سيميوطيقا العنوان في مجموعة "المدفع الأصفر"

د. حفيظة صالح الشيخ

 

مقدمة:

يحتل الفن القصصي لدى زيد مطيع دماج المساحة الأوسع في نتاجه السردي. وقد يكون ذلك بسبب من إيمانه بأن فن القص هو فن اللحظة التي تلتقط الأهم والأكثر سخونة من قضايا الواقع. ولعله بحسه الفني قد أدرك أن فن القصة يقوم على أساسين: اجتماعي، وجمالي، في آن، ولا يمكن الفصل بين الاثنين، باعتبارههما وسيلة اتصال نوعي على قدر كبير من الأهمية في تاريخ المجتمعات، فلا يمكن أن ينفرد الجمالي بالقصة، كما لا يمكن أن ينفرد بها الاجتماعي، ويظل فناً، وهذا ما يفسر تبني زيد مطيع دماج مقولة ليو تولستوي: "إن الفن العظيم هو الذي يعلم الناس أن يبصروا ويفهموا وأن يشعروا"(1).

            إن اختيار الباحثة لهذه المجموعة جاء من افتراض أن هذه المجموعة الموسومة بـ"المدفع الأصفر"، بوصفها آخر نتاج سردي لدماج، ستكون قد استوت فيها ونضجت تجربته القصصية وأنتجت لديه وعياً جديداً خلق في النهاية تراكماً إبداعياً لديه على المستوى النصي وعلى المستوى التقني. وقراءة العتبات النصية لهذه المجموعة ليست إلا محاولة لكشف استراتيجية العنونة لدى دماج في هذه المجموعة تحديداً، والمسبوقة بتجربة سردية لا يستهان بها، متمثلة في: "طاهش الحوبان"، "العقرب"، "الرهينة"، "الجسر"، و"أحزان البنت مياسة".

            وقبل تناول العنوان في هذه المجموعة لا بد من مقدمة نظرية عن العنونة لعلها تفيد الباحث والقارئ في تلمس جماليات واستراتيجية هذه التقنية السردية لدى القاص اليمني المبدع زيد مطيع دماج.

 

تمهيد

لقد أُهمِل العنوان كثيراً، سواء من قبل الدارسين العرب أم الغربيين، قديماً وحديثاً، لأنهم اعتبروا العنوان هامشياً لا قيمة له، وملفوظاً لغوياً لا يقدم شيئا إلى تحليل النص، لذلك تجاوزوه إلى النص، كما تجاوزوا باقي العتبات الأخرى التي تحيط بالنص. لكن هذا الإهمال لم يدم طويلاً، فقد تنبه الدراسون الغربيون أولاً إلى أهمية العنوان، فأولت السيميوطيقا أهمية كبيرة للعنوان، باعتباره مصطلحاً إجرائياً ناجحاً في مقاربة النص الأدبي، ومفتاحاً أساسياً يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة، يقصد استنطاقها وتأويلها(2).

            وتعتبر دراسة "العتبات" لجيرار جينيت أهم دراسة علمية ممنهجة في مقاربة العتبات بصفة عامة، والعنوان بصفة خاصة، لأنها تسترشد بعلم السرد والمقاربة النصية في شكل أسئلة ومسائل، وتفرض عنده نوعاً من التحليل(3).

            ويبقى ليو هوك المؤسس الفعلي لعلم العنوان، فقد رصد العنونة رصداً سيميوطيقياً من خلال التركيز على بناها ودلالاتها ووظائفها، لأن العنوان لديه مجموعة من الدلائل اللسانية يمكنها أن تثبت في بداية النص من أجل تعيينه والإشارة إلى مضمونه الإجمالي، ومن أجل جذب الجمهور المقصود(4). ومن جهته اعتبره امبرتو إيكو "مفتاحاً تأويلياً يسعى إلى ربط القارئ بنسيج النص الداخلي والخارجي ربطاً يجعل من العنوان الجسر الذي يمر عليه"(5). ورآه الناقد الروسي اوسبنسكي "عنصراً بنائياً يختزل النص مبنى ومعنى"(6). ويقدم الباحثون العرب ممن اهتموا بالعنوان مجموعة من التعريفات التي لا تبعد كثيراً عن تعريفات النقاد الغربيين السيميائيين؛ فعلي جعفر العلاق يعتبر العنوان "مدخلاً إلى عمارة النص وإضاءة بارعة وغامضة لأبهائه وممراته المتشابكة..."(7). والجزاز يقول: "العنوان للكتاب كالاسم للشيء؛ به يعرف، وبفضله يتداول، ويشار إليه، ويدل به عليه"(8).

            وفي تعريف جامع لطبيعة العنوان وتموقعه ووظائفه ودلالاته واستراتيجيته، يذكر د. خالد حسين تعريفاً للعنوان بأنه "علامة لغوية تتموقع في واجهة النص، لتؤدي مجموعة من الوظائف تخص انطولوجية النص ومحتواه وتداوليته في إطار سوسيو - ثقافي خاص بالمكتوب. وبناءً على ذلك فالعنوان، من حيث هو تسمية للنص وتعريف به وكشف له، يغدو علامة سيميائية تمارس التدليل وتتموقع على الحد الفاصل بين النص والعالم، ليصبح نقطة التقاطع الاستراتيجية التي يعبر منها النص إلى العالم والعالم إلى النص، لتنتهي الحدود الفاصلة بينهما ويجتاح كل منهما الآخر"(9).

            إن العنوان يتمتع بموقع مكاني خاص، موقع استراتيجي. وهذه الخصوصية الانطولوجية تهبه قوة نصية لأداء أدوار ووظائف فريدة في سيميوطيقا الاتصال الأدبي؛ ومن هذه الوظائف: القصدية، التأثيرية الانفعالية، التفكيكية، الإحالية، والجمالية "الميتالغوية"، وذلك كما حددها جان كوهين(10). أما جيرار جينيت فقد حدد للعنوان أربع وظائف: الإغراء، الوصف، الإيحاء، والتعيين(11). ويقف جينيت أمام مقصدية المؤلف كوظيفة يجب على العنوان النهوض بها، فيورد أن "وظيفة العنوان هي الإعلان عن قصدية المؤلف ومظهرتها؛ فهو لا ينفصل عن مكونات النص ومراتبه القولية، واختياره أيضا لا يخلو من قصدية، لأنه يأتي في إطار سياقات نصية تكشف عن طبيعة التعالق القائمة بين العنوان والنص"(12).

            وهذا يعني أن بإمكان القراءة أن تتجه من الخارج إلى الداخل (من العنوان إلى النص) أو العكس، مع الأخذ بالاعتبار أن لكل منهما طرائقه في إنتاج الدلالة والاشتغال عليها.

وهناك نوعان للعنونة:

(أ) نوع يوحي بكلية تمثيلية للنص، نظراً لاستقلاله الكياني وتحوله في استراتيجية العنونة إلى علاقة دالة، ونواة دلالية كبرى وأولية ذات دلالة بديلة للنصوص التي تخترقها مبنى ومعنىً، وتشكل جماع المعنى الدلالي لها، وذلك عندما تحمل المجموعة القصصية عنواناً مستقلاً لا يشكل واحداً من العناوين الفرعية للمجموعة.

(ب) والنوع الآخر يوحي بجزئية تمثيلية للنص، من خلال كونه عنواناً فرعياً لإحدى قصص المجموعة جرى انتخابه ليكون عنواناً رئيساً للعمل القصصي يسمه ويمنحه هويته(13) ؛ كما هو الحال في المجموعة مدار المقاربة الحالية (المدفع الأصفر) لدماج.

 

المقاربة النقدية:

            يرى جيرار جينيت أن بنية العنوان ودلالته لا تنفصل عن خصوصية العمل؛ فهو يتضمن العمل مثلما أن العمل يتضمن العنوان(14). وأما جان كوهين في كتابه "قضايا الشعرية" فقد اعتبر العنوان جزءاً من التشكيل اللغوي للنص(15). وتأسيساً على ما تقدم تعد البنية التركيبية للعنوان هي أول ما يعالجه الناقد السيميوطيقي.

            وبالعودة إلى العنوان الرئيس لمجموعة دماج "المدفع الأصفر" سنجده عنواناً يتم انتخابه لتمثيل المجموعة جزئياً، لأنه سيتموقع مرة أخرى داخل العمل كعنوان فرعي. كما سنجد هذا العنوان الذي يسم المجموعة، وقد اندرجت تحته ستة عناوين فرعية، وبالنظر إلى بنيتها التركيبية النحوية واللغوية سنجد أن هناك تداخلاً في مستوياتها المختلفة، فمنها ما تؤلفه كلمة واحدة، مثل: "النذر"، "الهيلوكس"، ومنها ما تجاوز المفردة الدالة الواحدة إلى بنية المفردتين أو الدالين: "المدفع الأصفر" و"قطط الأيام"، ومنها ما تجاوز ذلك كله إلى بنية الجملة، كما في "أزمة البنت بشرى" و"أرملة الفرن الجميلة" و"قصة مهاجر حقيقي". وجميع هذه العناوين لا تخرج عن كونها اسماً أو مركباً وصفياً أو مركباً إضافياً.

            غير أن ما يلفت الانتباه في البنية النحوية لعناوين دماج السبعة هو اشتغالها على آلية الحذف النحوي، وبالذات حذف الخبر؛ هذا الحذف يترك ثغرة في العنوان تصدم المتلقي وتخلق لديه تساؤلات، مما يحثه على ردم الثغرة أو الفجوة التي سببها الحذف. وهذا "النقص الدلالي الذي يجتاح العناوين بحذف الخبر من شأنه أن يحقق الوظيفة الاستراتيجية للعنوان، باستقطاب اهتمام المتلقي وإثارته؛ ولذلك يعد الحذف خاصية مكونة للعنوان"(16). كما أن الحذف يؤدي وظيفة الإغواء أو الإغراء، التي تجذب المتلقي "نحو اقتناء الكتاب وقراءته، وهذا لا يتحقق إلا بتفخيخ خطاب العنوان بالإثارة، تركيباً ودلالة ومجازاً"(17).

            ومن أكثر عناوين دماج التي اعتمدت على الحذف دلالةً ورمزيةً قصة "الهيلوكس"، وهي مفردة تحتل موقع المبتدأ ولا خبر لها؛ هذا من الناحية النحوية، أما من الناحية البلاغية فإنها مفردة تمتاز بالفقر اللغوي والتكثيف الشديد الذي يوازي التكثيف في السرد وفي المنظور القصصي؛ فهذا العنوان استطاع أن يشكل معادلاً رمزياً مع النص، وهو على الرغم من أنه اسم يدل على جماد (مركبة) إلا أنه يكشف عن المعنى الرمزي الذي يحيل إليه؛ فاستحضار مفردة "الهيلوكس" عنواناً للنص يعبر عن وعي القاص بواقع الصراعات السياسية، وعن رؤيته الخاصة تجاه الآثار التي ولدها استخدام هذه الآلة في القمع والملاحقة ومطارد السياسيين حد الموت؛ فجاء السرد مشحوناً بالخوف والهلع والهروب طلباً للنجاة؛ لأنه قد وقر في ذهن السارد والطبيب أن هذا النوع من المركبات، التي ظلت تلاحقه من شارع إلى آخر، لا يُستخدم إلا لغرض الاغتيال السياسي، ولم يدر بخلده أن الملاحقة كانت بغرض الاستشارة الطبية ليس إلا(18)، الأمر الذي جعل العنوان يعمل على خرق أفق التوقع لدى المتلقي الذي استقبل كلمة العنوان كما وقر في الوعي الجمعي "أداة للملاحقات والاغتيالات السياسية" وهكذا تصبح مفردة "الهيلوكس" بمثابة "النواة التي خاط المؤلف عليها نسيج النص"(19).

            وفي قصة "النذر" نجد العنوان مفردة واحدة وهي اسم معرف بـ ال التعريف. لكنه على المستوى النحوي يقوم على آلية الحذف، حيث لا يكمله مسند إليه (خبر)؛ واستدعاء هذه المفردة عنواناً للنص يجعل العنوان يدخل في علاقة تناصية مع الموروث (العقدي)؛ وهو بهذه الإحالة إلى مرجعية خارجية يوسع من أفقه الدلالي، ويفجر نشاطاً تأويلياً للعلاقات التي تربطه مع كائنات نصية مختلفة في الإطار السوسيو – ثقافي؛ فبطلة القصة تستغل ادعاءات الإمام قدرته على منح الناس الصحة والصلاح والهداية وطول العمر، من خلال قراءته القرآن عليهم والدعاء لهم أو البصق عليهم زيادة في منح البركة، مقابل مبالغ معينة من المال يجمعها جنوده من الناس طالبي البركة، تستغل البطلة كل ذلك وتقدم له طفلها الرضيع لينفحه ببركته، لكنها سرعان ما تختفي ولا تترك أثراً يدل عليها ولأن العنوان يحيل على النص والنص يحيل على العنوان(20) ، فإن مفردة "النذر" -هنا- تقدم مدلولاً مباشراً: "تقديم الطفل للإمام كنذر ما دام يدعي الولاية"، وآخر رمزياً يختزل معاناة الإنسان الفقير الذي قد يدفعه فقره إلى التخلص من ابنه لدى ميسوري الحال ليضمن له حياة لا يخالطها جوع ولا فقر ولا ذل. إن هذا النمط من العنونة، الذي يتناص مع الموروث السوسيولوجي ثقافياً أو عقائدياً، يقع "رهين اللا حسم الدلالي، حيث الدال في العنوان يكتسب في جولته التناصية آثاراً دلالية من ذلك الركام الثقافي الذي يحاصره... "(21).

            وإذا تجاوزنا العنوان ذا الدالة الواحدة (كلمة واحدة) إلى العنوان، الذي سيقوم على استخدام دالتين اثنتين مثل: "قطط الأيام" و"المدفع الأصفر"، سنجد أن آلية الاشتغال على حذف الخبر ما زالت تسم هذه العناوين، إضافة إلى اشتغال العنوان على بنية الإضافة في "قطط الإمام" والوصف في "المدفع الأصفر".

            "قطط الإمام" عنوان القصة الخامسة في مجموعة "المدفع الأصفر"، وهو في بنيته النحوية مركب إضافي (مضاف ومضاف إليه)، حيث أضيف الحيواني (قطط) إلى الإنساني (الإمام) وهذه الإضافة تشكل صدمة للقارئ؛ إذ الغرابة لا تكمن في إضافة الحيواني مجرداً، إلى الإنساني مجرداً فهذا أمر مألوف؛ ولكن أن تضاف "القطط" لـ"الإمام" بما تحيل عليه المفردة من مكانة سياسية وقداسة دينية للإمام، إذ هو الحاكم الأول في اليمن وهو ظل الله في الأرض؛ فإن ذلك قد جاء في بنية العنوان لغايات انزياحية على المستوى التركيبي الشعري للعنوان وغايات رمزية على المستوى الدلالي للنص؛ فالقاضي المخلوع عن قضاء ريمة وزملاء آخرون له طامعون في تعيينات وظيفية، يقفون يومياً أمام المقام الشريف وجميعهم "ينظرون إلى الإمام ككلاب أو قطط تهز ذيولها تنتظر قطعة خبز"(22)، "إنهم قطط بعمائم"(23)، وعندما تتوزع لهم رسائل الإمام، التي تحتوي تعييناتهم في مواقع رسمية، يتلقفونها بسرعة واهتمام كما تتلقف القطط ما تحصل عليه من طعام، وهذا ما فعله القاضي المخلوع عندما رمى له الإمام بورقة صغيرة تلقفها بلهفة، فهي قرار تعيينه مشرفاً على قطط القصر(24).

            إن المستوى البلاغي في قصة "قطط الإمام" يبدو في محورين: الاستعارة التي صورت تحلق ومسكنة وذل هؤلاء القضاة أمام الإمام، وحاجتهم إلى رضاه، فنقلتهم من الأنسنة إلى الحيوانية، حيث تتجمد المشاعر وتلغى الأحاسيس؛ ومحور التورية التي تستحضر القطط الحقيقية التي يشرف عليها القاضي في ظاهر النص وتقصد –في الباطن– القطط الآدمية بكل ذلها وتبعيتها ومسكنتها، لاسيما إذا قورن موقف هذه القطط الآدمية بموقف جماعة الأحرار التي برزت على سطح الساحة السياسية كقوة مناوئة للإمام.

"إن العنوان مع نصه تحكمهما علاقة استبدالية، حيث يضيء كل منهما الآخر، مما يعني أن العنوان لم يعد هو المعنى الوحيد الذي يحدده النص، بل إن النص ساهم في خلق مرايا ومعان متعددة للعنوان"(25). وربما كانت العبارة السابقة هي المسوغ الذي جعل المستوى البلاغي بمحاوره الموضحة أعلاه يعمل على تعددية معنى العنوان.

            أما قصة "المدفع الأصفر" فإنها تتناول بشعرية بالغة تفاصيل الحياة اليومية لأحد الجنود (الطبشي) الحافلة بتأملات نفسية ووجودية حول معنى بقائه وحيداً بعد موت زملائه السبعة تحت عجلات المدفع الأصفر حينما كانوا يدفعونه في الطريق الوعر ليصلوا به إلى الحصن/القلعة في قمة الجبل، ولكنه كان يتراجع إلى الخلف، وفي كل مرة يتراجع فيها يقتل شخصا أو اثنين... كان "الطبشي" الناجي الوحيد منهم؛ ويا ليته لم ينجُ! فقد افترسته الوحدة والعزلة والانزواء بعد موت زملائه واختفاء البعض الآخر منهم؛ وعندما تحول الحصن إلى "سجن واسع.. لكنه ضيق مطبق على أنفاسه كسجن انفرادي"(26) ؛ بل تحول إلى فضاء للحزن والشعور بالانفراد والفراغ والخواء، حينها انطلق نحو المدفع يضربه بعنف... ثم أخذ يطلق منه طلقات، الواحدة تلو الأخرى، وأخيراً علق طربوشه على فوهة المدفع واختفى.

            إن دراسة عنوان هذه القصة دراسة رأسية لمعرفة التعالق بين العنوان والنص السردي تكشف ـمن الناحية السيميائيةـ تلك العلاقة العضوية بينه وبين العمل، لأنه جاء كجزء من الوظيفة الكلية للنص، كما أنه شكل بنية تعادلية كشفت عن المعنى الرمزي للنص السردي.

            إن "المدفع الأصفر" جملة اسمية تتكون من نعت ومنعوت، وتفتقر في الوقت نفسه إلى الخبر؛ مما يجعل حدود معنى العنوان عند الصفة والموصوف فقط. وبالنظر إلى مفردة النعت (الأصفر) سنجدها تنتج دلالات تبطن النص بأكمله؛ فالأصفر لون يشير إلى انعدام الحياة؛ فأوراق الشجر المتساقطة على الأرض في فصل الخريف صفراء، والشمس في غروبها وزوالها يكللها الاصفرار، وتعلو الصفرة وجه الأموات من الناس. وهذه الصفة تمتد من بنية العنوان إلى بنية النص؛ ذلك أن المدفع كان سبباً في موت رفاقه موتاً حسياً نتج عنه موت معنوي للحياة في واقع "الطبشي"؛ فلا أكل ولا شرب ولا أصدقاء ولا حرية ولا سعادة ولا تواصل مع الآخرين في المدينة... لا شيء لديه سوى ذكريات حزينة، ولا شيء سوى هذا المدفع الأصفر. وهنا يحاول "الطبشي" الثورة على المدفع، فانطلق باتجاهه يضربه بعنف، بوصفه رمزاً للموت في فاعلية أدائه (إطلاق قذائف الموت منه) أو في سحقه لزملائه أو في رمزية لونه الأصفر. وهذه الثورة في وجهها الآخر ثورة وتمرد على حياته الميتة بسبب الوحدة والعزلة والانزواء، حيث أخذ يطلق من المدفع طلقات في الهواء الواحدة تلو الأخرى، تعبيراً عن رفضه لواقعه، وربما اعتقاداً منه بقدرته على هزيمة هذه الحياة المنفردة الميتة.

وفي هذا النص السردي "لم تعد علاقة العنوان بالنص علاقة تعيين، بقدر ما صارت علاقة مساءلة وتأويل، ممتدة من العنوان إلى النص ومن النص إلى العنوان"(27).

 

* * *

            ومن ظواهر العنونة الحديثة عند زيد مطيع دماج بروز عناوين تتجاوز بنية الدال المفرد والدالين إلى بنية الجملة، وذلك كما في "أزمة البنت بشرى" و"أرملة الفرن الجميلة" و"قصة مهاجر حقيقي". وهذه العناوين جميعها تقوم على آلية حذف المسند إليه (الخبر) الذي يخلق فجوة تؤدي إلى الغموض على المستوى التركيبي والدلالي. لكنها بطولها النسبي وبنيتها الشعرية تقدم دلالات إيحائية تردم تلك الفجوة. فـ"أزمة البنت بشرى" عنوان ذو طبيعة نحوية بدلية، فالبنت هي "بشرى" والعكس هو الصحيح؛ فكأن القاص بهذه العلاقة البدلية يريد أن يؤكد ملازمة الأزمة لهذه الشخصية، الطفلة، والتي تطالعنا في النص بوصفها شخصية ثانوية هامة جداً اتخذها دماج عنصراً سردياً ينوب عنه –كسارد وكشخصية مشاركة في الحدث– في حمل رؤيته الفكرية، لاسيما حول شخصية بطل القصة والد "بشرى" ؛ ففي الوقت الذي لفظت فيه مقايل القات والد "بشرى"، لصراحته في النقاش وجرأته في طرح قناعاته ومفاهيمه عن الوحدة والديمقراطية والعدالة، كانت "البنت بشرى" أكثر من غيرها تصديقاً لوالدها وحباً له وإيماناً به؛ فهو في نظرها "بطل وطني وعظيم ومحترم وشريف ونزيه..." (28). آمنت "بشرى" بموقف والدها، ورفضه زملاؤه "لموقفه النشاز وتحمسه المعاكس لآرائهم"(29)؛ فانزوى وحيداً في مقيله، مما ضاعف إحساس ابنته بالأزمة؛ أزمة وجود والدها في زمن غير زمنه وواقع غير واقعه. ومن ناحية أخرى فإن بعده عن أصدقائه جعلهم يشعرون بمدى الحاجة إليه؛ للصوت الآخر، للرأي الآخر الذي هو بالنسبة للكثير منهم -ولاسيما السارد- صوته ورأيه الذي يتحفظ عليه ولا يجاهر به، "خوفاً من العسس والجدران"(30).

            لقد استطاع العنوان، بعلاقة الإضافة "أزمة البنت" وعلاقة البدل "البنت بشرى" أن ينتشر في مفاصل النص السردي برمزيته التي تعبر عن تفاقم الأزمة؛ أزمة استيعاب الآخر وقبوله وفهمه. فلم تعد البنت بشرى هي المأزومة، وإنما المجتمع هو المأزوم ببعده عن الحرية والديمقراطية التي تنتج حواراً مثمراً مع الآخر. هذه هي الرسالة التي أراد دماج أن يرسلها إلى المتلقي عبر هذا النص السردي، وهي "رسالة مسننة بشيفرة لغوية يفككها المستقبِل ويؤولها بلغته الواصفة أو الماورالغوية"(31).

            ولا يختلف عنوان قصة "أرملة الفرن الجميلة" عن العنوان السابق من حيث تجاوزه بنية الدال والدلين إلى الجملة، أو من حيث اعتماده على التركيب الإضافي (أرملة الفرن) مضافاً إليه الوصف (الجميلة). وأما من حيث البنية الدلالية لهذا العنوان، والتي تنسرب رأسياً إلى محتوى النص القصصي، فإن هذا العنوان يتضمن انزياحاً تعبيرياً في إسناد الأرملة إلى الفرن، وإضافة ما هو إنساني (الأرملة) إلى الجماد (الفرن)، في علاقة إنسانية لا تكون إلا بين بني البشر: زوجة، مطلقة، أرملة... كما أنه يتضمن نَفَساً رومانسياً ودلالة مفارقاتية تأتي من ملازمة الجمال للفرن؛ بمعنى أن الجمال والنعومة والرقة تلازم كير الفرن ونيرانه اللاهبة.

            كما أن صفة الجمال، التي تمتاز بها تلك المرأه: بياضها، نعومة يديها، عينيها، صوتها، جسمها الفاتن، صدرها البض، نحرها الواسع الذي تزينه سلسلة ذهبية... هذه الصفة شكلت بؤرة دلالية اتجه إليها السرد ومجرى الأحداث وحركة الشخوص، إلى درجة غدت فيها هذه المرأه حقاً جمالياً مشاعاً، كل واحد في الفرن يدعي حق مشروعية الدفاع عنه وحمايته، لاسيما من قبل الغلمان العاملين معها والذين كانوا ينظرون إلى بطل القصة وساردها "بخبث وحقد دفين"(32). وعندما تطورت الأحداث باتجاه خلق علاقة تقارب ومحبة بين البطل وامرأة الفرن الجميلة "كان غلمانها يزأرون، لكنها كانت تنهرهم بقوة"(33). وتأخذ صفة الجمال في نهاية القصة منحى دلالياً آخر، عندما يتحول من الداخل إلى الخارج، وذلك حينما تقف المرأة الجميلة في مواجهة قوى التخلف والشر، منتصرة لحقها الطبيعي في الحياة: حق البحث عن الحب والسعادة، كقيم إنسانية أصيلة. وبهذا يكون العنوان أحياناً، كما قال رولان بارت: "عبارة عن أنظمة دلالية سيميمولوجية تحمل في طياتها قيماً أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية..." (34).

            لما كان اختيار العنوان لا يخلو من قصدية معينة فقد جاءت القصة الأخيرة في مجموعة "المدفع الأصفر" تحمل عنوان "قصة مهاجر حقيقي". والقراءة السيميوطيقية لهذا العنوان، تحديداً من حيث تركيبته اللغوية والنحوية، هي قراءة في المضمون أصلاً، مما يؤكد احترافية دماج في اختيار عناوين بوصفها مدخلاً أو عتبة نستطيع الدخول منها إلى عالم النص واستكشاف مدلولاته.

            يتكون العنوان من جملة اسمية تفتقر إلى الخبر؛ أي أن العنوان ينبني على آلية الحذف الذي يؤدي إلى الغموض الدلالي، وهو غموض تزداد حدته مع وجود المبتدأ المضاف والمضاف إليه "قصة مهاجر" وإلحاق صفة "حقيقي" للمضاف إليه، مما يثير في الذهن مباشرة استدعاء النقيض (غير حقيقي)، ويخلق تساؤلات حول كون جملة العنوان تحقق الغاية من تحفيز القارئ إلى العبور من العنوان إلى النص لمعرفة قصدية المؤلف.

            لا يختلف اثنان على أن الهجرة هي الغياب والبعد؛ لكن ثيمة الهجرة في هذا النص محملة بدلالات مركبة؛ فهي لم تعد تعني غياب الفرد عن أهله ومجتمعه، باعتبار أن هذا "المهاجر" بطل القصة قد عاد من المهجر، فانتفت -إذن– هذه الصفة عنه؛ ولكنه نفي ظاهري، إذ يدخل معنى الهجرة في بعد دلالي آخر، ويكتسب البطل صفة "مهاجر" مرة أخرى حتى وهو في وطنه، وذلك عندما اتجه –محملاً بالهدايا– إلى مقيل الشيخ، وانفتح الحوار بينه وبين الشيخ على الكيفية التي وصل بها إلى اليمن، فأجاب: "جواً.. فوق السحاب.. وتارة أخرى تحتها.. على الطائرة"(35). لم يصدقه أحد. وأما الشيخ فقد اعتبر هذه الإجابة إهانة له أمام الناس وفي مقيله؛ فأمر بحبسه. مما يعني أن الشعور بالاغتراب بين هؤلاء الناس والبعد أو الفرق الشاسع على مستوى الوعي والإدراك قد شكل محوراً ثانياً لغربة هذا "المهاجر" وأبقاه مهاجراً بينهم، بوعيه وخبرته وانفتاحه على العالم الخارجي.

            وعندما أمر الشيخ -بعدما رأى الطائرة بأم عينه- بإحضار المهاجر من حبسه، اكتشف أن هذا المهاجر "قد هاجر من جديد إلى وراء البحار منذ مدة.. ولم يعد حتى الآن"(36). وهنا يتمحور البعد الثالث لثيمة العنوان، حيث قضى المهاجر في حبسه الطويل، وهو بهذا لن يعود أبداً؛ فقد ظلت الهجرة ملازمة له في الخارج كما هي في الداخل، وفي الموت كما هي في الحياة. ولعل هذا التكثيف الدلالي لمظاهر الهجرة هو ما جعل البطل يستحق صفة "مهاجر حقيقي" التي شكلت إحدى دوال العنوان، الأمر الذي جعل عنوان هذه القصة، وهو عنوان مواز، يعد "مرجعاً يتضمن بداخله العلاقة والرمز وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته"(37).

            وظاهرة القصدية واضحة جداً في عناوين دماج. لكنه بالرغم من هذه الظاهرة التي اتسمت بها العناوين "الفرعية" في مجموعة "المدفع الأصفر" إلا أنها لا تعدم أن تقع في دائرة الرمزية والإيحائية؛ فلم يعد العنوان تعبيراً نهائياً عن النص، وإنما غدت استراتيجية العنوان عند دماج كينونة محتجبة بانتظار الكشف عنها، باعتبارها تجربة ورؤية ولذلك كان العنوان بالنسبة لنص زيد دماج "يوجد في وضعية مفارقة، إذ عليه أن يخبر وأن يبقى محدود الإخبار في الوقت نفسه"(38).

 

الخاتمة:

            وبعد، فإنه من خلال هذه القراءة لبنية العنوان حاولت الباحثة تبيان التعالق بين العنوان الرئيس والعناوين الداخلية في هذه المجموعة (المدفع الأصفر) من خلال البنية اللغوية والنحوية والدلالية التي يشترك فيها كل من العنوان الرئيس والعناوين الداخلية؛ فهي بنية اعتمدت على الاسمية، حتى لتكاد هذه الإسمية أن تكون هي الخاصية الأساس في كل العناوين، وهي تدل على اسم علم أو اسم مجرد أو اسم حيوان. وتشكل الإضافة السمة الغالبة على بنية العنوان النحوية: "أزمة البنت بشرى"، "قطط الإمام"، "أرملة الفرن الجميلة"، "قصة مهاجر حقيقي" وهي أسماء معرفة بالإضافة.

بينما انفرد الاسم المعرف بـ ال بثلاثة عناوين: "المدفع الأصفر"، "النذر"، و"الهيلوكس". وأما المعنى الدلالي لهذه العناوين فقد استطاع أن يفضي بنا إلى معنى رمزي كلي يؤطر المجموعة برمتها؛ فكل النصوص تعالج موضوعات تتصل باليومي المعيشي في حياة الإنسان اليمني المعاصر، والذي غدا ذاتاً مأزومة بسبب تشتتها وارتطامها بالواقع المليء بالهموم والمفارقات، وكل أبطال القصص في هذه المجموعة لا يستطيعون الفكاك من سطوة الواقع ومن شرطهم الوجودي القاهر الذي يشعرهم بالغربة والذل والانسحاق والخوف والإحباط والعجز والقهر حد الموت.

 

الهوامش:

(1) عبد العزيز المقالح: مقدمة مجموعة "المدفع الأصفر" لزيد مطيع دماج، الهيئة العامة للكتاب؛ صنعاء، ط1، 2001، ص8.

(2) جميل حمداوي: السيميوطيقا والعنونة، مجلة "عالم الفكر"، الكويت، م25، ع3، 1997، ص96.

(3) جميل حمداوي: صورة العنوان في الرواية العربية، "التجديد العربي"، مجلة رقمية إلكترونية، 22/7/2007.

(4) جميل حمداوي: المرجع السابق.

(5) مفيد نجم: العنونة في تجربة زكريا تامر القصصية، مجلة "نزوى"، عمان، ع47، يوليو 2006، ص67.

(6) مفيد نجم: المرجع السابق، ص66.

(7) علي جعفر العلاق: شعرية الروايةـ علامات في النقد، جدة، مج 6، ج23، السنة 97، ص100.

(8) محمد فكري الجزاز: العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، 15.

(9) خالد حسين حسين: في نظرية العنوان، دار التكوين، دمشق، 2007، ص77 – 78.

(10) مفيد نجم، مرجع سابق، ص67.

(11) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(12) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(13) المرجع السابق، ص 68.

(14) المرجع السابق، ص67.

(15) المرجع السابق، ص67.

(16) خالد حسين، مرجع سابق، ص314.

(17) خالد حسين، المرجع نفسه، ص309.

(18) قصة "الهيلوكس"، ص 64.

(19) محمد حسن عبد الله: الريف في الرواية العربية، "عالم المعرفة"، الكويت، ع143، 1989، ص54.

(20) خالد حسين، مرجع سابق، ص107.

(21) خالد حسين، مرجع سابق، ص88.

(22) قصة "قطط الإمام"، ص76.

(23) المرجع نفسه، ص76.

(24) المرجع نفسه، ص77.

(25) جميل حمداوي: صورة العنوان في الرواية العربية، مرجع سابق.

(26) قصة "المدفع الأصفر"، ص52.

(27) جميل حمداوي: صورة العنوان في الرواية العربية، مرجع سابق.

(28) قصة "أزمة البنت بشرى"، ص 26.

(29) نفسه، ص23.

(30) نفسه، ص13 – 14.

(31) جميل حمداوي: السيميوطيقا والعنونة، مرجع سابق، ص100.

(32) قصة "أرملة الفرن الجميلة"، ص93.

(33) نفسه، ص98.

(34) جميل حمداوي: السيميوطيقا والعنونة، مرجع سابق، ص99.

(35) قصة "قصة مهاجر حقيقي"، ص 113.

(36) نفسه، ص116.

(37) محمد حسن عبد الله، مرجع سابق، ص54.

(38) خالد حسين حسين، مرجع سابق، ص223.

 


Back to Home Page