فتنة القراءة الأخرى

 مقاربة سوسيولسانية لقصة "أزمة البنت بشرى"

د. ابتسام المتوكل

  

-1-

مجموعة "المدفع الأصفر" هي المجموعة الخامسة للقاص والروائي اليمني الأشهر زيد مطيع دماج، بعد: "طاهش الحوبان" 1973، و"العقرب" 1984، و"الجسر" 1986، و"أحزان البنت مياسة" 1990.

ظهرت هذه المجموعة حين غاب القاص عن الوجود، فقد رأت النور بعد عام من مواراة العتمة والغياب -الجسدي فحسب- لكاتبها، أي في العام 2001.

بحسب التواريخ المثبتة في ذيل القصص السبع التي ضمتها دفتا مجموعة "المدفع الأصفر" فإنها مكتوبة ما بين 1993 و1996، والقصة الوحيدة التي لم تؤرخ هي قصة "أزمة البنت بشرى" وهو ما سنحاول قراءته وتأويله لاحقاً.

-2-

زيد مطيع دماج أحد أهم الأصوات الساردة في المدونة اليمنية، لهذا فهو أعرف من أن يُعرَّف، وموقعه في خارطة السرد اليمني يغنينا عن بيانه، لذا فإن جلَّ ما سنروم الوصول إليه هنا هو العمل على قراءة إحدى قصصه القصيرة المنشورة ضمن مجموعته الأخيرة (المدفع الأصفر). والمجموعة كلها تغري بالقراءة وتثير شهية التلقي وفتنة التأويل. بيد أننا سنؤثر أن تكون محاولة ولوج عوالم دماج السردية من خلال قراءة نصفها بالأولى لقصة "أزمة البنت بشرى". وهذه القراءة تستثمر المعطيات اللسانية والسوسيولوجية التي يتضمنها النص لتجترح تأويلها.

 تدين هذه القراءة في إطارها النظري للتوجه الذي أخذ به روجر فاولر في كتابه "اللسانيات والرواية" وهو توجه يفيد بشكل أساس من المنجز اللساني، غير أنه ينتقي أدواته الإجرائية من حقول أخرى مجاورة، كالبنيوية والأسلوبية وسواها. ويمضي فاولر بعيدا في ربط النص بأنساق المعرفة داخل الجماعة التي أنتجته وأنتجت قراءه.

 

-3-

قصة "أزمة البنت بشرى" توهم بحدث عادي وشخصيات يومية، فكأنما هي لوحة عامة تستنسخ المشهد اليومي المحلي. هذا جلُّ ما نحصده في القراءة العابرة التي تـُعنى بالمتابعة الخطيَّة للشخوص والحدث، دون غوص في عمق النص بدلالاته وعلاقاته النسقية.

لن أمضي في تناول إغراء هذا النوع من القراءة للقصة، بل سأحاول –واعية جرم محاولتي- أن ألخص القصة من خلال أبرز عنصرها التقليدية: الشخصية، الزمان، والمكان.

(3-1)

القصة تقدم لنا شخصياتها هكذا: العم (صديق الأب) رجل مثقف. البنت (بشرى) طفلة ذكية وتقوم بدور الوسيط في التواصل بين أبيها وصديقه الذي تناديه عمها. أما الأب فشخصية إشكالية، يمدحه ويذمه رفاق المقيل، ويعجبون بنزاهته ووضوحه، ويتبرمون من صداميته ومواقفه التي يسميها الراوي بـ"النشاز". أما بقية الشخوص فهم جمع ضبابي غائم الحضور، لكنهم يشكلون خلفية للحدث، وهم يـُقدَّمون بوصفهم من رجال الفكر والثقافة والسياسة، وبحسب الراوي فإنهم "مجموعة من الأصدقاء والزملاء ربطت بيننا علاقة انسجام ثقافية وأدبية وسياسية ومنطق واحترام...". هؤلاء يمثلون توجهاً متجانسا ورأيا واحدا لا يرضى بوجود رأي مضاد!

(3-2)

أما الزمن الذي تدور فيه أحداث القصة ويتحرك في فضائه شخوصها فهو زمن غير منطوق به صراحة، زمن ضمني غائم المعالم. وتبدو ضبابية الزمن مقصودة، لأن هذه القصة هي الوحيدة من بين قصص المجموعة التي تركت غفلاً من التأريخ لزمن كتابتها؛ مع وعينا أن زمن الكتابة غير زمن القَصِّ بطبيعة الحال؛ إلا أن قراءة متأنية للنص ستصل بنا إلى أن الزمن المحتمل لأحداث القصة يمكن استخلاصه من كلمة مفتاح في العنوان هي كلمة "أزمة"، وهي الكلمة التي نجدها مبثوثة في جنبات هذه القصة، وقصة أخرى في المجموعة نفسها بعنوان "الهيلوكس"، والأخيرة -كما هو مثبت في ختامها- مكتوبة بتاريخ 18/3/1993م وهو زمن قريب من زمن أحداثها، وزمن أحداث قصتنا: "أزمة البنت بشرى"، وسنعود لإضاءة الأمر لاحقاً.

(3-3)

المكانُ الذي تقدمه القصة يمنيٌّ، يسمح لنا السرد أن نقترح المدينة فضاء له، ولتكن صنعاء. ويؤيد هذا الاقتراح إشارة السرد إلى مدينة "النهدين" الجديدة بوصفها ساحة بحث عن منزل أبي بشرى. أما الأمكنة الأكثر تحديداً فأجلاها "المقيل" وهو مكان يمني صميم، مكان دافئ وحميم، مغلق ومفتوح في آن، لكنه في انفتاحه ليس متاحاً لأيٍّ كان، مكان للحوار والجدال واللقاء والاختلاف، مكان قد يفرق حين يجمع، وقد يجمع فيستعصي الفراق!!

(3-4)

تترك لغة القصة انطباعا عاما حول لغة دماج، بحيث يمكن القول إن جملة زيد مطيع دماج القصصية -في مجملها وفي هذه المجموعة تحديداً- تتكئ على البساطة، وتدوِّن مفرداتها من اليومي الواضح الذي يذهب إلى الهدف مباشرة ويصل القارئ رأساً. وليست قصتنا هذه إلا واحدة من الشواهد على هذا الأسلوب في التعاطي مع اللغة، بل ربما تعد أكثر هذه الشواهد تطرفاً من حيث إن القارئ -ابتداء- يجد بساطة لغة السرد والحوار المبثوثين في القصة تكاد تبلغ حد الفجاجة، ولا تـُعنى بتقديم معجم نخبوي، أو مجازات تغترف من الغموض تجليها، أو من الشعر في صوره وتعابيره. هي لغة قد يمجها قارئ عجول يراها مسطحة، يومية، مكرورة، خصوصاً في لغة الحوار؛ بيد أننا يمكن أن نرى للقاص في الأمر أرباً. ولعل من واجب قارئ خبير بلغة دماج أن يتريث قليلاً، قليلاً فحسب! ذلك أن لغة دماج تومئ بسماتها الظاهرة تلك إلى مقاصد غير متاحة لقراءة خطية عابرة، وتحفل بكنايات نقع عليها إذا ما تأملنا اللغة التي تعد "أداة صلبة يستعصي اقتحامها، فلا تسمح لنا بقول شيء دون نقل موقف من هذا الشيء. حين نتكلم أو نكتب، فالكلمات أو الجمل التي نختار ترجع الصدى لمستمعينا أو قرائنا، وتصدر مغازي ممكنة تكون جزئيا تحت مراقبتنا"(1)؛ فأي صدى أرسلته كلمات دماج؟ وأية مغازٍ مضمرة في لغته؟ وكيف تحكم فيها؟ هذه بعض أسئلة ستحاول سطورنا اللاحقة تبيان إجابات لها أو احتمالات ممكنة لتأويلها تقودنا إليها فتنة قراءة أخرى لهذه القصة.

 

-4-

في قراءة ثانية للقصة نفسها سنجد أن من الممكن الوقوع على علامات من خلال لغة النص تحثنا على اتخاذ وجهة مغايرة في القراءة والتأويل. وسنتكئ في ذلك على وعينا أن "الكتابة والقراءة تشيدان رابطة يعتمد فيها كلا الفريقين على الأعراف المشتركة للثقافة المتصلة بالموضوع"(2).

 لنُعِدْ القراءة إذن، متخذين من بنية النص السطحية منطلقا لسانياً وسيمولوجياً، وبنية النص السطحية مأخوذة –كما هو معروف- من اللسانيين الذين يستعملونها على مستوى الجملة (Surface Structure)، إلا أن فاولر يستثمر هذا المصطلح في النص ويعني به: "متوالية جمل، لها خاصيات مثل: المتوالية، الإيقاع، التعبيرية المكانية والزمانية لمختلف الأصناف: ترقيم الصفحات، وضع الفقرات، تنويعات الطباعة..." (3).

اتكاء على الاستشهاد السابق سنشير إلى مجموعة ملاحظات لافتة عند تفحص النص. يبدأ السردُ بحوار بين البنت بشرى والراوي عبر الهاتف. ويشكل هذا الحوار مشهداً نمر به قبل أن ينفتح أمامنا مشهد المقيل. هذا التكرار يخلق متوالية معينة لا تنقطع إلا ببلوغ الأزمة -التي يتحدث عنها النص- ذروتها، إيذاناً بالقطيعة. من ناحية يخلق هذا التكرار إيقاعاً يناظر الإيقاع الذي يخلقه التكرار في الشعر. ومن جهة ثانية يعبر عن أهمية هذه المشاهد الحوارية التي تتحكم في المشاهد التالية، حيث أصدقاء المقيل بوفاقهم وخلافهم. ومن جهة ثانية فإن هذا الحوار يتم عبر وسيط حسي هو الصوت، إلا أنه يشي بغياب ملموسية كاملة للتواصل. يضاف إلى ذلك أن التواصل والحوار يبدأ من البنت، لا من الراوي أو الأب، وهو ما يمكن أن نتفهم مغزاه لاحقاً حين نعيد قراءة الأدوار المسندة للشخصيات في بنيتها النصية العميقة (Deep Structure) التي يضمرها النص لقرائه الخـُلَّص. إن الحوار يقدم مستندات لسانية تدل على الاسترخاء والهدوء في البداية، وهو ما يعززه طول الحوارات وتفرعها عن الهدف الرئيس للاتصال: معرفة مكان المقيل، ثم إذ بالجملة تتوتر وتبتر كلما زادت حدة الأزمة وتصاعدت تداعياتها، وهذا أيضا له دلالاته وأبعاده التي ستتكشف لنا كلما مضينا في إعادة قراءة النص، وهو ما سنفعله الآن منطلقين من عتبة العنوان بما له من أهمية دلالية في إضاءة أغوار النص.

يتكون العنوان من جملة اسمية صدرها محذوف، وما ذكر منها هو الخبر ومكملاته، هكذا: "أزمة البنت بشرى". وفي الغالب يمكن تقدير المبتدأ المحذوف بـ"هذه". أما دلالة حذفه -في تقديري- ففضلاً عن العلم بالمحذوف فإن دلالة هامة تتأتى من ذكر الخبر وحده، هي جعله بؤرة (Topic) مركزية. واللجوء إلى التبئير (Topicalisation) عبر تقنية حذف المبتدأ على المستوى التركيبي يأتي على المستوى الدلالي لإفادة معنى الاهتمام بالمذكور وإبرازه للمتلقي الذي يراد منه أن يسلط كل عنايته على هذا الجزء الظاهر من الكلام المكون من: الخبر المضاف (أزمة)، والمضاف إليه (البنت)، وتابعه (بشرى) الذي يمكن إعرابه بدلاً، ولذلك مغزاه.

فما هي الطاقة الدلالية التي يكتنزها العنوان؟ وإلى أي درب سيوجهنا في قراءة ثنايا النص؟

إن كلمة "أزمة" المصدَّر بها العنوان هي -في تصوري- كلمة محورية في بناء النص وواحدة من أهم العلامات اللغوية الدالة على ما يضمره من موجهات قرائية، ذلك أن هذه الكلمة -التي عُرِّفتْ بالإضافة- تبدو من خلال القراءة السطحية للقصة مقحمة في حديث عن مشكلة اختلاف بين أصدقاء تأثرت بها ابنة أحدهم، تلك المشكلة سرعان ما تنفرج ليتصالح المختلفون وتبتسم البنت الصغيرة. في هذه القراءة لا مبرر -على الإطلاق- للمبالغة في تحويل المشكلة إلى أزمة، ونسبتها للطفلة الصغيرة، لولا أن قراءة ثانية ستقول لنا إن الأزمة المذكورة هنا هي أزمة تتجاوز بنتاً صغيرة، أو أصدقاء مقيل، لتسفر عن أزمة أكبر؛ إنها أزمة وطن. ويعيننا متن القصة على تبني هذه الوجهة في قراءة هذه المفردة؛ حيث نجد إشارات كثيرة مبثوثة في جنباته عن الأزمة بالمعنى السياسي المتداول قبيل صيف 1994 الذي اندلعت فيه الحرب لتكون نهاية لمسلسل الأزمات الذي عرض على شاشة الوطن حتى أوقفته الحرب بعروض أكثر إثارة ودرامية!!

تفضي بنا هذه القراءة إلى السؤال عن موقع البنت بشرى أو من تكون لتضاف إليها الأزمة بأبعادها السياسية والوطنية، أهي حقا طفلة (حقيقية) لصديق الراوي؟

يبدو أن تتبعنا لدلالات كلمة "أزمة" داخل النص سيخرج بالبنت بشرى عن أن تكون (في النص) ذات وجود حقيقي، لتتجلى معاني حضورها في فضاءات المجاز، وفي هذه الحالة يتم قراءة كلمتي "البنت بشرى" (وهما إعرابياً بدل ومبدل منه، والبدل هنا بدل كل من كل؛ أي أن العلاقة تطابقية بين البنت والبشرى) على أن البنت رمز للوحدة الوليدة التي لما تتم عامها الرابع آنذاك، وحدث الوحدة كان البشارة الحقيقية لليمن وللوطن العربي في زمن الشتات والفرقة، ولذا لا يغدو غريباً أن يسميها النص "بشرى". وفي إطار هذه الوجهة في قراءة العنوان نرى في الرمز للوحدة بالبنت دلالات متشعبة، أبرزها معاني الأنوثة والخصب والولادة المستقبلية، كما تدل في حالها الراهنة على البراءة والنقاء والعذرية، بما تحيل إليه من طهارة وسمو عن الغرائز.

 

-5-

فرغنا من تتبع إشارات العنوان وإيحاءاته، ولنا أن نختبر قراءتنا للعنوان على النص برمته، لنرى هل سيتيح لنا النص أن نواصل هذه القراءة، أم سيعدل بأفق انتظار قراءتنا هذه إلى آفاق مغايرة، أو على أقل تقدير ستمنحنا اتجاهات النص المبددة لدلالات العنوان -كما قرأناها آنفاً- خيبة تمكننا من تعديل أفق انتظار قراءتنا السابقة لقراءة ذات أفق بديل؟ سنرى على كل حال.

بإمساكنا لخيط العنوان سنحاول البحث عن علاقة أزمة الوحدة اليمنية (البنت بشرى) بحسب النص، بالزمن، وبالشخوص وبالأمكنة.

(5-1)

افترضنا بخصوص الزمن -ونعزز الآن ذلك- أن الزمن العام للنص هو التسعينيات، وعلى وجه التقريب الفترة ما بين ربيع 1993 إلى صيف 1994(4)، وهي الفترة التي شاع فيها الحديث عن بداية أزمة سياسية تجاوزت الدوائر العليا وخرجت للشارع تأكيداً لتفاقمها، وإنذاراً بما لا تحمد عقباه بين الأشقاء صانعي الوحدة وعلى أديم الوطن الواحد!!

إذن، فما علينا إلا أن نبحث عن حضور الإخوة الشركاء في تحقيق الوحدة بين الشخوص الذين شكلتهم بنية النص.

(5-2)

شخصية البنت بشرى يقول الراوي، عنها ولها، في مكالمة هاتفية: "أهلاً بالحبيبة بشرى"، وفي مكالمة أخرى يقول: "حياكِ الله يا أعقل وأذكى طفلة في العالم..!" (المدفع الأصفر، ص14).

هذه المقاطع تعزز ما صارت إليه قراءتنا من أن الحديث ليس عن طفلة عادية حقيقية، وإنما هو عن طفلة استثنائية، طفلة رمز لعقل وذكاء لا نظير لهما في العالم كله؛ إنها تلك التي ولدت على تراب يمني موحد فقط قبل أقل من أربعة أعوام!

(5-3)

يقدم لنا الراوي صورة مقربة لشخصية أبي بشرى تبدأ بـ: "كان هو الوحيد الذي نعرف هويته السياسية المتقلبة، لأنه صريح ولا يخاف.. وربما يفتعل ذلك.

كنا نتألم منه في بعض الأحيان لجرأته في عناده.. ونغضب منه بشدة لعدم تفهمه نصحنا.. حتى كتاباته في الصحف والمجلات لا تخلو لدينا من نقد بسيط، إلا أن ذلك كان خارج محيطنا..." (المدفع الأصفر، ص14).

وفي مقطع آخر: "أعرف أنه سيتغلب على ذلك كعادته دائماً.. تنهدت:

-          أعرف ذلك يا عمي!

-          والدك بطل!

-          أعرف ذلك يا عمي، فهو بطل دائماً..." (المدفع الأصفر، ص17).

يقدم المقطعان بعضاً من ملامح شخصية أبي البنت بشرى، وهي شخصية حقيقية، لذا نقع فيها على السلبي والإيجابي، غير أن الأخير أكثر حضوراً. ولعل هذين المقطعين، وما تقدمه بقية القصة، يومئان إلى أشياء كثيرة عن هذه الشخصية التي تمثل (في النص) جزءاً من فريق واحد، أو مجموعة أصدقاء، موحدين برباط ".. صداقة لا تُفل وحنان لا ينقطع ومحبة دائمة لا زاول لها.. ونادرا ما كنا نختلف في بعض القضايا الهامة.. لكن ذلك لم يكن يؤثر على عمق صداقتنا" (المدفع الأصفر، 13).

 تبتعد هذه الشخصية -أو تُبعد- عن المجموعة رويداً رويداً، لأنها جاهرت برأي مختلف، وبصوت رآه الجميع "نشازاً". وإذا ربطنا الشخصية بصفاتها هذه إيجاباً وسلباً، تواصلاً وانقطاعاً (أو اعتكافاً)، فإنها تحيلنا في الواقع إلى شخصية رجل فاعل في حدث الوحدة، رجل كان له خصومه ومحبوه، رفقاؤه وفرقاؤه؛ إنه أحد طرفي الوحدة، بل هو -بحسب النص- أبوها، أي أحد "العليين" فيها، وبحسب اقترابه وانزوائه أو إقصائه عن رفاق المقيل (رفاق السياسة والقرار) يمكن أن نعرف أيَّ "علي" هو المقصود!!

(5-4)

عند وقوفنا على شخصية العم أو صديق أبي بشرى (الراوي) ندرك أن النص القصصي يتضمن "من خلال تعبيره صوتاً راوياً، نبرة متكلم ضمني مضطلع بخط موضوعه ومتبنِّ موضعاً تجاه قرائه"(5). انطلاقاً من ذلك سنمضي لمعرفة موقع الراوي وما يتبناه من مواقف.

شخصية الراوي محيرة، بسبب قربها من موقع الحدث ومن صُنّاعه، بوصفها واحدة من "أصدقاء المقيل"، وبسبب بُعدها في الآن نفسه، لأنها من داخل المقيل تختار الصمت -غالباً- علامة عدم المشاركة، وللدلالة على امتعاضها، واعتراضاً على الأطراف كلها.

يبدو قرب هذه الشخصية من "البنت بشرى" أكثر من قربها من أبيها وبقية الأصدقاء؛ إنه قرب مؤثر على علاقة الراوي ببقية أصدقائه، وذلك على الرغم من أن معرفة الراوي بها لم تكن مباشرة، بل كما يقول: "ولكن معرفتي بها من خلال صوتها.." (المدفع الأصفر، ص13).

يعزز هذا القرب ويؤكده ما يبثه الراوي من استشعاره لأبسط ألم يمس تلك البنية الحبيبة إلى قلبه، حتى أن أبسط تبدل في صوتها تلتقطه أذنا الراوي، ويحسه قلبه. يقول النص:

 "-ألوه! يا عمي!

 - نعم، أيتها الحبيبة اللبيبة.. ما لصوتك واهٍ؟

... لا أدري كيف انتابني شعور بأنها متألمة..." (المدفع الأصفر، ص16).

يوجه قرب الراوي من "البنت بشرى" تصرفاته مع أصدقائه في المقيل، وفي بيته، ويدعوه حرصه -على ألاَّ يكون طرفا في صنع ألمها أو المشاركة في مضاعفته- لعدم الانحياز إلى أي طرف، خاصة حين تبدأ خطيئة التكتل ضد أبي بشرى، وحين يقترف هذا الأخير أخطاء، منها عدائيتة التي يوجهها للأصدقاء، وحدّته العالية: "ألقى التحية على الجميع وجلس في مواجهتي.. وبدأ الحديث مباشرة وهو ينظر إليَّ:

-       كلكم مجاملون.. إلى درجة المبالغة في قضايا منطقية لا تحتاج إلى تأويل.. كلكم ضد الديمقراطية.. ومع الديكتاتورية والإرهاب الفكري.. تحلمون بمستبد عادل.. وسفاح يوحد الوطن بالدماء وليس بالديمقراطية..!

نظر إليَّ ملياً ليجدني عابساً متألماً لكلامه العدواني هذا الذي باشر مجلسنا به بداية مقيلنا.. والكل منهمك وبيده راديو صغير نستمع لأخبار الأزمة" (المدفع الأصفر، ص17).

ولنتابع موقف الأصدقاء من أبي بشرى، وموقف الراوي تحديداً في المقطع الموالي مباشرة:

"البعض ردوا عليه بهدوء، والبعض الآخر بتوتر أكثر منه، وبعضهم بقليل من القسوة... أما أنا فتذكرت حديث البنت (بشرى) لي بالتليفون فلزمت الصمت ولم أتكلم طوال المقيل مطلقاً..." (المدفع الأصفر، ص18).

إن الرفاق ينفضون من حول أبي بشرى، ويبقى الراوي صامتاً مستاءً، لكنه لا يعبر عن استيائه كما فعل الآخرون؛ وهو في موقفه هذا متضامن، أساساً، مع البنت بشرى أكثر مما هو متضامن مع أبيها. من الواضح أن الراوي ليس طرفاً مقابلاً لأبي بشرى، فأي تأويل ضمن قراءتنا يمكن أن نقرأه في حضوره النصي؟ وأي رمز يجسد؟

ربما يكون أقرب تأويل لهذه الشخصية، التي استأثرت برواية القصة، وشاركت في أحداثها، أن تكون رمزاً لحضور المثقف الوطني الغيور، القريب من هموم وطنه ورهاناته، لكن غير المتورط في خصومات حزبية! فهو جزء أصيل من النخبة الثقافية والسياسية، دون أبعاد ضيقة توجه مواقفه، بل يظل ممثلاً لضمير الشعب، وصوتاً ينطق بخوفه على الوطن، وعلى وحدته الوليدة آنذاك.

إن قرب الراوي من البنت بشرى -التي اقترحنا آنفاً أن تكون رمزاً للوحدة المباركة- يمدنا بأسباب رؤية حضور الراوي في هذا المستوى الرمزي، مستبعدين ما سوى ذلك من الاحتمالات الممكنة لقراءة هذه الشخصية داخل القصة.

(5-5)

تـُقدَّم الشخصيات الأخرى بوصفها ثلة مقيل، وتبدو معالمها متوارية في ثياب الحضور الجمعي. إنها جماعة لا ملامح شخصية لكل واحد من أفرادها، لكنهم في مجموعهم يشكلون فريقاً أو كتلة ما، ولعلها تمثل القبيلة في بعدها السياسي الطاغي في اليمن. وأياً كان تأويلنا لهذه الجماعة فإنها تبدو بهويتها السياسة والثقافية المتجانسة ضداً مقابلا لحضور أبي بشرى الذي بدا، بإيجابياته وبسلبياته، صوتاً مفرداً، واحداً، وفي ذروة تصاعد الأزمة لم يعد هذا الصوت مقبولا، حتى وصل الإقصاء والإبعاد إلى أن يضيق المقيل الدائم بحضور أبي بشرى، وبدأ الضغط على ذلك الحضور الشعبي داخل المثقف الذي جسده الراوي. يقول: "وفوجئت بتوجيه اللوم لي من معظمهم، بأنه يعرف مكان مقيلنا عن طريقي.. بينما الجميع يكذب عليه في الآونة الأخيرة عن مكان المقيل" (المدفع الأصفر، ص23).

قد نفهم اللوم المذكور أعلاه على أنه محاولة لجر الضمير الشعبي الساكن في المثقف للتواطؤ مع الكذب والإقصاء، يكشف الراوي، الذي هو بدوره مفرد عن مجموع رفاق المقيل، عمَّا يتعرض له المثقف من ضغط لجره إلى الوقوف ضد ذلك الصوت المختلف الذي، رغم سلبياته، كان بطلاً بشهادة البنت وبشهادة الراوي.

ومهما يكن فإن تلك المحاولة -كيفما كانت قراءتنا لها- تورط الراوي الذي يقول: "سهرت ليلتي حتى الفجر وأنا في حيرة.. أصارع نفسي وضميري.. هل أكذب عليها كما فعل الزملاء الآخرون؟" (المدفع الأصفر، ص24).

هذا الصراع الذي يواجه فيه الضمير ضميره سيسفر عن لحظة تردد وحالة تواطؤ مع المجموع، تفضي إلى خذلان البنت بشرى!

يسجل الراوي لنا هذه اللحظات التي يستسلم فيها المثقف الحر لصوت المجموع المرتبط بحسابات معقدة، مدوناً: "لم أشعر في حياتي بموقف محرج كهذه الساعة." (المدفع الأصفر، 24).

ويظل السؤال: "أين مقيلكم اليوم يا عمي..؟" معلقاً ينتظر إجابة من فم الراوي الذي يخوض صراعاته مع نفسه ومحيطه، ثم يستسلم لضغط المجموع فيجيبها متلجلجاً: "لا أدري.. ربما في شرق المدينة.. أو في غربها.. وربما في جنوبها أو في.." (المدفع الأصفر، ص25).

إننا نقرأ لحظة مفصلية في تطورات الأزمة الوطنية تُسجل ابتداء القطيعة بين طرفي الوحدة، وحيرة المثقف الوطني وإسهامه في التضليل والتعتيم، وهو ما يفاقم الأزمة التي تنبئ بانفجار وشيك، خصوصاً حينما ينقطع الحوار: "وأطبقت سماعة الهاتف فجأة قبل أن أكمل كلامي..." (المدفع الأصفر، ص25).

يمكن القول من خلال البنى القصصية إن المؤلف يقوم "بتوجيه نفسه وقارئه في ما يتعلق بمضمون عالمه المتمثل... ويتضمن هذا التوجيه تموضعاً في المكان والزمان. وقد يبدو المؤلف أو راويه بعيداً أو قريباً جداً، محرراً لمادة تاريخية أو شاهد عيان"(6). وفي صنيع دماج في هذه القصة نجد هذا التوجيه من خلال بنيتي الزمان والمكان، كما نجده يختار عبر راويه أن يكون شاهد عيان وجزءاً من الأحداث، بوصفه مثقفاً ملتزماً، وليس كالمثقف الملتزم بقضايا وطنه إحساساً بالألم ووقوعا في شرك الإحباط، وهذا هو حال الراوي بعد أن شارك في غياب الشفافية، والتضليل والتعتيم؛ ها هو يبوح بذلك، مباشرة بعد انقطاع حديثه مع البنت بشرى: "وصلت إلى المقيل متأخراً على غير عادتي.. واجماً محبطاً، ليس من تطورات الأزمة المؤسفة.. لم ألق التحية كالمعتاد، وجلست في أسفل المكان.. لم أتكلم ولم أنظر إلى أيٍّ من وجوه الزملاء، ولم أتبادل معهم الحديث أو الابتسامة المعتادة، رغم محاولاتهم لإخراجي من صمتي المطبق." (المدفع الأصفر، ص25).

لعل من الممكن هنا أن نقرأ شيئاً من النقد الذاتي الذي يوجهه المؤلف، عبر راويه، للمثقف الذي بدا سلبياً وفقد دوره في خضم أزمة وطنية عاصفة كتلك التي اكتسحت اليمن قبيل صيف 1994، وهو ما يعززه –في رأيي- إشارته لجلوسه "في أسفل المكان". ومن معرفتنا بالدلالة الاجتماعية لهذا الموقع داخل المقيل نجد فعلا أن الراوي (المثقف) صار في لجة الأحداث هامشياً كشأن الهامشيين في التراتب الطبقي للمجتمع اليمني، الذين لا يمكنهم أن يتجاوزوا موقعهم أسفل المكان بما هو تعبير رمزي قوي عن موقعهم أسفل المجتمع.

 

-6-

تبدأ أمكنة النص، في تدرجها من العام إلى الخاص، من اليمن، بوصفها الفضاء الأعم للقصة، ثم تتدرج في خصوصيتها إلى المدينة، ثم تتخير العاصمة مدينة لأحداثها، بما أنها مقر النخبة السياسية والثقافية. ولغة دماج، هنا، تؤكد لنا أنه يتحدث عن صنعاء جديدة تخلقت منذ حلت بشرى (الوحدة) في ربوع الوطن، ليلتحم شطران فرقتهما السياسة والأهواء والحروب والمنازعات، لكنها لم تستطع أن تمزقهما أو أن تفصلهما عن بعضهما.

نقرأ التأكيد السابق في لغة دماج الذي كنَّى عن صنعاء العاصمة التي يقيم فيها أبو بشرى بـ"مدينة النهدين الجديدة". واسم "النهدين" يطلق على جزء من مدينة صنعاء، ولا يستعمل موصوفاً بجديد أو قديم، ووصف هذا الجزء بالمدينة الجديدة -وهو من عند القاص- إشارة إلى الولادة الجديدة لصنعاء عقب الوحدة، وانتقاء النهدين من بين معالم صنعاء للدلالة عليها يؤكد ثنائية لا تنفصم عراها، فهل يمكن أن نجد نهدا مفرداً عن الآخر، اللهم إلا في حالة المرض، وغالباً ما يكون المرض الذي يفرق أحد النهدين عن الآخر خبيثاً! فكما أننا لا نجد ذينك النهدين المشطورين فلا ينبغي أن نجد يمنين، أو شطرين مفصولين، لأنهما معا في تلازمهما وجمالهما وحميمة ارتباطهما بمكانة النهدين من الجسد.

 تنفتح لنا بوابة "المقيل" لندلف إلى أكثر الأماكن خصوصية، وهو -كما أسلفنا- مكان يمني محض، كما أنه -كما هو متعارف عليه في اليمن- واحد من أهم أماكن اتخاذ القرار في الشأن اليمني كله؛ ولعل وصف الراوي له بـ"الدائم" يعزز هذا الدور السياسي له. هناك في حميمة المقيل، وافتراقه عن صرامة المؤسسة، ترتجل القرارات الهامة لحظة انبثاقها، مؤكدة أن للمقيل قوانين تخصه.

 

-7-

يقدم لنا الراوي رؤية مثالية لنهاية الأزمة، وحلاً سعيداً للتوتر والاحتقان، ويقدم ذلك عبر عدة مراحل: الإحساس بالفقدان، السؤال، تكليف الراوي بالبحث، الوجدان والمصالحة، وبابتسامة اتسعت حتى غدت ضحكة، وبيدين تلوحان وفرحة غامرة!!

يمهد النص للحل بحديثه عن افتقاد رفاق المقيل لأبي بشرى، بعد أن أقصوه عن مقيلهم، وفقدانهم له أشعرهم أنه لا غنى عنه لاكتمالهم: "مرت الأيام.. أصبحنا في مقيلنا نفتقد الرأي الآخر.. وأصبح كلامنا معاداً ومكرراً.. فقدناه فعلاً.. فقدنا عناده.. صياحه.. فقدنا إثارته لنا.. كان يخلق في مقيلنا الجدل ويثير انفعالاتنا.. قد يكون مخطئاً، وهذا لا شك فيه.. لكنه صادق السريرة، وهذا لا شك فيه أيضا.. قد نضيق به إذا حضر.. لكننا نفتقده إذا لم يحضر أيضاً..." (المدفع الأصفر، ص27). هذا الوعي بالفقدان جعل "الزملاء في مقايلنا الأخيرة يسألون عنه..". فما الرأي الذي خلصوا إليه لحل الأزمة؟ يجيب الراوي:

"كان رأي الزملاء بالإجماع على ضرورة البحث عنه.. أصبحوا مقتنعين بأن يجدوه وأن يحضر مقيلنا الدائم.. أن يكون بيننا، بخيره أو بشره..!" (المدفع الأصفر، ص27).

وكما قلنا يُكلَّف الراوي بالبحث، فيتفانى لإنجاز ما كلف به: "أعياني التعب والبحث عن منزله في مدينة (النهدين) الجديدة.. كنت حريصاً على أن أجده مبكراً، كي نحضر مقيل الزملاء في الوقت المناسب.. وأخيراً اهتديت إلى عنوان منزله.. قرعت الجرس.. وانتظرت، ليس شوقاً إلى ملاقاته.. وإنما لرؤية البنت (بشرى). أنا على يقين بأنها هي التي ستفتح باب فناء المنزل وليس أحداً غيرها.." (المدفع الأصفر، ص28).

تتلاشى أشباح الأزمة ونذرها لينتهي الأمر نهاية سعيدة نقتطف منها هذا الإيجاز البليغ: "لم أطل عليه الحديث ولم يطل هو عليَّ الإبطاء في الخروج معي" (المدفع الأصفر، ص30).

هذا التوافق أثر على البنت بشرى التي هي بيت القصيد، وما ملاقاة أبيها إلا إكراماً لها ومن أجلها، كما نص الراوي: "وانتظرت ليس شوقاً إلى ملاقاته.. وإنما لرؤية البنت (بشرى)". وها هي تبارك لقاء الاثنين بعد توجس منها، لأن المحبة الصادقة غمرتها. يقول الراوي: "نظرتْ إليّ مليا.. قابلْتُها بنظرات مني مُحبَّة ومُودة.. بدأت تبتسم قليلاً قليلا.. ثم انفرجت ابتسامتها إلى ضحكة فرحة.. حييتها بيديَّ، وكذلك فعل والدها.. قابلتنا بتحية بكلتا يديها والفرح يكاد يغمر محياها..!" (المدفع الأصفر، ص31).

قبل أن أختم هذه الجزئية أود الإشارة هنا إلى دلالة استعمال لفظ المثنى -في الفقرة أعلاه- الذي لم يكن -برأيي- عبثاً تكراره ثلاث مرات في الحديث عن تلويحة أهداها الراوي للبنت وكذلك فعل والدها ثم قابلتهما بالمثل. استخدام المثنى هنا في الحديث عن الواحد، وكما هو حال النهدين في التلازم فحال اليدين كذلك. إننا نتحدث عن اثنين هما واحد، ففي الحالة المناقضة للطبيعة، فحسب، نقع على جسد بيد واحدة. وفي هذه التلويحات والفرحة استعادة للحظة إعلان الوحدة التي كانت بيدين اثنتين (يد جنوبية وأخرى شمالية)، وبدون هاتين اليدين ما كانت لتستقيم الوحدة، وبدونهما -الآن- لن ينعم الوطن بالسكينة والرخاء.

نهاية الأزمة التي اقترحتها القصة تختلف عمّا كانت عليه نهاية الأزمة على أرض الواقع، فكيف نقرأ هذه النهاية التي يضعها الراوي؟ إن النهاية تعزز من اقتراحنا السابق في ما يخص زمن كتابة القصة وأنه كان قبل الحرب، وربما يكون هذا التوقيت متوازيا مع توقيع وثيقة العهد والاتفاق التي علق عليها المثقفون والوطنيون آمالهم في بداية ثانية لمسيرة الوطن الموحد، لأنه حتى ذلك التوقيت كان باب الأمل ما يزال مشرعاً لنهاية سلمية لسلسلة الخلافات والأزمات المتلاحقة.

وبما أن الحرب لما تشتعل عندما كتبت القصة، وبالتالي لم تصادر حرائقها إمكانية الحلم بنهاية سعيدة، فإن حلم القاص طغى على مؤشرات الواقع، فكان ميله للتفاؤل والإيجابية مؤثراً على احتمالات نهاية الأزمة لديه، ومتحكما في تحكمه لمسار الأزمة عما كانت مؤشرات الوقائع والأحداث تسير إليه، وما أفضت إليه بالفعل بعد وقت وجيز.

في النهاية السعيدة تلك ثمة شيفرة يضعها الراوي في ثنايا لغته، منتظرة قارئاً يمتلك سلطة تحريرها من النص، بما أن اللغة -بحسب فاولر- تطبع النص بقيم الجماعة، ولا يتناقض ذلك مع أن "القارئ منتج للمعنى ما دام، بسبب الكاتب، مخزناً لقيم الثقافة المشفرة لسانياً، وله سلطة تحريرها من النص"(7). فأي معنى نستلهمه ها هنا؟

إن المثقف الذي سلب دوره في صنع القرار أو تخلى عنه -راضياً أو كارهاً- يستعيد في قصة دماج دوره، فكأنما واحدة من أهم الدلالات التي يضمرها النص هي ضرورة إعطاء القرار للمثقف لحل مشاكل وطنه، انطلاقاً من وطنيته الصادقة ومن ثقافته ومعرفته. الثقافة -إذن- هي الحل! وهي القادرة -وحدها- على إنهاء صراعات السلطة؛ إنها دعوة جادة لإعادة الاعتبار لدور المثقف الذي لم يشارك في صنع الوحدة رغم نضاله المستميت لتحقيقها، وهو ما جعل علاقته بها في أول الأمر/النص: "من خلال صوتها فحسب"، ولكنه حين تدخل –في النص لا في الواقع- أمكنه حماية الوطن من فساد السياسي وطيشه ونزقه.. وأمكَنَه -كشأنه دائماً- استيعاب الأطراف كلها لأجل عيني البنت بشرى (لا لأبيها، ولا لأصدقائه، ولا لأي هوى آخر). إن اليمن الواحدة -هي وحدها- التي توجه محبته وإخلاصه.

 هذا ما نقرؤه في اقتراحات دماج لخطوات تجاوز الأزمة والخلاص منها، أو هو ما يتمناه، ويحلم به المثقف الوطني، فليس هناك أكثر اقتداراً من الثقافة على تثبيت المشترك بين جهات الوطن وفئاته.

وما تزال دعوة دماج المرسلة في هذه القصة قائمة، وما زال بوسعنا أن نجهر بها اليوم، فنحن أحوج ما نكون لها، مناداة وسعياً لتحقيقها، حتى تتجاوز اليمن أزمات كثيرة تلاحقت عليها مذ تلك الأزمة التي تعرضت لها البنت الصغيرة بشرى، وما تزال أزمات أكثر حدة تطوق الصبية بشرى، ما لم تتداركها يدا المحبة والوعي دون تفريق بين جهاتهما.


 

هوامش:

1.        فاولر، روجر: اللسانيات والرواية، ص 98، ترجمة: لحسن أحمامة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1997.

2.        فاولر، مرجع سابق، ص151.

3.        السابق، ص46.

4.        استعمل الحرف "إلى" للدلالة على عدم دخول المعدود بعدها في الحد، ولهذا تفسيره في النص.

5.        فاولر، مرجع سابق، ص98.

6.        فاولر، مرجع سابق، ص95.

7.        فاولر، مرجع سابق، ص103.

 


Back to Home Page