الرؤية السردية في أعمال زيد مطيع دماج...

مجموعة "العقرب" أنموذجا

د. آمنة يوسف


يعد الأديب التاريخي الكبير زيد مطيع دماج من رواد الكتابة الروائية والقصصية في اليمن. ولأنه رائد فقد كان ثمة اتجاهان أدبيان يهيمنان على تقنيات سرده الفنية، مثله في ذلك مثل بقية رواد الرواية والقصة القصيرة في بلادنا، وأبرزهم محمد عبد الولي وأحمد محفوظ عمر ومحمد مثنى وحسين صالح باصديق وصالح باعامر وسواهم... هذان الاتجاهان بحسب رأينا هما: الاتجاه التقليدي، والاتجاه الحديث؛ فتارة يبرز الاتجاه التقليدي بتقنياته السردية القديمة والمؤثرة بدورها على تقنية الرؤية السردية: إحدى تقنيات السرد، وتارة يبرز نزوع فني لدى المؤلف/ الكاتب إلى الاتجاه الحديث، محاولاً التمرد على الاتجاه التقليدي، ومجرباً تقنيات السرد الحديثة، المؤثرة أيضاً بدورها على موضوع دراستنا، وهو: الرؤية السردية باعتبارها -كما أشرنا- إحدى تقنيات السرد الروائي أو القصصي.

* * *

وفي مجموعة "العقرب"، أنموذج هذه الدراسة، التي سنقارب فيها –بنيوياً- تقنية الرؤية السردية لدى زيد مطيع دماج، صاحب هذه المجموعة القصصية المتميزة، نلحظ النزوع الفني الكبير إلى الاتجاه الحديث، مع الحضور النسبي للاتجاه التقليدي، على النحو التالي:

1- قصة "العقرب"

هي أولى القصص، والتي تعنونت بها المجموعة، وتبرز الرؤية السردية التي يطلق عليها النقاد "الرؤية مع" أو "الرؤية المصاحبة"، وذلك حين تكون معرفة الراوي هنا على قدر معرفة الشخصية الحكائية؛ فلا يقدم لنا أية معلومات أو تفسيرات إلا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصلت إليها. ويستخدم في هذا الشكل ضمير المتكلم أو ضمير الغائب، ولكن مع الاحتفاظ دائماً بمظهر "الرؤية مع..."(1).

 فموضوع القصة يبدو -على مستوى المنطوق السردي- بسيطاً وعادياً للغاية، إذ يتلخص في عقرب يتهدد حياة الأب والعائلة دون أن يعرف الأب (باعتباره الشخصية الرئيسة في القصة) أكثر مما تعرفه أسرته من وجود خطر ما في منزلهم، حتى أدركوا مؤخراً أنه العقرب الذي أودى باثنين من أطفاله وقد يودي بالآخرين. لذلك يقرر الأب التخلص منه وقتله. وتكون حياته ثمناً للخلاص من الخطر ونهاية للقدر المجهول... وقد أشرنا بداية إلى أن الأديب زيد مطيع دماج في الأساس تاريخي. ومن هنا نقول: إن التاريخ اليمني المرتبط تحديداً بمرحلة حكم الأئمة هو الذي دفع بهذا الأديب التاريخي إلى أن يتخذ في معظم أعماله موقف الثائر المنتقد لتلك الحقبة الكهنوتية المستبدة من تاريخ اليمن الحديث. وهو انتقاد يتخذ تارة شكل اتجاه واقعي انتقادي، وتارة يتخذ بعداً رمزياً دالاً على تلك المرحلة البائدة على مستوى المسكوت عنه. فالعقرب في هذه القصة القصيرة برأينا يرمز إلى الإمام وما كان يشكله حكمه الظالم من خطر أسود كان ولا يزال يتهدد حياة اليمنيين وأمنهم واستقرارهم.

ذلك ما نستنتجه على الفور من البعد الثاني التأويلي للغة السرد القصصي، وفي سياق حوار الأب مع زوجته: "قالت الزوجة وتقاسيم الأسى تعلو وجهها الشاحب الذابل.. نتيجة سهر طويل:

-          ألا يمكن التفاهم حول حل أفضل؟

-          كيف وفي طباعه العدوانية تكمن فظاظة الكبرياء والغطرسة وحب الإذلال؟!"(2).

أو حين يموت الأب في سبيل الانتصار على العقرب وتتعاطف معه مشاعر الحي. وينتهي السرد مثلا بالآتي: "وطغى على الجميع المشاعر المشتركة... غضب يكاد أن يكون موحداً.. وعلتهم مسحة من كآبة وغمّ وقلق على مصيرهم أيضاً: في النعش، وأن عليهم التكاتف لكي يجلوا منازلهم ويطهروها من ذلك الشيء المرعب الدخيل على حياتهم..."(3).

2- قصة "ثورةُ بغلة"

 هذه القصة، وهي التي نعدها في حقيقة الأمر موقفاً من المواقف التابعة أساساً لرواية دماج التاريخية الرئيسية "الرهينة"، تبدأ بتمهيد وصفي طويل نسبياً بالقياس إلى الحدث الرئيس الذي من أجله كُتبت القصة وتعنونت. ومع ذلك هو وصف منطلق من الرؤية السردية الحديثة التي يطلق عليها النقاد -كما أشرنا- "الرؤية المصاحبة"،. حتى وهو (أي: الرهينة)، يروي عما رآه وعمن شاهدهم في سياق حديثه عن سيرته الذاتية حينما كان رهينة في قصر نائب الإمام زمن حكم الإمامة المستبد الذي كان يأخذ أبناء "المشايخ" كرهائن لديه ضماناً لولاء "المشايخ" وطاعتهم لتلك الأسرة الحاكمة آنذاك. ولذلك حينما يتفجر الحدث القصصي الذي من أجله كُتبت القصة وتعنونت كان الرهينة ضمن المشاهدين للحدث، يرى ما يرون ويسمع ما يسمعون، بل ويعرف في حدود ما يعرفه من حوله. ففي يوم الاحتفال بعيد النصر الذي أقيم ـعلى حد تعبير الرهينة وموقفه الانتقادي لذلك النظام الاستبدادي- في ميدان صغير "لا يزيد عن كونه ملعب كرة قدم ترابياً أخذه الإمام غصباً من مواطنين كانوا يزرعونه ضمن حقولهم المدرجة التي تنتج الذرة، وبلا مقابل؛ باعتباره أرضاً من وقف الغسانيين: بني رسول.."(4).

 وبعد أن عرض لنا الرهينة مراسيم الحفل كما شاهدها مع بقية الناس المتابعين لذلك الحفل المرتجل وغير المعد إعداداً واضحاً ولا هناك مقدم للحفل، تأتي الصفحة الأخيرة لتحكي الحدث الرئيس الذي من أجله كُتبت القصة وتعنونت، حين جاء "عزف الفرقة المتآكلة بصخب" اضطربت له بغلة تجر أحد المدافع القديمة، وزمجرت بصهيل مرعب. وحاولت أكثر من يد من أفراد الطبشية أن تمتد إلى عنانها لكي تسكت وتخمد نفورها، ولكن دون جدوى؛ "كان ذلك قد زاد في رعبها فتمادت..."(5). ذلك ما يقوله المنطوق السردي على لسان الرهينة السارد في رؤيته السردية، التي وإن بدت محايدة لكنها، على مستوى المسكوت عنه في مثل هذا الاتجاه الواقعي الانتقادي لحكم الأئمة المستبد البائد، تعبر في حقيقة الأمر عن موقف محرض على الثورة ضد ذلك الحكم. فإذا كانت بغلة قد ثارت (وإن على مستوى البعد الرمزي للقصة) على مخاوفها وعلى الظلم الذي وقع عليها حين أرهقوا جسدها بجر المدافع القديمة؛ فكيف بالناس الذين يجدر بهم وهم البشر أن يثوروا على الظلم الواقع عليهم وعلى حياتهم وإرادتهم التي يجدر أن تكون حرة من أي طغيان وظلم يفرض عليهم الخوف والكهنوت والتخلف والعزلة والحرمان من أبسط حقوق الإنسان.

 

3- قصة "الرحلة"

في هذه القصة، وهي قصة طويلة نسبياً، يسجل لنا الراوي، بضمير المتكلم، من الرؤية السردية المصاحبة أو المعبر عنها بالرؤية الداخلية، يسجل كل صغيرة وكبيرة مر بها في تلك الرحلة، بأحداثها وشخصياتها القصصية التي قد تبدو في ظاهرها عادية وبسيطة يمكن أن يمر بها أي شخص خلال رحلة الباص الجماعية الطويلة التي يسافر فيها الناس من مدينة إلى مدينة. غير أن منطوق الحوارات التي تتم بين الراوي وبين ركاب الباص من جهة، على موقف انتقادي للواقع السياسي خاصة على مستوى المسكوت عنه، وكذا الحكي عن الفتاة الجميلة التي كانت تستمع إلى أغاني مسجلها بصوت عالٍ، وما صدر منها من موقف يعد شجاعاً من وجهة نظر الراوي حين لطمت خد الجندي الذي قذف بمسجلها من باب الباص ليرتطم بأحجار الطريق، وما صدر منها من حوار شجاع أثناء شجارها مع الجنود الذين أرادوا ألا تتعلم، ومن العجوز جامع التذاكر، إذ صمم هذا الأخير على إنزال الجندي من الباص لأنه لم يدفع ثمن التذكرة، فشاركت الفتاة بإنزال الجندي من الباص بالرضا لتفادي حدوث النزاع... مع ضرورة الإشارة إلى تلك الرؤية الأيروسية (الجنسية) التي تجمع بين معظم ركاب الباص تجاه تلك الفتاة، ومنهم الراوي بضمير المتكلم نفسه الذي يروي لنا عن رحلته وما مر بها من شخصيات من بينهم هذه الفتاة التي تلبس شرشفاً بنقاب مفتوح مكتفية باللثام الذي يبرز العينين البراقتين. يقول مثلا: "أبطأت في النزول من أمامها لأتيح لعيني فرصة الإمعان الدقيق. كانت عيناها تكفيان للوقوع في غرامها. وقد أتاحت فرصة لأناملها وساعديها للظهور ليتحول الغرام إلى اندفاع وهوس..."(6). ومع ذلك فهو لأنه راوٍ محدود العلم لا يعرف عنها أكثر مما يعرفه ركاب الباص؛ يصفها بالقول: "مررتُ من أمامها –كغيري- ببطء. عينان غارقتان بالحب والمرح، وجبين ينم عن الصرامة والإقدام. نظرت إليَّ بفروسية أخجلتني. أحنيت نظري، وكم كنت أود معرفة الكثير عنها! أهي طالبة؟ ربما تكون عاملة في المصنع أو موظفة! وربما تكون ممرضة! متزوجة أم غير متزوجة!؟

 وقد تكون أرملة!"(7).

لقد ظل الراوي بضمير المتكلم في بنية هذه القصة محتفظاً بمحدودية العلم، التي تتصف بها الرواية السردية الداخلية، وحتى في موقفه التاريخي الذي اعتادت أعمال دماج أن يبقى انتقادياً. إنه هنا محدود العلم، بل محايد، لأسباب فنية، بل لعلها طامحة إلى معرفة مواقف الآخرين وآرائهم، وربما الحذر منها وتفضيل التحفظ هذه المرة في الكشف عن موقفه المعتاد. من ذلك حواره مع أحد الركاب: الرجل ذي الكوفية الخيزران الذي قتل والده في أمريكا.

ومما دار في الحوار: "قال: إذا دخلت مطعماً أو مقهى ستجده يستعجل شرب الشاي بصحبة الكأس، قلقاً وسريعاً في إبداء قلقه. تذكرت نفسي وأنا أمارس العملية مع زملائي. فاستمر قائلاً:

-          خليفة الإمام يحيى...

-          كان قائداً للحركة الوطنية ضد الأتراك.

نظر إليّ بأسى قائلاً:

-          كان كابوساً... خمسة وأربعين عاماً حكم فيها من بداية القرن العشرين، بداية نهضة الأمم النامية، لم يعمل خلالها شيئاً.

-           ظروف الوقت الذي عاش فيه.

-          بل عقلية جامدة متخلفة وعفنة.

-          حكم بحاجة إلى نقاش.

-     أنتم هكذا تأخذون الأمور قشوراً فتصنعون منها هالات عريضة هي بعيدة كل البعد عن الواقع والحقيقة. لم يكن الإمام يحيى بطلاً استقلالياً ووطنياً؛ الشعب هو الذي كافح الأتراك وجعل من اليمن مقبرة لهم...

-          لكن الشعب نصبه إماماً لخمسة وأربعين عاماً كان الأمن فيها مستتباً.

قاطعني لأول مرة ومكملاً:

-          وعصا الإمام تصل إلى جميع المناطق، أليس كذلك؟

وابتسم بسخرية ثم انحنى كمجادل بارع في المنطق:

-          لو عشت الفترة لكان لك رأي آخر.

-          التاريخ قول بالقشور.

-     ألم أقل إنكم تأخذون بالقشور كمنطق مفعم. لقد خاض الشعب نضاله ضد الأتراك فترة ليست بالوجيزة. شعب يحارب إمبراطورية! تصور ذلك! إمبراطورية ملأت الدنيا بفتوحاتها الواسعة حتى قلب القارة الأوروبية الاستعمارية، يقهرها شعب صغير!

ثم استطرد بعد أن تأكد من عدم مقاطعتي له:

-          أنهك الشعب نتيجة الحروب والمجاهدات والمجاعات والحصار. كان الشعب على استعداد للقبول بأي حل لإنهاء تلك الكوارث.

-          الإمام يحيى هو الحل!

-          أتى في وقت كان الناس فيه أشباحاً جائعة منهكة تريد العيش والأمن والاستقرار.

-          طلبوا الأمان قبل الإيمان..

-     أتى الإمام بعقلية المزارع الثري، يجمع المال والحبوب ويكدسها ليشتري مزيداً من الأرض ويبني مزيداً من القصور والشذروانات ويشارع الناس ليمتلك أراضيهم ويقتني كل ما عند الغير من تحف نحاسية وفراش وثير. لم يخرج من عاصمة ملكه. لم يبنِ في حياته أي حجر للدولة، ولم ينشىء مؤسسة حضارية للشعب، بل إن ما خلفه الأتراك من مدارس ومنشآت حضارية حوّله إلى سجون وقصور، وضاقت حاشيته والناس أجمعون، به فانتهى، نعم انتهى!

-          ليخلف ماذا!؟

-          إماماً حاقداً جديداً آخر!

-          أهذه هي الحقيقة؟

-          لا غيرها. غوصوا في أعماق القشور التي تكتبون عنها بإسهاب!"(8).

الحوار -كما يبدو- يؤكد هيمنة السرد التاريخي لمرحلة حكم الأئمة تحديداً في كامل أعمال زيد مطيع دماج الروائية والقصصية، سواء أكان حضور السرد التاريخي حضوراً كلياً، ذا موقف واقعي انتقادي، أم كان الحضور نسبياً يرد في سياق موقف قصصي عابر، هو الرحلة موضوع القصة الرئيس الذي من أجله كُتبت القصة وتعنونت.

 

4- قصة "فتاة مُدْبرة"

هي قصة فتاة يروي عنها السارد بضمير المتكلم، باعتبارها إحدى الشخصيات التي مر بها في سياق سيرته الذاتية. وفي هذه القصة يبدو هذا الراوي -على مستوى المنطوق السردي- محدود العلم في معرفته بالفتاة، التي تعمل ممرضة بإحدى الوزارات، لكنها كما يصفها موظفو الوزارة فتاة "مُدْبرة"، أي سيئة الحظ... الخ. فمنذ الأسطر الأولى من بنية القصة يعلن الراوي عن محدودية علمه بلفظة "كغيري": "شدني الهوس للرؤية كغيري من العامة الذين تجمعوا لمشاهدة المنظر المألوف منذ بداية الأحداث"(9).

إن الراوي يتساوى، في معرفته بما يجري حوله من أحداث وما يمر من الأشخاص الأشياء، مع غيره من الشخصيات القصصية المحيطة: يعرف ما يعرفون ويجهل ما يجهلون. بل إنه يتساوى معهم حتى في علاقته بالفتاة التي تعنونت القصة بها وكُتبت من أجلها، باعتبارها كما أشرنا ممن مر بهم الراوي في سيرته الذاتية وتأثر بهم تأثراً أيروسياً، كعامة الناس في علاقتهم بالمرأة أو الفتاة الجميلة. وإن حاول الراوي بضمير المتكلم أن يوهمنا فنياً بأن علاقته بالفتاة علاقة إنسانية، إلا أن الوصف المتكرر لمحاسبة الفتاة من قبل هذا الراوي المتساوي مع غيره حتى في الرؤية التقليدية للفتاة والمعبر عن الحرمان الجنسي لدى الرجل الشرقي في علاقته المحدودة بالمرأة، هذا الوصف المتكرر لمحاسبة الفتاة، يضاف إليه نهاية القصة، التي تتم بارتماء الفتاة بين أحضان الراوي، يؤكد مطلق التساوي بين هذا الراوي وبين الآخرين، ليس في محدودية العلم بل حتى في موقف الرجل من المرأة وعدم مقدرته على تجاوز الرؤية الايروسية (الجنسية) البحتة أبداً تجاه المرأة عموماً.

 

5- قصة "الحياة"

في هذه القصة، التي نرى أن عنوانها لا يلائم الحكي المسرود على مستوى المنطوق السردي، يبرز الراوي بضمير الغائب (هو) الذي ليس بالضرورة أن يكون راوياً موضوعياً ومنطلقاً من الرؤية الداخلية، بل نرجح أنه راوٍ منطلق من الرؤية الخارجية التي يمكن معها توظيف ضمير الغائب، حين يروي عن الآخرين موضوعاً اجتماعياً عادياً ومعروفاً سلفاً لدى أنباء الواقع الاجتماعي القروي، وهو موضوع التعاون بين الزوجين في القرية تحدياً للوضع المعيش، كأن يحمل الزوج الحطب و"العجور" لبيعها في الجبل بمساعدة زوجته، ثم حين تتحول حياة الفرح بأول الزواج إلى هموم متتالية بسبب إنجاب الأبناء وتفاقم أعباء المسؤولية المعيشية على كاهل الزوج. ولذلك نرى تقنية الـ"فلاش باك" تتدخل لتؤدي وظيفتها في المقارنة بين ماضي حياة "حمادي" الشخصية الرئيسة في بنية القصة وبين ما أضحى عليه حاضره، دون أي تدخل من الراوي وهو يعرض حالة مألوفة ومعروفة بداهة في واقع المجتمع القروي في اليمن، حتى إن جاء السرد مقترناً بضمير الغائب (هو). ولذلك أسهم الـ"فلاش باك" تحديداً في التأكيد على محدودية علم "حمادي" بما سيؤول إليه حاله من هم وبؤس. فبعد أن كان مسروراً أنه سيصبح عريساً، "ولكن ذلك كان منذ زمن بعيد وكانت أجمل أيامه وأحلاها تلك التي وضع الزهور والرياحين على عِمّته المزركشة المستعارة، كما استعار جنبية من القرية المجاورة أيضاً، وبندقية لا يعرف كيف تعمل، فهو لم يحمل السلاح أبداً، لأنه لا يحمل السلاح سوى المشايخ والعقال فقط. كان ذلك اليوم بالنسبة له عيداً وبالنسبة أيضاً لغيره من شباب القرية"(10).

لاحظوا لفظة "لغيره" الدالة على تساوي المعرفة بين الراوي وما هو معتاد ومألوف من مراسم الزواج في القرية اليمنية. غير أن الحال كما هو مألوف أيضا ً ومعروف عن حياة القرية انقلب رأساً على عقب. ذلك ما يسهم الـ"فلاش باك" مع الرؤية السردية في تأكيده: "ومرت به الأيام والشهور والسنون وأصبح ذلك اليوم بالنسبة له شيئاً لا يعرف تاريخه ولا يعلم تفاصيله، بل لم يذكره في حياته قط.. وقد كان يظن أن يصير ذلك اليوم تاريخاً تحفظه القرية عن ظهر قلب"(11).

إن "حمادي" الشخصية الرئيسة في القصة، لا يعرف، لا يعلم، لم يذكر، يظن بسبب محدودية علمه وعدم استشرافه للمستقبل وما يمكن أن يتم في علم الغيب لاحقاً. ولذلك نرجح أن الرؤية أحياناً تكون داخلية ومصاحبة، حتى مع التوظيف البنيوي لضمير الغائب (هو) الذي نرجح أنه يرد بالنظر إلى كامل أعمال دماج في سياق السرد عن الآخرين ممن سمع عنهم الراوي بضمير المتكلم ومر بهم في سيرته الذاتية، ومنهم "حمادي" الشخصية المحورية في بنية القصة. ولذلك نرجح لو أن القصة مثلاً تعنونت باسمه، إذ تحكي القصة جزءاً مهماً من سيرته الذاتية الشبيهة بسيرة آلاف القرويين، ليس في اليمن وحسب بل في البيئة العربية ذات الطابع الريفي الفقير. ربما لذلك التزم الراوي بضمير الغائب صفة لمحدودية العلم هنا، التي تتسم بها الرؤية الداخلية. فإلى جانب ما أشرنا إليه من الأمثلة، يقول مثلاً في سياق تذكر "حمادي" لأسلوب خطبة زوجته: "كان يعرفها من قبل كغيرها من فتيات القرية..."(12).

لاحظوا لفظة "كغيرها"! وقبيل نهاية القصة يشير مثلاً إلى مصدر معلوماته المأخوذ مما يعرفه الآخرون مثله ويسمعونه: "وتذكر يوماً عندما اضطر إلى بيع مفرسه! مقابل توفير لحم وسمن وبيض لزوجته التي لا بد أن تحتاج لها كما تقول نساء القرية المولدات لها"(13). لاحظوا أن مصدر معلومات هذا الراوي المحدود العلم ما يشيع من أقوال نساء القرية المولدات (القابلات) علاوة على أسئلة الاستفهام التي تفيد بعدم معرفة "حمادي" بل محدودية علمه التي جعلته غير قادر على استشراف ما سيؤول إليه مصيره إذا ما أقدم على الزواج وهو الحطاب القروي الفقير. "وفي يوم تعجب لماذا لم يمت أحد من أبنائه، بينما يموت الكثير من أبناء المشايخ والعقال؟! لماذا يولد أبناؤه أصحاء يكاد الدم ينفجر من وجناتهم؟! لماذا يملؤون الصبل وأزقة القرية بأصواتهم القوية، الضاحكة تارة والباكية تارة أخرى.."(14).

وهي أسئلة، إلى جانب ما تدل عليه من محدودية علم "حمادي" الذي يحكي لنا عنه الراوي بضمير الغائب، تدل على الرؤية السوداوية التي هيمنت على شخصية "حمادي" بعد أن خاض تجربة الزواج، مثلما تؤكد على إسهام المستوى المعيشي الذي جعله ناقماً ومحتجاً وصابراً أخيراً على ما ابتلي به من كثرة الإنجاب التي لم يستشرف سلفاً ما ستؤدي إليه من مصير وما سوف تؤثر به على شخصيته (نفسياً وصحياً) تحت وطأة ضيق الحال المعيش.

وأخيراً نؤكد ما أشرنا إليه سابقاً من أن هذه القصة منطلقة من رؤية داخلية وراوٍ غير معلن هو الراوي بضمير المتكلم الذي من حقه أن ينتقل إلى ضمير الغائب وهو يروي لنا عَمَّن مر بهم أو سمع بسيرتهم الذاتية، مثله في ذلك مثل الآخرين الذين اعتادوا أن يسمعوا عن هذه السير المألوفة والمتكررة في حياة البيئة اليمنية والعربية عموماً. ولذلك وللأسباب التي أشرنا إليها لم يبدُ ضمير الغائب دالاً بأي شكل هنا في بنية هذه القصة على علم مطلق يميزه عن علم الآخرين على مستوى المنطوق السردي وحتى على مستوى المسكوت عنه الذي يمكن أن توضحه البنية العميقة عند تحليل النص القصصي تحليلاً ليس فنياً وحسب، بل اجتماعياً أيضاً.

ونختتم دراستنا للرؤية السردية في مجموعة "العقرب" بأن الرؤية الداخلية هي المهيمنة على كامل قصص المجموعة، سواء في قصة "الظاهري" التي تسبق آخر قصص المجموعة، أم في القصة الأخيرة الطويلة نسبياً والتي تحمل عنوان "أول المنتحرين"، وهما قصتان تقع أحداثهما حسب ما يبدو على مستوى المنطوق السردي في المرحلة التي تسبق قيام الوحدة اليمنية، حين كان الوضع السياسي في البلاد غير مستقر نسبياً، وكانت الحزبية سرِّية ومحرمة، وكان مصير من يتم اكتشاف انتمائه الحزبي هو الاعتقال والمطاردة والتعذيب. فمثلاً في قصة "أول المنتحرين" التي تعد من السير الذاتية التي يستعين فيها الراوي بضمير المتكلم، يحكي لنا الراوي (علي) عن تجربة اعتقاله العشوائي وقيادته إلى السجن فجأة ليس لسبب سوى أن اسمه كان ما يزال ضمن القائمة القديمة، على الرغم من أنه "من أوائل من أسسوا النقابات العمالية في اليمن ومن أوائل المناضلين الذين قادوا ثورة سبتمبر ورسخوا قواعد الثورة والجمهورية، وهو أحد زعماء قيادة المقاومة الشعبية في حصار السبعين يوماً الخالدة"(15).

وبحسب تجربته في السجن يروي لنا هذا الراوي بضمير المتكلم عن كل من مر بهم من شخصيات وما مر به من أحداث داخل السجن، عن أبرز الشخصيات التي التقى بها في السجن، مثل الزعيم ودكتور علم النفس الحاصل على الدكتوراه بجدارة من جامعة "السوربون" بباريس، والذي تحول إلى ثائر صوفي على الظلم يلقي خطبه المؤثرة في قلوب وأذهان المساجين ويحرضهم ضد الظلم الحال بهم، الأمر الذي أثار غيظ مدير السجن الذي أمر من جهته بتعذيب الزعيم والزج بالسجناء الذين كانوا يتحلقون حوله داخل الغرف... وهكذا يرصد الراوي من زاوية نظره ما جرى في سجن القلعة الذي كان زمن حكم الأئمة معقل الرهائن والثوار، وغدا بعده معتقلاً للمثقفين الحزبيين في مرحلة كانت غير مستقرة سياسياً قبل قيام الوحدة اليمنية، مر بها الراوي المتخفي خلف قناع السرد بضمير المتكلم حقيقة أو مجازاً ليوهمنا فنياً بأننا بصدد سيرة ذاتية منطلقة من رؤية سردية داخلية. وبحسب يمنى العيد فإن "الرواية بهذا المعنى ليست كما قد يتوهم البعض سيرة ذاتية، بل هي سرد ٌيستخدم تقنية الراوي بضمير الأنا ليتمكن من ممارسة لعبة فنية تخوله الحضور وتسمح له بالتالي بالتدخل والتحليل بشكل يولد وهم الإقناع"(16).

ذلك أنه مهما وصل مستوى الصدق الفني الذي يطمح كل عمل إبداعي إلى تحقيقه، إلا أننا في نهاية الأمر أمام متخيل سردي مصنوع من ورق الكتابة بشخصياته وأحداثه وكامل تقنياته الفنية التي تجعل العمل الأدبي مستقلاً عن كونه صورة طبق الأصل من الواقع الفعلي المعيش، سواء أكانت التجربة المسرودة فنياً حقيقية بالفعل أم أن خيال الكاتب مثلاً قد تدخل كثيراً في صنعها وخلقها كي ينجح أخيراً في إقناعنا فنياً بصدق ما يرويه لنا من سيرة ذاتية وتجربة شخصية.

 

الهوامش:

(1)                د. حميد الحمداني: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع: بيروت، ط1، 1991، ص47 ـ 48.

(2)                زيد مطيع دماج: مجموعة "العقرب"، دار العودة، بيروت، 1982، ص15.

(3)                المصدر السابق، ص 19.

(4)                المصدر السابق، ص 25.

(5)                المصدر نفسه، ص 28.

(6)                نفسه، ص 45.

(7)                نفسه، ص 57.

(8)                نفسه، من ص 61 – 63.

(9)                نفسه، ص 75.

(10)            نفسه، ص 88.

(11)            نفسه، ص 88.

(12)            نفسه، ص 88.

(13)            نفسه، ص 89- ص 90.

(14)            نفسه، ص 90.

(15)            نفسه، ص 110.

(16)            د. يمنى العيد: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، دار الفارابي، بيروت، ص 95 - 96.

 


 

 


Back to Home Page