جماليات المكان عبر ذاكرة الطفولة قراءة في "الانبهار والدهشة" لزيد مطيع دماج د. علي حداد |
في البدء لم نستعر من غاستون باشلار عنوان كتابه "جماليات المكان" فنضعه بين مفردات عنوان قراءتنا هذه فحسب، بل سعينا أيضاً إلى أن نكيف بعض أفكاره (الظاهراتية)(1) عن المكان لنوظفها في نسق تأملاتنا لكتاب "الانبهار والدهشة" للأديب اليمني الراحل زيد مطيع دماج. وإذا بدا أن الكتاب بجملته "أشبه بالمذكرات أو السيرة الذاتية"(2)، على حد وصف الدكتور عبد العزيز المقالح له، فإن القسم الأول منه، الذي أسماه مؤلفه بـ"كتاب تعز"(3)، هو ما سنتناوله في قراءتنا، لنستجلي انشغالاته وما تعلنه من تكشفات قيمية متعددة الأوجه، تبدّى لنا من بينها أمران، الأول: قيم المكان وتكويناته التي محضها المؤلف حضوراً دالاً، والأخير: الوسيلة الغالبة في الاستعادة، وهي (الذاكرة) التي لا تستحضر المكان بوصفه وجوداً مادياً شاخصاً في أبعاده التاريخية وملامحه الواقعية، بل عبر تأملات لها حيويتها وخصبها الشعوري الذاهب بعيداً باتجاه الطفولة وتحسسها الانفعالي وانشغالاتها وهواجسها التي تضفي على المكان ما تعايشه من حس وذائقة وانبهار متواتر بموجوداته وتكويناته. إن قراءتنا هذه لا تسعى لأن تكون ذات وجهة مذهبية محض، فقد استعدنا ما كان من أمر "الظاهراتية" وهي تعلن في طيات مقولاتها عن منهجية مستقبلية، عنَّ لها أن تفرض وجودها في التداول القرائي الراهن تحت مسمى "استجابة القارئ"(4). فاستحضرنا ذلك، واستفدنا منه، لتذهب تأملاتنا كي تؤول وتستقرئ وتستعيد مقولات دماج ونثار تصوراته عن أمكنة عايشتها ابتهاجات طفولته، واستعادتها ذاكرته في كتابه هذا.
المكان في الرؤية المنهجية لباشلار مثلت أفكار باشلار إضافات مهمة للمنجز الفلسفي الظاهراتي، ولاسيما في حدود انشغاله بالمكان وتكشفاته القيمية والجمالية. فلقد خرج بالرؤية الظاهراتية القائلة بأن "لا موضوع دون ذات"، والتي سعى إدموند هوسرل (شيخ الظاهراتية ومنظرها الأول)، من خلال تبنيها فلسفياً وعلمياً، للتوصل إلى معرفة الخصائص الأساسية للوعي البشري بعامة(5)، ليحيلها باشلار إلى أفق من المقاربة مع الذات وهي تصنع موضوعها الخاص الذي تنحاز به عن سواها من الذوات، وبحدود ما يتأطر لها من قدرات على الاستكناه الشعوري والجمالي، وهو ما ذهبت إليه فكرته القائلة بأن الإحساس المتناهي في الكبر المكاني -أو الصغر كذلك- موجود في دواخلنا ولا يرتبط بالضرورة بشيء خارجي(6)، مؤشراً في ذلك إلى أهمية الخيال، الذي تتأتى طبائعه عنده في نوعين يستوعبانه، أولهما: الخيال المادي، الذي يحدد له باشلار توصيفه بكونه بدائياً وخالداً في الوجود، لتتأكد فيه عناصر الديمومة وتكرار الأشياء على طبيعتها القارة فيها. أما النوع الآخر من الخيال عنده فهو الخيال الشكلي، الذي يعلن عن قيمه عبر مقدرة الإحساس بجمال الموجودات وتحسسها شعورياً والانسجام الذاتي معها، وهو ما يكون -طبقا لرؤيته- مغرقاً بالطرافة والجمال الفاتن، وبالتنوع والمفاجأة كذلك(7)، وهذا النوع من الخيال ما جعله باشلار مؤكداً لتأملاته والتماهي الشعوري مع جماليات المكان والبحث عن تكيفاته الدلالية والتعبيرية التي يجدها في الفنون بعامة، والشعر على وجه التخصيص(8). منطلقاً من حيوية هذا النوع من الخيال يدلي باشلار بإضافته الجمالية عن تشكيل المكان، متمثلاً التأسيس الظاهراتي ذاته، فهو يرى أن فاعلية الخيال تتجلى عبر تشكيله الذاتي، فحيث لا يوجد موضوع دون ذات فإن الخيال في تمثله للمكان إنما يقوم بإلغاء مواضعات الظاهرة المكانية، أي كونها ظاهرة هندسية مقننة، ويحل مكانها ديناميته الخاصة: المفارقة. وهكذا يصبح الإحساس بمكانية الأشياء موجوداً في دواخلنا من دون أن يرتبط بواقع خارجي. إنه يتحدد من خلال شعورنا به ومعايشتنا له(9). وفي مناهضة بينة لآراء سواه من، الظاهراتيين الأوائل، فإن باشلار لا يستبعد الوجود الموضوعي (الواقعي) للأشياء وما يعلنه عنها؛ ولكنه لا يعد ذلك من انشغالات الدرس الجمالي الذي يتمثل كنه الموجودات ويعايشها شعورياً في تجربة فنية خلاقة؛ فسوى هذا عنده مما يهتم به المختصون في مجالات المعرفة والعلوم وكشوفاتهما (10). لقد استوقفت باشلار تجليات المكان -في بعديه الشعوري والجمالي- باشلار طويلا، وهو ما كرس له كتابه "جماليات المكان"، آخذاً بأفكاره فيه إلى حيث يصل إلى تحليل الأبعاد الجمالية للصورة، عبر ما أسماه بـ"ظاهراتية المخيلة"(11)، التي تقصى من خلالها ما يعلن عن جماليات الفنون، مؤكداً قيمة الذاكرة وفاعليتها في الإنتاج التصوري، حداً جعله يقف بإزائها مندهشاً، ليهتف: "أية أداة غريبة هي الذاكرة!؟"(12)، كأنها -طبقاً لرؤيته- لا تسجل استمرارية واقعية الأشياء، "فنحن نفكر فيها فقط بمستوى غريزي خالٍ من الكثافة"(13). وهكذا يكشف لنا المكان -حين تستعيده تأملاتنا- لا عن وجوده الواقعي، بل عن بعده العاطفي الذي اندس في موجوداتنا الشعورية والجمالية، فهو يعيش في داخل جهازنا العصبي كمجموعة من ردود الأفعال التي لا تكرر الوجود المادي المشخص له، بل بوصفه ذكرى، ومن هنا تصبح صورته ذات طبيعة شعرية، وصفها باشلار بأنها "بروز متوثب ومفاجئ على سطح النفس"(14). ومع فاعلية الذاكرة ومنجزها الشعوري الذي تملاه باشلار طويلاً فإن تماهياً بين منطوق الذاكرة والتشكيل الصوري للحلم هو ما يرصده ويؤكد تعينه في إنتاج خاص للمكان. فإذا كانت استعارة المكان -عبر الذاكرة- تمثل نمطاً من أحلام اليقظة المستعادة، فإن الحالم "إما يصبح هو الوجود الكامل لصورته، مستوعباً كل مساحتها، وإما يحدد نفسه في شكل مصغر لصورته"(15).
زيد مطيع دماج... رؤية المكان وكشوفاتها -1- شهد العام 2000 صدور كتابين مهمين، وفي مجالين إبداعيين متجاورين، لأديبين يمنيين بارزين، هما: عبد العزيز المقالح وصدر له ديوانه "كتاب صنعاء"(16)، وزيد مطيع دماج وصدر له كتابه هذا الذي بين أيدينا (الانبهار والدهشة). ولعل ما يثير رغبة التأمل في بادئ الأمر هنا ما كان يجمع بين هذين المبدعين من وشائج إنسانية نبيلة، عبّر عنها المقالح في تقديمه لكتاب صاحبه بقوله: "... ومنذ التقيته لأول مرة في مطلع الستينيات -بعد قراءتي لمحاولاته القصصية الأولى- لم تفترق مواقفنا ولا رؤانا، فقد آنست فيه الصديق الودود الحفي بأصدقائه والوفي لهم، ومنذ ذلك الحين وهذه الصورة تزداد وضوحاً وإشراقاً"(17). أما قبل ذلك فقد جمع بين الاثنين ما كان لهما من ظروف نشأة متقاربة، فقد ولد كلُ منهما في إحدى قرى محافظة "إب"، ولأبوين عاين كل منهما واقع بلاده بوعي وطني متميز، فدفع ثمن مواقفه المناهضة للسلطة القائمة آنذاك، سجناً ومطاردة ونفياً غيبه –ولفترات طويلة- عن بيته وعائلته(18)، وهو ما لا يمكن التغاضي عن تأثيره في وعي ابنيهما وتجاربهما الإنسانية والإبداعية اللاحقة. لقد اضطر كل من المقالح ودماج، وهما في سن صغيرة، إلى مغادرة القرية مع أسرتيهما، وقيض لأقدارهما أن تأخذ وجهتين متضادتين، فحين رحل المقالح باتجاه الشمال نحو صنعاء، ذهب دماج جنوباً نحو تعز، لينشغل كل منهما بهذا الذي ترصده حواسه وتُراكمه دواخله، من عوالم هاتين المدينتين اللتين بدا كل شيء فيهما مثيراً وشاغلاً لذاكرتيهما حدّ الدهشة المفرطة. يكتب المقالح مستعيداً صورة صنعاء عبر ذاكرة الطفولة: "لم تكن صنعاء بهذا الحجم، كانت صغيرة، تحتمي جذورها العتيقة بالجبل الواقف لكي يحرسها من الشرق. وكانت أقدامها تبتعد كثيراً عن الجبل الصغير المواجه لها لكي يحميها من الغرب، ومع ذلك فقد كانت تبدو لعينيَّ الصغيرتين أكبر من الآن، وكأنها ما زالت تتراءى إليَّ من وراء السنوات كعروس جميلة ليلة الزفاف. وكان اللون الأبيض هو أزهى وأهم ألوانها، وهو ما كان يعطيها -وبخاصة في أوقات الظهيرة- ألقاً فاتناً"(19). ومن استعادة للحس الطفولي ذاته يكتب دماج: "لم تعش في ذاكرتي أية مدينة كمدينة تعز" (الانبهار والدهشة، ص 15). لقد تكرس وجود تلكم المدينتين في ذاكرة كل منهما لتمسي عنده هاجساً شعورياً ومرتكزاً لتجليات إبداعية متلاحقة قام -وبعد ما يقارب النصف قرن من السنوات- باستعادتها ذكرى وانفعالاً عاطفياً وفيوضاً جمالية، ليس بوصفهما مكانين أثيرين فحسب، بل كمجس عالي التمثل لانشغالاتهما وما ينجزانه إبداعياً، مستنهضين تفوهات الطفولة البريئة والكثيرة الصدق، لتكون مالهما في تأثيث المكان برؤى تعبيرية خاصة. وإذا كان المقالح -في كثير من نصوص كتابه صنعاء- قد استنهض وجود هذا المدينة في حاضرها أو كذكرى مستعادة، فإن دماج يكرس جُلَّ تأملاته -إن لم نقل جميعها- لإبراز صورة تعز المندسة في أعماقه ماضياً طفولياً يؤجج في تأملاته الراهنة حالة من "الانبهار" الذي لا ينفد.
-2- يمثل المكان (قيمة) أساساً في كتاب "الانبهار والدهشة"، ولاسيما في القسم الأول، الذي ستكتفي قراءتنا هذه بتأمله. فعبر تشخيصات متلاحقة، وتأثيث للمكان، بموجوداته من البشر والعمارة ومظاهر الطبيعة، يقرأ دماج مدينته (تعز) ويضعها على الورق حضوراً تصويرياً مفعماً بمشاعر الحب، فهي عنده "المدينة الرائعة بمآثرها العظيمة التي لم يخلق مثلها في البلاد" (الانبهار والدهشة، ص 16). لقد استلزم تدويل تلك الأحاسيس التي تمتلئ بها ذات الكاتب، وانشداداته العاطفية، منه أن يوظف أفقين من التمثل، الأول: يستمده من الذاكرة التي تستحضر تأملات الطفولة وانشغالاتها ولذائذها، وهي تعايش المكان وتترسم ملامحه، والآخر: تكتبه اللحظة الراهنة، لحظة الكاتب الكبير الذي يستعيد المكان (حلم يقظة) يؤطره الخيال وتنعشه الذاكرة بما هو قار فيها من الصور والتكوينات، ليقوم بترميم الوقائع، مستعيداً كل مهيمنات تحسسه للمكان الأثير عنده، وبما لا يذهب به بعيداً عن وجوده الموضوعي (التاريخي) الذي لا يمكن تجاوزه. وهكذا تأطر حضور المكان في تأملات دماج من خلال أبعاد ثلاثة: الأول: يعلن عنه الوجود الواقعي للمكان بتفصيلاته التاريخية التي يتأملها أحيانا بمواضعات ما لها من وجود متعين فيها. الثاني: تبرزه اللحظة المعرفية للوعي الراهن عند الكاتب، في ملاحظات فكرية أو سياسية، أو تشخيص لقيم اجتماعية استوعبها المكان وأعلن عنها من خلال خبرة الكاتب ومواقفه. الثالث: المكان/ الذكرى، وهو الذي تجري استعادته بحساسية الطفولة واسترجاعها الشعوري المثير. ولعل هذا البعد التعبيري هو أغنى تأملات دماج للمكان بخصوصية التأمل وخصوبته. يشبّه أحد الدارسين علاقة الإنسان بالمكان، في تراتيبها وحدود الوعي المعلن فيها، بالبصلة؛ فالفرد يحتل قلب البصلة، وتمثل الأماكن المحيطة به طبقات البصلة، حيث تزداد هذه الطبقات تراكما واتساعا كلما اتسعت مجالات أفعاله ونشاطه(20). ولعلنا قادرون أن نستعيد المثال ذاته ونحن نتأمل طبيعة تشكيل المكان في كتاب دماج هذا، حيث تبدت له تراتبية تعبيرية تؤشر إلى وعيه بالمكان في حركية متواترة من التعايش معه، واستنطاقه شعورياً وجمالياً في صور متعددة عبر مراحل من حياته وتجاربه، حتى تم للمكان أن يعلن تمام حضوره في رؤية الكاتب، وهو بشخصه في أبعاده المختلفة، ليقدم لنا من خلاله تاريخية المكان، وكذلك تشكله في الفكر بنوع من الأيديولوجيا المؤشرة لوعي الكاتب، مساوقاً ذلك كله بلذائذ التأمل الطفولي وكشوفاته العاطفية. لقد جاء البعدان: التاريخي والأيديولوجي، مما لا يخص الرؤية الذاتية للكاتب وحده، فلعل ذواتاً كثيرة تشاركه رؤاه عن المكان الذي انشغل به في بعده التاريخي، وربما استعادته بموثوقية مؤكدة في دراسات وقراءات متقاربة الطرح. كما أن البعد الأيديولوجي محكوم بمؤثرات الوقائع السياسية والانشغالات الفكرية وممارساتها لدى الكاتب، وتطور وعيه كذلك، ليتبوب ذلك كله في تشكيل الرؤية التي لا تكون ذاتية محضاً، بل وثقافية أيضاً. وحده البعد الطفولي، الذي تنهض به الذاكرة وفاعلية المخيلة المستعيدة لأرصدة التحسس الشعوري المستكينة في الأعماق، هو ما يعلن -بكل ما فيه- عن خصوصية ذاتية، تجيء هيجانات بوحها لتقول الذي لا يخضع لاشتراطات الوعي الراهن ووقائعيته التي تبرمج تأملاتها بمؤثرات الخارج وأحكامه، وهو ما سنحاول استجلاءه في الصفحات اللاحقة.
-3- يقول دماج: "في عام 1950، وعمري في ذلك الوقت لا يتجاوز السابعة أخذني والدي معه من مقر عمله (المنفى) إلى مدينة تعز، بعد أن كنت وحيده الذي ظل على قيد الحياة... وكانت هي أول مرة أعرف هذه المدينة" (الانبهار والدهشة، ص 33). وإذا ما استعدنا تاريخ مغادرته لها في العام 1958 متجهاً نحو مصر لإكمال دراسته، كما أشار هو إلى ذلك (الانبهار والدهشة، ص65)، فإنه يكون بذلك قد قضى في تعز ما يقارب الثماني من السنوات، وتمتد من عمر السابعة وحتى الخامسة عشرة، وهذا ما يعني -في نظر الدراسات المهتمة بالطفولة ومراحلها- أن دماج يستعيد في صفحات كتابه ذكريات وصوراً ومواقف استبدت بذاكرته وآفاق تأمله لما حوله من الأشياء والموجودات العيانية في مساحة عمرية تشملها مرحلتان متأخرتان من مراحل الطفولة(21)، هما الثالثة والرابعة، اللتان تكتنفان عمر الطفل منذ بلوغه سنته السادسة، وحتى آخر سنوات طفولته، التي يتهيأ بعدها لولوج مرحلة المراهقة. ولعل أول ما تشهده هاتان المرحلتان دخول الطفل إلى المدرسة، حيث تتسع خبراته ومعارفه عبر إضافات تربوية ومعرفية وتجارب يبدأ معايشتها ابتداء بالمهارات التعليمية الأساس (القراءة والكتابة والحساب) ووصولاً إلى العلاقات الاجتماعية التي تنشأ من خلال وجوده في المدرسة وخارجها، وهو ما يؤسس لامتداد رؤيته العيانية والذهنية إلى ما يعمق فاعليتها ويطورها، حيث "يبدأ الطفل بمواجهة الحياة المدرسية -وما فيها من انضباط وواجبات وتعليمات- منفرداً، بما يعزز ملامح شخصيته، كما يتسع مجال الفاعلية الحركية لديه... ويأخذ التفكير مساحته المؤثرة، حين يتم نقله في بعض الجوانب المعرفية والسلوكية من المنطق المحسوس إلى المنطق الذهني. كما تتسع عنده قدرة تسمية الأشياء وتوصيفها ووضعها في مجموعات متماثلة"(22). وعلى الصعيد السلوكي فإن تأثراً واضحاً بالمحيط الاجتماعي الثقافي الذي يعيش فيه الطفل هو ما يعلن عن استجاباته في تبويب سلوكه تبعاً لمقدار إدراكه لعلاقته بالمحيط الخارجي، ليتجه بعض تجاربه وأفكاره التي لا تنسجم وذلك المحيط إلى عالم المكبوتات الذي "تكوَّن لديه ونشأ من بعض خبراته غير المسموح بها والمرفوضة من قبل الراشدين"(23). وحين يبلغ الطفل سنوات المرحلة الرابعة فإن آفاقاً سلوكية وتعبيرية وممارسات إنسانية مؤثرة سوف تندس في شخصيته، وبما يعده للاندماج الاجتماعي بمواصفات شخصية متوازنة، حيث "تعزز سنوات هذه المرحلة الاستقلال الذاتي في سلوكه، مثلما تعمق قدرة التخيل ومخاطبة ذاته والآخرين بنوع من المغامرات التي هي في كثير منها أحلام يقظة"(24). وعلى صعيد فاعلية الخيال في شخصية الطفل فإن تلك السنوات تتسع لمرحلتين من التأطير الخيالي، هما: "مرحلة الخيال المنطلق" وتشمل السنوات من السادسة وحتى الثامنة، "وفيها يكون خياله قد أخذ أبعاداً جديدة في فاعليته، لاسيما حين يكون قد تأسس على رعاية وإشباع لمسارات تجسده، ليتحول من خيال إيهامي إلى خيال إبداعي، يتيح له الإنعتاق من صور واقعه وبيئته المحدودة إلى آفاق التخيل الحر الذي يسعى من خلاله إلى رؤية الأشياء، لا كما هي عليه، بل كما يتمناه ويتصوره لها"(25)، واستجابة لذلك "تتجه تطلعاته إلى كل ما هو غريب وخيالي"(26). أما مرحلة الخيال اللاحقة، وهي الأخيرة عند الطفل، فتوصف بأنها "مرحلة البطولة الواقعية" التي تشهد تطوراً في قابلية الطفل ومهاراته العقلية والمعرفية، سواء من خلال الحياة أم من خلال ما تقدمه المدرسة. وتأخذ هذه المرحلة عنده شيئاً من التركيز الذهني، فيسعى إلى الابتعاد عن التخيل الجامح ويبدأ بملامسة الوقائع على ما هي عليه، قدر تمكُّنه من ذلك، "وربما كان ذلك سبباً في ميله إلى الشخصيات الواقعية من الأبطال والمغامرين، سواء الذين يسمع بأسمائهم ويتأكد من تاريخية وجودهم، أم الذين يشاهدهم وتصله أخبارهم من المشهورين في زمانه... حيث يبهره الاهتمام والإعجاب اللذان يحيطهم الناس بهما"(17). تتحدث الدراسات المهتمة بالطفولة كثيراً عن دور العوامل الاجتماعية والثقافية في بناء شخصية الطفل وإنضاجها وعياً وتجارب. وفي هذا الصدد ترى "نظرية الجمال"(18) أن الطفل "لا يولد شخصاً بل يولد فرداً، ولا يتهيأ له ذلك إلا نتيجة التأثيرات الثقافية الكثيرة من حوله، فلكي يصبح الفرد شخصاً لا بد من اكتسابه لغة وأفكاراً وأهدافاً وقيماً"(19). ومع أن هذه النظرية لا تكاد تضع في حسبانها فاعلية العناصر الأخرى المعلنة عن طبيعة الشخصية، كالصحة الجسدية والنفسية، وتأثيرات الحالة الاجتماعية والمستوى الاقتصادي، وتلك كلها تندس في تشكيلة مقومات الشخصية لمدى الطفل؛ إلا أن تبنيها للفاعلية الثقافية ودورها في بناء شخصية الطفل وذائقته تجعلها جديرة بالتأمل فيما نحن بصدده هنا. فلا شك في أن ذاكرة الطفل وحواسه المتيقظة تشكل مجالات خصبة لاستنبات قيم راسخة الحضور حين تتوفر له فرصة إغنائها بكل ما يثير ويبقى شاخصاً في مخيلتها. تحيلنا مناقلة ما مر ذكره نحو شخصية زيد مطيع دماج الساردة لوقائع كتابه الذي بين أيدينا إلى القول بالآتي: لقد كونت تعز حاضنة ثقافية واجتماعية كبيرة الأهمية لدى دماج، وفي أكثر من اتجاه. فلا شك في أن هذا الصبي القادم من عالم القرية المحدود، بتكويناته وبساطة العيش فيه والصلات الحميمة التي تجمع الناس هناك، سيجد نفسه في تعز بمواجهة كثير مما لم يره في قريته، سواء من حيث الاتساع المكاني وطرز العيش والعمارة، أم في طبيعة السلوك الإنساني وانشغالاته، فضلاً عما أخذ يتوافر في المدينة من مستلزمات الحياة العصرية ومظاهرها. وكان ذلك مما تعايشه حواس القادم الصغير وتنشغل به، وهو ما اعترف به دماج ذاته حين كتب: "ولأنني كنت صبياً قادماً من الريف دخل إلى فضاء أوسع وأكبر من قريته، كان لا بد أن أدهش بانبهار لأشياء لم تكن تخطر على بالي"(20). وإذا ما تذكرنا أن دماج جاء إلى المدينة يسعى ليدخل المدرسة ويتزود بالمعرفة، فإن ذلك سيكون عاملاً مضافاً يؤسس لفاعلية تلقٍّ عالية في شخصيته الغضة، كي تحاول -قدر استطاعتها- أن تحيل ما تتلقفه من محيطها إلى خبرات مضافة لرصيدها التعليمي المنشود، وهو ما أشارت إليه أسئلة كثيرة كان يلقيها على الكبار يستطلع معلوماتهم عن كثير من الأشياء والظواهر التي واجهها في محيطه الجديد، مثلما عكسها تأمله الدائب لما كان يواجه حواسه. ولعل نزوع التعلم والاستزادة المعرفية في شخصية ذلك الصبي إنما تدعمها مقومات ثقافية عدة، منها المستوى الثقافي والفكري وكذلك الاقتصادي لعائلته، ولاسيما والده: الشخصية الوطنية المرموقة بوعيها ومواقفها. وهو ما وفر لدماج الابن تنشئة تربوية ومعرفية واضحة الغنى. وقد تعزز ذلك عنده برغبة شديدة التطلع نحو التعلم والاطلاع، ونزوع ذكي يكرس مساحة من انتباهه لكل ما يواجهه في محيطه، قصد اكتناه وتصورات خاصة عنه. وإذا ما تذكرنا أن ذلك الصبي كان يعيش معظم أيامه في تعز، في السكن الخاص بالمدرسة الأحمدية، بعيداً عن أهله وأقاربه الموزعين في أكثر من مكان، فلعله كان يجد في تأمله للمدينة، بشوارعها وساحاتها ومعالمها العمرانية، فضلا عن الحميمية التي كان يتلقاه بها بعض أصحاب أبيه من الشخصيات المهمة، وبإزائها ما كان يعانيه أهلها من تسلط وظروف حكم جائر، عكس استبداده بوقائع كثيرة؛ ما كان ينشدّ إليه وينشغل به، ويدسه في أعماق الذات المستوفزة لتلقي كلما يواجهها، والاحتفاظ به في حيز خاص من الذاكرة.
-4- كما تدخل الكاميرا في الدراما السينمائية والتلفزيونية لتجسد أبعاد المكان في سياق من السرد التصويري، تدلف رؤية دماج وهي تستعيد تفصيلات تعز وتكويناتها المكانية، من خارجها، حيث "سورها العظيم المشيد بالحجارة من الخارج والداخل... يحيط بالمدينة من كل الجوانب" (الانبهار والدهشة، ص 17). ومن أحد بابي المدينة، وهما "باب موسى"، و"الباب الكبير"، اللذين "كانا وما زالا آية رائعة لفن العمارة اليمنية" (الانبهار والدهشة، ص17)، تدلف كاميرا التشخيص المكاني التي تؤطر مشاهدتها ذاكرة دماج واستعاداته الراهنة، لتبدأ برسم ملامح المكان والحديث عن تكويناته وما تستعيده من ذكرياتها فيه. وكما يكون أول ما يند في عين الكاميرا تجسيدها للأماكن ذات المعالم البارزة، مساحة وعلواً، فإن ما يشخص أولاً من معالم تعز عند الكاتب هو مساجدها ومدارسها والأضرحة المنتشرة في أنحائها، وبعض من ميادينها وساحاتها، وقبل ذلك ومعه "قلعة القاهرة": "الجبارة التي تطل على المدينة شامخة وحارسة لها" (الانبهار والدهشة، ص18). ومما يلاحظ على رصد دماج لطبائع الأماكن التي استوقفت ذاكرته وتصوراته الراهنة عنها أنها تأتي في اندراج توصيفي خاص، وبما يمكن من وضعها في نسقين من التكليف المكاني، هما: - أماكن صريحة في وجودها المخبر عنها: سور تعز، مدرسة وجامع الأشرفية، جامع المظفر، المعتبية، قبة الحسينية العملاقة، قلعة القاهرة، وميدان الشبكة. - أماكن مشخصة من خلال الحديث عن موجوداتها البشرية والمادية: تعز من خلال المنظار السحري، جبل صبر (عند الحديث عن بائعة البطاطا)، قصور الإمام أحمد، ساحات تعز "من خلال موتر الرصابي"، المقهى، بئر علوس، ساحة العرضي (من خلال الحديث عن الوشاح: جلاد الإمام أحمد). تبدو تلك الأماكن جميعها ذات طبيعة شعورية واحدة، فهي تتسم بالإيجابية والانشداد العاطفي الذي يستعيدها الكاتب من خلاله. لقد وصفت الدراسات المهتمة بالمكان بعض نماذجه بكونها "مكاناً معادياً"(31) يكتسي فيه الوجود الإنساني بأبعاد نفسية من الضيق والأسى الذي يقود إلى الرفض والتمرد والسعي إلى تجاوز ذلك المكان وكسر حواجزه. ولكننا –وعند دماج- لانكاد نلمس مثل هذا التوصيف لأي من أمكنته، فحتى التي تتسم، في حقيقة وجودها التاريخي، بما يجعلها جديرة بأن تكون أماكن معادية، فإن استعاداته لها، التي تجيء متناغمة مع ذكريات الطفولة، تبرزها بغير وجودها الواقعي. فإذا كان "ميدان العرضي" هو ساحة الإعدام لكثير من معارضي حكم الإمام أحمد من الثوار والمناضلين، فإن ذاكرة دماج المنشدَّة إلى حيث تأملات الممارسة الطفولية تستعيد صورته، وهو ينحدر منها – مع زملائه راكباً دراجته (السيكل) (الانبهار والدهشة، ص22)، أو ليتذكر "ما كان يقام في هذه الساحة، وفي غفوة من مجازر الإمام، من بعض الأنشطة الرياضية" (الانبهار والدهشة، ص45). أما "بئر علوس" الذي دخل في أغاني الرجال والنساء وهجلاتهم وهم يقومون بالعمل في الحقول -كما يتذكره دماج- فإن استعادة قصة ذلك المسكين (علوس) الذي ألقي في البئر، في واحدة من مُزح الإمام أحمد وأعوانه غير البريئة، فلم يخرج منها، تجيء لاحقة لما يتذكره دماج قائلاً: "كنت مع زميلي وآخرين نخرج من المدرسة ونتجه إلى "بئر علوس" لنسبح في البركة الصغيرة المقضضة بالنورة، التي تخزن الماء البسيط الذي تضخه المروحة الهوائية إذا ساعدها تيار الهواء. كنا نسبح ونغسل بعض ملابسنا المهترئة، ولم نكن نعرف أو نعي قصة هذه البئر" (الانبهار والدهشة، ص49). وحتى "قلعة القاهرة" جعل منها الإمام أحمد سجناً رهيباً للرهائن، ومن بينهم ابن عم دماج، الذي كان يذهب لزيارته وتسليمه مصاريفه الشهرية، فلا يصل إليه إلا بعد تخطيه إجراءات أمنية مشددة وتحمُّل إساءات الحراس وفظاظتهم، فإنها ترتسم في ذاكرته مكاناً مثيراً للانبهار، لا بما يجري للسجناء فيها، بل لأنها تتيح له مشاهدة عالم فسيح يتجاوز مقدرته الغضة على الإدارك. "وأشرفت معه لنشاهد المدينة، بل اليمن كله الذي كنت أعتقده، وأشار إلى جبل التعكر حيث ترقد قريتنا الخامدة في حضنه. عجبت لمنعة هذه القلعة وكيف استطاع العمارون والأساطية أن يبنوا سورها على تلك الشواهق دون أن يصابوا بالدوار والخوف أو السقوط إلى الهاوية" (الانبهار والدهشة، ص29). تعكس طفولة الكاتب تحسسها اللوني الخاص وهي تعيد توصيف الأماكن، لتتكرر عند الإشارات إلى ما كانت عليه من مزيج لوني تكاد تنعدم معه الإشارة إلى لون بعينه بإزاء الإشارات المتواترة إلى التعددية اللونية التي تبدو بألوانها الصارخة، أو الحارة – طبقاً للتوصيف الذي يقدمه التشكيليون عن الألوان. بهذا التوصيف اللوني يرسم دماج صور الأضرحة والمساجد وما كان عليها من زخارف وأصباغ يمانية مشهورة، ويستعيد -على وفق ذلك- ألوان السيارات -محدودة العدد- التي عرفتها تعز آنذاك، مثلما يتذكر ألوان أثواب الرجال والنساء الذين تعيد ذاكرته إنتاج وجودهم مشخصاً أمام وعيه الراهن. ولعل هذا التمازج في الألوان المستعاد عنده هو نتاج وعي تصويري منشد إلى ما كانت البيئة اليمنية تتمثله وتعكسه في ذوقها الشعبي عبر مظاهرها العمرانية وحدود انشغال إنسانها بالألوان في بنائه وملبسه واهتماماته الذوقية الأخرى. وفي حدود الاستجابة الذاتية للكاتب، فربما عبر اللون عن طبيعة العاطفة التي يحملها الكاتب تجاه الشخصيات التي التقاها في حياته؛ فحين يكون الغالب على لباس من يحبهم من الشخصيات أو يميل إليهم هو الأبيض غالباً، فإن ألواناً بعينها هي ما يضفيها على لباس الشخصيات التي يرفضها وعيه الراهن، مثلما كانت أحاسيس طفولته(32). وما دمنا بصدد الحديث عن الشخصيات، فإن ورودها في ذكريات دماج يكاد يراتبها في مجالين محددين ومتضادين، بينما هو طيب وإنساني منها وبين ما هو بالضد من ذلك، حتى لتستعيد ذاكرة الكاتب وقائع وحكايات تؤشر إلى مساحة من الصراع المعلن أو الخفي بين تلك الشخصيات، كالذي كان من أمر والد الكاتب، المتنور، مع الساحر "علي خالد"(33)، وكذلك بين "معاوية المجنون" الذي كان يردد لازمته الدائمة التي يصف فيها نفسه بأنه "جبل داكي على جبل" والإمام أحمد الذي كان يوصف بأنه "أحمد يا جناه"، حتى أن شهرة الأول قد طغت على شهرة الإمام، بل لقد كان مصدراً مستمراً للإزعاج والمضايقة، بما جعل الإمام أحمد يتنقل بين أكثر من قصر، يلاحقه صوت ذلك المجنون بلازمته المفاخرة، حتى ذلك اليوم الذي اختفى فيه معاوية، ولم يعرف بمصيره أحد(34). ولعل من المثير للتأمل هنا أن التغييب خارج المكان –والزمان كذلك- لم يكن مصير ذلك المجنون وحده، بل لقد تكرر كنهاية لكثير من الشخصيات التي وردت في سياق ذكرياته المستعادة(35)، وهو ما يحيلنا إلى أن نستعيد كذلك النهاية المفتوحة لروايته المهمة "الرهينة"، حيث غادر بطلها سجنه في "قلعة القاهرة" إلى حيث المصير المجهول. وإذا كان التغييب سمة أخيرة لمعظم شخصيات الوقائع، وهم جميعاً من الذكور، فلنا أن نشير إلى الغياب الكامل للمرأة عن صفحات كتاب الذكريات هذا. فسوى "بائعة البطاطا" الجميلة التي شغل بها دماج في تلك المرحلة من صباه، ومعه صاحبه(36)، لا ترد أية إشارة لوجود أنثوي في سياق تلك الذكريات. ولعل مرد ذلك إلى ما استحكم في ذاكرة دماج من معايشة –حينها- لعالم ذكوري محض تحكم في تفاصيل وجوده كله. في الختام يرى الدكتور المقالح أن زيد مطيع دماج في كتابه "الانبهار والدهشة" قد سعى "ليعكس أصداء من سيرته الذاتية في هذه اللوحات البديعية التي يربط بينها جميعاً خيط من الصدق والواقعية، وآخر من فن القص الذي برع فيه وأجاد"(37). وإذا كان الأمر كذلك -وهو كذلك حقاً- فإن تساؤلاً مهماً يعنّ لنا أن ندونه هنا، ويتعلق بطبيعة تلك الانشغالات السيرية ومنطلق تجسيدها؛ فهل كانت النصوص -فيما حملته من مضامين- إنما تعكس ذات الكاتب وما يستعيده من كسر ذكرياته في المكان؟ أم كانت سيرة للمكان مشخصاً عبر استعادات لوجود الكاتب فيه، لاسيما وهو يستحضر عند تشخيصه للمكان مرحلة الطفولة، التي لم يكن لها من الوقائع الخاصة والدور المساند، إلا ما كان بسيطاً وساذجاً مفعماً بالبراءة؟ إن غنى تلك الاستعادات مشخص فيما يضفيه المكان عليها من دلالات تكوينية، وفي التوصيفات التي تغنيها المخيلة بحيوية الاستحضار المكاني وفتنته، حيث تستعيده ذات الكاتب بتلقِّ يخصها وحدها. لقد كرس دماج الكتابة للحديث عن ذكرياته، ليس بوصفه ذاتاً إنسانية تعايش خصوصياتها فحسب، بل من خلال حضور تلك الذات في المكان المتميز بمواضعاته التكوينية المثيرة للانبهار وللدهشة معاً، وعبر تداخل الرؤية الراهنة مع فعل المخيلة، وخصب ما تستعيده من الذكريات. ومن هنا فقد تحولت بعض كشوفات التعبير عن الصلة بالمكان إلى نمط من القيمية الظاهراتية، التي تعلن عن تماهي المكان مع الذات وهي تكسر -قدر ما يمكن لمخيلة الطفولة أن تصنعه- مواضعات وجوده في الوعي والتيقن الموضوعي. وهكذا أمسى حضوره، لا بوصفه "عاملاً طارئاً في حياة الكائن الإنساني، وإنما معطى سيموطيقي؛ فالمكان –هنا- لا يتوقف حضوره على المستوى الحسي، وإنما يتغلغل عميقاً في الكائن الإنساني، حافراً مسارات وأخاديد غائرة في مستويات الذات المختلفة، ليصبح جزءاً منها"(38). وبمعنى آخر فإن للمكان سطوته التي تعكسها على الشخصية وتتبدى في سلوكها وانشغالاتها الإنسانية المتعددة، وتكيفها الاجتماعي والثقافي. بل إنه ليتحول إلى فاعلية نفسية مؤثرة. فالمكان (نشارك باشلار في قناعته عنه) "يعيش داخل جهازنا العصبي كمجموعة من ردود الأفعال"(39). وربما يثير تلقي كتاب دماج هذا تساؤلاً آخر يتعلق بالكيفية التي تمت للطفولة وفعل مخيلتها أن تكون مجس التحسس الشعوري المستعاد في كثير من النصوص ومدى التمثيل الظاهراتي فيها، وهو ما نحاول الإجابة عليه في الآتي: إن حساسية الذات الغضة التي يكون عليها الطفل إنما تصنع انبهارها المنشدّ لفاعلية الحواس وقدرتها على التلقي بفعل ما لها من أفق تجريبي بسيط تتوافر عليه، تدعمه الرغبة في استكناه الموجودات والأشياء من حولها، ومحاولة فهمها والتعلم منها. ولكنها، وبفاعلية محاثثة لذلك كله، تقوم باختزان ما يتكشف لها من أفكار وتصورات في حنايا الذاكرة، التي سوف يأتي عليها الوقت الذي توقظ فيه كل الذي اختزنته، لتستعيده، ليس بوعي اللحظة الراهنة التي هي عليها والمؤطرة بعقلانية ما حولها، ولكن من خلال استدراج تلك التصورات المختزنة بفاعلية ذاتية تكون المخيلة وسيلتها الديناميكية لاصطناع وجود خاص للذي فيها. وعبر ذلك كله تتحقق الاستجابات الشعورية المبتغاة، في مساحة من الخيال الذي "يزيد من حدة حواسنا"(40)، كما يراه باشلار. لقد مثلت دهشة دماج وانبهاره بمدينة تعز تحسناً ظاهراتياً لذات امتلك المكان عليها مشاعرها وذاكرتها التي أيقظتها في زمانيتها المتأخرة، فأحالها -كما يقول- إلى "مدينة أسطورية عششت كحمامة وديعة في خيالي منذ الطفولة والصبا، تبيض فيه روايات وقصصاً لا تنضب"(41). وما نود تثبيته هنا هو أن هذه الاستعادة لبعض ذكريات دماج، موصلة وشيجتها بالمكان، قد جاءت في مرحلة متأخرة من عمره، حيث ابتلي جسده بمرض خبيث أرهقه، حتى أنه وفي بعض الأحيان، وطبقا لما يورده الدكتور المقالح، "كان ينسى معارفه وتلتبس عليه أسماؤهم وشخوصهم"(42). ولكنه وفي نصوص كتابه هذا يذهب بعيداً في استعادة المندس من الصور والأفعال، وبهيئة من الوضوح والتجسيد الشعوري المعبر، وكأنه يجعل من عودته إلى الطفولة والاحتفاء بذكرياتها نوعاً من الدفاعات النفسية التي يواجه بها المرض المستبد بحاضر الجسد. أخيراً، وفي مساحة انشغال محاثثة بكل منا نحن الذين نتلقى نصوص دماج المكانية هذه، فإن ما تأملناه يضعنا في حالة من التناص الشعوري اللذيذ، الذي يوقظ الذاكرة، لتستعيد -بحس خيالي مثير- طراوة أماكن تخصنا، نؤثثها بالوقائع والوجوه والأشياء، مرددين مع سانت بيف عباراته: "ليس لك يا صديقي الذي لم تزر هذا المكان -وحتى لو زرته- أن تحس الانطباعات، ترى الألوان مثلي أنا، والتي أطلب المعذرة لوصفها بهذا التفصيل. ولا تحاول أن ترى ذلك كله كما قلته أنا. فقط دع الصورة تطفو في داخلك، دعها تعبر خفيفة، فأقل القليل منها يكفيك"(43).
هوامش وإحالات: (1) تتأسس الظاهراتية -بوصفها اتجاهاً فلسفياً- على الرؤية التي تقول: "إن المعرفة الحقيقية للعالم لا تتأتى من خلال تحليل الأشياء وفهمها على ما هي عليه خارج الذات (نومينا NOUMENA) وإنما بتحليل الذات نفسها وهي تقوم بتعرف ما حولها من الأشياء والتكوينات، أي بتحليل وعي الذات وقد استنبطت ذلك كله وأحالته إلى ظواهر PHENOMEM. ومنطلق توجه الظاهراتية نحو الوعي واستقراء تكشفاته يتأتى من كونه لا يجيء مستقلاً وإنما هو دائماً وعي بشيء ما، ولذا فإن تمثل الظواهر من حولنا لا يتحقق إلا حين نجرد وعينا من أي تصورات ما قبلية، سواء كانت فكرية أم حسية. وحين تتم مناقلة هذه الرؤية باتجاه الأدب فإن الأدب يصبح عالماً خيالياً خارج العالم المعيشي، عالماً يبرز وعي الكاتب في تجسيد فريد من نوعه (ينظر: ميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، بيروت 2000م، ص14). (2) زيد مطيع دماج: الانبهار والدهشة، بيروت2000م، ص13. (3) ضم الكتاب، فضلاً عن تقديم د. عبد العزيز المقالح، ومقدمة المؤلف، فصلين، سمي الأول منهما "كتاب تعز"، والآخر "كتاب القاهرة". (4) انظر: الرويلي، ص214. (5) المصدر نفسه. (6) غاستون باشلار: جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، ط3، بيروت، 1987م، ص33. ويضيف في مكان آخر: "إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً وذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر، ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز" (نفسه، ص31). (7) المصدر نفسه، ص15. (8) ومن هذا المنطلق يؤكد باشلار -ناقلاً قول أحدهم- أن "الشعراء والرسامين ظاهرتان بالفطرة"، ص26. (9) المصدر نفسه، ص 11. (10) المصدر نفسه. (11) ينظر: باشلار: مقدمة المترجم، ص11. والرويلي، ص15. (12) باشلار، ص39. (13) المصدر نفسه. (14) المصدر نفسه، ص17. (15) المصدر نفسه، ص163. (16) صدر عن دار رياض الريس، بيروت 2000م. (17) دماج، ص11. ونشير إلى هذا الكتاب عند الاقتباس منه في المرات القادمة في المتن من صفحات هذه القراءة. (18) ينظر فيما يتعلق بالمقالح: علي حداد: ضفاف للغواية واليقين - قراءات في المنجز الإبداعي والنقدي اليمني الحديث، صنعاء، 2009م، ص134. أما عن دماج فينظر: الانبهار والدهشة، ص33. (19) نبيل سيف الكميم، عبد العزيز المقالح: "الميلاد، القصيدة، العطاء"، مجلة "الجديد في عالم الكتاب والمكتبات"، دار الشروق، عمان، العدد 11، خريف 1996م، ص29. (20) سيزا قاسم: المكان ودلالاته، ضمن "كتاب جماليات المكان" لمجموعة من المؤلفين، الدار البيضاء، 1988م، ص60. (21) د. علي حداد: اليد والبرعم - دراسات في أدب الطفل، صنعاء، 2000م، ص24 وما بعدها، وتنظر مصادره. (22) المصدر نفسه. (23) د. هادي نعمان الهيتي: ثقافة الاطفال، عالم المعرفة، الكويت، 1988م، ص39. (24) د. علي حداد: اليد والبرعم، ص27. (25) المصدر نفسه، ص55. (26) وينظر: وارد: مسرح الاطفال، ترجمة؛ عبد التواب يوسف، القاهرة، د. ت، ص147. (27) د. علي حداد: اليد والبرعم، ص56. (28) نظرية المجال هي واحدة من بين نظريات متعددة سعت إلى دراسة السلوك الإنساني، ومنه سلوك الطفل، وتبيان العوامل المؤثرة في بناء الشخصية، كنظرية الغرائز، والنظرية السلوكية، ونظرية الصيغة – الجشتالت (ينظر: د. علي حداد: اليد والبرعم، ص22) وتنظر مصادره. (29) الهيتي، ص38. (30) دماج، ص15. (31) المكان المعادي هو كل مكان تستلب فيه حرية الإنسان، ويجبر فيه على التصرف خارج إطار رغبته وإرادته، ولعل السجن أبرز أمثلته. (32) كان اللون الأبيض هو الغالب على تذكره لثياب الشخصيات التي أحبها أو أعجب بها، على عكس الشخصيات الأخرى التي يكرهها، كزي "الوشاح" جلاد الإمام أحمد الذي وصفه بقوله: "يهبط من قصر الإمام (بالعرضي) إلى مدينة تعز كوحش كاسر مفترس بلباسه الأزرق" (ص55). وترد نظافة الملبس سمة دالة على ذلك الشعور، فإذا كان "معاوية المجنون" يتميز بنظافته وهيبته (ص51)، فإن "علي خالد" كان ذا مظهر رث وغير أنيق (ص59). (33) ينظر: دماج، ص62. (34) المصدر نفسه، ص51 وما بعدها. (35) كان ذلك هو مصير "ابن محمود" الفتى المقرب من الإمام أحمد (ص47)، ومثله "معاوية المجنون" (ص54)، والساحر "علي خالد" (ص63). (36) المصدر نفسه، ص23. (37) المصدر نفسه، ص13. (38) خالد حسين: شعرية المكان في الرؤية الجديدة، الرياض2000م، ص60. (39) باشلار، ص20. (40) المصدر نفسه. (41) دماج، ص16. (42) المصدر نفسه، ص12. (43) باشلار، ص42 (الهامش).
|