الرؤية الاجتماعية في قصص زيد مطيع دماج:

تطبيق نقدي على قصة "المجنون"

د. حاتم الصكر

1- الوعي الجديد والهرمية الاجتماعية

 1-1 مدخل

تتميز المعالجات القصصية للكاتب الراحل زيد مطيع دماج بمنحاها الاجتماعي، المتكون عبر رؤية فكرية انشدَّ إليها الجيل الذي ينتمي إليه، كقناعات، لتأكيد ضرورة التغيير الذي آمنوا به.

وتعكس تلك القناعات اعتراضاته على السائد من قيم متوارثة جهلاً وتقليداً، في ظل تغييب الوعي داخل المجتمع، كمظهر للتخلف الذي بني على أساسه النظام والقوى التي تحكمت في السلطة في اليمن قبل قيام الجمهورية، وتجسدت في الحكم الإمامي ومؤسساته، وما فرض من تراتب اجتماعي ترسخ باتخاذه هيئة عرفية تقوى في الممارسة الاجتماعية والتعامل اليومي، وتأخذ قوتها من صياغتها كيقين تتوارثه الجماعة وتورثه أيضاً؛ ولعل ذلك أخطر ما تلحقه المؤسسات المتخلفة من ضرر يصعب تصحيح الأخطاء الناتجة عنه بقرارات أو قوانين، لأن الفرد يرى في تلك المعتقدات العرفية جزءاً من هويته وشخصيته وموقعه الذي منحه إياه التراتب وتوزيع الثروات والحقوق والواجبات، رغم مخالفة بعضها لما استقر في التشريع الديني والمدني، كالفروق بين الأفراد بحسب لونهم أو مهنهم، حتى إن كانوا يبذلون الجهد نفسه في الإنتاج، وتوفرهم على شروط المواطنة التي لا تفرق نظرياً بين مركز وهامش، لكن ذلك حاصل في التداول السائد للقيم وإجرائها في الواقع اليومي.

وقد عالج كتّاب يمنيون كثيرون هذه الظواهر، نذكر منهم محمد عبد الولي في أكثر من عمل، من الجيل الأول، وعلي المقري في روايته "رائحة سوداء طعم أسود" من الجيل الأخير. ولكن معالجة زيد دماج تتطلب مقاربة اجتماعية، لما تحمل من دلالات وإشارات مبكرة إلى بنية التراتب، وتنبه إلى ما فيها من حيف تواطأ على الرضا به والسكوت عليه أطراف المجتمع المهمشة القانعة بمكانتها، والأطراف المتسيدة المستفيدة من احتلالها المرتبة العليا.

والمهم في تفحص ذلك الوعي لدى زيد دماج التنبه إلى المشغّلات التي حركت فيه شعوره بالغبن الواقع على الفئات الاجتماعية المهمشة، كما برزت في كثير من أعماله، لاسيما في قصصه القصيرة التي أجد أنها أقدر بتوترها وتكثيفها على كشف الظواهر التي يعترض عليها زيد دماج ويكشف ما تنطوي عليه من ظلم وتعسف وجَور تؤكده الهرمية التي يعدّها المجتمع -بكونه الوحدة الإنسانية الممثلة للجماعة- شيئا ذا قدسية لا يجوز خرقها أو المساس بها أو إعادة بناء هيكلها وتوزيعها الطبقي والنوعي أو خلطها واختلاطها.

2-1 التهميش إنسانياً ومكانياً

وسنلاحظ عند تحليل نموذج نصي للكاتب أن التهميش يطال الإنسان بسبب انتمائه الفئوي داخل المجتمع (فقيراً أو معدماً) أو بسبب النوع (المرأة: أمّاً أو زوجة أو بنتاً...)، والتصنيف المهني الذي يحقر مهناً محددة (الجزارة والحلاقة والعزف) أو لوناً وعرقاً (الأخدام والدواشين: المنادين والنَّور)، وهي الفئات التي سينتصف لها زيد دماج في قصة "المجنون" التي نتخذها نموذجاً تطبيقياً. كما سنجد أن التهميش الذي يرصده زيد دماج يشمل الأمكنة أيضاً، كالقرية، التي هي فضاء الحدث كله في القصة، وضريح الولي الصالح وزوجته الطاهرة. كما يرينا الوعي المتشكل في القصة معاناة الإنسان المجنون ووحدته وإقصاءه عن التكتل الاجتماعي المتمتع بالحماية.

تعيد الرؤية الاجتماعية لزيد دماج ترتيب الفئات بحسب ما يقرّه وعيه المتشكل وفق مفاهيم المساواة والعدل والحق في الحياة والمواطنة والتكافؤ في الجهد والفرص في العيش والعمل والحريات الأساسية للإنسان دون تمييز. وهي قيم تنعكس في تصميم خطط السرد لديه في أعماله كلها، وبوضوح لا يدع مجالاً للتأويل، كما تجسد في روايته "الرهينة" التي ينقسم عالمها إلى قسمين: الرهائن المأسورين المهمّشين، والأسياد الذين يرتهنونهم ويستغلون طاقاتهم في العمل خدماً وحراساً في بيوتهم ودواوينهم؛ فينشأ الصراع في الرواية على أساس التعارضات في الإرادة والهدف لكل من أفراد القسمين، تمثيلاً للانشقاق الاجتماعي، وما يتخذ من مظاهر سياسية وعلاقات ومصائر.

2- التمثيل النصي للوعي الاجتماعي

1-2 الإقصاء

في قصة "المجنون" القصيرة ينحاز زيد دماج للفئات المعزولة والمقصاة إلى أسفل الهرم التراتبي في مجتمع القرية، التي يقوم تقسيم العمل فيها على الزراعة، كما يعرفنا الاستهلال الوصفي المطول، حيث يعمل الأفراد من الفئات الدنيا طوال العام، ولا يجنون إلا القليل من فتات المحصول الذي يُجمع آخر الموسم ويقسم في أكوام ليوزع بحسب التراتب الذي يقره مجتمع القرية؛ هذا الإقصاء والنبذ الذي يعترض عليه الكاتب ويعارضه بأحداث السرد ومصائره في النص.

2-2 التسمية

ونحن نعد النص القصصي هذا إعلاناً عن الاحتجاج على الهرمية والتراتبية المقرّة اجتماعياً والمعمول بها إجرائياً بين الناس في تلك القرية، التي لا يسميها النص، محاولة منه لتعميم حالتها وعدم تخصيصها. فإغفال التسمية المكانية هنا يمنح الفضاء القصصي والدلالة من بعد توسيعاً وتمدداً، ليصح تطبيقها على شبيهاتها من القرى ومثيلات الحالة التي يصورها النص في هرمية الوضع الاجتماعي وتراتبيته التقليدية، وتقسيمه الطبقي والفئوي. وهذا الإغفال يشمل الشيخ والمتنفذين في القرية، ولا نجد اسماً سوى "حمادي" المجنون وهو الفاعل السردي في النص كما سنرى.

3-2 الاستهلال

حين نعاين الاستهلال، الذي يمتد ليشمل مقطعاً كاملاً، سنجد أن الكاتب يعمد إلى الوصف لتثبيت المشهد أو مسرح القصة، مصوراً البؤس الذي يلف القرية.

"همدت القرية مع إطباق الليل كغيرها.. لا صوت لمخلوق حي سوى نباح بعض الكلاب الجائعة..."

اختيار الكاتب للفعل "همد" موصولاً بضمير القرية المؤنث، يعكس رغبته في تصوير موتها وسكونها الباعث على الأسى. فالفعل يشير لخمود النار وانطفائها وذهابها البتة (مختار الصحاح للرازي مادة: همد). ويقال أرض هامدة أي لانبت فيها، فالقرية منطفئة جرداء محاطة بالظلمة وسكون لا يقطعه سوى نباح كلاب جائعة. وهذا المدخل يهب القارئ إمكان تخيل المعاناة منذ البدء فالمكان مهمش أصلاً بكونه قرية منطفئة جرداء، ومهمش حياتيا لحظة السرد لشمول الظلام فضاءها، وانقطاع الصوت الإنساني فيها، باستثناء النباح الحيواني المعبر عن الجوع، ثم وبتواز ذي دلالة ثمة صوت حزين "يتصاعد من الأدوار الأرضية للمنازل من نسوة يطحنَّ الحبوب على المطاحن الحجرية". وهنا يبرز عنصر مهمش آخر هو النسوة اللواتي يقمن بعمل يدوي شاق يسلبهن الراحة فيطلقن الأغاني الحزينة التي تتوازى في أثرها النفسي والدلالي في النص مع الأصوات الصادرة عن الكلاب الجائعة. وهذا تنبيه آخر إلى ما يحكم القرية من اختلال اجتماعي بسبب غياب العدل وعدم إنصاف المرأة.

في الفقرة الثانية من الاستهلال يصل زيد دماج إلى تصوير الأثر النفسي لهذا الانطفاء والهمود المرادف للموت (لنتذكر أن جسد الميت يوصف بأنه جثة هامدة) فيقول الراوي الخارجي المراقب والراصد للأحداث:

"القرية.. توحي بالكآبة كأنها جاثمة عليها..مسجدها الأثري المنزوي في بقعة خارج القرية يزيد من عمق الكآبة بمياهه الآسنة داخل بركة مقضضة بالنورة تنبعث منها رائحة عفونة صادرة من ذلك الماء الآسن".

لقد أفاد الاستهلال في تصوير الكآبة الجاثمة على القرية الهامدة واستكمل بذلك وحشتها وعيشها خارج الزمن (هامدة، كئيبة، صامتة) رغم ما يصفها به الاستهلال من جمال طبيعي، فأنظف ما فيها وأجمل هو هواؤها وقمرها وشمسها وسماؤها الصافية، ولكن حتى ذلك الجمال الطبيعي لم يخلُ من حزن فالقمر يلقي بضوء بارد في فترات خفوته.

وهذه الثيمة متكررة في كثير من نصوص الكتاب اليمنيين شعراً وسرداً، أعني وصف المكان اليمني بالشاعرية والجمال المقترن بالفقر والحرمان.

 4-2 حمادي

مهَّد الاستهلال للتعريف بالشخصية الوحيدة المسماة في القصة والموضوعة عنواناً لها: المجنون = حمادي الذي يسكن في زاوية من المسجد الموصوف في جملة الاستهلال بالانزواء والكآبة.

وفي مقطع تالٍ منفصل بنقاط أفقية يتنبه القارئ بصرياً إلى انتهاء الاستهلال وبداية فقرة جديدة وحدث آخر يتقدم بالسرد صوب التعريف بالشخصية كما يلم بها السارد الخارجي: حمادي المقدَّم في العنوان بالمجنون تعريفاً والخارج من (زاويته التابعة للمسجد) فهو مقصى ومهمش بأكثر من عنصر يمكن ترتيبها للقارئ كما يلي:

لا يمكن وصف تصوير زيد دماج للمجنون بالقسوة كما جرت العادة في تحليل الشخصيات المهمشة في السرد، رغم سلبه العقل والأسرة (يعيش وحيداً في زاوية من المسجد المنزوي في القرية الهامدة بعد وفاة أبيه الذي كان فقيه القرية ومعلمها الموثوق والمعروف حتى في القرى المجاورة) وذلك يزيد من تهميشه لأن أهل القرية يقارنون جنونه بحكمة أبيه، فيجدون ضالتهم في المثل الشعبي "ذروة الفحل نحل". وسيرى القارئ أن لسعة النحل للقرية ستكون قوية لاحقاً، فضلاً عن أن حمادي هذا المجنون وسط عقلاء القرية الأقوياء، والخانعين من مظلوميها المهمشين، هو الذي سيعيد توازن الحياة والحقوق ويقسم الحاصل في البيدر (المجران) كما يريد العدل لا التراتب المستقر في القرية. مجنون إذن ذلك الذي أعاد الحق وقام بالقسمة حسب الجهد والمساواة لا المرتبة التي يوليها الهرم الاجتماعي السائد ظلماً وتمييزاً.

وصلة حمادي بالمجران (البيدر) الذي تتجمع فيه المحاصيل نهاية الموسم تعود لذكرى موت أبيه مختنقاً داخل المجران وهو يحاول ذات عام إخراج الحبوب من المدفن العميق ليبيعه للجائعين والمحتاجين بالثمن الذي يحدده الشيخ، لكن أباه هبط إلى عمق المدفن ولم يستطع الخروج بسبب قلة الهواء، فسدَّ الشيخ وحاشيته فوهة المدفن بحجر لتطبق عليه إلى الأبد.

هذا المشهد سيظل في ما تبقى من عقل حمادي، وسيحدد الفعل الذي قام به نهاية القصة.

5-2 الوصف

يقرب زيد دماج لقارئه جزئيات المكان الذي يشهد الحدث في القرية ويصف القرية ذاتها بما يؤكد الظلم الواقع على أهلها، فكأنّ القرية تشبههم في التهميش ووقوع الظلم عليها فهي هامدة وكذا موجوداتها (الدنيا هامدة، كل شيء هامد، الليل عميق بسكونه،لا صوت إلا النباح الجائع وغناء النسوة الحزين، القمر بارد، المجران كالمسجد كالمقبرة كالضريح كالليل البارد الساكن...).

أما الأكوام من الحبوب فهي موصوفة لبيان تجسيدها للطبيعة الطبقية في علاقات سكان القرية، فكومة الشيخ كبيرة جدا وفي مساحة واسعة تليها كومة بعض الأعيان من كبار المالكين، وهي كبيرة مميزة أيضا، وثم أكوام عدل القرية وعاقلها وفقيهها، تليها أكوام صغيرة لصغار الملاكين والمزارعين من الأجراء والشركاء.

ثم يصف السارد العليم في النص والمهيمن على جزئياته كلها ما ظل للمهمشين:

"وفي زوايا المجران بعض الأكوام الأصغر حجماً ربما لا تلفت النظر..وهي لفئة المزاينة والدواشين والأخدام وهذه الفئة تحصل على تلك الغلال من عملها الذي تؤديه لسكان القرية طوال العام."

يحاول الوصف أيضا أن يعمق الحرمان الذي تعانيه القرية بإزاء جمال طبيعتها ونقاء هوائها وصفاء سمائها وسطوع شمسها وشاعرية قمرها. لكنه يمر بالمسجد كمأوى لحمادي، مصوراً بناءه القديم والمهمل وعناية حمادي به، ولجوئه إلى قبة ضريح الولي الطاهر المدفون مع زوجته والمجهول إلا من روايات غير متيقن من صدقها.

كما يؤدي الوصف وظيفة كشف الطبائع والخفايا النفسية للشخصية الرئيسة في النص "حمادي" المجنون المستوحد وابتسامته التي يواجه بها عالم القرية الظالم والقاسي، وتشرده ووحدته، وذكرى أبيه الميت في أعماق المدفن، ثم اعتراضه على طريقة تكديس القرية لحاصل الحبوب بحسب مقام السكان لا جهدهم.

6-2 الخاتمة

تبدأ جملة الخاتمة منذ خروج حمادي منتشياً بسطوع القمر وكأنه يستعين به لقهر الظلام الذي يلف القرية، فيتجه نحو المجران، ويستعيد عند وصوله إليه حادثة موت أبيه اختناقاً داخل المدفن فيهب بكل طاقته منهالاً على "الأكوام المتفرقة يساويها بيديه لكي يدمجها مع بعضها البعض وتصبح كومة واحدة".

لاحقاً سيصف السارد فرح حمادي وغبطته وهو يطل على الجرن الموحد الحاصل، وهنا يستخدم السارد فعل الاعتلاء "يشرف" فحمادي حين يبزغ الفجر يتخذ مكاناً قريباً "يشرف" منه على الجرن وتشاركه الحيوانات في جلسته (بعض الكلاب والثعالب والقنافذ ذات الأشواك المخيفة). وهكذا انتقل حمادي من الهامش حيث الانزواء في ركن منزو من مسجد منزوٍ في قرية منزوية هامدة ليعتلي المكان ويشرف (من الشرف والعلو والهيمنة) على الجرن الذي سرعان ما امتلأ بضجيج السكان وهم "مشدوهون بمنظر الجرن وما حلّ به".

أما حمادي فقد تطورت ابتسامته التي كانت لا تفارق شفتيه، هزءاً واستغراباً بما يجري في القرية، فأصبحت (ضحكة عالية مدوية..تلقفتها الجبال والسهول والوديان بصدى عجيب،كـأنه ترانيم صلاة في مسجد أو كنيسة أو معبد..أو قاعة موسيقى..!).

 

 3- دلالات واستنتاجات

 1-3 رؤية العالم

تؤكد قصة زيد مطيع دماج المختارة للتحليل وبيان الوعي الاجتماعي المتقدم الذي تميز به كثيراً من توصلات المدارس البنيوية الحديثة التي قاربت النصوص اجتماعياً من زاوية رؤية العالم وتمثيل الطبقة والوعي الجمعي في السرد.

وهذا ما لمسناه في نص "المجنون" الذي اقترح تصحيح نظام توزيع الثروة (الحاصل) بين الناس، وكذلك إلغاء التراتب الذي فرضته الأعراف، وتدرج بسببه الهوامش في أدنى القائمة وأسفل الهرم الاجتماعي بسبب المهنة أو اللون أو العِرق، فقام زيد دماج بمهمتين: طبقية تلغي الفوارق بين الفقراء والأغنياء، واجتماعية توحد بين الناس ملاّكاً وأجراء، كما تمر ولو بشكل سريع بوجود المرأة الهامشي أيضا وما تعانيه من إقصاء (غناؤها الحزين المنبعث ليلاً من الأدوار الأرضية في البيوت وعملها الشاق على المطاحن اليدوية) فوجودها منحصر كذلك في أسفل التراتب.

ويسخر النص من مفاهيم العقل والجنون، فيغدو حمادي الموصوف بالجنون من سكان القرية هو الشخص الذي يعيد التوازن المنطقي للعالم من خلال قيامه بخلط الحاصل وتوحيده في كومة واحدة للجميع بدل تكديسه حجما ومساحة بحسب الموقع الاجتماعي والطبقة والمهنة واللون.

 2-3 ضحكة حمادي أو لسعته

إن ما فعله حمادي فعل قريب من الثورة التي تعم شرارتها لتصبح ناراً، وهذه هي دلالة ضحكته المدوية التي وإن بدت ذات طابع سينمائي لا خيال سردي فإنها استطاعت أن تنبه إلى الفعل الذي يعم ويتسع لتتلقفه الجبال والوديان والسهول مرددة الصدى، تلك الأماكن التي قال الراوي في مدخل القصة إنها تضم القرى الأخرى التي لا تختلف عن قرية حمادي شيئاً، بل لعل القارئ يدرك الآن مغزى إغفال تسمية القرية أو موقعها من جهات اليمن الأربعة.

هذه الضحكة الفرحة الشامتة المستهزئة المنتصرة هي اللسعة التي قدمها حمادي لمجتمعه، مجتمع القرية القائم على التراتب والتمييز وتحقير الهوامش، وبذا استرد حقه وردّ على الذين يكررون عند رؤيته مجنونا ذلك المثل الشعبي القائل "ذروة الفحل نحل" وأنه لا يقل عن أبيه عدلاً وأمانة وقوة بل هو يتفوق عليه لأنه لا يخنع ولا يهادن كما كان يفعل والده مضطراً بتثمين حاصل السنة ودفنه ثم بيعه للفقراء كما يشاء الشيخ.

ويكون الانتشار والتمدد لضحكة حمادي العالية المدوية ذات أثر شعوري أيضاً فقد وصفتها جملة الخاتمة بأنها تشبه ترانيم المعابد وقاعات الموسيقى لما ستتركه في باطن سامعيها من انفعال متحصل من رهافة فعل حمادي وإنسانيته، والعدل الذي تحقق بفعلته حين خلط الحاصل محتجاً على تقسيم الحاصل بطريقة طبقية منحازة.

وليس يسيراً تشكل مثل هذا الوعي لدى الكاتب إلا بمعونة اجتهاده الشخصي ورؤيته واعتراضه على الواقع. ولعل هذا هو الملمح الذي يميز واقعية زيد مطيع دماج ويضع له موقعاً خاصاً ضمن السرد المتوفر على قضايا المجتمع اليمني وتحديات نموه وتطوره.

 

ملاحظة: قصة "المجنون" مأخوذة من مجموعة "الجسر" القصصية، ط1، 1986

 

ملحق: مخطط لهرم التراتب الاجتماعي في القرية

 كما يوضحه تكديس الحبوب في أكوام منفصلة يعود كل منها لشخص أو فئة – وكما تعكسه القصة.


 

 


Back to Home Page