في موكب الحزن والشجن والدموع ..

د.عبد العزيز المقالح

مارس 2000
 

شاءت قدرة الله وإرادته أن يلفظ "زيد" أنفاسه الأخيرة في لندن وأن يستقبل الوطن جثمانه الطاهر مسجى في صندوق ملفوف بمحبة الناس ودعواتهم التي لم تنقطع ولم تتوقف منذ تم إعلان النبأ الفاجع . ومن لندن إلى النقيلين كانت رحلة حزن وشجن ودموع .

في لحظة اليأس والضجر تبدر عن بعض المبدعين بعض الكلمات القاسية تجاه الشعوب متهمـة إياها باللامبالاة حيناً وبعدم الوفاء لمن يخلص لها حيناً آخر ، لكن هذه التهمة سرعان ما تتبدد وتذوب في ثنايا الواقع المعاش كما تذوب قطعة الثلج تحت حرارة شمس الصيف . فالشعوب بما فيها تلك التي عادت من القهر والمحن شديدة الـوفاء لمن أحبها وأخلص لقضاياها ، وهذا ما أدركته وتيقنته في أثناء تشييع الجثمـان الطاهر للأديب والروائي الكبير / زيد مطيع دماج ، هذا المبدع الذي أعطى لشعبه كل وقته وطاقاته نضالاً وإبداعاً ، فقد تجلى لي ، كما تجلى لكل ذي عين وقلب .. أن شعبنا من أكثر شعوب الأرض وفاء لمن يبادله الوفاء ، وان الزوايا المتشائمة في كتابات بعض المبدعين تجاه هذا الشعب غير صحيحة على الإطلاق ، ففي استطاعته الإصغاء إلى نبض قلوب الوطنيين والمبدعين وقراءة ما تقوله وأحياناً وما تضمره ، ولعل من نسميهم بالأميين والفلاحين الذين يقرأون الأرض ولا يقرأون في الكتب ويؤلفون الأشجار ولا يؤلفون الشعر والنثر هم طليعة الاخلاص في هذا الشعب ، وهم خلاصة الوفاء لكل من أعطى ولمن لا يبخل بتضحية .

ولعل أطول موكب تشييع شعبي هو هذا الذي رافق زيد من جامع الشهداء في صنعاء إلى قريته في النقيلين ( محافظة إب ) فقد وقفت الجماهير الحزينة تودعه وتدعو له على جوانب الطريق الممتدة أكثر من ثلاثمائة كيلومتر ، وما كاد الموكب يقترب من إب وهي مدينة الثورة والوفاء على مر العصور حتى هب أهلها فضاقت السهول والهضاب ، وأثبت الحب الكامل في النفوس إنه لا يشترى بالمال ولا بالجاه وإنما بحب مماثل وبمشاعر نقية هي أغلى من كل ما على الأرض من ذهب وعملات ، وهذا ما يجب إدراكه والثقة به ليتعمق الايمان بالشعب الذي يظـل دائماً مرهف الحس وفي كامل وعيه ، لا تستطيع أية قوة مهما كان نصيبها من الذكاء والفهلوة أن تخدعه أو تضلله أو تشكك في قدرته على معرفة من يقف معه ومن يقف ضده ، من يشاركه معاناته وأحلامه وطموحه ، ومن يريد له أن يظل مكبلاً بقيود المهانة والاذلال .

إن رحلة الحزن والشجن والدموع التي بدأت من (لندن) ولم تتوقف إلا في (النقيلين ) وذلك التعاطف الوجداني المنقطع النظير هما الدرس الذي ينبغي لمن يريد ان يبادله الشعب الوفاء أن يتعلمه وأن يحرص على قراءة أبعاده بكل رموزها وإشاراتها ، لاشيء يأتي من دون ثمن باهض وتضحية عالية . قال واحد من شهود العيان وممن رافقوا موكب زيد وهو يعود إلى قريته التي ولد فيها قبل سبعة وخمسين عاماً : " لقد كنت حزيناً حتى العظم ، ولكن هذه المشاعر الشعبية الجميلة التي استقبلت الموكب الحزين ووصلت ذروتها في مركز السياني قد غمرتني بنشوة لا مثيل لها . لقد غرق المكان في بحر من السيارات ومن مختلف الأشكال والأنواع القادم من صنعاء وإب والزاحف من القاعدة وتعز ، وعندما وقف المناضل الأستاذ عبد الحفيظ بهران يقرأ قصيدة فوق قبر زيد امتلأت العيون بالدموع وأحسست أن الأشجار والأحجار تبكي ، وأن زيداً الذي يرقد الآن في أمان تحيط به ملائكة الرحمة والرضوان يشعر بفيض من الطمأنينة " وراحة البال .

لقد غاب زيد بشخصه الذي من لحم ودم وبقي زيد الذي من مواقف وإبداع ، ذهب الشكل الفاني وبقي الجوهر الخالد ، وإذا كان التراب قد وارى جسده النحيل ذلك الجسد الذي عانى وتعذب كثيراً فإن روحه الكبيرة ستظل تحلق في سماء الوطن وتبارك كل عمل جميل وجليل .

ومن حسن الحظ أن زيداً قبل رحيله بسنوات كان قد اطمأن إلى أن نجله الأكبر همدان زيد مطيع دماج ، هذا الفنان المبدع الشاب سيكون خير خلف لخير سلف . ومجموعته القصصية الأولى التي يهجو فيها ذباب المجتمع الحاقد والمتساقط على مستنقعات التخلف هي علامة الميلاد وإشارة البدء صوب زمن جديد ومليء بآخر ايقاعات العصر وتقاطعاته المدهشة ، ومن المؤكد أن الزمن رغم بقايا الفراغ الموحش لم يعد ساكناً كما كان قبل أربعين عاماً ، وان الحياة لم  تعد كما كانت مملة ومعتمة . ومن حق الوطن أن يحزن على النجوم التي تركت مكانها في الأفق القريب ، وفي الوقت ذاته من حقه أن يسعد وهو يتأمل النجوم الطالعة ، هذه التي بدأت تقترب منه ، وترسل أضواءها العذبة الحانية . 

تأملات شعرية :

هو الآن في عرسه نائمٌ

كملاكٍ كريم ،

فلا توقظوه باحزانكم

وبأهاتكم

يدخل الآن دائرة الضوء

طوبى لهُ ،

لم يعد قلبه يتعذب حزناً على

الأصدقاء

ولا الجسد المتألم يخشى المشارط

يرهب طعم الدواء .

 

 

 


Back to Home Page