الدلالات الرمزية في القصة القصيرة زيد مطيع دماج أنموذجاً |
لا يتردد بعض النقاد المثيرين للجدل في طرح الأحكام العامة عن الفنون الأدبية، غير مستفيدين من دراسة واقع هذه الفنون؛ ومنها تلك الأحكام المتسرعة عن موت الشعر وأنه لم يعد ديوان العرب، أو أن الرواية فن تقادمَ عليه الزمن. وظهر من بين هؤلاء من يتحدث عن موت القصة القصيرة في الوطن العربي، وعن تراجع دورها وتغير وظيفتها الفكرية والاجتماعية. وهي أحكام متسرعة، وتعود إلى غياب المفاهيم الدقيقة للإبداع القصصي، وإلى سوء فهم لبعض مناهج النقد الأدبي الحديث، التي لم نحسن نقلها عن لغتها الأصلية، ولم نحسن التعامل معها؛ نتيجة اختلاف ظروف نشأتها، وتعبيرها عن واقع مختلف في بنيته الثقافية والاجتماعية. لقد التقط عدد من نقادنا بعض الإشارات التي وردت في أحد الاتجاهات البنيوية عن ضرورة موت المؤلف والاتجاه إلى النص، بعد أن استأثر المؤلف، ولعقود طويلة، باهتمام النقاد، والبحث في تفاصيل حياتهم. ومن هذه التجربة انطلق هذا العدد من النقاد للحديث عن موت كل شيء في حياتنا الأدبية، من المؤلف إلى الشعر إلى القصة القصيرة، وإلى موت القارئ؛ وغداً، وعلى أيدي هؤلاء، ستموت اللغة، ويموت الإبداع بكل أنواعه. لقد اتسع أفق النقد الأدبي حقاً بفضل المناهج الحديثة، واغتنت قواعده بعناصر ورؤى جديدة؛ لكن ذلك لم يضف شيئاً جديداً بالنسبة للنقد الأدبي في اللغة العربية، عدا استثناءات قليلة لا تكاد تُذكر. وإذا كانت القصة القصيرة قد تراجعت أو خَفتَ صوتها في قُطْرٍ عربي ما، فإن ذلك لا يعني أنها قد تراجعت في بقية الأقطار العربية. ولست مبالغاً إذا ما قلت إن القصة القصيرة تعيش في بلادنا حالة من الازدهار، وأن عدداً من الشبان والشابات يواصلون إبداع هذا الفن السردي الجميل بقدر من الإتقان والبراعة؛ وإن كانوا -لأسباب يطول شرحها- لم يجدوا من اهتمام النقاد ومتابعتهم ما يضمن لهم الانتشار خارج ساحتهم المحلية، شأن الشعر، الذي بدأ يحظى بقدر من الاهتمام بعد سنوات طويلة من التجاهل والإهمال غير المتعمد. القصة القصيرة -إذاً- موجودة، لم تمت ولن تموت، شأنها شأن الأنواع الأدبية التي عرفها الإنسان منذ أقدم العصور، وشأن الأنواع الأدبية المستحدثة والمعبرة عن التغير الدائم في إيقاع الزمن. وبالنسبة لنا نحن في هذه البلاد سيظل فن القصة القصيرة قائماً ومزدهراً، وسيظل المبدعون الشبان، وهم ينتجون أشكالهم القصصية بلغتها وتقنياتها المتطورة، يتذكرون رواد هذا الفن بكل محبة وإكبار، سواءً أكانوا من هذا البلد أم من بقية الأقطار العربية، وسيظلون يعترفون لهم بفضل الريادة، ولن ينسوا بوجه خاص الرائدين الكبيرين: محمد عبد الولي، وزيد مطيع دماج.
-2- قيل الكثير جداً عن أهمية الترميز في الإبداع. ومما قيل إن المبدع الحقيقي، المبدع الكبير، هو ذلك الذي يستطيع أن يغلّف رؤاه ويجعل القارئ المتمرس يشعر باللذة والإثارة وهو يختطف المخفي من النص الأدبي، ولن يستطيع المبدع ذلك إلاَّ من خلال استخدام الرموز، التي من شأنها أن تحرر لغته من سطوة المعنى الخارجي، وأن تمنحه بُعداً يبدو للبعض خفياً وللبعض الآخر جلياً. وهذا البعد يتمثل في الرمز الذي لم يصل الإبداع إليه إلاَّ بعد تأمل طويل ووقفة مع الأعمال الإبداعية العظيمة، بتجلياتها وما تحمله من أبعاد وتأويلات. وقد كان للأساطير التي دخلت عالم الرؤى المتناقضة دورٌ لا يُنكر في العثور على هذا المستوى من الكتابة الرامزة. ومن النافل القول بأن كل عمل أدبي مؤثر وليد طاقة خلاّقة تدرك بقدراتها الاستثنائية ضرورة أن يكون لكل نص أدبي بُعْدَان: خارجي ميسور التناول، وداخلي غائرٌ في أعماق النص لا يدركه سوى قلة من القراء، وهذا الشيء الغائر في النص هو الرمز الذي يتوسله المبدع وسيلة فنية عميقة تكشف عن طاقة المبدع واقتداره على تجاوز المعنى الظاهر للنص الإبداعي، شعراً كان أم قصة أم مسرحية. وهذا الترميز لا يأتي -كما قد يظن البعض- خوفاً من سلطة الرقابة المهيمنة على مسار الإبداع في كل مكان من العالم، وعالمنا الثالث بخاصة، وإنما يأتي استجابة لدواعٍ فنية ولما يبعثه من إيحاء ويثيره من متعة وتأمل. يحدد أدونيس الرمز في الشعر فيقول: "الرمز هو ما ينتج لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص، فالرمز هو قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء؛ إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، والقصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة؛ إنه البرق الذي يبيح للوعي أن يستشف عالماً لا حدود له. لذلك هو إضاءة للوجود المعتم، واندفاع صوت الجوهر"(1). وإذا كان ذلك هو الرمز في الشعر، كما حدده أدونيس، فإن الرمز في القصة، كما يمكن لنا أن نقول، هو القصة الأخرى التي تبدأ بعد أن تنتهي القصة، وتبدأ مرحلة التأمل والاستغراق في قراءة الدلالات. وإذا كان على المبدع أن يحفر عميقاً في داخله بحثاً عن نص أدبي يشغله ويؤرقه، فإن القارئ المتمرس مطالب بأن يحفر عميقاً في داخل هذا النص المنجز، النص القائم على مرتكزين اثنين: الظاهر والباطن، إذا جاز التعبير. والظاهر في حالة فن السرد هو ما يقدمه القاص من حكاية تدور حول الدلالة المباشرة لحادثة ما أو شخصيات ما. وعلى العكس من ذلك، الباطن، الذي يفتح النص لما هو أعمق وأغنى في الدلالة غير المباشرة، وهو بمكوناته الأسلوبية يستحضر المعنى البعيد، المعنى الموازي والمتخيل. وما من شك في أن الروائي القاص زيد مطيع دماج قد صنع لنفسه موقفاً خاصاً في مجال القصة اليمنية القصيرة، بخاصة، سواء في اختيار موضوعاته الساخنة، أم في لغته القريبة من القلب، أم في تعامله الواعي والذكي مع الرموز. إن نظرة متأنية إلى مجموعاته القصصية الخمس: "طاهش الحوبان"، "العقرب"، "الجسر"، "أحزان البنت مياسة"، و"المدفع الأصفر"، تشي بانعكاس الدلالات الرمزية في معظم قصص هذه المجموعات، إن لم يكن فيها كلها، وبدرجات متفاوتة، ابتداءً من الإيماء إلى الرمز البسيط إلى المعادل الموضوعي، وفق رؤية فنية يستطيع المتلقي القبض عليها بسهولة، وبعيداً عن الإبهام والتعتيم. ويستطيع الدارس أن يلاحظ أن فكرة الترميز ابتدأت عند زيد مطيع دماج منذ بواكيره القصصية الأولى، وحرصه على إنتاج نص سردي يحتمل العديد من القراءات ويفتح أبوابه لاستقبال كل القراء على اختلاف إمكاناتهم الثقافية، لاسيما أولئك الذين يجدّون ويجاهدون في البحث عن تلك الأبعاد الرمزية بكل ما تثيره من محفزات فنية وفكرية.
-3- "طاهش الحوبان" هو عنوان المجموعة الأولى لزيد، صدرت الطبعة الأولى منها عن "دار الهنا" في القاهرة عام 1973م، وقد لفتت إليه أنظار النقاد خارج بلادنا، بما امتلكته من خصوصية وانخراط في رسم المشهد الاحتفائي بحياة فاقدة المثال، تجمع بين البدائية وظواهر التجديد، ومن محلية الأسماء والأحداث، ومن جرأة في نقد الواقع ومحاولة الارتقاء به. ولم يكن "الطاهش" (وهو حيوان مفترس يشير القاص إلى أنه نتاج ذئب ذكر وأنثى ضبع أو العكس) إلاَّ الرمز الصارخ للحاكم المفترس الذي كان يتخلص من خصومه السياسيين في "وادي الحوبان" القريب من المدينة التي يقطنها ذلك الحاكم، حتى صار الناس يخافون ذلك الوادي ولا يسيرون فيه إلاَّ جماعات، ويستحيل أن يسيروا فيه ليلاً. "وكان لطاهش الحوبان طريقة عجيبة اشتهر بها للقضاء على فريسته؛ فهو يسير محاذياً لها مسافة كافية لتحطيم معنوياتها. وعندما تفقد الضحية معنوياتها تتصلب هلعاً، وحينئذٍ يهاجمها، ولا ينشب مخالبه فيها، وإنما ينطحها حتى يلقيها أرضاً، ثم ينطلق حتى يصبح بعيداً عنها مسافة كبيرة، مزهواً فخوراً، ثم يعود إليها ليخلصها من ثيابها بعملية وحشية.. ويسحبها إلى عرينه.. وكثيراً ما كان الناس لا يجدون من الضحية إلاَّ ثيابها"(2). أيُّ وحشٍ هذا الذي يمتلك كل هذه القدرات النفسية لتحطيم معنويات خصمه، ثم يقوم بعد ذلك بتجريده من ثيابه وسحبه إلى مكان مجهول؟! هنا يأتي دور الإيحاء بالرمز نحو الوحش الحقيقي الذي يعرف كيف يهزم خصومه نفسياً ومعنوياً قبل أن يتخلص منهم ويصبح في مأمن من منافستهم أو معارضتهم. وفي مجموعة "طاهش الحوبان" قصة أخرى هي "الذماري"، وكان الأحرى أن تكون بعنوان "وردة" بطلة القصة ومحور بُعدها الرمزي، وهي امرأة جميلة تدير "سمسرة" باسمها، والسمسرة كما هي في الواقع اليمني (وكما يشير القاص) فندق شعبي يأوي إليه المسافرون القادمون إلى المدينة التي لم تكن تعرف الفنادق. وسبق لي أن كتبت عن هذه القصة، وأشرت إلى "وردة" بوصفها رمزاً محتملاً للثورة الشعبية التي انتظرها الجميع بعد سقوط الثورة الدستورية التي جاءت تعبيراً عن أحلام النخبة ورغبتهم في التغيير دون أن يكونوا على صلة وثيقة بالشعب، الذي سرعان ما فتك بها وبقياداتها تحت موجة عاصفة من التضليل والأكاذيب الخادعة. كانت "وردة" (والاسم يحتمل الرمز في حد ذاته) تتودد للجميع وتسعى إلى كسب رضاهم، إلى درجة جعلت كل من ينـزل في السمسرة يعتقد أنها تحبه وتريده، وذلك ما جعل "الذماري" يتوهم أنها مومس، فبادرها بإشارة أثارت غضبها وانفعالها، لكنه أدرك خطأه وحاول إصلاح ما أفسدته إشارته الغبية: "نهض مبكراً وقد عزم على إرضائها.. بادرها بالتحية، فردت عليه بأسلوب عادي.. كانت تحاول تجنب النظر إليه، لكنه وقف بإصرار تائب، ولما لم تعره انتباهاً تململ، فالتفتتْ إليه بنظرة حادة قابلها بفرحة انبسطت لها أساريره، فأرجعت كلاماً جافاً كانت ستلقيه عليه، ثم سألته: - هل نمت جيداً..؟ ووثب نحوها ثم انحنى وقد رفع عطفات بنطلونه وقال: - لم أنم جيداً...! - أظن أن هناك ما تشكو منه! - نعم...! - قمل.. براغيث هائجة! هذه حال بلادنا. - لا شيء من ذلك.. ونظر إليها بندامة، ثم استطرد قائلاً: - لقد تألمت كثيراً لذلك الموقف السخيف الذي وقفته أمس.. لم أقصد جرح شعورك.. وإنما قصدت بقولي أن يؤخذ مأخذ المزاح... وتمهل حتى يتيح لها فرصة عسى أن ترد عليه، لكنها أطرقت قليلاً وانشغلت مع نزلاء آخرين، وقد لاحظ تورد وجنتيها، فقال: - سيدتي! أرجو المعذرة وصفحك عني حتى أستطيع أن أطلب الله، أبحث عن عمل...! نظرت إليه بحزم مصبوغ بتودد خفي قائلة: - كنت أظن أنكم معشر المغتربين قد تعلمتم الحياة وآداب الناس النصارى، لكن اليمني متوحش ومغرور حتى ولو دخل الجنة. - أرجو المعذرة! فلم يكن قصدي ما تعتقدينه. ولم تجبه، فاستمر قائلاً: - أرجوك أن تبتسمي على الأقل! وبعد إلحاح ابتسمت عن ثغر ارتسم أمام عينيه طوال تجواله في أزقة المدينة..."(3). حتى الآن يعتبر الرمز في حالة من التشوش، ولم يكن في هذه البدايات قد وصل درجته العالية من النضج كما تجلى في بقية المجموعات، وفي رواية "الرهينة" على وجه الخصوص.
-4- "العقرب" هي المجموعة القصصية الثانية لزيد مطيع دماج، وقد صدرت طبعتها الأولى عن "دار العودة" - بيروت في عام 1982، وتضم ثماني قصص لا تخلو أية واحدة منها من البعد الرمزي. ولعل قصة "العقرب"، التي أخذت المجموعة اسمها، من أنجح القصص في استخدام الدلالة الرمزية. وتبدأ القصة بمجموعة تأملات قلقة لبطلها تجاه ما يمكن أن يحدث لأطفاله الذين تركهم في المنـزل الذي تركه وذهب ليقضي ساعات المقيل مع أصدقائه. كان متشائماً من الحاضر ومن المستقبل القريب. وتشاؤمه هذا قاده إلى اجترار مجموعة من التصورات المثيرة للخوف مما قد يلحق بالمنـزل والأطفال؛ اللصوص، سيول الأمطار، غاز المطبخ... وبعد عودته إلى البيت وجد كل شيء على ما يرام: الصغار من الأولاد كانوا قد ناموا، والزوجة مشغولة بإسكات الكبار. لكن القلق الكامن في النفس عاد إلى الظهور بعد أن رأى شيئاً يتحرك ببطء بالقرب من الدولاب... إنه العقرب، هذه الحشرة التي سبق لها أن أودت باثنين من أطفاله. لم يتمالك نفسه، وهجم عليها قبل أن تحاول أن تختفي، وأمسكها برؤوس أصابعه غير عابئ بلدغتها السامة، وظل يفركها بأصابعه إلى أن قضى عليها؛ ولكن بعد أن سرى السم من أصابعه إلى بقية جسده ومات شهيد دفاعه عن أطفاله وطمأنينة منـزله. كتب زيد هذه القصة في مناخ أحاديث لم تكن تنقطع عن مجموعة من الحشرات الآدمية التي تسعى إلى مراقبة الناس ورصد مشاعرهم، وكثيراً، بل دائماً ما تدخل حياة هؤلاء الناس دون استئذان وتقتحم عليهم مجالسهم، ثم لا تكف عن "اللدغ"، الذي يؤدي في حالات كثيرة إلى الوفاة. والعقارب، كما توحي القصة، أنواع؛ فيها صغير الحجم والكبير، وكلها تجيد اللدغ السريع، وهي مزودة بطاقة هائلة من السم الزعاف. وهذه العقارب بطبيعتها لا تعرف صديقاً ولا قريباً وليس لها زميل أو رفيق. لم يشأ زيد في هذه القصة، كعادته في قصصه الرامزة، أن يكشف أبعاد الدلالة الرمزية، وترك للقارئ الذكي أن يكتشف هذه الأبعاد، وأن يخمّن الدلالة المقصودة. وكان زيد بارعاً حقاً في اختيار رموزه. وهذه البراعة لا توحي بوجود تخطيط مسبق، وإنما تأتي الفكرة عفوية، وعند معالجتها يتم استحضار الرمز بأبعاده الفنية الراقية. "ولمست رؤوس أصابعه جسم ذلك الرابض... فانقضت عليه وبحرارة المشتاق الناقم. فركته (طحنته) بشدة.. وعلا صوته قوياً برنة انتصار تحمل نبرات الأنين والألم الشديد الذي يعانيه.. لقد لدغته.. لم يأبه لذلك، بل استمر في ضغطه وبعنف.. كان خائفاً أن تضيع وتهرب منه... تجمّع الأبناء مع أمهم في لهفة... سحبوه على وجهه وبطنه، وما زالت يده بعروقها الخضراء الداكنة الملتحفة بيده المتصلبة المنصوبة إلى الأمام.. القابضة على ذلك الرعب مفروكاً بين أصابعه..."(4). هكذا يختار زيد نهاية فاجعة لقصته، إمعاناً منه في إدانة ذلك النوع من السلوك "المخابراتي" الشائع، الذي أزهق أرواحاً وأصاب أخرى بالبلادة والعطب. -5- مجموعة "الجسر" هي الثالثة في ترتيب الظهور، وقد صدرت في عام 1986، وتضم كسابقتها ثماني قصص تتفاوت طولاً وقصراً، لكنها تتساوى في امتلاك القدرة على جذب القارئ؛ إذ ما تكاد تبدأ في قراءة السطر الأول من واحدة منها حتى تشدك إلى السطر الأخير، منبهراً مما تحمله من الرؤى وما تكشفه لك من هموم المجتمع وانشغالاته اليومية. و"المجنون" واحدة من أهم قصص هذه المجموعة، بحبكتها المتقنة ورمزها الذي لا تستعصي دلالته على القارئ، أياً كان مستواه الثقافي. والملاحظ أن كتابتها تمت في زمن المد الاشتراكي وما كان يبشر به من أحلام بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة. وبالرغم من أن بطل القصة "مجنون" إلاَّ أنه بفطرته يؤمن بأهمية أن يتساوى الناس في مصادر رزقهم، وأن تكون الأرض وما تنتجه قسمة عادلة بين جميع أهلها. ومجنون زيد متدين يقضي جُلَّ وقته في جامع القرية، يؤدي الصلوات بطريقته، ويتألم للفوارق التي وزعت الناس إلى طبقات من الناحية المعنوية، وإلى أغنياء وفقراء من الناحية المادية. لذلك فقد بيّتَ المجنون أمراً وأصر على تنفيذه مهما كانت النتيجة، ليتمكن من إقامة العدالة بالأفعال لا بالأقوال والنظريات. وقبل أن يبدأ خطوته الجريئة كان عليه أن يمسح واقع "المجران" أو البيدر، حيث يتجمع محصول أراضي القرية بعد الحصاد في أكوام مختلفة الأحجام، لكل فلاح بحسب سعة أرضه ونفوذه. "في القرية يوجد الشيخ.. وكومته معروفة في المجران بكبر حجمها واحتلالها لمساحة واسعة.. كذلك يوجد "عدل" القرية، وكومته تقترب في حجمها من كومة الشيخ.. يوجد أيضاً في القرية "العاقل" وبعض الأعيان من كبار المالكين، وتأتي محاصيلهم بعد الشيخ والعدل. وفي القرية فقيه القرية، الذي يقوم بتدريس الأطفال، وله مردود لا بأس به من المحصول قد كوّره في كومة منحازة على جانب المجران". هؤلاء يحتلون بمحاصيلهم المساحة الثانية من المجران.. أما بقية المساحة فهي مخصصة لصغار المزارعين، ملاكاً أو أجراء أو شركاء.. حيث تشكل كومات محاصيلهم أحجاماً صغيرة متقاربة نسبياً. تم تأتي في زوايا "المجران" بعض الأكوام الأصغر حجماً ربما لا تلفت النظر.. وهي لفئات "المزاينة" و"الدواشين" و"الأخدام"، وهذه الفئات تحصل على تلك الغلال من عملها الذي تؤديه لسكان القرية طوال العام(5). كرر المجنون النظر إلى المشهد الغريب في "المجران" حيث تكومت المحاصيل، وهاله ما رأى من فوارق، وأرهقه غياب الإنصاف؛ فأراد أن يعيد إلى الحياة ما افتقدته من عدالة، وإلى الناس ما يطمحون إليه من إنصاف. وفي ليلة صافية النجوم، وبعد أن نام الناس وهدأت أصوات الكلاب، أقدم المجنون على تنفيذ تجربته: "هذه كومة كبيرة.. وتلك صغيرة.. وأخرى أصغر... فأصغر.. وانهال بكل طاقته وقوته على الأكوام المتفرقة يساويها بيديه لكي يدمجها مع بعضها البعض وتصبح كومة واحدة. العرق يتصبب منه وهو منهمك في عمله.. عروق يديه انتفخت.. أنفاسه تلهث.. عيناه تبحلقان.. والابتسامة المحببة ما زالت على شفتيه.. وتوقف بعد وقت من الجهد المبذول لينظر إلى الجرن الذي أصبح كومة واحدة..."(6). هل بقي مجال ليقول فيه الدارس شيئاً عن دلالة الرمز في هذه القصة البديعة؟ لا أظن ذلك. فالثوار والحالمون في منطق الجمود السياسي والاجتماعي ليسوا أكثر من مجانين يدمِّرون الواقع ويغيِّرون قوانين الحياة.
-6- "أحزان البنت مياسة" هي المجموعة الرابعة ("دار الآداب" – بيروت، 1986)، وتضم تسعاً من القصص التي كتبها زيد في أوائل معاناته للمرض العضال، ولكنه كان مع ذلك صافي النفس، غزير الإنتاج، يشارك بجرأة وثبات في كل الفعاليات الأدبية والسياسية. وكان كثير الأسفار، ومنها يلتقط بعضاً من نماذجه القصصية المثيرة، كما هو الحال مع بطل قصة "رجل على الرصيف" التي استوحاها من آخر رحلة له إلى موسكو قبل سقوط الاتحاد السوفييتي بسنوات قليلة. البطل مجهول، ويشاركه في بطولته للقصة كتاب كان الرجل يتعامل معه بقسوة لافتة للنظر، يلقيه إلى الأرض مرات ثم يعود إليه، وهو ما يوحي للقارئ بأن تعامل هذا الرجل المجهول مع الكتاب يرمز للملل، ليس من الكتاب وما ورد فيه، وإنما من الحياة الرتيبة المملة التي حُكم على ذلك الإنسان أو أي إنسان آخر أن يحياها غير مختار، فهو يحاول أن يهجرها لكنه يعود إليها، إذ من الصعب عليه أن يضع لها حداً، فذلك يعني الانتحار. وهو ما يزال يقاوم ويحلم وينتظر أن يجد بين سطور الكتاب، (كتاب الحياة طبعاً) شيئاً ممتعاً يعيد إليه الأمل ويبعث في نفسه القدرة على المقاومة. لن يهتم القارئ، كما لن يهتم الناقد أن يكون زيد قد رأى شخصاً يفعل ذلك مع الكتاب، أو لم يره؛ المهم أن حكاية ذلك الشخص -حقيقياً كان أم متخيلاً- قد خلقت حالة نادرة من القلق والإحساس بملل الحياة وعبثيتها، لاسيما مع الكتب التي لا تحمل جديداً أو تكشف عن جديد. حين نقرأ هذه القصة في منأى عن بعدها الرمزي لا تكاد تشكل شيئاً بالنسبة لنا، وهي خالية من الحكاية التي تروي حدثاً يجعل القارئ يتابعها إلى أن يصل إلى النتيجة. قيمة هذه القصة، بل وأهميتها، في بُعْدها الرمزي، في هذه الظلال من المشاعر التي يصنعها الرمز بقوة وبقدر من الصفاء الخالي من الغموض والخالي من المباشرة أيضاً؛ أي حكاية تغري القارئ بمتابعتها عن رجل يعبر الرصيف وهو يقرأ كتابه، يرفعه تارة إلى أعلى ويرميه على الأرض ثم يسترجعه، يرفعه مرة ثانية وثالثة ثم يعود إليه، وأحياناً يتركه ويجري بعيداً عنه كأنه يخافه أو لا يريد أن يلمسه، يركله أحياناً ويتركه، ثم يعود أدراجه ليحمله ويبدأ في قراءته... وهكذا تتواصل اللعبة المثيرة نفسها؛ أعود فأقول: أي حكاية تغري القارئ إذا لم يكن الرمز، في أرفع مستوياته تقنية وأرقى حالاته الفنية، هو الذي يغري بالمتابعة ويدفع إلى المزيد من التأمل والتساؤلات!؟ "رفع الرجل الكتاب بيده عالياً وهوى به إلى أرض الرصيف بعنف واضح... ثم ركله بقدمه اليمنى.. ومضى ماشياً مترنحاً بوضوح الآن.. ولم يرسل بصره نحو الكتاب ولا أين استقرت به تلك الركلة الفنية. كان الرجل كمن سجل هدفاً في شباك الخصم... لم يفرح الرجل بنتيجة قراره السابق.. بل عاد من جديد وأخذ الكتاب ومسح غلافه بحنان، ثم جلس على الرصيف مسنداً ظهره إلى عمود النور يتصفحه من جديد"(7).
-7- "المدفع الأصفر" هو عنوان المجموعة الخامسة والأخيرة في النتاج القصصي للراحل المبدع، وتضم سبعاً من القصص القصيرة كتبها زيد في أثناء معاناته المرضية القاسية وفي سباقه المرير مع الموت. لم تشهد المجموعة النور إلاَّ بعد رحيله، وقد صدرت الطبعة الأولى منها في عام 2001م عن الهيئة العامة للكتاب في صنعاء. ورغم سطوة المرض وقسوة المعاناة فقد احتفظ زيد فيها بأسلوبه المتميز، وبقدرٍ من المرح الذي لم يفارقه حتى وهو يصارع سكرات الموت. في القصة الأولى من المجموعة، والتي بعنوان "أزمة البنت بشرى"، تأخذ القصة بعديها، الواقعي والرمزي، ويدور الحديث المباشر فيها عن صديق مشاكس يحرص على حضور المقيل اليومي ليكون طرفاً مخالفاً في كل ما يتم طرحه من أمور سياسية وثقافية. يضيق زملاء المقيل بهذا المشاكس ويحاولون الخلاص من وجوده في مقيلهم، فيغيرون أماكن المقيل ويحاولون تضليله بوسائل شتى، إلى أن نجحوا في هدفهم، وبعد أيام قليلة من انقطاع المشاكس عن حضور المقيل بدؤوا يدركون أهميته ودوره الإيجابي فيما يضيفه إلى لقاءاتهم اليومية من حيوية ونقاش. تمر الأيام باهتة، وتبدو أحاديث المقيل باردة؛ يذهب أحدهم للبحث عن ذلك المشاكس وإعادته إلى منتداهم اليومي الصغير... وبذلك يؤكد زيد، وبأسلوبه الرامز البديع، أهمية الاختلاف ومشروعية المعارضة. "مرت الأيام، أصبحنا في مقيلنا نفتقد الرأي الآخر... وأصبح كلامنا معاداً ومكروراً.. فقدناه فعلاً.. فقدنا عناده.. صياحه.. فقدنا إثارته لنا.. كان يخلق في مقيلنا الجدل ويثير انفعالاتنا.. قد يكون مخطئاً وهذا لا شك فيه.. لكنه صادق السريرة وهذا لا شك فيه أيضاً. قد نضيق به إذا حضر، لكننا نفتقده إذا لم يحضر"(8). * * * لقد لقيت أعمال زيد القصصية، كما لقيت روايته الوحيدة المنشورة، نجاحاً فاق كل التوقعات. كان ذلك خارج بلاده، ومن نقاد ومترجمين وجدوا فيها ما يثير الدهشة والانبهار، على حد عنوان واحد من أهم كتبه التي يسجل فيها ذكرياته عن المدة والأمكنة التي شهدت صباه ونشأته، كتعز والقاهرة. ويمكن القول إن القراءة العميقة، القراءة الاستنباطية، هي التي تكشف المعنى الخفي بأبعاده الغائرة في النص ودلالاته الرمزية؛ فالإبداع الحقيقي في كل زمان ومكان هو التعبير الصادق عن الوجدان الجمعي لا الوجدان الفردي. والرمز هو الذي يضمن له تلك الإمكانية المتجددة، وهو ما يجعل القصة، كما القصيدة، صالحة لكل زمان ومكان. التعبير المباشر، مهما كان نصيبه من جمالية اللغة وطراوة الأسلوب، يظل محكوماً بوقته وراهنيته ثم يتلاشى. وعلى العكس من ذلك التعبير غير المباشر، التعبير الرامز، الذي يأخذ مداه الطويل في الزمن والتاريخ. وما من شك في أن زيد مطيع دماج قد حقق قفزة نوعية في استخدام الرمز، من خلال نجاحه في تحويل معظم أبطال قصصه إلى رموز تحتفظ بوجودها المستقبلي عبر تغير الأزمنة. ومن بين النقاد الذين استرعى انتباههم الأسلوب الرمزي لدى زيد، د. حاتم الصكر الذي قدَّم قراءة رمزية لرواية "الرهينة" دافع فيها عن دلالاتها، وقرأ فيها صراع الأجيال: "الدويدار" القديم والشاب، وهربه من السلطة والأسر في القلعة إلى طريق لا يعرفها...(9). وكذلك قراءة الأستاذ والناقد الدكتور عبد الرضا علي، الذي يقول: "يمتاز أسلوب زيد مطيع دماج بالقدرة على النفاذ إلى داخل نفس المتلقي، لكونه يمتلك لغة جميلة وحبكة مؤثرة يستقبلها القارئ بترحاب وإعجاب ومحبة، فهو يكتب بلغة صافية بعيدة عن كل نوع أو ضبابية أو ارتباك، فضلاً عن كونه قاصاً واقعياً في أكثر نصوصه، لكنك لا تعدم أن تجد رموزاً معينة في بعض القصص. وفي كلتا الحالتين فإنه يتيح للمتلقي متعة الانسجام مع أحداث قصصه وحركة الشخصيات وعوالمها الظاهرة والخفية"(10).
هوامش: (1) زمن الشعر، ص160. (2) "طاهش الحوبان"، ص39. (3) نفسه، ص104. (4) "العقرب"، ص18. (5) "الجسر"، ص57. (6) نفسه، ص58 (7) "أحزان البنت مياسة"، ص63. (8) "المدفع الأصفر"، ص27. (9) موقع زيد دماج الإلكتروني – دراسات. (10) د. عبد الرضا علي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
|