ثنائية الاتصال والانفصال عند زيد مطيع دماج

مجموعة "المدفع الأصفر" نموذجاً

 

د. عادل شجاع

 

يعد زيد مطيع دماج من قلائل القصاصين في العالم العربي الذي عرف كيف يدخل إلى أعماق النفس البشرية، وكيف يسبر أغوار القلب ويحلل خفقاته وارتعاشاته وترنحه بين المطلق الذي لا يمكن الإمساك به والدنيوية التي يغرق فيها المرء حتى أطراف أذنيه.

قدم زيد مطيع دماج عدداً من الأعمال القصصية البراقة التي أكدت حرفيته ككاتب وأكدت قدرته على التغلغل في أعماق الشخصيات التي يرسمها، وأن يرفع بكل ما يملكه من أدوات إلى جعلنا نحس بأن هذا الرجل لا يمثل نفسه قدر ما يمثل قدراً ما، وإرادة ما، أو سطوة روحية لا مجال لمواجهتها أو الابتعاد عنها أو الفرار من تأثيرها.

نستطيع القول إن زيد مطيع دماج هو قاص.. يكاد يكون مهندساً سردياً يصمم عالمه القصصي مراعياً الإمكانات الجمالية التي من خلالها يبدع ذاته. وقصصه لا تعلن مقصديتها بسهولة، فهو يجعل العالم الفني موازياً للعالم الكوني. وهو يدرك أن المعنى اكتشاف ذاتي نابع من المتلقي.

لنستدعي سريعاً "المدفع الأصفر" حيث كانت الدلالة السردية الكلية تتخذ من علاقة ثنائية بين الحصن والمدينة موضوعاً درامياً يتشخص فيه الرمز المكاني بطلاً محورياً يتواصل مستغلاً ثنائية لغوية هي "المذكر/المؤنث" لينتهي الخطاب السردي بانفصال ظاهري بين العالمين: عالم الحصن، وعالم المدينة، بفعل الجبل، بينما يظل التواصل قائماً عبر ذلك الحبل الذي تتدلى منه السلة، وهو تواصل يقوم على ثنائية لغوية أخرى هي "المذكر والمؤنث" وهي علاقة تستعصي على الانفصال، لذلك نجد الكاتب قد وضع رمزاً دلالياً للعالم؛ المدفع، التجربة الإنسانية، في حين كان الحصن دالاً تتجمع فيه سمات المطلق، المجهول، الغامض.

لقد استطاع زيد مطيع دماج أن يجعل الحصن معادلاً للحياة اليمنية، لذلك لم يخرج دماج من الحصن إلا وقد استغل هذا المعادل فأضاف إليه عمقاً وزاد لوحته اتساعاً بألوان ذات أبعاد جديدة. لقد جال بحرية حول حصنه الأثير.. يلتقط من فضائه المغمور نموذج شخصيته المجسدة لقضيته المحورية.. قضية التواصل والانفصال.

تبدأ قصة "المدفع الأصفر" بوصف لملابس الجندي ولملامحه: "ما زال يرتدي حلته العسكرية الرثة.. وعلى رأسه طربوشه الأحمر بزره الأسود المتدلي خلف رأسه أو على يمينه بحسب وضع الطربوش. ورغم أن الشمس قد أكلت من الطربوش لونه فأصبح باهتاً إلا أنه ما زال مهيباً، متوسط القامة، قوي البنية، ارتسمت تجاعيد قليلة على وجهه الأحمر الذي جعلته حرارة الشمس وقسوة البرد يميل إلى السمرة، ذا شارب عسلي اللون كث في وسطه، ومبروماً من أطرافه إلى أعلى يعطيه مهابة زائدة وبحاجبين كثين.. وعينين تبرقان كعيني صقر.. لونهما أزرق مشوب بخضرة داكنة...".

إن شخصية الجندي تأخذنا رغماً عنا إلى أن نفسر كما يحلو لنا موقع الرجل والرمز الذي يختفي وراءه، إنه رمز لزمن مضى، ليظل شيء من المعنى معلقاً في علاقة غير معلنة الأبعاد. هناك ثنائية تقوم على المسيطر المتحكم ظاهرياً وهو الجندي. والمتحكم فيه ظاهرياً أيضاً وهو المجتمع، لكن السيطرة الحقيقية للمجتمع، فهو الذي يملك الطاقة الغامضة التي تجذب إليه المسيطر.

وكما يقف الجبل بين الحصن والمدينة نجد التراجع والانحسار في حياة الجندي: "سحب بيديه البوابة العملاقة التي كانت مواربة والمطلة على المدينة.. واختلس النظر بحذر شديد إليها.. جال بنظره.. وتوقف قليلاً عسى أن يسمع صوتاً ربما يقود إلى اللغز الذي حيره، لكنه لم يسمع سوى أصوات الديكة وعواء الكلاب ونهيق الحمير العائدة إلى المدينة".

في الفقرة السابقة تأتي الجمل القصيرة متلاحقة، كأنفاس تحتضر. يقف الجندي وحيداً، منفصلاً عن الأشياء واللون والطبيعة. نلاحظ هنا انفصال الـ"أنا" وتصدعها وهي تعيش حالة الغربة والفراغ، ثم إعادة اكتشاف الوجود المهدد بالعدم، كوجود عكست قصة "المدفع الأصفر" وعي الانفصال والـ"أنا" المحاصرة بين الوجود والعدم.

تقنيات التواصل هنا تعبر عن رؤية مغايرة تقدم تحولاً في العلاقة مع الطبيعة وما فوق الطبيعة، مع الذات ومع الآخرين مع الواقع واللا واقع. وللتواصل استعمالان، أحدهما أن يكون مدرجاً ضمن عناصر أخرى يلتقي فيها الواقعي بالسخرية منه، أو أنه يتحكم في توجيه الأفعال والأحداث.

إن التواصل، مفهوماً، متصل بمفاهيم أخرى، ليس حكراً على الأدب، فقط، وإنما هو عنصر يسري في العلوم الإنسانية والاجتماعية، يستقطب كل ما يثير ويخلق الإدهاش والحيرة في المألوف واللامألوف. والقصة تصور المجتمع بشكله الضبابي غير واضح المعالم وكيف أنه ظل مرتبطاً بأصوله وبظلال ماضيه رغم التحولات التي تجري من حوله.

اعتمد زيد مطيع دماج في هذه القصة على المفارقة والسخرية من المألوف الواقعي عبر المكاشفة والتضخيم. أراد بذلك أن يولد رؤية مغايرة تجاه الواقع والأشياء، مرتكزاً على الذات والهوية والتاريخ واللاشعور. وقد استخدم تقنية التواصل بهدف تكثيف إدهاش مضاعف في صيغة التحول الزمني وانقلاباته.

إن الجندي يقترب من العدم، أو هو شبح يسقط في الضياع منذ الفقرة الأولى في هذه القصة يبدأ الانفصال تجاه شخصية الجندي الذي يبدو وكأنه يبادل القارئ انفصالاً بانفصال ورفضاً برفض. "كان متكئاً بيديه على ماسورة مدفعه الأصفر العملاق.. مستغرقاً ومهموماً بأسئلة تدور في ذهنه، ثم لا يستطيع الإجابة عنها، ماذا حدث..؟ كيف اختفى زملاؤه من جنود و"طُبشية" وضباط الحصن المنيع المطل على المدينة وضواحيها؟".

تكشف الأنا عن رؤيتها الخاصة للعالم، عن موقعها داخل حياة يتهددها العدم، عن كون على حافة الفناء. ماذا بقي للجندي غير إعادة اكتشاف الوجود. "عاد مرة أخرى واتكأ بيديه على ماسورة مدفعه الأصفر العملاق يتساءل بحيرة لوقت طويل، عن كيفية اختفائهم؟.. لم يصدق أن زملاءه وأصدقاءه من جنود وطبشية وضباط سيغادرون الحصن ويتركونه وحيداً".

لقد استنفد الجندي كل طاقته في هذا التفكير المضني فاحتملته الأمواج عن دفء الجماعة عن احتكاك الأجساد والسواعد المتلاحقة البناءة، وعن وهج الشمس المتجدد في كل صباح. لقد أدرك الجندي عبث الوجود وغربته المنفصلة عن الكون.

وهنا يبدأ وعي الذات المتسائلة أي المنفصلة، المنفية خارج دورة الأشياء والكون منفية بوعيها بذاتها أساساً. ارتفعت "كيف؟ ولماذا؟" في حياة الجندي في انتظار الموت- العدم لتدرك الـ"أنا" غربتها وانفصالها وتعيد اكتشاف الوجود والحياة قرب الأشياء، وجودنا المادي وقيمته. "ترك مدفعه العملاق وأخذ بيده بندقيته (الموزر) نازلاً تتلمس أقدامه الدرجات المصلولة بالحجارة الملتوية نحو الأبواب العديدة للحصن.. واندهش مبهوراً حين وجد كل الأبواب ليست مغلقة من الداخل...".

تبدو غربة الجندي هي غربة العسكر في زمن يتجدد كل يوم ويرفض للإنسان اليمني التجدد والتقدم. نلمس هنا انفصال الوعي بذاتها عن الوعي بالأشياء. "أعاد تساؤله بحيرة، لماذا غادروا الحصن فجأة؟ ما الذي حدث وما هو السبب..؟ هل انتهت الحرب...؟ قال لنفسه لا يمكن لأي قوة أن تقتحم الحصن أو تستطيع كسر أبوابه المصنوعة من الخشب والنحاس والحديد...".

   بد ت الحياة مرعبة واقفة والجندي يريد استرجاع ما كان، فهو يحن إلى الماضي رغبة في العودة إلى ما كانت عليه الحياة وعدم تصور أو تقبل ما آل اليه الوضع.

   وزيد مطيع دماج يؤكد استحالة رجوع الأشياء إلى ما كانت عليه. ولعل لجوء الجندي إلى الذاكرة يعني أنه ضد التكلس والوحدة، فقد ارتكز الجندي على خلفية استرجاعية حركها وضعه الذي استجد في القلعة بغض النظر عن هلامية الصيرورة. "وضع يديه خلف رأسه يتذكر زملاءه الذين ماتوا.. ودفنوا، وكان هو الوحيد الذي نجا، حينما قاموا جميعاً بمساعدة البغلين للصعود بالمدفع الأصفر من مدخل الحصن إلى قمته، كان المدفع يتراجع إلى الوراء لعدم استطاعة الطبشية الثمانية أيضاً إيقاف تراجعه.. وكانت عجلاته الثقيلة في كل مرة تتراجع فيها تسحق شخصاً أو شخصين من الطبشية الثمانية. تذكر أنه الوحيد الذي بقي على قيد الحياة حين أوصل المدفع الأصفر العملاق إلى مكانه، وأن أحد البغال قد نفق فرمي به من قمة الحصن إلى الهاوية السحيقة وترقرقت في مقلتيه دموع آسنة انساحت على وجنتيه وأجهش بالبكاء...".

هكذا، بجمل قصيرة تقريرية وبهذا الأسلوب اللامبالي، يحكي الجندي حدثاً لا يمكن تجاهله في حياة الإنسان، وهو موت من كان معه. نحن أمام وعي لا نستطيع اختراقه وكأن "الأنا" التي تقود الحكاية وتروي الأحداث هي سطح مرآة عاكسة لما يحدث في الخارج.

وحضور الموت في تفكير زيد مطيع دماج التخيلي هو حضور عام ومركزي، فهو يستثمر الموت كتيمة، سواء كان هذا الموت بيولوجيا، يطال الشخوص والذوات، أم رمزياً يتم تجسيد صوره في أشكال الغيبيات التي تعيشها المدينة. فالجندي يتواصل مع المدينة عن طريق الحبل والسلة، لكنه يعيش حياة لا تختلف عن حياة المدينة. فواقعه مطبوع بالسكون واليباس وغياب التصالح بينه وبين أهل المدينة وبين الحصن والمدنية. وبالرغم من هذا الحبل المتدلي من أعلى الحصن إلى أسفل الجبل إلا أن ممارسة الجندي توحي بهذه القطيعة مع أهل المدينة.

لا شيء يوحد بين الناس سوى أنهم أسرى لقانون التدجين. وأقسى مستويات القطيعة هو هذا الجبل الذي يحد من كل محاولة للتواصل، فيتشكل عدم التواصل في صورة الجبل الذي يحتمي به هذا الجندي. فهو عندما يعبث بمدفعه إنما ينخر مجتمع المدينة بفيروس العجز والخواء.

وإن استبداد المدفع بموضوع التواصل يضمر العنف، لأن المدفع كان على الدوام هو مصدر العنف وهو المحرض على إراقة الدم بكل ما يحمله الفعل من مستويات الموت المادي والرمزي. وقد كثفت صورة المدفع بلونه الأصفر عنصر الإثارة والانتباه، فاللون الأصفر مرتبط بالمرض والموت.

الزمن

يغدو الزمن هنا كأداة للنسيان والتجاوز، وعنصر إثارة وتحسيس بالملل والرتابة القاتلة التي تفتت الزمن لتذروه رياح التلاشي. وقد استشعرت الذات الاغتيال الموجه ضد الزمن، فحاولت حمايته باستخدام المدفع.

حاولت الذاكرة مقاومة المحو والتلاشي. وللاحتماء من هذا الامحاء كان من الطبيعي الالتجاء إلى القوة كملاذ للحصول على أسباب الحياة. فالمدفع كان وسيلة لتعزيز واستمرارية كل ما يعلم أنه يتعفن، وهو بذلك يعكس إصراراً محبطاً على اليأس. فالأمل الذي يبتغيه الجندي يدرك أنه يجافي الواقع. وهو باستخدامه للمدفع إنما لجأ إلى وهم التكرار والعودة إلى الخلف، أي إلى ما لم يعد قائماً.

يهدف زيد مطيع دماج إلى صياغة رؤية رمزية للزمن في لحظات ماضية مرتبطة بالجهل والتخلف والاحتلال من جهة، ثم العبث ومحو القيم والخوف من جهة ثانية، فالجندي شخصية ملتبسة، مفرغة من الداخل، ولكنها في الوقت نفسه تمارس الحياة بكل مقوماتها، ليست ثائرة على المجتمع، لكنها تقهره بما يتوافر لديها من أدوات.

   إننا أمام صوت الحاكم في تأمله ومناجاته، صوت يعاني بلبلة الفكر وسقماً في النفس، يضيق صدره في الحصن فيهيج إلى الكهف حيث يناجي نفسه، وقد استغلق عليه الفهم أمام أسرار نفسه المعذبة.

هكذا تحيا قصة "المدفع الأصفر" من خلال زمن دائري ينفتح بضمير الغائب وينتهي به ليجعل الامتداد الحكائي يتأمل تجربة الوعي بهذا الزمن عبر خرقه وفضحه ووضعه في مرآة الذاكرة. إن هذه القصة تخضع لعامل التذكر أكثر مما تنخرط في ترتيب حدثي يعري الانشطار الذاتي عن التناقض الحاصل على مستوى الذات الواحدة، مما يخلق صوتين متجادلين داخل صوت واحد.

كما قلنا نحن أمام عالمين: عالم قديم مستقر مطمئن، يتبع إيقاع المألوف، زمن المعتاد وأهم من يمثله المرأة العجوز. وعالم آخر تعيشه "أنا" ممزقة، مغايرة لذاتها، منفصلة، إنه الجندي، عالم ليس له جذور ولا هدف.

هكذا ظهر الجندي غير مرتبط بهذه الأرض، لا أولاد ولا زوجة ولا أم ولا أب. هكذا يظهر هذا الجندي لا منتم. داخل هذا الجندي رغبة مدمرة، وهي تعبير عن الهاوية التي تحملها هذه الشخصية. هذا الفراغ الهائل، الغربة الموحشة، هذا الظمأ الذي لا يرتوي، هو ظمأ الحياة لا تستطيع أن تفلت من الموت، حياة لا تحلم إلا بالموت.

وما طلقات المدفع إلا مناورة للإفلات من عدم ما. فالرغبة/الحياة تحمل وجهاً آخر هو العدم. فالجندي-إذن­- في رغبته الجامحة، هارب من عدم ما، شخصية "اللا منتمي" الذي يسقط في هاوية اللا شعور ويتوحد مع تلك الغربة بداخلنا. نحن أمام ثنائية "الانفصال/الاتصال". وقد استخدم زيد مطيع دماج طاقية الاختفاء وعناصر أخرى لكي يجعل الصراع قائماً وغير منته: "فتشوا كل المنشآت في الحصن.. لم يجدوا سوى طربوش أحمر بزره الأسود قد أكلت الشمس لونه، كان موضوعاً على ماسورة المدفع الأصفر العملاق".

تنزع الشخصية المحورية في هذه القصة إلى الأسطورة والاختلاقات واللعب وتفخيخ الحكي والمبالغة والتضخيم. فالشخصية في هذه القصة ذات مصير قدري مرسومة تخيلياً، وتخضع للتحول وتمارسه، وهي ذات علاقة بالمسخ والغيب والاختفاء والموت والذاكرة والماضي والحاضر. وهذه الشخصية كانت حاضرة بحضور شخوص هلاميين، فلا حياة ولا حركة، بل إن حركة الحيوانات والطيور أكثر فاعلية من حركة الناس. نحن أمام شخصية رافضة لتطفلنا، أو بمعنى أصح رافضة لرغبتنا الأكيدة في أن نتوحد معها ونعايشها. وتنتهي القصة باختفاء الجندي بما يشبه نوع الحياة المنفصلة.

تكشف شخصية الجندي عن رؤيتها الخاصة للعالم، وموقعه داخل هذه الحياة التي يتهددها العدم، داخل حصن يتمركز على حافة الفناء. ولم يكن أمامه سوى التواصل مع أهل المدينة عن طريق المدفع الذي كان سبباً في الانفصال. بدأ إدراك عبث الوجود وغربة هذه الشخصية المنفصلة عن الواقع. وهنا بدأ وعي الذات المتسائلة، أي المنفصلة، المنفية خارج دورة الأشياء والكون، منفية بوعيها وبذاتها.

عكست قصة "المدفع الأصفر" وعي الانفصال والـ"أنا" المحاصرة بين الوجود والعدم. هذه القراءة لا تزعم لنفسها أنها قد ألمت بالموضوع، وإنما هي قراءة من بين قراءات أخرى.

 


Back to Home Page