زيد مطيع دماج أحب الأشجار والناس والقطط

عاطف عواد

إصراره على هزيمة المرض, كان شيئا فريدا ومدهشا.. كان حبه للحياة, وطاقة روحه, أكبر بكثير من بنية جسده: «زيد, مات»!..

هكذا.. تكلم الطبيب, الى مرافق الفقيد..!

خمسة عشر عاما منذ اكتشف داء مريضه, وظل زيد مرتبطا به.. يتردد عليه في لندن, من صنعاء.. وأصدر زيد مجموعته القصصية (أحزان البنت مياسة) وأهداها الى طبيبه (سوهامي)..

»زيد مات»..!

تلقاها بكل المرارة ابن الفقيد «همدان» القاص والشاعر أيضا والمرافق لأبيه.. وتوجه من فوره الى الهاتف ليفجر النبأ الأليم في صنعاء, استعدادا لاستقبال زيد مطيع دماج, العائد هذه المرة جثة.. كان الزمن في ذلك الوقت الذي خرج فيه آخر نفس من صدر الروائي اليمني الكبير وكاتب القصة القصيرة, ولم يرجع الى الصدر مرة ثانية كما هو حال الأحياء!.. كان الوقت حينئذ في مستشفى (ميدل سكس الجامعي) بلندن, هو الرابعة عصرا  وكان اليوم هو العشرون من مارس في عام 0002م.

الزمن حين كان لا يخص اليمن..!

غير أن زمنا , ليس كهذا الذي يحس البشر في كل المعمورة بوقعه, زمنا لا طعام له ولا دقات تضبط ايقاع وحياة ناس وبشر, بقعة من أرض الله, لسبب ما اسمت نفسها المملكة المتوكلية اليمنية.. كأنما وقع الزمن السائر على الأرض وخلائقها, لا يخص ناس تلك المملكة.. تعطل الزمن فيها.. انقطع, وانقطع أهلها عن حسابات وتداوين باقي خلق الله على كل أرض الله.. وقبعت اليمن ساكنة يتشوق ملوكها لرعيتهم, حد اللذة والاستمتاع, رائحة رقدة أهل الكهف.. فصاروا, جميعا ملوك اليمن ورعاياهم, جزءا من زمن ما قبل التاريخ .. في أي عام هم اليمنيون?.. أية حقبة تاريخية? كل هذا لا يعنيهم! ومن تجرأ من الرعية واستفسر عما حاق بهم, فهو من زمرة المجدفين, المارقين! وحق عليه ما استحق من ازهاق, وطاحت سيوف ملوك اليمن في رقاب الكثيرين الذين قدر لهم ان يتنسموا رائحة الزمن من حولهم, في مصر او العراق او سوريا وتجرأوا بالسؤال.

وكان يوم من سنوات العقد الرابع من القرن العشرين, وكان اليمن سجنا كبيرا, كما وصفها الكثيرون من أهله.. واليمني إما هارب في جبال اليمن, أو الى دول الجوار, أو البعيدة.. وإما منتظر لموت يريحه من حياة هي المرض والعجز والذل.. موت.. يضن عليهم.. واليمني السعيد هو من يخطفه هذا الموت وكان مولد «زيد مطيع دماج» في مطلع عام 3491م.

نسوة البيت كتمن خبر مولده.. كأنه لم يكن أبدا.. فالأب, والد الطفل زيد, شيخ من شيوخ القبائل, في عرف الامام, تدخل مطيع دماج فيما لا يعنيه.. حاجج الامام في ملأ على ظلمه للشعب اليمني.. اختفى الأب هربا, ثم ظهر في محمية عدن.. يكتب.. ينتقد, يهاجم الامام مع الثوار الهاربين في مجلات أصدورها.. ولابد من اخفاء المولود تماما .. فالامام كان قد استن شرعة جهنمية, حتى يضمن ولاء شيوخ القبائل وكسر تمردهم.. فلابد من أخذ أحد أبنائهم عنوة... «رهينة».

وكبر زيد الناجي من الارتهان.. غير أن ابن عمه, والأكبر منه قليلا.. «أحمد قاسم دماج», كان هو الرهينة الذي اختطفه عسكر الامام انتقاما.. ومما يذكر أن صار «أحمد قاسم» من مناضلي اليمن فيما بعد, وهو «الشاعر والمثقف اليمني» ورئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الحالي, ولأكثر من فترة رئاسية سابقة.. وبلغ زيد الرابعة عشرة, وتم تدبير خروجه الى مصر.. كان ذلك في عام 1957م تقريبا, ليلتحق هناك بالمرحلة الاعدادية, ثم الثانوية, والجامعة.. متنقلا بين مدارس بني سويف وطنطا, والقاهرة.

في آخر أعماله التي صدرت وهو على سرير المرض كتابه «الانبهار والدهشة» عن دار رياض الريس- بيروت 2000م, يصف زيد مطيع, تلك الايام التي جاء فيها الى مدينة تعز من قريته التي رغم قربها من مدينة تعز الا انها تبعد قرونا  وأزمنة  وإن كانت تعز هي الأخرى, كما لو أنها في حقبة زمنية سحيقة تأخرت عن القاهرة المصرية في أواخر الخمسينيات, تماما كما وصفها «زيد مطيع دماج» في الجزء الثاني من سيرته تلك والتي لا يغيب عن قارئها, أنها سيرة شعب ووطن.

المدينة حمامة تبيض قصصا ..

يكتب الناقد العراقي «د. حاتم الصكر», استاذ الأدب بجامعة صنعاء عن تعز في «الانبهار والدهشة»: «... لكأن زيد دماج أراد أن يكون «الانبهار» عنوانا للفصل الاول الخاص بتذكراته طفلا في مدينة «تعز» اليمنية وان تكون «الدهشة» عنوانا لثاني الفصلين عن زيارته الأولى للقاهرة.. ومدن مصرية اخرى (بني سويف- الاسكندرية- طنطا- السويس) حيث سافر لغرض الدراسة.

وبين قوسي الانبهار والدهشة بالمكان ومفرداته, يفصل زيد كثيرا من أحوال اليمن في عهد الامامة الظلامي المظلم أعوام 1950- 1960م وحتى قيام الجمهورية, إثر ثورة 26 سبتمبر 1962م. لكن أولى اشكالية الكتاب هي تجنيسه, فالكتاب ليس مذكرات خالصة ولا سيرة ذاتية تستمد بالاسترجاع والتذكر مادتها, كما انه ليس تأملات في المكان من حيث جمالياته ورسومه ومفرداته.. ان الصفحات الثماني التي سجل فيها «دماج» رؤاه الطفولية وتعرفه الأول على العالم تجمع الكثير من سيرة المكان, والذات الكاتبة والمذكرات, الى جانب الرصد التاريخي أو انعكاس الزمن على فضاء المكان, وكذلك الأحداث التي تعاقبت فيه, لكن القارئ يحس, وهو يفرغ من القراءة, أن ما وصله ليس إلا كسرا وشذرات كان بامكان الكاتب, وهو القاص والروائي المعروف صاحب «الرهينة», أن يتوغل فيها ويزيد من مساحتها بالاسلوب نفسه حتى نعود معه الى مراحل من تشكل وعيه وتعرفه على العالم والكتب والآخر, لا أن نرى معه- وعبر كتابه الصغير هذا- مشهد مدينتي «تعز» و»القاهرة» فقط.

لقد اختار دماج ان يدخل الى خزائن طفولته وصباه حول ثلاثة مقتربات:

أولها: المكان الذي بهره وأدهشه كانطباع أولي للقائه بالأشياء التي يمثلها المكان كمفردات.

وثانيها: السرد الذي يستعيد الدهشة والانبهار من خلال آلياته مقتربا  من السيرة, باعتبارها قصا  بضمير المتكلم وعرضا لشواهد وموضوعات تتسلط عليها الذات, وتعيد زمنها الماضي في زمن لاحق ماثل هو زمن الكتابة الآني.

وثالثها: تصوير اللحظة الزمانية التي كان قدر دماج أن يعيشها, ويرصد ما تسببت به الأنظمة الجائرة الجاهلة من تدمير للوطن والانسان.

لكن الكاتب لا يعرض ذلك كله كموضوع خارجي مستقل, بل كمادة تتسلط عليها الذات وتعرضها من وجهة نظر ساردها, وعبر لوحات أدبية مكثفة ومتميزة مرسومة بالكلمات كما يلاحظ الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح وهو يقدم الكتاب الى القراء.

فهل كانت مادة الكتاب إذا  سيرة للمكان أم للكاتب? أحسب ان الاجابة على هذا السؤال تقتضي قراءة دقيقة لجزءيه او ما أسماه الكاتب: (كتاب تعز) و(كتاب القاهرة).. يقول زيد عن لقائه الاول بالمدينة:

؛ولأنني كنت صبيا قادما من الريف دخل الى فضاء أوسع وأكبر من قريته, كان لابد ان أدهش بانبهار لأشياء لم تكن تخطر على بالي».

انه الآن في تعز التي يصفها بأنها «مدينة اسطورية عششت كحمامة وديعة في خيالي منذ الطفولة والصبا, تبيض فيه روايات وقصصا لا تنضب..».

وعن الجزء الثاني من الكتاب يقول د. حاتم الصكر:

لكننا في (كتاب القاهرة) نلتقي زيدا وهو اكبر سنا, يركب الطائرة لأول مرة عام 1957م ليكمل دراسته. وهو لا يعرف عن مصر سوى صورة ذلك التلميذ المصري بطربوشه فوق الرأس والشورت والقميص الانيق والخادمة توصله الى المدرسة عبر الشوارع بحقيبته الجلدية.. كانت تلك هي الصورة التي أوصلتها له (القراءة الرشيدة) التي قرأها وهو صغير. كان الانبهار قد تحول الى دهشة. فها هو زيد يعتلي (طائر العنقاء الاسطوري).. ويروي زيد عن احد المهاجرين وقد عاد الى قريته ليروي لشيخها وأهلها حكاية الطائرة التي تطير في السماء وبداخلها كهرباء ومقاعد للمسافرين فما كان من الشيخ الا ان اعتبر الرجل مجنونا  يسخر منه وأمر بحبسه.

يصل د. حاتم الصكر في النهاية وبعد استعراض الكثير من حكايات الكتاب الى القول: «.. ما وصلنا في هذا الكتاب يؤكد مقدرة زيد في رصد جزئيات المشهد المكاني والزماني بوعي صادق لا تزوير فيه ولا تجميل او اضافات وحذف مما نراه في سير ذاتية او مكانية أخرى.. لقد كان الانبهار والدهشة لا فتنة تحسس زيد تحتها الأشياء كما رآها اول مرة او كما تشكلت في وعيه صغيرا وكما شكلها وعيه بها وهو كبير..».

في الدقي.. زيد والبواب والبقال و..?

ظل الكاتب, السفير بالسلك الدبلوماسي اليمني, زيد مطيع دماج الذي كان طالبا في القاهرة على علاقة وثيقة ببواب العمارة التي كان يسكنها في (الدقي), بالبقال, بالصيدلي, بكل من تعامل معهم.. يشتاق اليهم.. يزورهم كلما سافر الى مصر في مهمة رسمية او زيارة خاصة.. يكتب عنهم المقالات في الصحف اليمنية.. وكما هو في قريته.. في أسواق صنعاء الشعبية, ومطاعمها.. مع بائعي شراب الزبيب.. في المقاهي.. أحبهم.. كان (زبون) الصباح شبه اليومي.. الآتي للافطار.. حكاياتهم الحميمة الفائح منها رائحة المحبة له. للذي يعرفون اسمه.. فقط اسمه.. هذا الذي يجالسهم أرضا, رغم اناقة ملبسه.. ولصباحات طويلة كنت  معه نتناول الافطار بينهم.

وكثيرا ما كان زيد يصر على (تناولي) الغداء معه.. في بيته, فقد ربطت بينه وبين كاتب هذه السطور, صداقة متينة وحميمة.. وأذكر منظرا صار مألوفا بعد كل وجبة غداء.. تلتف القطط حوله, وكأنها متواعدة معه يوميا.. يفت قطع اللحم لها وهو جالس بينها في حوش منزله الصنعاني.. وفي أيام العطل.. وتحت الاشجار في حديقة داره, كان يجلس ويراقب طوابير النمل.. عند بيوتها, ينثر حبات السكر حتى لا تذهب بعيدا.. يتأملها في نقلها الدؤوب لبلورات السكر.

البنت مياسة.. المرأة, والأحزان..

آخر مجموعات الأديب اليمني القصصية زيد مطيع دماج كانت بعنوان: (أحزان البنت مياسة).. ومياسة, هي احدى بناته الخمس «تدرس الطب».. وكان زيد مقتنعا بأن النقاب غير ضروري, وأن للمرأة في الاسلام كيانها, فالأهم هو جوهر الإنسان وليس أي شيء آخر.. وفي كل أعماله لم تكن المرأة هامشية بل ممتلكة لارادتها وذاتها..

وعن صورة المرأة في أعمال زيد مطيع دماج.. تكتب, د. آمنة يوسف, الناقدة والمدرسة بكلية اللغات- جامعة صنعاء: «... إذا ما اتفقنا مع جيرا رجينيت  حول وظيفة الوصف يمكن ان نقتصر على عملين بارزين لدى دماج هما: «الرهينة» الرواية, ومجموعة العقرب». ففي رواية الرهينة مثلا, تتخذ الصورة الوصفية, بعدا  تأمليا  لمفاتن المحبوبة الشريفة (حفصة) أخت نائب الإمام, المطلقة التي عشقها الرهينة, الطفل المراهق, البالغ من العمر عشرة أعوام, حين انتقل من قلعة القاهرة ليعمل رهينة في قصر نائب الإمام, وحين شغله العشق فترة زمنية عن التفكير في وضعه المهين الذي وجد نفسه فيه فجأة (رهينة) بين يدي الطبقة الحاكمة في نظام الرهانة.. يقول الرهينة العاشق في وصف محبوبته الارستقراطية: «كانت الشريفة متكئة على حافة النافذة في رأس المنظرة, وقد برز شعرها الأجعد من خلال ثنايا منديل برتقالي اللون. وتراءى جسدها الأبيض من خلال ثوبها الشفاف الحريري. وكانت متكئة باحدى يديها على النافذة وقد مدتها الى الامام أما الأخرى فكانت على خدها, وهي سابحة بنظرها وفكرها نحو الساحة.. تأملت يدها, كانت مزينة بأساور من الذهب ومزركشة بالحناء والخضاب الأسود المتعرج على أنامل كالشمع الأحمر الممزوج بلون اللبن الصافي». (رواية الرهينة ص23)

والوظيفة البنيوية التي تؤديها مثل هذه الصورة الوصفية في سياق السرد الروائي, لا تتوقف عند مجرد التأمل الذهني والدهشة, أمام جمال المحبوبة, بقدر ما تكشف عن بعد آخر, هو البعد الاجتماعي الذي يحيط بها, بسبب انتمائها الى الطرف الأول من الثنائية الضدية: الحاكم/ المحكوم. ذلك ان الطبقة الحاكمة التي كانت تنتمي اليها الشريفة (حفصة) تتمتع بالرفاهية في المأكل والملبس في حين أن عامة الناس من المحكومين بسياسة الظلم والقهر, لم يتمتعوا بأبسط حقوقهم الانسانية, التي تعينهم على العيش والاستمرار في الحياة بحسب ما يبدو من الوصف المرتبط بكامل بنية الرواية. ومن خلال العلاقة التي تربط الرهينة بالشريفة (حفصة) ووصفه لها, بل وصفه لطبيعة علاقتها هي به, حين تتخذه رسول غرام بينها وبين شاعر الامام المتقمص لشخصية (دون جوان) وكذا وصفه طبيعة العلاقة الايروسية (غير السوية) التي كانت تربط (شرائف) القصر العوانس بصاحبه (الدويدار) الذي يعمل خادما  في القصر.

يمكننا أن نستنتج موقف الروائي من المرأة في رواية الرهينة. وهو الموقف الذي لا ينفصل البتة عن موقفه السياسي من هذه الطبقة الحاكمة, باعتبارها نظاما جائرا ومنحرفا في سلوكه الأخلاقي والديني, وإن ادعى مسؤولية الحفاظ على حياض الدين وحمايته بشتى أساليب التخلف والجمود..».

وتواصل د. آمنة يوسف: وفي قصة (الرحلة) من مجموعة (العقرب) جاء وصف الراوي للمرأة التي كانت في (الباص) مقترنا  بوصفه للشخصيات والمواقف المختلفة التي صادفها ومر بها في تلك الرحلة البرية المتجهة من مدينة (تعز) الى العاصمة صنعاء يقول مثلا: «مررت من أمامها كغيري ببطء.. عينان غارقتان بالحب والمرح, وجبين ينم عن الصرامة والاقدام.. نظرت إلي  بفروسية أخجلتني, أحنيت نظري وكم كنت أود معرفة الكثير عنها..» (مجموعة العقرب ص57).

فضول الراوي في معرفة الكثير عن هذه الأنثى العابرة, يكشف عن الموقف المتميز الى حد ما, عن بقية الركاب في الباص.. وهو موقف من شأنه أن يرتقي بعنصر المرأة عن مجرد كونها كائنا  من لحم ودم الى نموذج رامز للحرية والثورة والتغيير. وما الى ذلك من المعاني التي تتضح عند الربط البنيوي بين الصورة الوصفية وكامل السرد القصصي الذي يصف هذه الانثى بالجمال والجرأة في السلوك بالقوة في الشخصية التي أدهشت ركاب الباص, وجعلت كلا منهم يتوق الى التعرف عليها واقامة علاقة من أي نوع معها.

وهكذا.. تظل الوظيفة التأملية للصورة الوصفية هي المسيطرة على بنية القصة القصيرة, أو الرواية, سواء كان الموضوع الفني المراد تصويره, شخصية أم مكانا, مادام ينطلق من فلسفة الاتجاه التقليدي, التي تحكم العلاقة البنيوية بين العناصر الفنية المكونة للسرد في أعمال الأديب الكبير زيد مطيع دماج, أبرز رواد القصة القصيرة في اليمن وصاحب الملحمة التاريخية: رواية «الرهينة», التي اكتسبت أهميتها من كونها اول عمل أدبي يتصدى بشجاعة مطلقة لسياسة النظام الملكي البائد ويفضح صورة الحياة الاجتماعية داخل القصر, محرضا  بذلك على ضرورة الثورة والرفض التام لشتى أساليب الظلم والقهر والزيف والخداع باسم الدين الاسلامي وباسم الأعراف والتقاليد الاجتماعية.

وتنتهي د. آمنة يوسف رصدها للمرأة عند «زيد مطيع دماج» بالقول:

وكان هذا الموقف السياسي أكثر ما شغل دماج في كل أعماله الأدبية, عن أية قضايا وموضوعات أخرى.

ككل مبدع إمتلأ إحساسا ..

كان زيد قد تعافى من أزمة ارقدته لأيام في داره بصنعاء.. وخرج من غرفته ليجلس بين أبنائه, ولاستقبال أصدقائه.. أفرد صحيفة يتطلع أخبارها.. فجأة لاحظ من حوله, المبتهجين بمعافاته, أن ألما  هائلا كسا تعابيره.. عاودته أزمة مرضه.. على عجل استدعوا الطبيب.. أعادوه الى غرفته.. فتشوا في الجزء الذي كان يقرؤه في ذات الصفحة والذي ربما تسبب في تلك الانتكاسة غير المتوقعة. فقرأوا خبرا  يقول: «يقوم بعض السكان في دولة عربية شقيقة بسلخ جلود الجمال وهي حية»..

المقالح وصاحب الرهينة

كتب الشاعر والناقد د. عبدالعزيز المقالح: عن الصديق الذي فارق أصدقاءه:

غياب المبدع الكبير زيد مطيع دماج, صاحب «الرهينة» الرواية الأشهر في اليمن وفي الأقطار العربية يشكل خسارة فادحة وبخاصة للساحة الأدبية اليمنية التي تفتقر الى المواهب الحقيقية والتي كانت قد رأت فيه واحدا  من آمالها العريضة في الابداع القصصي والروائي المعجونين بتراب الأرض والناهضين من قلب الأوجاع الانسانية, فقد كان زيد - وهنا تكمن الخسارة والفجيعة معا  في غيابه- الأقدر على التقاط الساخن والأهم من الماضي المنقرض أو الواقع المعاش, كان الأقدر كذلك على مزج بين الذاتي والعام, بين الواقع والمتخيل, وكل النقاد الذين تابعوا أعماله الابداعية وتناولوها بنقد يجمعون على تميزه وانفراده بامتلاك الخصائص التي تجعله يقترب مما صار يسمى بالواقعية السحرية دون حاجة الى استخدام الأساطير الخارجية عن واقع المجتمع الانساني بهمومه ونضالاته وأخطائه وخرافاته وتوقه الدائب الى التغلب على حالة القهر والاذلال.

أهمس لك يازيد..

وأهمس بالحب في مسمع الكائنات

التي كان ناجي محبتها

عند حالكة الليل.

لكنني الآن أطرح من مقلتي شاهدا

فوق طيب الورود على قبره

وأسبح لله عهد الصداقة والحب

والمبكيات

عسى أن يعود

فيلقي علينا دروسا من الموت

حتى تطهر أرواحنا

من غبار التنابذ والحسد الفذ

يغسلنا من صغائرنا بمياه الخلود

هكذا قال الشاعر اليمني محمد عبدالسلام منصور, الذي كان دوما  يمازح صديقه زيدا: لا ترحل قبلنا يا زيد..

زيد في «المدرسة الأحمدية»..

في رواية لم تكتمل لزيد مطيع دماج, بعنوان (المدرسة الأحمدية), حيث كان المرض- على غير ما يتمناه المبدع دوما - يستعجله كي ينفض قلمه وأوراقه, فقد ظل زيد طويلا  في تسابق مع آلام السرطان, ينسرق منها, ويغافلها ليحط بقلمه العوالم الصارخة في وجدانه لانشائها قصصا , وروايات.. ففي (المدرسة الأحمدية) كتب في مقطع منها:

».. حين رحلت , بكت عمتي واحتضنت ضلوعي وشدتني اليها وظلت أصابعها على ظهري طوال سنين عدة.. وكنت كلما جعت في المدينة أو أحسست بالبرودة تحسست ظهري. حكت لي عمتي عن ذلك الصبي, الذي كان يسمع عنه في الحكايات.. ذلك الذي رحل وعصاه على كتفه الى المدينة ليضرب أزقتها ويرتاد أماكنها ويتحدث بقلب الطفل المدهوش إلى أهاليها.. ويغني بعد ذلك ويظل يغني لهذه المدينة, زمنا  طويلا  يتنقل من زقاق الى زقاق, حتى بح صوته وفقد قدرته على الغناء.. ضاعت كلماته في فمه وأصبحت دموعا في عينيه, والذين شاهدوه قالوا أنه كان يبكي بلا صوت ويشير بيديه الى أزقة المدينة.. قالوا انه كان حزينا  مشعث الشعر يمضي كدمعة تتدحرج فوق المآقي ضامرا .. يمضي يبتلع ريقه ويشير بيديه الى سور المدينة العالي.. ثم اختفى».

سلام عليك..

في تأبينه, كتب الشاعر العربي الكبير سليمان العيسى:

سلام عليك.. أيها الغائب الحاضر..

سلام عليك.. يا زيد

سلام.. على الذكريات الحلوة.

سلام على صحتك.. وأنت تبدع

سلام على مرضك.. وأنت تقهر المرض.

وتبدع أيضا.

وأراد زيد - هذا ما قاله يوما ما لزوجته- أن يكون مدفني هنا في قريتنا, أمام دارنا, وتحت شجرة (الطلح) هذه.. وتحت تلك الشجرة, كانت هناك دائما بقرة مربوطة كان زيد كلما مكث في قريته التابعة لمحافظة إب يقضي الوقت الطويل, يطعمها..

أحزان الجبال..

خالد الرويشان, أديب يمني ورئيس الهيئة العامة للكتاب, أطلق اسم زيد مطيع على قاعة في بيت الثقافة بصنعاء وكتب في تأبين صديقه زيد:

كان مهموما  بالإنسان البسيط, بأحواله وآلامه. كان مترعا  حتى الثمالة بأغاني الرعاة ورائحة الورد البلدي في (باب اليمن), وحيرة فتاة صغيرة لم تبع خبزها في (باب السبح), كان يتأوه لتأوهات المساكين, والمظلومين, ويحزن لأحزان الجبال في مواسم الجدب وامتناع المطر.

(الرهينة)

رواية الرهينة, من الأعمال التي طغت بشهرتها العربية والعالمية على باقي أعمال زيد مطيع دماج.. فللمبدع اليمني الراحل خمس مجموعات قصصية قصيرة هي:

(طاهش الحوبان, العقرب, الجسر, أحزان البنت مياسة) اضافة الى كتابه (الانبهار والدهشة) ومجموعة (المدفع الأصفر) التي صدرت بعد وفاته عن الهيئة العامة للكتاب بصنعاء 1002م.

فرواية الرهينة التي صدرت طبعتها الاولى عن دار الآداب بيروت 1984م ثم اعادة طبعها عن (دائرة الشؤون الثقافية)- العراق 1988م, وعن دار الريس- بيروت 1997م, وصدرت ضمن مشروع (كتاب في جريدة) 1997م, وطبعت ضمن المشروع المصري القراءة للجميع لأكثر من مرة.. وقد ترجمت للانجليزية والفرنسية والألمانية.

وعن روايته, وابداعه, كتب الكثير من النقاد العرب.. منهم:

عبدالرحمن منيف, والأيام الجافة..

قال الروائي العربي, عبدالرحمن منيف, مرثيا زيد مطيع:

الآن تنطوي صفحة زيد. كان انطواؤها مفاجئا, قاسيا, وحزينا, الأمر الذي يترك في النفس حسرة كبيرة, فالرجل لا يزال في أول كهولته ان لم نقل في أوج اكتماله, ويفترض أن تكون الأيام أمامه لا وراءه وأن يقدم بعد «الرهينة» رهينات أخريات, وأن يقول لنا الكثير الكثير عن عالم نحبه كثيرا ولكن نجهله أكثر.

بائسة هي كلمات الرثاء, وبائسة هي الأيام الجافة التي تأخذ أكثر مما تعطي, ولكن عزاء الابداع أنه يبقى حتى إذا غاب مبدعوه لأنهم كالأنهار دائمة التجدد والجريان.

إني أشفق عليهم..

قالها زيد مطيع دماج, قالها وهو في النعش على السيارة الصاعدة الى مثواه الأخير في قريته.. كنا حوله, كثيرين لا حصر له وكنت أواسيه.. أحاوره.. وكانت السيارات تئز فوق صخور الطريق الصاعد الى (النقيلين) قرية «زيد مطيع» في أعالي جبال (النجد الأحمر) بمحافظة إب أرقب ابتسامته لجموع البشر الواقفين تحت لهيب الشمس.. وظننتني سمعته يقول.. من الذي أرغم هذه الحشود على الوقوف طويلا من أجلي?.. ألا يعرف أنه يؤلمني?.. كل هؤلاء الناس فوق تجاعيد الصخور وتغاويرها.. على جانبي الطريق.. عند رؤوس الجبال?.. كيف استطاعوا حفر قبري في هذه الصخرة? إني أشفق عليهم.. أتعبتهم.

؛زيد» يا صديقي لا أسمعك.. أما تسمع معي هذه التهاليل التي تصم الآذان.. انهم يهتفون: لا إله الا الله, زيد مطيع دماج, في ذمة الله

ورحل.. الذي رحل وعصاه على كتفه.. والذي قال في أعماله أشياء كثيرة عن حياتنا وعواطفنا وأمنياتنا واوجاعنا اليمنية والعربية.. وربما كتب الأكثر عنا في: مبخوت اليمن- جسر الى السيل- مقتل الفقيه مقبل- الأخوة (أبناء علي مصلح)- محافظ في الأرياف- المدرسة الأحمدية, تلك الأعمال التي لم تنشر بعد, وهي بلاشك سوف تكون قد امتلأت بالأسرار والابداع.

تنويه لابد منه:

؛صداقة حميمة ربطت كاتب هذا الموضوع بالأديب اليمني زيد مطيع دماج».