شعرية البداية ودلالتها في رواية الرهينة

د. عبد الحكيم باقيس

تشكل البداية في النص الروائي أهمية خاصة، بوصف الرواية من أكثر الفنون الأدبية ارتباطاً بمرحلة الكتابية، حيث النص الذي يقوم على التسلسل والترابط بين الأجزاء، وعلى التنوع والتجريب للأشكال السردية للبدايات بحسب طبيعة الكتابة الروائية، ما عكس نفسه على تعدد وتنوع أشكال البداية في النص الروائي، بخلاف البداية في النص الشعري التي أرست تقاليدها حقب متعددة وعصور أدبية متوالية، وتميز الشكل الروائي سيجعله أكثر قابلية للتجريب وتعدد الممارسة الإبداعية بما في ذلك البدايات أو الاستهلالات.

والبداية الروائية مكون رئيسي مهم من مكونات السرد، يرتبط ببقية النص ارتباطاً عضوياً، فهي "حلقة تواصل بين المؤلف والسارد من جهة، وبين المتلقي من جهة ثانية، وعبرها تحدد العديد من المنطلقات الأولية عن الجنس الأدبي وإفضاءاته"(1) ، وهي أشبه بالبنية الرحمية التي يتناسل منها السرد بأحداثه وشخصياته، بل ذهب بعض النقاد إلى وصفها بأهم أجزاء النص و"أنه ما من شيء يحدث في النص إلا وله نواة في الاستهلال"(2)، وتختلف البداية في الرواية عن غيرها من الأنواع الأدبية الأخرى، ففي حين تميل البداية في النص الشعري والقصة القصيرة إلى الكثافة وتقلص الحجم، تتسع البداية في الرواية إلى مدى أوسع بحكم خصوصية بناء النص الروائي، وهذا التميز سيفضي بنا إلى التساؤل عن الطريقة التي يمكن بواسطتها تحديد البداية الروائية، من أين تبدأ؟ ومتى تنتهي؟ وإن لم يكن هناك إجماع نقدي حول تحديد البداية، فقد جرى العرف أن تكون البداية مكونة من الوحدة الاستهلالية الأولى في النص، لكنها قد "تشغل الفصل الأول بأكمله"(3)، وقد يُعمد إلى تحديدها بواسطة بعض المؤشرات النصية والعلامات الطباعية وكل ما يتصل بجانب التشكيل البصري للكتابة؛ كالنقاط والنجيمات، والفراغ في بياض الطباعة، ونحو ذلك مما هو مألوف.

 وللبداية وظيفة دلالية كبيرة في النص الروائي تميزها عن غيرها من الأجزاء، بوصفها الجزء المتقدم منه إلى القارئ، يُعقد فيه الميثاق السردي بين النص والقارئ لتلقي نوع الحكي وإعداده للدخول في لعبة التخيل، وهي من أعقد أجزاء النص الروائي، لما لها من حساسية بالغة لدى الكاتب والقارئ، ولربما شكلت كتابتها أصعب اللحظات، فما يُقرأ في سهولة ويسر تطلب إنجازه تفكيراً طويلاً ومحاولات عدة حتى خرج في الصورة التي نتلقاها. وقد أعلن أكثر من كاتب عن قلقه النقدي بشأن البداية، ذلك أن من أهم وظائف البداية شد انتباه القارئ وتحفيزه لمواصلة التفاعل مع النص، وإثارة استجابته الجمالية. وقد لخص إندريا د. ل. وظائف البداية السردية بالتالي(4):

1.       ابتداء النص (الوظيفة التقنية).

2.       إثارة اهتمام القارئ (الوظيفة الإغرائية).

3.       إخراج التخيل (الوظيفة الإخبارية).

4.       انطلاق القصة (الوظيفة الدرامية).

 

البداية الرئيسية

للبداية في النص خصوصية التميز عن البداية في النص الشعري والقصة القصيرة والمسرحية، كونه يتضمن أكثر من بداية، فهناك البداية الرئيسية الكبرى التي يبدأ بها النص، ثم بدايات ثانوية في الفصول والأجزاء، وبدايات فرعية صغرى على مستوى الوحدات والفقرات الاستهلالية نفسها، ما يجعل للرواية أكثر من بداية، تؤدي كل واحدة منها وظائفها في بنية النص الروائي.

تتكون البداية الرئيسية في "الرهينة" من الوحدة السردية الاستهلالية الأولى، وهي لحظة دخول الرهينة إلى قصر نائب الإمام قادماً من قلعة الرهائن ليعمل خادماً "دويداراً" لدى النائب، ويصف الرهينة (وهو السارد) في هذه الوحدة الاستهلالية مشاهداته ومرافقة الدويدار السابق أو الرهينة السابق "عبادي" لحظة وصوله القصر وما كان قد جرى بينهما من استقبال، وتبدأ هذه الوحدة الاستهلالية عندما يسترجع الرهينة بعض ذكرياته ومشاهداته، عندما كان على سطح قلعة الرهائن ويسترجع ذكرى أول لقاء له بالرهينة عبادي عبر استرجاع مزجي بين نمطين من الاسترجاع؛ الخارجي والداخلي:

          "كم هي جميلة هذه المدينة! شاهدتها لأول مرة عندما أُخذت من قريتي ووُضعت في قلعتها (القاهرة) بين رهائن الإمام.

أخذني "عُكْفَة"([1]) الإمام ذوو الملابس الزرقاء عنوة من بين أحضان والدتي ومن بين سواعد أفراد أسرتي المتبقين.

لم يكتفوا بذلك، بل أخذوا حصان والدي تنفيذاً لرغبة الإمام.

كان يوماً معتدلاً، خفَّت فيه حدة هطول الأمطار لتتيح لنا مشاهدة المدينة والقرى البعيدة المتلألئة فوق الجبال... كان الجو صافياً. إنه "عَلاّن"([2])، شهر التأهب للحصاد.

كنت مع زميلي "الدويدار"([3])، الدويدار "الحالي"([4]) -كما يسمونه- على سطح دار "النائب"([5]) العالي. لا أدري لماذا أحببت صداقته! ربما لتقارب السن، وربما لعملنا المشترك.

كنت قريب العهد في منزل "النائب"، نائب الإمام و"عامله"([6]) على المدينة وما يتبعها، عندما أخذوني قسراً من قلعة القاهرة، معقل "الرهائن"([7])، وأُدخلت من بوابة قصر النائب وأنا أتذكر نظرات الازدراء التي ودعني بها زملائي "الرهائن".

كنت على علم بأن بعض "الرهائن" قد أُخذوا، إلى قصور الإمام وبعض نوابه وأمرائه، "دوادرة". وكنت أسمع أن بعضهم قد تمكن من الفرار، والبعض قد فشل فكبلوه بالقيود الحديدية في قلعة القاهرة مدى الحياة.

الشيء الذي لم أكن أعرفه هو معنى "الدويدار" وما هو عمله! ولم أكن أعي أي تفسير يقال؛ ربما لصغر سني.

-     من شروط "الدويدار" أن يكون صبياً لم يبلغ الحلم.

هكذا كان يقول أستاذنا (الفقيه)، السجين أيضاً معنا، والمكلف بتعليمنا القرآن والفروض والطاعة، في قلعة القاهرة معقل الرهائن.

-     يقوم "الدويدار" حالياً بعمل "الطَّواشي"([8]).

وعندما تبدو علينا الحيرة يقول:

-     و"الطواشي" هم العبيد المخصيون.

فنزداد حيرة أكثر.

-     والخصي هو من تُضرب خصيته.

ونحتار أكثر أيضاً من جديد متألمين لهذا العمل القاسي، فيقول:

-  لكي لا يمارس عملاً مشيناً... جنسياً، كمضاجعته نساء القصور. أي بمعنى آخر يجب أن يكون فاقداً لرجولته، أي بمعنى آخر عاجزاً.

ونحتار أيضاً، فيقول بغضب:

-     هذا يكفي... مفهوم؟

-     غير مفهوم يا "سِنَّا"([9]) الفقيه.

يقوم غاضباً لردنا الجماعي الذي كان يعتبره وقحاً أو وقاحة، فنصيح بنشيدنا المعتاد:

-                 غفر الله لك يا سيدنا.. ولوالديك مع والدينا... الخ."(5).

قامت هذه الوحدة الاستهلالية بوظيفة تأطيرية للحكاية من خلال الإشارة إلى ظروف القصة الزمانية والمكانية، والحدث الرئيسي الذي تولدت عنه بقية الأحداث، ذلك أن الاستهلال السردي في الرواية الواقعية غالباً ما يحفل بهذه الوظيفة، عندما تضع الافتتاحية مؤشراتها الظرفية ومعلوماتها وإعطاء القارئ الخلفية الخاصة للشخصية ليستطيع القارئ أن يربط الخيوط التي ستنشأ فيما بعد(6)، وقد تمثلت هذه المؤشرات الظرفية في الآتي:

1- الإشارة الزمنية لبداية القصة: "كان يوماً معتدلاً … كان الجو صافياً… إنه علاّن شهر التأهب للحصاد".

2- الإشارة المكانية لفضاء القصة: "كم هي جميلة هذه المدينة"، و"كنت مع زميلي الدويدار… الدويدار عبادي على سطح دار النائب العالي"، و"أُخذت من قريتي ووضعت في قلعتها (القاهرة) معقل الرهائن".

3- الإشارة إلى الحدث الرئيسي وإضاءة جانبٍ من ماضي الشخصية، وهو حادثة الاختطاف والوضع الاجتماعي القبلي للرهينة: "أخذني عكفة الإمام ذوو الملابس الزرقاء عنوة من بين أحضان والدتي وبين سواعد أفراد أسرتي المتبقين"… "أخذوني قسراً في قلعة القاهرة، معقل الرهائن، وأدخلت من بوابة القصر"، "لم يكتفوا بذلك بل أخذوا حصان والدي تنفيذاً لرغبة الإمام"... ومن المعلوم أن العائلة التي تمتلك حصاناً وقتئذ هي العائلات الميسورة ذات النفوذ الاجتماعي والقبلي، إلى جانب تكرار صيغة الفعل أخذت ووضعت، وأدخلت للدالة على الاستلاب وفقد الإرادة في المشاركة في الفعل إلا قهراً. وحادثة انتزاع الرهينة من قريته وأسرته ستظل تتكرر كثيراً في الخطاب بصور مختلفة، عبر مستوى التواتر –بحسب جنيت– عندما يتم سرد حكاية واحدة أكثر من مرة وفي كل مرة يضيء جانباً معيناً من تلك الحادثة(7)، لكنها عندما تبدو هنا في الاستهلال بتفاصيل أقل لتمثل -بحسب براون ويول– السياق النصي الأولي لتلقي الخطاب(8)، ولأن ما سيليها من أحداث سيمثل نتيجة وتسلسلاً منطقياً لها.

4- الإشارة لواقع القمع والقهر الذي يتعرض له الرهائن، ولطبيعة الوضع الذي سيقدم عليه في إطار مفهوم الرهانة وما يمكن أن يتعرض له بحسب المعلومات التي عرفها عن وضع الرهينة وشروطه وظروفه من المعلم في القلعة، ما يفسر بعد ذلك موقفه المضاد لوضع الرهينة.

وللبداية وظيفة بنائية على مستوى النص، لا تقف بهذه الوظيفة عند التمهيد للأحداث ومضمون السرد، وإنما بما تمثله البداية من علاقات وشيجة مع باقي مكونات بنية النص. وفي بداية "الرهينة" تشكل بنية الزمان أبرز عناصر البداية، ولم يخلُ ذلك من دلالة، فقد حرص السارد منذ البداية على تحديد المنطق الزمني للنص، وعدم إيهامنا بتزامن الحكى والأحداث، فما نقرأ لا يجرى في اللحظة الحاضرة التي نسمع فيها صوت السارد، ذلك أن الأحداث جرت في الماضي والسارد يقف منها على مسافة زمنية ما، وهذا يتناسب مع شكل الرواية السيري الاستعادي، إلى جانب حرصه المستمر على استخدام الصيغ التي تدل على تلك المسافة التي تقع بين زمن القصة وبين زمن الحكى، بين زمن الأحداث، وزمن سردها، ومن تلك الصيغ التي تدل على الماضي: كان، كنت، لم أكن... وغيرها، وقد بلغ معدل تكرر فعل الكينونة (كان) في النص أربعمائة وست عشرة مرة، وإسناد مائة وأربعين فعلاً لضمير السارد (كنت) (9)، وقد هيمنت هذه الأفعال على البداية، في إشارة إلى هيمنتها على باقي أجزاء النص، وليس من المبالغة أن القول أن هذه الصيغة تشكل معظم البدايات الفرغية في الفقرات والوحدات الاستهلالية في النص، بل وتتكرر في الفقرة الواحدة، وفي الصفحة الواحدة أكثر من مرة.

ويتجلى المنطق الزمني للنص في وفرة الاسترجاعات وتركيزها -رغم ضآلتها على مستوى النص- في بداية الرواية، ففي بداية الفصل الأول حيث البداية الرئيسية ترد ثلاثة استرجاعات قصيرة كإشارات سريعة، وتتفاوت في سعتها، فالأول لا تتعدى سعته أربعة سطور: "أخذنى (عكفة) الإمام ذوو الملابس الزرقاء عنوة من بين أحضان والدتي ومن بين سواعد أفراد أسرتي المتبقين، ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا حصان والدي تنفيذاً لرغبة الإمام ..."، أما الاسترجاع الثاني فهو استرجاع الرهينة لفترة وجوده في قلعة الرهائن، وهو أطول الاسترجاعات في الرواية، حيث تصل سعته إلى صفحتين ونصف، يستعيد فيها حديثه مع الصبية لفقيه القلعة حول كلمة دويدار، وسؤالهم عن سبب التغير الذي طرأ على شكل الرهائن العائدين للقلعة. أما الاسترجاع الأخير، فلا يتجاوز نصف الصفحة، عندما يسترج الرهينة مشهد سفل منزله في القرية، وما كان يضم من الحيوانات المختلفة إثر مشاهدته لاسطبل دار نائب الإمام، وهو الاسترجاع الوحيد الذي يتعدى حيز البداية أو الاستهلال. وتركيز الاسترجاعات في بداية الرواية على هذا النحو يتفق مع بناء الافتتاحية في الرواية الواقعية حيث "تتميز الافتتاحية في الرواية الواقعية بكثافة زمنية كبيرة، حيث أن الكاتب يحشد فيها ماضياً طويلاً في حيز قصصي صغير نسبياً"(10) ومن شأن ذلك أن يعطى القارئ خلفية عامة، ويدخله في عالم الرواية من خلال ما تحفل به الافتتاحية من معلومات(11).

إن غياب الاسترجاع في رواية "الرهينة" لا يدل على انقطاع مع الماضي، بقدر ما يدل على طبيعة الشخصية التي تقوم بالاسترجاع، فهي شخصية فتى صغير يكاد الاقتراب من مرحلة الحلم وليس في جعبته كثير من الذكريات التي قد يتضمنها السرد. أما ما جاء من استرجاعات فقد كان نتيجة الاندهاش والاستغراب الذي يشعر به الرهينة عند دخوله عتبة حياة جديد بمجرد دخوله عتبة قصر النائب، فاسترجاعه لماضيه القريب في قلعة "القاهرة" معقل الرهائن جاء مرتبطاً بوضع جديد هو مجبر عليه، هو أن يمارس مهمة كان يزدريها ويزدري كل من يقوم بها، وعندما يعلم أنه سيقوم بعمل الدويدار سرعان ما تستدعي ذاكرته الصغيرة كلمة وتفسيراً كان يجهلهما من معلم القلعة، الفقيه المكلف بتعليم الصبية والسجين معهم في القلعة.

وخلاصة القول: استرجاعات البداية في رواية "الرهينة" قد أدت الوظيفة التقليدية التقديمية للقصة والشخصية على نحو نموذجي، فقد مهد بها السارد لإدراك الأحداث والمواقف من خلال المعلومات التي حفلت بها البداية التي أضاءت ماضي الرهينة قبل دخول القصر، وفسرت خياره الرافض القيام بوظيفة ازدراها في ماضيه من خلال مشاهدات الرهائن العائدين إلى قلعة الرهائن، وتملصه المستمر منها، ومجمل القول إن الاسترجاعات في الرواية لم تتعد خمسة استرجاعات خارجية قصيرة، لا تزيد سعتها في الفضاء النصي للرواية عن خمس صفحات من مائة وثمان وتسعين صفحة، ولم تكن لتكسر خطية السرد الذي قام على الاتجاه الأفقي، وهو "السرد الذي تبدأ فيه الأحداث من نقطة في الحاضر وتتجه إلى المستقبل باستمرار دون عودة أو ارتداد إلى الماضي، أو أن هذه العودة وهذا الارتداد إن وقعا فهما يقعان بحدود ضئيلة جداً (12)"، وبذلك لا يشكل الاسترجاع أيّة وظيفة بنائية في تعطيل حركة السرد إلى الأمام عدا ما تمثل في وظيفته البنائية في بداية الرواية، ما يدل على عدم انشغال السرد بهذه التقنية في تشكيل الحكاية بدرجة أساسية. كما أن غياب الاسترجاع يشير إلى عدم رغبة الرهينة في إبطاء السرد أو تعطيل حركته المتنامية، المتجهة نحو النهاية في تصاعد خطى متصل، فاهتمام السرد وإلحاحه على إنجاز السرد يوازي حالة الترقب نحو المستقبل الذي يمثل الخلاص للرهينة، فشعوره بالزمن في ظل الرهانة لا يتيح له الالتفات إلى الوراء، أو صناعه ماض داخل القصر في ظل الرغبة العارمة في عدم الانتماء لفضاء القصر وزمنه، وفى ظل رغبة ملحة في تسريع وتيرة السرد المماثلة لرغبتة الملحة في الخلاص ومغادرة القصر.

جاءت البداية الرئيسية في صيغة سردية تناوبت فيها صيغتا السرد الرئيسيتان: السرد والعرض، لتشكل ما يشبه القاعدة أو المخطط المصغر لمجمل بنية السرد في الرواية، الذي يقوم على هذا التناوب والتوازن بين الخطاب المسود والخطاب المعروض، حيث ينهض كل نوع منهما بوظيفته على مستوى النص، وإذا ما نُظِرَ إلى الفضاء النصي الذي تشكله الأحرف الطباعية والبياض في النص، لوجدنا أن هاتين الصيغتين تتساويان من خلال كثافتهما وتناوبهما، فحجم الخطاب المسرود يساوي حجم الخطاب المعروض، يحكي الخطاب المسرود تفاصيل جرت في الماضي، سواء أكان قبل بداية القصة، عبر الاسترجاعات الخارجية التي تصف انتزاع عسكر الإمام للرهينة وهو طفل من بين سواعد أسرته، أم فترة وجوده في قلعة الرهائن مع بقية الصبية انتظاراً لتوزيعهم على قصور الإمام ونوابه والأمراء، وفي المقابل ينهض الخطاب المعروض (المشاهد) بسرد الحاضر، حيث الحوارات والمشاهد التي يشترك فيها الرهينة. ويمكن وصف هذا تناوب صيغتي السرد بالشكل التالي:

 

       السرد -->  العرض --->   السرد  ---->   العرض --->    السرد...

وكما تشكل البداية الرئيسية النواة الأولى لمجمل مكونات النص، فإنها ترتبط بعلاقة متواشجة مع العنوان، حين تتكفل البداية بتفسير العنوان، فـ"الرهينة" من (الرَّهن)، وقد جاء في "اللسان": "الرَّهْنُ ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه، يقال رَهَنْتُ فلاناً داراً رهناً، والرهينة من الرهن، والهاء للمبالغة"(13)، والرهن يضع الإنسان في منزلة من التشيؤ كالأشياء والمال والمتاع، وهو وضع قسري تسلب فيه ذات المرهون إنسانيته وحريته وكرامته، ويصبح استعادتها خاضعاً لظروف وشروط يجب تحققها، بخلاف وضع السجين المحدد جرمه وعقابه، وتشير دلالة كلمة "رهينة" إلى سلطة قهرية غير قانونية تمارس فعل الرهن القهري على ضحاياها بغرض تحقيق هدف ما، ووضوح دلالة هذه الكلمة التي تكون العنوان سيضع القارئ في مجال أفق انتظار محدد حول مدى اشتمال النص على دال عنوانه، ونص "الرهينة" لم يخالف أفق انتظار القارئ، ذلك أنه سيبدأ الإجابة على سؤال العنوان منذ الوحدة الاستهلالية الأولى، ولن يدع مجالاً لأية توقعات مغايرة لما اشتمل عليه من انتشار واضح وكثيف لدلالة العنوان والأفعال المتصلة به، عندما يبدأ السارد منذ البداية بإخبارنا بوضع رهانته منذ دخوله القسري في هذا الوضع وحتى خروجه الإرادي منه، وسيتكرر انتشار العنوان في بقية النص على نحو مماثل من الكثافة حين تتكرر كلمتا "رهينة" و"رهائن" في الوحدة الاستهلالية بهذه الكثافة الكبيرة.

 

البدايات الثانوية

في الطبعة الأولى للرواية، والتي صدرت في بيروت عام 1984 لم يقسم زيد مطيع دماج روايته إلى فصول ثلاثة كما فعل في طبعته الثانية التي صدرت في لندن عام 1997، ما يعني أنه قد تنبه إلى أهمية التقسيم ودوره الوظيفي في تلقي الرواية، والملاحظ أنه قد اكتفى بتقسيم تراتبي دون أن يمنح الفصول عنوانات ثانوية، وغياب العنوان الداخلي يشير إلى دلالة الالتحام والترابط بين أجزاء الرواية التي تسير في سرد خطي تتابعي، لم يرد المؤلف(14) أن يكسر من خطيته، لكن تقسيم الرواية إلى ثلاثة فصول يعني أننا بخلاف البداية الرئيسية التي استهل بها الفصل الأول أمام بدايتين أخريين للفصلين الثاني والثالث:

1ـ بداية الفصل الثاني:

"مرت الأيام، وبرغم عملي في دار الشريفة حفصة فإنني شعرت بالاكتئاب والضجر والملل.

كنت مع صاحبي، الدويدار الحالي، كما يحلو للبعض تسميته، نقضي معاُ بعضاً من أوقات ممتعة في الساحة أو في البوابة الرئيسية حسب العادة مع العسكر والبورزان وزاملهم المعتاد. ثم يضمنا مرقدنا المشترك في غرفته، كمهمكين نجترُّ همومنا اليومية، لكي نلتقي مجدداً في دهاليز القصر وسلالم وحجرات وساحة القصر وملحقلته، وفي المطبخ أيضاً بين أفراد أسرة النائب وحشمه وخدمه.. نلتقي في غرفة النائب المنبطح دائماً على جنه الأيسر منذ الصباح، ومنهجع معاً في غرفتنا في النهاية" (ص61).

2ـ بداية الفصل الثالث:

"انقطعت عن منزل الشريفة حفصة.. شعرت بأن ذلك كان أمراً جازماً تلقيته من النائب، فقد بلغت الحلم وأصبحت رجلاً كما ذكرني النائب بذلك عدة مرات.

حتى القصر نفسه لم أعد أرتاد أماكن النساء فيه ولا حتى المطابخ، ولم أعد أقوم بأي أعمال خاصة بهن" (ص151).

 

أول ما يلحظ في هاتين البدايتين أن سعتهما أقل حجماً من نصف سعة البداية الرئيسية، وذلك أمر لا مراء فيه، لأن البداية الرئيسية هي للنص بأكمله، بينما تقتصر وظائف البداية الثانوية على الفصول فقط، لكن ما يوحد جميع البدايات الثلاث (الرئيسية والثانوية) أن جميعها بدايات سردية ينقلنا فيها السارد إلى الحدث مباشرة، ويشكل البوح بمكنون مشاعره الداخلية ظاهرة عامة فيها، نظراً لطبيعة السرد الذاتي الذي ينطلق من منظور داخلي ذاتي في إدراكه للفضاء الذي يتحرك فيه.

وتتشابه هذه البدايات في مجموعة من الظواهر الأسلوبية السردية، من بينها انطلاق السرد من العلاقة بالمكان؛ دار النائب بمكوناتها المتعددة، دار الشريفة حفصة، البوابات والساحات والغرف، وترصد في أثناء ذلك التحول الذي تمر به هذه العلاقة تبعاً للحالة النفسية للسارد وتغير وعيه بالمكان، فتتحول من مشاعر الإعجاب والدهشة المرتبطة بلحظات الاكتشاف التي تبدأ بالمدينة: "كم هي جميلة جميلة هذه المدينة.." واكتشاف تفاصيل القصر وممراته ودهاليزه وغرفه وسكانه، ثم تحول هذه المشاعر في بداية الفصل الثاني إلى حالة من النفور والاكتئاب والضجر، ثم إلى تأسيس علاقة جديدة تقوم على الحضر أو الحدّ من الحركة في المكان في بداية الفصال الثالث.

وتتميز البدايات الثانوية والفرعية بكونها تمثل سرداً استئنافياً لا يكتفي بارتباطه بعلاقة بنائية مع ماسيليه، وإنما بارتباطه المباشر مع السرد السابق، لاسيما في السرد الخطي الأفقي الذي يقوم على منطق التتالي والتتابع للأحداث كما في "الرهينة" التي تبدأ بلحظ الدخول إلى قصر النائب، وتنتهي بالفرار منه، ومابين فعلي الدخول والخروج مجموعة من الأفعال والأحداث المتصلة فيما بينها، والمتوالية في السرد، ولذلك جاءت بداياتها الثانوية مبنية على منطق ترابطي تتابعي، فبداية الفصل الثاني تستهل بجملة خبرية "مرت الأيام..." وبداية الفصل الثالث تشير إلى وجود فعل جرى في السابق: "انقطعت عن منزل الشريفة"، تدل الجملة الأولى على تقنية القفز الزمني، أو الحذف حين يترك السرد مراحل زمنية من الحكاية دون أن يوازيها جزء من الخطاب، وتشير الجملة الخبرية الثانية إلى التغير ومخالفة مألوف علاقات السارد بالمكان.

للبداية في الفصل الثاني أهمية كونها تقدم تلخيصاً لأحداث يومية متكررة في حياة السارد، فيغدو السرد في هذه الوحدة الاستهلالية سرداً مكتنزاً(15)، يتضمن من حيث البنية الزمنية تلخيصاً وثكثيفاً للحدث وزمنه، لكنه من ناحية أسلوب السرد يترك فراغاً وأحداثاً مسكوتاً عنها على القارئ أن يملأ هذا الفراغ من خلال خبرته بمجموعة السرود المماثلة، وتوقعاته لما يمكن أن تتضمنه من أحداث من خلال متابعته السابقة لمسار القصة، وفي أحشاء هذا البداية بعض الإشارت التمهيدية الدالة على تحول السرد من حالة اليومي والعادي والسكون إلى حالة جديدة مفارقة تبدأ بالتمرد على الرتابة والجمود تبدأ بخروج السارد لاكتشاف العام الخارجي الذي يحيط بعالمه المغلق في القصر، حيث البؤس والفقر وجموع المنهكين والمتسولين وكل ما يحفل به قاع المدينة التي بدت له في حالة مفارقة عما شاهدها من قبل؛"ما كان أجملها من مدينة من عل، وما أحقرها اليوم في نظري من مقبرة حيّة! ليتها كانت صامتة!" (ص65). وإذا كانت البداية السابقة استئنافية تتميز بإيقاع سردي سريع، فبداية الفصل الثالث استشرافية تعلن عن تحول جوهري في مصير الشخصية وعلاقتها بالمكان وأصحابه، أشبه ببيان تمهيدي لأحداث جديدة أضمرتها لغة السرد.

 

هوامش:

1.      شعيب حليفي: وظيفة البداية في الرواية العربية، الكرمل.

2.      ياسين النصير: الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي،الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية (رقم 75)،القاهرة، 1998،ص23.

3.      نفسه، ص45.

4.      شعيب حليفي: وظيفة البداية في الرواية العربية، الكرمل.

5.      زيد مطيع دماج،الرهينة،دار رياض الريس،لندن،ص2،1997، ص17-20.

6.      سيزا أحمد قاسم،بناء الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، القاهرة، ص30.

7.      جينت: خطاب الحكاية، ص 129 و130.

8.      ج. ب. براون و ج. يول: تحليل الخطاب، ترجمة محمد لطفي الزيلطي ومنير التريكي، جامعة الملك سعود، 1997، الرياض، ص 145.

9.   بخصوص هذا الإحصاء، يُنظر: محمد عبد المطلب، بلاغة السرد، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، رقم 114، القاهرة، 2001ـ ص56.

10.   سيزا أحمد قاسم، مرجع مذكور، ص31.

11.   نفسه ص 30.

12.   شجاع مسلم العاني: البناء الفني في الرواية العربية في العراق، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1994م- ص 75.

13.   ابن منظور: لسان العرب، مادة (رهن) ـ ج3، دار المعارف، القاهرة، ص1757.

14. اختيار العنوان والعنوانات الثانوية والهوامش وغيرها شأن يرتبط بالمؤلف لا السارد، وهو يندرج في إطار النصية الموازية، حيث دور المؤلف والناقد والناشر في كل ما يسهم في عملية إخراج النص في الصورة النهائية، وكل ما يرتبط به من شروح وتعليقات ونحو ذلك.

15.   حول مفهوم السرد المكتنز يُنظر: أيمن بكر: "السرد المكتنز: نحو تحليل ثقافي للسرد"، فصول، العدد 59 - 2002م.

 


 

([1]) عُكْفَة:حرس الإمام الخاص.

([2]) عَلاّن: نجم زراعي يأتي قبل حصاد الغلال وهو أحب نجوم الزراعة في اليمن.

([3]) الدويدار: صبي حاضر البديهة يستخدمه الأمراء والحكام في قصورهم، وجمعها "دوادرة".

([4]) الحالي: الجميل.

([5]) النائب: الوالي- نائب الإمام.

([6]) العامل: مدير الناحية.

([7]) الرهائن: أبناء المشايخ ورؤساء القبائل الذين يعتقلهم الإمام لضمان ولاء آبائهم.

([8]) الطَّواشي: الخادم الخصي، العبد الخصي.

([9]) سِنَّا: لقب مدرس الكتَّاب - مختصرة من كلمة سيدنا.

 


Back to Home Page