الرهينة وعذوبة الحكي

د. عبد المطلب جبر

 


من لواء إب ناحية السياني، إلى المدرسة الأحمدية في تعز، إلى بني سويف، إلى طنطا، إلى القاهرة ثم إلى صنعاء..تلك محطات في حياة دماج تتوسطها تجربة «الرهينة».

إن هذا الحكاء الفذ خلال ثمانية وخمسين عاماً إلى غيابه بعد عمر ثرِّ بالوقائع والأحداث تحول بعضها إلى خطاب روائي رفيع كما نجد ذلك في الرهينة.

إن من المفارقات أن يكون غياب زيد مطيع دماج عن عالمنا في مارس الشهر عينه لانتكاسة ثورة 48م التي كانت «الرهينة» رواية دماج ترجيعاً فنياً عالياً لما قبل وبعد 48م.

لقد كشفت الرؤية النقدية النافذة لدماج عن ذلك التهرؤ والتفسخ السائد في بيوت الأمراء والنواب ، وكانت نظرته كاشفة ومبشرة لما يمكن أن تؤول إليه الأحداث والوقائع..فكأنه يعلن : لاشيء يقنعنا ببقاء هذا الفضاء المتفسخ..إنه التبشير بالثورة .. وككل الرؤى الواقعية فإنه لايصرخ ولايضع حلولاً ولكنه يطرح الوقائع والأحداث طرحاً مستقبلياً صحيحاً.

لاداعي لتكرار تفاصيل الموت في مارس 48م..لقد كانت مرعبة وهي تحصد الرؤوس والقامات وتكشف عن العفن التاريخي والاجتماعي لواقع فاسد..هذا من ناحية ـ ومن ناحية أخرى تكشف بطولات طلائع الثوار والمثقفين الذين ظلت قاماتهم وهاماتهم أعلى من عاصفة الهزيمة ومراراتها فلم ينحنوا وظلت قاماتهم عالية.

أقول ليس بمستغرب أن تستلهم علامات الرواية الفنية في هذه الأصوات «يموتون غرباء» و«صنعاء مدينة مفتوحة» لمحمد عبدالولي و«الرهينة» لدماج و«الميناء القديم» لمحمود إبراهيم صغيري.. لكن الرهينة تميزت برؤيتها الفنية الفذة ولم تخل تلك من فرادتها الفنية..وكان الكاسب هو الأدب الروائي اليمني.

وكما أنه لايمكن الحديث عن بدايات الرواية اليمنية دون محمد عبدالولي فإن الحديث عن المنجز الروائي لنا يكون عادلاً إلا «بالرهينة» كما يشير أحد الباحثين.

إن الإمتاع الرفيع من خلال بساطة الحكي وعذوبته وجماله هو الإغواء الذي امتلكه دماج كما يرى الروائي المصري يوسف القعيد..إنه يعمق لذة القراءة ويكفي دماج أن منحنا هذا الإمتاع حين جعل روايته تزاحم الشعر المترسخ في الوجدان الثقافي اليمني، لقد هيأت «الرهينة الساحة بذلك الإغراء لقراءة الفن الروائي وترسيخ فتنته وهذا منجز غير يسير.

إن قراءة الرهينة حتى وإن تمت بأكثر من منهج نقدي تكشف عن ثراء في الخطاب السردي من الاسترجاع إلى سرد الأحداث والأقوال إلى التواتر إلى استبطان الشخوص ورسم أبعادهم بل إلى جر القارئ راضياً مختاراً إلى نقطة النهاية التي تركها مفتوحة.

لم يخطئ النقاد حين وجدوا نقطة التطور في التناول السردي عند دماج ذلك أن نواة «الرهينة» الرواية تبدأ من «ثورة بغلة» في المجموعة القصصية «العقرب» كما ظهر ذلك في بحث منشور بمجلة الحكمة عام 87م.. منذ أن يستهل دماج القول «لقد أخذتني عكفة الإمام..» تأخذ الأحداث تصاعدها وتتكشف أبعادها بما تحمله من دلالات وتتوالى الشخصيات: الدويدار عبادي، الفقيه وتلميحاته إلى وظيفة الدويدار إلى الطوشي بما يؤشر إلى بؤس الفقيه والطوشي..ثم الشريفة حفصة.. لكن الخواء يلقي بظلاله على فضاءات عالم الرهائن.. وهذا ماأراده دماج في «طاهش الحوبان» عام ثلاثة وسبعين إلى «العقرب» ثم «الرهينة» و«الجسر» إلى «أحزان البنت مياسة».. تلك هي السيرة الأدبية لزيد مطيع التي نعرفه بها الآن، لكن الرهينة كانت اضافة دماج إلى السيرة الروائية اليمنية..لقد جرنا إلى الغواية التي يحدثها السرد وإلى الفتنة التي تتشربنا ونتشرب بها فكانت الرواية معلماً نباهي به الرواية العربية وحول ذلك أكثر من شهادة عربية، في نهاية الرواية يتحدث السارد بعد وفاة الدويدار عبادي:« تتلقفني ظلمات الجبال المطلة على الوادي الموحش المنحدر إلى المستقبل المجهول..» ويتركنا السارد أمام هذا الفضاء المفتوح.

لقد أدركنا المستقبل يازيد..الذي نتطلع إليه وسيكون أكثر بهاءً.. رحمك الله يازيد..لقد أهديتنا أجمل مايهدى ورحلت وأسرفت في الغياب.. لقد أشعلت فينا عذوبة الحكي وفتنته.

رحلت مكللاً بزهو محبتنا حياً..وبصدق محبتنا تذكرنا لك ثم من بعد غياب وأنت الحاضر في وجداننا أبداً.