمن عندما ينصح الدويدار القديم الدويدار الجديد بأن لا يتكلم لأن الكلام يعني الغضب عليه من قبل السلطة.. أما حفصة وهي أكثر الشخصيات بلبلة وإشكالية وخلافاً بين القراء العرب واليمنيين وحتى في الترجمة إلى اللغات الأوربية فهي في اعتقادي هي السلطة ذات الإغواء والإغراء التي تريد من هذا الشاب الصغير أن تستنزف جسده وأن تجعله أيضا مرتبطاً بمصيرها ، وفراره منها هو في الحقيقة تمرد على هذه السلطة الذي حلم زيد مطيع دماج بأن يتخلص منها اليمنيون وهذا ماحصل فعلاً.

الزميلة العزيزة هدى ابلان في تصريح لها قالت «عندما يذكر زيد مطيع دماج تذكر الرهينة وفي الحقيقة هذا ليس نقصاً ، أو عيباً بل دليل أن النص الجيد مثل حقل المغناطيس أي أنه يجذب القراء وبالتالي يسمح بعدة وجهات أو زوايا نظر واعتقد هذا دليل عافية وإن كانت هي محقة في النصف الأخير من الجواب أنه يجب أن تكر أو تعاود الكر على نصوص زيد مطيع دماج ليس فقط بمفتاح الرهينة.

الأسبوع الماضي جربت مع طلابي قراءة الهامش في سرد زيد مطيع دماج فوجدناه يهتم بالهامش اهتماماً خاصاً ، كما طبقنا في واحدة من القصص «المجنون» مجنون القرية الذي نجده عند «كازنت زاكي» وفي القصة الروسية قبل سقوط الاتحاد السوفيتي وفي القصة الريفية العربية ، لكن مجنون القرية عند المختصين بالسرد أكثر منا رؤية في رسم شخصيته خلالها لأنه يقوم بأعمال لايمكن لطفل ناضج للتو ـ جنسياً وجسدياً ـ أن يقوم بها كمراودة حفصة له واتخاذ القرارات من الرجات الذكية.

فالرواية كتبت في الثمانينات والوعي الروائي طبعاً لم يكن موجوداً فهناك مايمكن تسميته بالالتقاط .. أحيانا الروائي تمتد أصابعه لتظهر في رسم الشخصية وهذا يعني دليل غنى الوعي الذي كان وراء كتابة الرهينة.

أيضا كتاب «الانبهار والدهشة» الحقيقة أن هذا الكتاب يعتبر هامشاً في هامش كتابات زيد دماج كونه يتناول صلة الطفل بالمدينة وقد قسمه إلى قسمين وكأنه يشير إلى العنوان أيضا فالانبهار هو بمدينة تعز والدهشة لما تراه في القاهرة.

يمكن للقارئ الذي لم يقرأ الكتاب أن يقول «تعز ليست في الخمسينات هذه المدينة المبهرة حتى ينبهر بها دماج» ولكن الحقيقة هو كان آتياً من القرية أصلا فكل مايراه هناك هو مبعث الانبهار .. على سبيل المثال أن يشرب مايسمى «البيبسي» لأول مرة كان صديقه يقول له أن هذه مسكرة ـ يعني إذا شربناها نسكر ـ فيجلسون في المقهى وهم صغار هاربون من المدرسة فيشربون هذه الكازوزة .. وبالإيحاء يتخيلون أنفسهم قد أصبحوا سكارى مثلاً أو الباص الوحيد الذي يذهب إلى عدن هذا هو واسطة الربط بين المدينة ومدينته الأكثر إضاءة وانبهاراً في أيام الاحتلال البريطاني وهي عدن.

أعتقد أن الانبهار كحالة نفسية حصلت في تعز أما الدهشة فهي أكبر ـ لأن الانبهار قد يكون باستجابة من الشخص نفسه ـ أما الاندهاش يسقط عليه من هو أقوى من وعيه وشعوره وهو ما حصل في القاهرة التي ذهب إليها بطائرة على مرحلتين ، ينزل في أسمرة ثم يأخذ طائرة اكبر إلى القاهرة هذه المدينة التي كانت بقياس المدن العربية في الخمسينات مدينة فذة بها الباص وحدائق الحيوان والجامعات والنساء أكثر تحرراً من المدن العربية الأخرى وطرق المواصلات الحديثة... الخ.. فيندهش.

وبما أن زيد دماج روائي فإنه يتعامل مع المكان تعاملاً ظاهرياً يعني في علم «الفنينولوجيا» أن المكان يتشكل في وعينا نحن.. فزيد دماج حقيقة يقدم قاهرة أخرى غير التي كتب عنها طه حسين والتي كتب عنها الروائيون المصريون وإحسان عبدالقدوس لأنه يرى مدينة في كل شيء مثل دخوله إلى الحمام والباص الذي يطلع به والطربوش حتى الطربوش الذي يسرقه من المسجد ويأخذ من احد الناس في المسجد طربوشه لكي يسافر به دون علم والده ، هذه الكسر البسيطة تدل على أن تعامل زيد دماج مع المكان كان تعاملاً من جهتين أولاً بوعي ظاهراتي ، إسقاط شعور وعي على المكان فتعز الذي يقدمها حقيقة ليست تعز التي نراها اليوم.

عندما يتكلم عن باب موسى والباب الكبير وباعة البطاطا وجامع الأشرفية يتكلم بصياغة روحية خاصة بما يمليه وعيه في تلك اللحظة وبما تمليه ثقافته.

هناك إشارة مهمة يقولها زيد في مقدمته للعمل «تعز مدينة أسطورية عشعشت كحمامة وديعة في خيالي منذ الطفولة والصبا.. تعز تبيض فيها روايات وقصص لاتنضب حتى اليوم ، فإذاً كانت تعز هي حاضنة للمزيد من عطاء القصص والروايات .. ولذلك مجنون المدينة الذي يتحدى الإمام ويذكر أمامه أنه هو البطل والمنادي بالسوق وبائعة البطاطا والطلبة الفقراء الصغار والمزارعين.

فاعتنائه بالهامش اعتقد هو بذرة من الطفولة تطورت إلى أن جعلها بطل روايته فاعتناؤه بالهامش اعتقد هو بذرة من الطفولة تطورت إلى أن جعلها بطل روايته المهمة والشهيرة هامشياً أيضا ـ ولأنه صغير والمدينة كما قلت هي غريبة عليه ولذلك يتعامل معها معاملة الريفي الذي جاء إلى هذه المدينة.

فالجغرافيا احتلت مكاناً كبيراً في الكتاب وذكرني بالأدب الجغرافي العربي عند ابن جبير وشمس الدين الطنجي المعروف «ابن بطولة» حيث يعرفون القارئ أولاً على الجغرافيا يعني طبغرافيا المكان وتوزيعه .. وأحيانا التوزيع البشري الديمغرافي لكن بالمقابل بعد ذلك تدخل الذات ولهذا فأدب الرحلة العربي ـ وأنا اختلف هنا مع الصديق المصري يوسف القعيد الذي قرأت له مقالاً اعتبر فيه هذا من ادب الرحلة ـ مجنس في الأدب العربي فهو الذي يكون شهادة على المكان بالدرجة الأولى والذات بالدرجة الثانية تأتي.

وهنا الذات الآن حاضرة فأنا اعتبرها سيرة للمكان يعني اتوبجرافي ولكن من زاوية المكان لأن زيد دماج غير معني بالجغرافيا نعم هو استهل الصفحات الأولى التي ربما أوهمت الصديق القعيد فاعتبرها كذلك.

عندما يتكلم عن سور تعز وباب موسى والباب الكبير والنوبة التي تبرز من قلعة القاهرة الخ .. فاعتقد جازماً على أنه كان يعامل هذه الأمكنة أو يستعيدها وكأنها ضميره لقصصه ورواياته.