الرهينة: التأويل والسرد
د. حاتم الصكر
|
||||||||||||||||||||
في هذه الدراسة أجد أن التنبيه إلى الدلالات الرمزية في العمل سيسهم في خلق قراءة مبرأة من الإسقاطات التي قد تخلقها القراءة المتعجلة. فرغم إنتسابها إلى التيار الواقعي تظل رواية الرهينة ممكنة القراءة بمستويات أخرى، منها القراءة التاريخية والأيديولوجية والرمزية... وهذه القراءات الثلاث إلى جانب القراءة الواقعية (أي تأويل أحداث الرواية إستناداً إلى محاولة الكاتب إستيعاب الواقع، وتمثل مفردات معينه منه لإعادة تمثيلها وعرضها روائياً) ستكون إختبار قراءة في المقام الأول، أي إنها تصب على النص الروائي حدوسها وإفتراضاتها وتأويلاتها... فعلى صعيد القراءة التاريخية يشجع المناخ التاريخي الذي ينتمي إليه الحدث على إنجاز مثل هذه القراءة، التي تدخل من التاريخ اليمني الحديث (حكم الإمامة وأجهزته ومؤسساته وممارساته...) وتفسير الأحداث على وفق هذا الإفتراض لترى مدى مطابقة الأحداث للوقائع (بالمعني المشترك بين العمل الروائي والتاريخ) ولا شك أن مفاتيح هذه القراءة لن تقود إلى (مطابقة) المبنى الروائي المتحقق بمجريات الوقائع المتنفذة أو المروية لكون الروائي عند إنجاز عمله إنما ينتزع الواقعة المتمثلة أو المروية من سياقها التاريخي الخارجي ليهبها تسلسلاً فنياً، أو يجعلها مندرجة في سياق روائي، يعطيها حياة أخرى خارج متوالية حياتها التي عاشتها أو عاصرتها. وهذا هو مقياس نجاح أو إخفاق أي روائي يجعل وقائع التاريخ المعروفة والمعاشة مادة لعمل روائي.. فالذاكرة لا تزال تجتر عن عهد الإمامة البائد الكثير من الرؤى والتصورات والذكريات والمواقف، والزاوية التي يدخل منها الروائي إلى نصه ستحدد أيضاً هوية عمله، ومقدار الدرجة التي يحتوي فيها وقائع التاريخ لصالح وجودها الروائي... وفي القراءة الإيديولوجية يستطيع القارئ - والناقد ضمناً - تحديد الإنتماء الفكري للكاتب وهو يسجل ما تشير إليه أحداث السرد وأفعاله من مؤشرات إعتقادية، وهنا لا يخفى إنتساب دماج إلى صف التغيير، واصطفاف الحرية والتحرر، ومعاداة الظلام والتخلف، وستصبح الشخصيات رموزاً تعادل (الأفكار) بمقابل إشارتها إلى (التاريخ) في القراءة الأولى. أما قراءتنا الرمزية المقترحة، فهي لا تحيل الأحداث والشخصيات إلى دلالات ذات بعد اجتماعي أو تاريخ أو أيديولوجي بل تتعمق في ما تحيل إليه من مدلولات رمزية معقدة، قد تستلف من القراءات السابقة بعض إجراءاتها وتأويلاتها، لكنها تنظر إلى عناصر السرد - لا كمؤثرات - بل كفضاء لطاقة رمزية متاحة، يبثها الروائي في ثنايا بناء الحدث ورسم الشخصية واللغة والزمان والمكان... في إجراءات التسمية والعنونة والعتاب الروائية الأخرى..
هنا سنلخص تلك القراءات لغرض المقارنة في جدول مقترح يسمح بالقياس،
إزاء ما يمكن أن تؤول إليه القراءات المقترحة، وموقع قراءتنا
الرمزية بين تلك القراءات، وذلك – بالمناسبة - يصح على غير
"الرهينة" من الروايات الحديثة التي نستخدم لقراءتها جهاز سرديا
يتعقب الرواة ومواقعهم، والشخصيات ودلالاتها، وأفعال السرد
وترابطها. من فرضيات دراستنا للرهينة، أنها قرئت بانحياز أو تفسيرات مسبقة.. وأنا هنا لست بصدد إثارة ما حف بها من ردود أفعال متباينة ذات منطلقات مختلفة: سياسية وطائفية وإجتماعية، وقعت كلها في خطأ القراءة السيئة، وخطيئة التأويل اللأنصي.. إننا - رغم حماستنا للتأويل - نريد أن تطابق تأويلاتنا موجهات الرواية، وأن تجد لها تأييداً نصياً لا أن تفترض حكمنا ثم نبحث عن أدلة من هناء وهناك.. وأحسب أن سوء القراءة والتأويل انطلقت من خطأ مطابقة أحداث الرواية لما جرى حرفياً في الواقع، دون افتراض مستوى روائي أو فني تتطلبه فنّية العمل. أي إفتراض تطابق نسخة الحياة مع نسخة الفن، أو تطابق المتن الروائي مع المبنى المتحقق وهذا يُغفل عنصر المماثلة (لا المطابقة) الذي تقوم عليه بنية السرد الروائي. فأثار بعض القراء تصوير (الشريفة حفصه) مثلاً ونساء القصر من حريم الإمام وأتباعه، كنساء عاديات لهن من الرغبات والأفعال ما لسواهن، الأمر الذي فسره البعض تعارضاً مع إنحدارهن الطبقي والديني، كما احتج البعض على تصوير الجنس في الرواية والتركيز على النزوات الجسدية كبؤرة للفعل أو الحدث الروائي.. فضلاً عن إعتراض بعض ثالث على تصوير حكم الإمامة بالفساد الذي صورته عليه الرواية.
وأحسـب أن ذلك كله مردود عليه من منطلق إعتبار "الرهينة" عملاً روائياً، فلا سرد وقائع التاريخ، ولا الإحتكام لمطابقة الأفعال للواقع، وتمثيل الشخصيات لنماذجها في الحياة، وأفكارها بالمقايسة إلى ما تمثله من أيديولوجيا، هي الإتجاه الصائب للقراءة. أما القراءة الرمزية فهي تنتبه إلى كل ما يند في الرواية من تسميات وأفعال ومحاورات وعلى هذا الأساس سوف نسوق ما يشجع - أو يؤيد - قولنا بإمكان قراءة "الرهينة" قراءة رمزية لا تعود عناصر السرد - في ضوئها - تسيء لأنماط تسكن في الذاكرة خارج العمل الروائي. في فضاء الترميز..
يمكن لأي قارئ - في المستوى الرمزي - أن يستلهم ذخيرة قراءته
ليرينا ما يمكن أن يشير إلى ما هو رمزي في العمل الروائي..
إستناداً إلى الملفوظ نفسه. والرهينة السجين أو الأسير المرتهن دون جرم واضح، ودون مصير محدد، هو الأخر سيتسع خارج أبعاده الروائية الشخصية كفتى مرهون لدى الإمام كي لا يصدر عن والده أو ولي أمره ما يزعج السلطة، وسيدل على شريحة واسعة، على مرتهنين ورهائن عدة، يؤيد هذا الإستنتاج عدم تسمية الرهينة في الرواية، بل حيـن تحين فرصة الإفصاح عن إسمه، يلغي الراوي خط السرد ويفتعل حدثاً يحرم المروى له من معرفة إسم الرهينة، لأن التسمية تحدد وتعين، بينما يريد دماج أن يكون بطله (رمزاً) لجيل كامل، مرتهن داخل القصر (الوطن) في لحظة تاريخية محددة، بل هو مجرد (دويدار) أي خادم ((يستخدمه الأمراء والحكام في قصورهم)) كما يقول أحد هوامش الرواية، وقد استخدم الراوي حيلاً سردية للتخلص من تسمية "الرهينة" مكتفياً بهذا الوصف أو بتسمية (الدويدار الجديد)، ومن ذلك هذا الحوار بين حفصة والرهينة: "لمست بيدها رأسي وقالت: - ما أسمك؟ لم أجبها فأسعفني صاحبي بلباقة الدويدار.. نظرت إلي وكنت مشدوهاً بها، لم أجبها أيضاً ولم تحاول تكرار ذلك" لكنها ستكرر ذلك في الليلة التالية محاولة معرفة اسم الرهينة. ".. سألتني: - ما أسمك؟ فقلت: - عرفت ذلك البارحة" وهذا ما يحصل عند لقاءه بالنائب أيضاً (1) .. هناك إذاً إصرار على حجب التسمية، وهذا تعزيز لإتساع المدلول الرمزي للرهينة وشموله عينات جيله الذي رشحه ليكون (دويداراً) جديداً، يخلف الدويدار السابق ويشرف على موته - من بعد - ويدفنه، ثم يختار ألا يظل – مثله - ممدداً على سريره ينهشه السل، وتمتص فتوته نساء القصر في غزوات ليلية - كما يحصل في ألف ليلة وليلة - حتى يذوي ويموت مهملاً ومنسياً.. إضافة إلى إغفال التسمية سوف نتأمل هوية السارد في الرواية، فالرواية تروي بضمير المتكلم وهو الرهينة أو الدويدار الشاب، وعائدية الأحداث إليه تجعله مركز السرد، وهو راو مشارك جزئي العلم إذا ما تفحصنا موقعه، أي أنه لا يعمل إلا ما يشارك فيه من الأحداث، شأن الرواة الداخليين المشاركين، لكنه يتسلط على الأحداث ويوجه سيرها ويصنع تراتبها، ويطل علينا عبر وجهة نظره لسرد أفعال الرواية.... وهذا امتياز أخر يعطيه زيد دماج للرهينة كي تأخذ مدلولاً رمزياً أكثر من أبعاده الفنية – الروائية - كشخصية ذات امتداد تاريخي ونفسي.. وربما كان ذلك مدعاة خلل سردي وقع فيه الكاتب حيث يعبر عن وعي أكبر من قدرة الرهينة وأبعاده داخل العمل. بل في أفكار الكاتب ووعيه المسقط على البطل. أما الشخصيات في الرواية فهي مرسومة كذلك على هذا الأساس الرمزي، فإذا كان الرهينة هو صوت - وصورة - الجيل الجديد الذي سيتمرد ويرفض ويهرب من القصر، فإن الدويدار القديم - وهو ذو اسم بالمناسبة هو (عبادي) الدال على العبودية والإستعباد - راضٍ بما هو عليه: يخدم من في القصر نهاراً، ويستجيب لنزوات سيدات القصر ليلاً، ثم ينسحب لسعاله ومرض السل الذي يفتك بجسده، مستسلماً للسيجارة والخمور كوسائل هروب مما هو فيه.. ألا يمثل ذلك الدويدار الجيل القديم الذي رضي بواقعه ولم يحاول التغيير أو البحث عن فضاء خارج ما هو مفروض عليه؟ أما المرأة في الرواية فهي الأنثى المتسلطة أو السلطة التي تريد خادماً مطيعاً وملبياً بصمت، مستجيباً لشهوتها في الحكم المعبر عنها بالشهوة الجسدية، وهذا هو تفسيرنا للجنس في الرواية على أنه أعمق من مجرد نزوة أو اشتهاء، وإنما هو دليل تحكم وتسلط قبل ذلك.. المرأة تريد أن يكون الرهائن والحراس والخدم رهم إشارتها في كل ما تحتاج: فالرهينة هو خادمها وبريدها الغرامي مع شاعر الإمام الوسيم، وهو وسيلتها لتفريغ شهوتها واشتهائها الجسدي له، الذي يتطور إلى (تملك) تعلن عنه صراحة وتطلب من الرهينة أن يربط مصيره بها، فيكون طلبها هذا بداية تمرده فلئن رضي أن يستجيب لإغرائها ( إغراء المرأة - السلطة) ويخشى معارضة رغباتها، فإنه الآن لا يريد أن ينهي حياته بين يديها، تضع القيود في قدميه متى تشاء (2). وسيكون القصر مكاناً رمزياً أيضاً كما قلنا، إنه ترميز لوطن مسور محكوم بقانون الرق والقنانة، لا هواء فيه ولا حرية، لذا يطلب الرهينة من الدويدار القديم المريض أن يلبي له رغبته في الخروج من القصر ولو ساعة واحدة: "حاولت ذات يوم وقد ضقت ذرعاً بالحياة، أن أقنع صاحبي بالخروج إلى الميدان ثم إلى المدينة، إلى السوق إلى الشارع قلت له بتودد: - أريد أن أتجول في المدينة هذا اليوم، ولو لساعة واحدة. - لماذا؟ - يوم واحد بل ساعة واحدة، ألا تسمح أن ترافقني؟ - لماذا؟ - أشياء! لكني أريد فقط أن أشم الهواء! - الهواء موجود! - أريد أن نمشي معاً، أن نشم هواء آخر، نرى الناس."
إن هذا التوق للهواء في الخارج، سوف يختزله القاص بمشهد الرهائن،
وقد راحت أرجلهم تتمرجح في الهواء، وكأنهم - رمزياً - ينجزون فعل
الهرب، كما يحصل لرهائن قلعة القاهرة حيث أرجلهم متدلية من أسوار
القلعة المطلة على المدينة، كأنهم في حالة هروب أو سفر خارج
الأسوار. والرغبة بشم الهواء في الخارج تشير إلى حنين الرهينة إلى
حريته، فيما تعكس زهد الدويدار السابق بذلك ورفضه لطلب الرهينة،
لأنه استكان - أي الدويدار القديم - ورضخ ورضي بغرفته وسعاله
ومرضه، منتظراً موته.. ذلك الموت الذي تم في القصر، فكان
نهاية طبيعية لجيل أقصاه المؤلف(3) وأبعده السارد عن
مركز الحدث إيماناً بأن دوره قد كف عن التأثير، إذا فقد الرغبة في
هواء الخارج، كما سيرفض الهرب كحل للخلاص من قمع القصر وأجوائه
الخانقة. يقترح السرد مصائر خاصة ونهايات، لا تطابق تأويلاتنا وترميزنا بالضرورة، ولكننا بما قدمناه من بدائل رمزية هي مدلولات التأويل لدوال السرد، أو المعادل الفني - الروائي - للشخصيات الرمزية، قمنا بتحرير الرواية من سوء القراءة النمطية ذات المراجع المشار إليها في جزء الدراسة الأول. هنا لن يظل القصر قصر نائب الإمام أي مكاناً لسكنه، يطابق ما في ذاكراتنا، وسيكون أوسع من ذلك، إنه صورة للوطن اليمني في فترة الإمامة، وما يجري داخله من أحداث هو موازٍ لما يحدث في الوطن نفسه من حبس وتقييد ومظالم وإستغلال.. - وإذا كان القصر هو الوطن المقيد بالإمامة ومظالمها.. - والرهينة هو الجيل الجديد الرافض والمتمرد الباحث عن حريته. - والدويدار السابق هو الجيل القديم المستسلم والمريض. - والمرأة هي السلطة التي تريد أن تربط مصير الرهينة بها فإن الجنس سيكون مفهوماً لا بإعتباره فعلاً جسدياً شاذاً أو لا أخلاقياً، بل مظهراً لإغراء السلطة ومكائدها لجذب الجيل الجديد والسيطرة عليه، بدليل تغير طباعها بين الإشتهاء واللذة والبذل العاطفي وبين القهر والتقييد والإذلال.. وإذا كان استبدال المرأة بالسلطة وإغواء الأولى بإغراء الثانية، فإن تصاعد خط الترميز سيرينا ما كان في عقل وفكر الجيل المتمرد من مشروعات بديلة.. سنرى أولاً أن جيل التمرد والثورة (المرتهن والمأسور والمذل) ليس ناضجاً بما يكفي لصنع برنامج لمستقبل الفعل - فالرهينة فتى صغير خجول ولم يخبر الحياة أو تختبره كثيراً.. وهذا إفصاح عن هوية المبشرين بالثورة والمتاح لهم وفق تكون وعيهم وتطوره.. وبالضرورة لن يكون لبرنامج هذا الجيل وضوح نظري أو مرجعية فكرية، سوى محاولة (الهرب) ورفض الإرتباط بالسلطة الفاسدة (المرمز إليها بالجنس غالباً).
هذا التمرد المجاني سيخلق نهايتين للرواية: "ما كان أجملها من مدينة بصباحها عندما نطل عليها من على أسوار قلعتها القاهرة معقل الرهائن والمدافع، حيث كنا نتدلى بأرجلنا من على أسوارها ونشاهد المآذن والقباب البيضاء والمنازل.. لكنها الآن، ومن وسطها وفي أحشائها عرفتها على حقيقتها، إنها بؤرة للوباء المميت، مليئة بالمرضى والمجانين وأصحاب العاهات، والمعوقين، والحكام الظالمين، إنها مدينة تعيسة وبائسة غاية البؤس.. ما كان أجملها مدينة من أعلى وما أحقرها اليوم في نظري من مقبرة حية، وليتها كانت صامتة" لقد أصطدم وعي الرهينة القائم أو الممكن معاً بما كان يحلم به وهو يرى المدنية التي يريد أن يعيد لها العدل والجمال، وقد شحبت وجوه أهلها وغدت (مقبرة حية) دون حياة أو حرية أو جمال... وذلك خذلان لأحلامه وما تصوره من أنه سيهجر أسوار القصر ومؤامراته وإذلاله إلى ما هو أحسن في الخارج حيث المدينة التي يراها رمز الحرية، إذ يبصرها من الأعلى، ثم ينخذل ويحبط إذا يراها من الأرض فيعري أحشاءها ووسطها أي يبصر حقيقتها التي تصدمه.. فلا يدري إذا كان سيهرب إلى فضائها فيجد الخلاص المنشود.
حين تسأله حفصة يقول لها: إلى الجحيم، إنه لا يجد إجابة فالجيل المتمرد على سلطة الإمامة لم يجد من الوعي والظرف المتاح ما يسمح له برؤية الغد أو أفق الخلاص بوضوح. لذا نجد الرهينة عندما يقرر الهرب يعترف بأنه دون هدف فيقول في الأسطر الأخيرة من الرواية: "كنت قد أطلقت لساقي العنان ، فأبتعدت و أنهالت خلفي الحجارة المقذوفة منها، لم أتوقف برغم إشفافي عليها.. وعلا صياحها بصوتها المبحوح الذي أحبه، يطرق مسامعي، وتلقفتني ظلمات الجبال المطلة على الوادي الموحش المنحدر إلى المستقبل المجهول، وأنا اتوقع صوتها أو حجر مقذوفاً منها سيقع على ظهري.. لكني كنت قد قطعت مسافة كافية في طريق جديد مؤد إلى المستقبل". إنه دون شك ذلك المستقبل الذي وصفه بأنه (مجهول) وهو يمر إليه عبر واد موحش ذي إنحدار، تتبعه حجارة الشريفة التي لم تستسلم بسهولة وتتركه لحريته التي لا يعرف طريقها أو طريق مستقبله، لكنه وجد نفسه في الطريق، و لا بد أن يواصل سيره بعثراته وأخطائه ، ولكن بأختياره و حريته. ويكاد أن يكون ذلك هو عين ما حصل لجيل الثورة الذي لم يجد له طريقاً في المستقبل المجهول، فظل حائراً لا يدري ماذا يصنع بحريته، تتوزعه المشاعر تجاه السلطة البائدة التي حاولت إغواءه، و رضخ لها حيناً ثم هجرها هارباً إلى المجهول. لقد مات الجيل القديم، وتراخت يد السلطة حتى أفلت منها الجيل الثائر، خرج من الأسوار راضياً بحريته رغم غموضها، و طريق المستقبل المجهول.. لقد كان مصير الدويدار الجديد (الرهينة) هو مصير جيله كله، ولعل ذلك يفسر لنا إتساع أبعاد الشخصية وتمددها الرمزي، بل يفسر كذلك ما أسميه الإرغام أو تقويل الشخصية وإقحام وعي الكاتب على وعيها. فالرهينة الصغير يتفلسف ويتمثل بالأمثال المعقدة، بل يستعيد قول المتنبي "مصائب قوم عند قوم فؤائد" وهو الصبي الذي تلقفته أسوار القصر صغيراً يافعاً. لقد حررت القراءة الرمزية أحداث السرد من التغيير الأخلاقي المباشر، ووجدت للجنس - مثلاً - وظائف روائية أخرى، وهذا هو امتيازها على القراءات ذات المرجعيات غير النصية: تاريخية أو أيديولوجية أو واقعية. لقد سحب التأويل النص الروائي إلى إغراءات القراءة، وصار المستند النصي وثيقة لهذا الإيغال التأويلي المستثمر للترميز، إنطلاقاً من أن النص لغة أدبية لها حضور مجازي، وأن الرواية ذاتها ما هي إلا تواطؤ على الإختلاق والتخيل واستثمار طاقات اللغة المجازية ودلالاتها الرمزية، مما سيرضى به القارئ وهو يشرع في القراءة، فلماذا لا يرضى بالمصير الذي قادته إليه سفن التأويل بعد أن ركب بحر المجاز ورضى المغامرة فيه مبتعداً... هوامش:
1-
إضافة إلى إغفال تسمية (الرهينة) ليكون رمزاً
لجيله، فهناك إغفال للمكان الذي ينتمي إليه، حين يساله
(صاحبه) الديدار السابق : 2- مما يؤكد رمزية المرأة (حفصة) ودلالتها على السلطة، أنها أكبر سناً من الرهينة، واهتمامها به يترواح بين العطف والحاجة الجسدية والتسلط، كما يشير الشاعر الراحل البردوني في إحدى تعليقاته على الرواية، أن اسم (حفصة) لم يكن مألوفاً أو شائعاً أو مقبولاً في تسمية نساء الأئمة وأسرهم. 3- مما يؤيد إنتساب الدويدار القديم إلى الجيل السابق المحكوم عليه من وجهة نظر الراوي بالفشل والخيبة والإستسلام، إنه هو الذي يُعَرّف (الرهينة) بأرجاء القصر ونسائه ويغريه بمعاشرتهن، فكأنما يريد منه الإمتثال لسلطتهن ولا يشجعه على الخروج من القصر أو الهرب أو التمرد.فال للمكان الذي ينتمي إليه، حين يساله (صاحبه) الديدار السابق
|
||||||||||||||||||||