واقعية زيد المبهرة حد الخيال
المدهش:
قراءة في رواية
"الانبهار والدهشة"
عبد القادر صبري
الزمان:
في غوابر
القرن الماضي
المكان
بين
قاهرتين قاهرة تعز العز وقاهرة المعز
الشخوص:
احمد ياجناه
:ملك
مجنون يحقد على شعبه ويخاف من المجنون معاوية الجبل الداكي على جبل.
معاوية المجنون:
يتلذذ
بلعبة اخافة الطاغية ولم يهدأ حتى استقر في بطون الوحوش مصير الكثير من الاحرار
علوس
:
مهرج الملك الذي
يموت عطشانا وسط البئر ليلهو الطاغية السكران وحاشيته ثم يصبح من هجلات الفلاحات في
الحقول الحزينات على رجالهن الذين تركوا الحقول وتركوا الوطن للطاغية
"علوس
نزل البير غبان.. وا ليل الماء وا ليلان"
ابن محمود
:غلام
الملك المدلل الذي لا يعرف له اسم سوى انه جميل كيوسف ذاك الزمن الأغبر (خصص الإمام
له طياراً روسياً ليدربه على قيادة طائرة حربية كانت هي وحيدة من مخلفات الحرب العالمية)
الوشاح
:
سيّاف الملك الذي
يطير رأسه بسبب شربة ماء،راح في شربة ميّه (كان الوشاح يربت على رقاب المناضيلن
الاحرار .. ليتلذذ بها منتظرا لحظة الايقاع بهذه
الهامات)
ساحر هندي:
يحيل
قلائد بائعات الفاكهة الهابطات من جبل صبر الى ثعابين لابتزازهن ، (احتقره الناس
لأنه كان يطالبهم بالتهليل فوق جثث الاحرار بعد اعداهم في سعرض
طبيب باكستاني:
يتباهى
بابنته البلهاء (حفيزة) ويخاف من زوجته التي تزن طناً من النساء البلاد الضامرات.
الدراولة
:
سائقوا الشاحنات
الهزيلة الذين تحولوا الى نجوم هوليوديين كنخبة النخبة وسط شعب راجل عاش بعضهم ومات
دون أن يمتطي شاحنة.(الشاحنات الهزيلات كانت هي وسيلة النقل الوحيدة في البلاد في
عهد الطاغية لذيي نصب قصره في قرية صالة عند نقطة الجمرك لابتزازهم بالعكفة الغُبر
ذوي الملابس الزرقاء البشعة، كان يحظر على جيش الامام ارتداء الاحذية)
الاحداث:
بين قاهرة
تعز ذات العز مجازاً وعزة القاهرة التي بقيت عزيزة تدور أحداث الرواية التي طرحت
السؤال التالي بقوة الى ان ردت عليه ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الجليدة:
مالذي يمكن ان
يحدث في وطن اقل ما يمكن ان يوصف به انه (منفى)
لا شيء يحدث هنا
سوى الموت يتفنن في حصد ارواح اليمنيين لاتفه الاسباب
فأبسط الامراض
يمكن ان تفتك بأعتى الرقاب، هذا إن نجت من سيف الوشاح(الوشاح لم ينس يوماً أن يمسح
دم سيفه القذر على أجساد ضحاياه الشرفاء بعد كل مجزرة .. تماماً كما يفعل الجزار
بالنعاج في المسلخ)
الوطن المنفى قد
تكون كلمة منفى وصفاً رافهاً له كما صورته الرواية ، فهوه في عهد الامام يحيى
وبنييه كان أشبه بمقبرة عليها حارس بشع لايسمح بمرور الضحك الا في غفوة من الامام
حيث الضحك مغامرة قد تنتهي برأسك الضاحك متدحرجاً في ميدان العرضي.
يغفو الإمام مرة
فتنبت وسط كل هذا الوباء الغامر صيدلية يجترحها مغامرٌ ليقدم أبسط الادوية لشعب
يحصده الموت دون سبب.
وحين يغفو الإمام
مرة ثانية يفتح مغامر آخر مقهى يقدم المشروبات الغازية لشعب يتوهم انه يسكر بها،
ويحسب انها شربة الكوثر التي وُعد بها في الجنة.( قال لي اديبنا الكبير الدكتور
المقالح وانا اعد هذه الورقة ان احد خطباء المساجد يومها كان يقرأ "انا اعطيناك
الكوثر" صلاة الجمعة ابتهاجا بهذا الكوثر).
وينبغي غفوة
ثالثة من الامام وجزاريه لتتحول الساحة الوحيدة المستتخدمة لاعدام الثوار في
المدينة الى ملعب كرة قدم.
أما المصباح
السحري فيستلزم لظهوره اكثر من غفوة "إمامية" بل ينبغي أن يكون الطاغية حينها
مخدراً وغائباً تحت تأثير المورفين لينعم شعبه برؤية بائسة يطل من خلالها على
"باريس بلاد الفرنسيس، محل الذهب والفضة"
لم يكن ذلك خيالا
بل واقعاً جعله زيد رغم بؤسه يبهرنا حد الخيال.
الأجواء:
هنا تعز عاصمة
اليمن حيث عرش الامام من خشب صناديق بضائع التجار ،
جيشه حافٍ جائع،
وشعبه اكثر جوعاً وبؤساً ، ينام داخل الاكياس ليتفي لذع الحشرات الاسمن منه ، ويربط
على بطنه حجراً يقيه الجوع.
هنا تعز حيث
الملك الذي يغار من شعبه ويحقد عليه ، وفي نفس الوقت يخاف من مجنون معتد بنفسه
"معاوية ،الجبل الداكي على جبل"
مجنون يتحدى
مجنون لا فرق في نظر زيد، فهذا جبل داكي على جبل وذاك طاغية صور له جنونه انه سيقدر
على احتلال الجبل دون ان تتدحرج الجارة على رأسه يوماً.
هنا شجرة بائسة
تعود الى الملكة العظيمة اروي لم يزرعها يحيى وبنوه.
هنا الطائرة
البائسه تطير من مطار الغبار الى مدن اللاعودة حيث يتحسر اليمنيون على وطنهم
هنا ساحر يزدريه
الناس لانه مقرب من الامام رغم انه كان يذهب بخيالهم الى ما بعد كوكب "افتار" حيث
يجعلهم يرون من خلال الصورة الوحيدة المثبتة على جدار المقهى الوحيد في البلدة
(مقهى المخا) زعيمهم الخالد جمال عبدالناصر وهو يتحدث اليهم (تقنية 3D
هذه لم
يكن يقدر على مشاهدتها سوى الدراولة المرفهون باعتبارهم القادرين على ارتياد هذا
المقهى).
عندما تعرف ان
زيد مطيع دماج كتب هذا العمل البديع في آواخر التسعينات تتساءل كيف استعاد كل هذه
الاحداث وكأنها تحث اليوم؟
زيد الأديب
النقيب (نقيب الادباء وأديب النقباء كوالده)الذي عمل حياته كمناضل وكسياسي لتغيير
هذا الواقع اختار مخيلة الطفل زيد ليصف لنا هذه الاحداث ككابوس لا يريده ان يعود.
ولكن ما اجمل
خيال هذا الطفل وما اجمل عوالمه المدهشة رغم بؤسها
حيث الغوريلاتشبه
الغول والشمبانزي، هي الصَّيَاد أو "العضروط" أو ربما "أم الصُّبْيَان" أو "جارة
البيت"،
ووحيد القرن يشبه "تبيع الليل" الرهيب! أما القطار فلا يعدو كونه يشبه حشرة
"الحليبان"
ذات اللون الأسود التي نراها في طرقات مزارع قريتنا بألف رٍجْل حمراء تتموج".
البحر بدوره يشبه
بركة الجامع أو أكبر منه بكثير.
عوالم لم توجد
الا في خيال زيد الطفل الذي لم يكبر أبداً كشعبه الجاهل ،فكيف يكبر طفل وشعبه م
يزال ينتظر ان يولد؟
...
موقف:
كان زيد كاتبا ذا
رؤيا ، يكتب عن مبدأ وموقف وليس لمجرد الكتابة
الأدب عند زيد لم
يكن من أجل الأدب ، ليس عند زيد ذلك مهماً ، بل الأدب وجد من أجل التغيير ، من أجل
الحرية ن من أجل المستقبل ، وهذا ما انعكس في كل أعماله. وفي هذا العمل بالذات.
لطالما نظر زيد
الى الامام وبنيه على أنهم محتلون لا حكام ، فهم احتلوا البلاد ولم يحكموها، لانهم
ببساطة م يعملوا لها شيئاً ، حتى الطرقات المعبدة بالحجارة في بعض شوارع تعز تعود
الى عصر الملكة العظيمة اروى مثلها مثل شجرة الطولقة العملاقة . ""الطولقة"
العملاقة المعمرة التي لا يعرف أحد كم عمرها من السنين، حيث تضاربت الأقوال عن
عمرها وفي أي عصر أو عهد غرست؛ قيل: منذ الحضارة الحميرية، وبعضهم قال بأنها منذ
العصر الصليحي أو المملوكي والأيوبي، أو عصر بني رسول الغسانين، أو العصر
العثماني... الخ؛ لكن المرجح أنها غرست في عهد الملكة العظيمة "أروى بنت أحمد" التي
كانت تهتم بغرس هذا النوع العملاق من أشجار "الطولق" في كل أنحاء مدن اليمن وطرقه
التي عبدتها بالحجارة
"المصلولة"
وبنت في كل "مرحل" "سماسر" ضخمة تؤوي القوافل بما تحمله، وأمام كل
"سمسرة"
وبجانب كل "سبيل" للماء "طولقة" عملاقة تستريح القوافل والمسافرون تحت ظلالها
الوافرة لتقيهم حرارة الشمس أو هطول الأمطار.
لذلك نظر زيد إلى
والده عامل الامام في موزع على أنه مبعد (منفي) لا مكلف بخدمة وطنه لان الطاغية
محتل ، ينبغي ان يدخل في غيبوبته وغفلته حتى ينعم شعبه بالحياة واي نعمة ؟ حتى مضخة
المياه الالمانية وصفها زيد بـ شبه ارتوازية تعمل ببركة الرياح.
واقع يخنق بعضه
بعضا:
هكذا يصف زيد
قلعة القاهرة التي استدل عليها على حكم الائمة
:
"
لا أعتقد بأن أية
قلعة أو حصن في العالم قبل التاريخ أو في القرون الوسطى منيع مثلها. جميعها تُخترق
وجميعها يستطيع شخص ما الفرار منها"
ومع ذلك لم يحاول
زيد الفرار من هذا الواقع بل انشغل بصنع سفينة تنقل شعبه البائيس من الطوفان، سفينة
ليست كسفينة الامام التي ينحشر فيها الامراء والغفراء والمشاهير والعامة
والغنم.إنها حضيرة عائدة الى حضيرة .يتيساوى فيها الغنم والبشر كسفينة نوح.
الوطن كله
لايعدو كونها شبيها بسجن قلعة القاهرة الثكنة العسكرية التي حجز فيها الامام احمد
خيرة شباب اليمن كرهائن حتى لا يخرج عليه آباؤهم.وقد كاد زيدٌ نفسه يقعر رهينة لولا
أن حظه شاء ان تقع عين الامام على ابن عمه بدلا منه مما اتاح لزيد فرصة الانفلات من
ذلك الواقع المزري وجعله يكمل تعليمه في قاهرة المعز أ مصر عبدالناصر كما يحلوا له
أن يسميها.
كيف لا يرفض زيد
هذا الواقع البائس؟. من يقبل ان بعرة بعير لا تصلح الا للبصق
وربما في أحسن
الاحوال كلباً شارداً أو قطاً بائساً.
قد لا يصدق جيل
النيدو والنستلة اليوم، جيل الفيسبوك والاندرويد – و أنا واحدٌ منهم - أنه قبل أقل
من خمسين عاماً فقط كان يحدث كل هذا هنا في بلد حضارة سبأ العظيمة.
هنا ، كان يوجد
شعب يظن أن الكوكاكولا مشروب مُسكر ، يتردد حارس المدرسة في فتح الباب لتلميذين
متشردين (زيد مطيع دماج وعبداللطيف الربيع) اقترفا هذه الجناية الكبيرة زجاجتين من
كولا الكوثر
.
ياله من اسم!
السياق .. الوسيلة .. الادوات:
(
الحب عند
زيد اداته ووسيلته):
يقول علماء الطب
الحديث ان الحب كفيل بشفاء الامراض المستعصية، فإذا أحببت ألمكَ وتحدثت اليه بحب
فربما تشفى منه.
آمن زيد بهذه
النظرية منذ وقت مبكر.من الحب اتخذ اسلوبا وأداة لكتابة رواية
احب زيد واقعه
اليمني البسيط فتغزل به، تغزل بالمكان مبنى ومعنى ولكنه رفض الزمان الذي نعته بالـ
"زمن العفن المغلق".
الزمان والمكان
كانا ثنائية الانبهار الدهشة .. تنتقل عبر زمان في المكان فتندهش
وتنبهر .. انتقل
زيد من القرية في احضان جبل االتعكر بإب الى تعز فانبهر بها وتغزل بها .. ثم انتقل
من تعز الى القاهر فأصيب بصدمة الحضارة وهرب من السيفون في غرفة فندقه ضنا منه ان
الغرفة ستغرق بالماء.
وهكذا تغزل زيد
بكل شيء في تعز بالمعمار وبالانسان بالرجال النساء بالاطفال والشيوخ بالدراولة
والرعية ،حتى بالمجانين تغزل لأنه نظر اليهم نظرة محب لا بنظرة تعالي وهو الشيخ بن
الشيخ.
لم يمنعه رفضه
لذلك الزمان الأغبر من حب المكان...
سور تعز،مدرسة
الأشرفية،جامع المظفر،المعتبية،قبة الحسينية ،قلعة القاهرة ،ميدان الشبكة و شجرة
الطولقة القابعه في فنائه كان مما تغزل بهم ووصفهم أيما وصف رائع بديع.
بائعة
البطاطا،الدكتور الجيلاني، صندوق الطرب،مقيل في تعز الباشا ،موتر الرصابي
ابن محمود، علوس
الذي نزل البير (غبان) ،معاوية.. الجبل "الداكي" على جبل!
،الساحر علي خالد
وصفهم بأوصاف جعلتنا نشعر بهم ونتعاطف معهم حتى وان كان بعضهم من زباني النظام.
ولكنه رفض الزمان
.. الحال الذي يعانيه قاطن هذا التكوين الجمالي البديع ،لأنه يرى أنه كائناته
اليمانية الرائعة تستحق حالاً أفضل من حالها ذك وهذا ما ناضل من أجله ، لذلك عمل
على تعرية الحاكم الذي رأى انه فحام في يده جوهرة لا يستحقها
.
"جعلها
الإمام أحمد عاصمة لمملكته بعد أن أباح صنعاء للنهب عقب فشل ثورة 1948، رابضة تحت
قبة من الوباء والمرض والفقر"
أحب زيد واقعه حد
الدهشه ليدهشنا فأدهشنا
.
كيف أمكننا أن
نندهش لكل ذلك البؤس وبالبؤس فقط؟ ربما هي دوامة الكونتراست او التاقض العالي الذي
رمانا فيها زيد عنوة
لاحظوا
(الكونتراست) العالي الذي تحدثه هاتين العبارتين:
"خير
بلاد الارض التي لم يخلق مثلها في البلاد/ رابضة تحت قبة من الوباء والمرض والفقر"
وصف زيد واقعه
بحب خيالي وعراه بواقعية مدهشة لأنه كان يطارح مدينته الغالية تعز الكثير من
الغرام، فهي بالنسبه له القاهرة والقيروان ،هي الدنيا وأم الدنيا
اكتملت فيها
عناصر الجمال ومالم لم يكن موجوداً فيها كان موجودا في خياله عنها كصبي عاشق
..
"لم
تكن هناك أي صورة لمدينة تعز في هذا المنظار السحري العجيب، فقد كانت الصور جميعها
لمدن أوروبية؛ لكنني كنت أصدق بخيالي أن مدينة تعز موجودة في ذلك المنظار السحري
العجيب!"
...
لذلك حجب زيد
الاسماء كامعان في الخيال رغم الواقعيه
.
اللغة، المواوويل
والزجل، الاساطير التي صنعها بنفسه ،
الشبزي اسطورة ،
والشجرة اسطورة ، والاغنية اسطورة ، من خلال شخصيات واقعية هي شبه اسطورية بسبب
الظلم الذي تعرضوا له. حتى الشخصيات الشريرة بريئة لأن الضالم وحد الناس بظلمه.
يجعلك زيد تبكي
على مهرج الطاغية الذي سقط في البئر ليلهو الطاغية.
تحزن على جلاد
الطاغية الذي "راح في شربة ميه"
تنبهر بساحر
الطاغية الذي كان يتراقص فوق جثث الموتى.
حتى العالم
الخارجي الممثل بالقناصلة كان يؤتى بهم ليشاهدوا موتاً قسرياً في عيد الجلوس.
وتتعاطف مع سائقي
الشاحنات ومع الصيدلي والتاجر والباشا الذي يجلب الجرائد والجالات من مصر خلسة
ليثقف بني وطنه
تتعاطف بل تحب
لأنك تُغمس بالمحبة التي كتب بها زيد حكايته
بالحب صنع زيد
الدهشه من البؤس فأبهرنا.
الحاكم محتل جيشه
جائع وجاهل وحافي
المحكوم مختل
وفاقد الوعي
كل زائرٍ للمدينة
فاتحٌ في مجاله ، فعامل التصوير هو اول المصورين،
الصيدلي هو اول
الصيادلة، القهوجي هو اول المقهويين، المدرس هو اول الكتاب
كل شيء يحدث هنا
لأول مرة فكيف لا يكون مدهشاً وضرباً من الخيال وأن كان من صلب الواقع المرير؟
...
وفي الواقع وددت
لو بقي هذا الغلاف الجميل للكتاب (الطبعة الثانية) مبهماً بدون صورة، لكان اكثر
ادهاشاً والعنوان المبهر المدهش وددت لو توراى قليلا خلف العنوانين الشاعريين
اللذان يحملها الكتاب "كتاب تعز وكتاب القاهرة"
...
بين ايدينا عمل
روائي التسجيلي بديع " الانبهار والدهشة" لشيخ الروائيين اليمنين ونقيبهم ، الأديب
اليمني العالمي الصيت الاستاذ زيد مطيع دماج ، ورأيت أن هذا العمل المدهش يندرج بلا
شك ضمن قائمة ادب الرحلات فهو يحكي ثنائية الدهشة والانبهار في مدارات قصة مدينتين
هما تعز العز وقاهرة المعز.
لم أرد أن نشغل
هنا بتصنيف هذا العمل الروائي البديع بقدر ما شغلت مشدوهاً بمقاربته وتقديمه للقارئ
كما ينبغي، والامر الذي أشك كثيراً أن أكون قد وفقت فيه فأفضل طريقة لاستعراض كتاب
استثنائي كهذا هو قراءته على مسامعكم كاملا وفيما يلي بعض الاحالات:
"لم
تعش في ذاكرتي أي مدينة كمدينة تعز، هذه المدينة الرائعة بمآثرها العظيمة التي "لم
يخلق مثلها في البلاد"،
عامرة بمدارسها ومساجدها وقبابها وأوليائها الصالحين، كانت مركزاً لملوك وسلاطين
ومصلحين عظماء على مر التاريخ، ولم تخمد شعلتها وتنطفئ إلا بعدما تسلمها الإمام
يحيى وبنوه من الأتراك في بداية القرن العشرين. تعج أسواقها بالناس والمزارعين
القادمين من القرى والهابطين من "صَبر".
...
"هناك
يجلس الساحر "علي خالد"
يستظل تحت
شجرة "الطولقة" العملاقة. وها هو "معاوية" المجنون يصيح بأعلى صوت: "جبل داكي على
جبل"! يجتاز المقهى الوحيد المكتظ بالدراولة (السائقين) المحيطين بـ"الرصابي"
يواسونه ويقدمون له حلولاً لشاحنته المعطلة. وفي وسط ساحة الإعدام
"العٌرْضي"
يقف "الوشاح" سياف الإمام، بسيفه الذي يهوي به على رقاب الأحرار. وفي الأعلى تقع
"قلعة القاهرة"، تطل بسورها الضخم على المدينة وعلى الجبال والقرى الحزينة، وعلى
سطحها تتمرجح أرجل الرهائن بينما ترنو أعينهم الصغيرة إلى البعيد، كلاً يبحث عن
قريته البعيدة. تعز مدينة أسطورية عششت كحمامة وديعة في خيالي منذ الطفولة والصبا،
تبيض فيه روايات وقصصاً لا تنضب حتى اليوم."
...
"فتحت
هذه النافذة الصغيرة المحصنة بأسياخ من الحديد غليظة بالرغم من أنها لا تسمح بدخول
رأس كلب أو قط فما بالك برأس إنسان!؟
-
من تريد؟
-
أريد أن أقابل بن
عمي، الرهينة.
وأطبق النافذة
الصغيرة في وجهي بعد أن بصق"الشمة" (التبغ المطحون) من فمه فاتسخ ثوبي فوق ما هو
متسخ.
بعد فترة انتظار
طويلة فتح الباب الصغير المقوس من أعلاه محدثاً صوتاً مزعجاً.
كنت أول
الداخلين، وخلفي مجموعة من الرجال الزائرين لأبنائهم يكادون يدفعونني إلى الأرض.
لكن الحارس الجلف استطاع برجله الغليظة أن ينظم دخولنا بانضباط دقيق، وبدا الباب
وكأنه دُبُر جمل يقص بعره بدقة!"
...
تعز المدينة غير
الفاضلة صارت بفعل زيد فضيلة:
عفوا افلاطون تعز
لم تكن المدينة الفاضلة بل كانت فضلات مدينة يكتنفها البؤس وربما حتى اليوم، ولكن
لماذا احبها زيد ذاك الصبي المدهش؟ ولماذا يعشقها هذا الكهل المتصابي - كاتب هذه
السطور - الهابط من جبل صبر كما في الرواية ؟ الله وحده يعلم.
بين دفتي قاهرته
وتعزيه صنع زيد الكهل من الواقع المزري لصبي تعز العز خيالا مدهشاً أمسك خلاله
بتلابيب مخيلتتنا راجماً بنا في فضاء من الدهشة والانبهار في يشبه العصف الروحي.
وحقيقة ، شعرت
وأنا اقرأ قصة زيد الصبي المشاكس عاشق بائعة البطاطا الحافي القدمين الذي كان حلمه
لا يتعدى بأن يعاقر زجاجة كوكاكولا أني اقفز من شاهق ولكن ليس نحو الأرض بل باتجاه
الأعلى،فقراءة هذ العمل الاستثنائي تشبه القفز في الفضاء الخارجي حيث لا مناص من
التحليق ..
شعرت فعلاً أني
نورس يماني أو ربما هدهد سليماني شاهد على النبأ اليقين في مملكة سبأ التي سطى
عليها طاغية مجنون ما في غفلة من الزمن.
انتهى،،،
صنعاء - 4 إبريل 2014