في وداع الروائيين المتشابِهَينْ زيد مطيع دماج وعبد العزيز مشري |
إذا كان الفن الروائي – وهو ذو جذور واضحة في تاريخنا الأدبي القديم – قد تأخر عن الظهور في ثوبه المعاصر إلى بداية القرن العشرين ، وأقتصر وجوده في البداية على عدد من الأقطار التي كانت – إلى وقت قريب – تشكل ما يسمى بالمركز في الثقافة العربية الحديثة ( مصر - الشام - العراق ) أقول إذا كان الأمر كذلك فان ظهور هذا الفن في بقية الأطراف ومنها الجزيرة والخليج بوجه خاص قد تأخر – إذ استثنينا بعض المحاولات الرائدة في اليمن والسعودية والبحرين – إلى سبعينيات وثمانينات القرن العشرين عندما بدأ الكتاب الشبان يقتربون من كتابة القصة القصيرة التي قادتهم فيما بعد إلى كتابة الرواية في شكلها الحديث ودفعتهم إلى التعامل مع النص السردي المعاصر بحذر بالرغم من أنه أكثر النصوص تحرراً من القواعد واقدرها على استيعاب المحكيات وعلى ان يعكس - بعيداً عن الخطاب التنظيري والتقريري – وقائع الحياة في الجزيرة والخليج وتصوير معاناة الإنسان في هذه المنطقة وطموحاته بوصفه الفن الأقدر على التقاط اللحظات الراهنة والسابقة من كل الأجناس الأدبية الأخرى بما فيها الشعر الذي استأثر باهتمام المبدعين في الجزيرة والخليج . أطرح هذه الملاحظات بعد أن فقدت الجزيرة العربية رائدين بارزين من رواد الكتابة السردية وهما زيد مطيع دماج صاحب رواية "الرهينة" ، وعبد العزيز مشري صاحب رواية "الوسمية" واللذان تشابها في الخطوط العريضة والدقيقة لحياتهما فقد عانيا من مرض عضال استطاعا مقاومته أطول فترة ممكنة بفضل حرصهما على الإبداع ورغبتهما في تحدي الآلام المبرحة ، فضلاً عن كونهما من نبت الجزيرة العربية التي احتفت بها السماء قبل الأرض واحتضنها الروح قبل الجسد وفي انتمائهما إلى عائلتين معروفتين مجاهدتين كما تشابها في البدايات وفي النهاية والهواية وفي التركيز على المحلية ورصد الخصوصية الوطنية التي تشكل ملمحاً متميزاً من ملامح التنوع في نسيج هذه الأمة الواحدة . لقد بدأ زيد مطيع دماج حياته الإبداعية في كتابة القصة القصيرة وفي ممارسة رسم الكاريكاتور وبدأ عبد العزيز مشري حياته الإبداعية أيضاً في كتابة القصة القصيرة وفي ممارسة الفن التشكيلي ، وكل هذه التشابهات تتضاءل تجاه التشابه الأهم والذي يتجلى في كتابة أعمال أدبية نابعة من الواقع الاجتماعي ومغمورة بدفء شمس الجزيرة ومبتلة بأمطارها ومضمخة بعبيرها ونكهة قراها ومدنها . وكان آخر هذه التشابهات بين الأثنين أنهما رحلا عن الحياة في وقت واحد ولم تأخذ مساحة الفراق بينهما سوى ثلاثة أسابيع فقد رحل زيد في 19 إبريل ورحل عبد العزيز مشري في 10 مايو 2000م . وإذا كان الراحلان قد اشتهرا في الوطن العربي وخارجه بروايتين أثنتين هما " الرهينة " لزيد التي ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية و " الوسمية " لعبد العزيز مشري التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية ، فان أعمالهما الإبداعية الأخرى لا تقل أهمية عن الروايتين . وقبل ثلاثة أعوام أهداني عبد العزيز مشري مجموعة أعماله الصادرة وهي ثلاث مجموعات قصصية " زهور تبحث عن آنيه " و " أحوال الديار " و " بوح السنابل " ثم ثلاث روايات هي " الوسيمة " و "في عشق حتى " و " ريح الكادي " وقد قرأتها جميعاً بشغف واعترف أن الرواية الأخيرة قد شدتني بأحداثها وشخوصها القروية وبلغتها العذبة وبهذه الافتتاحية البديعة (( باليد الواحدة من الصحن كانو يأكلون ، وباليد الواحدة في شأن الحياة يعملون ، يسرحون في الصباحات وإلى الدور في العشية يروحون . الأرض العطاء ، تساوي بين ذات المرأة وذات الرجل ولكل على قدر التعب نصيب )) أما رواية الوسمية وهي الأشهر فقد أثبتت لي مع بقية أعماله أنني تجاه مشروع بالغ الاتساع ، وحين شرعت أخيراً بإجراء مقارنة بينها وبين " الرهينة " وجدت أن الروايتين تمتحان من بئر واحدة أو تغرفان من نهر واحد فضلاً عن الايحاءات التي تتركانها في نفس القارئ وكأنهما سيرتان ذاتيتان وأثر الخيال فيهما محدود وفي الوسمية بخاصة حيث أنتزع الكاتب أحداثها الطرية والممتعة من ذاكره حية مشحونة بالتفصيلات المرتبطة بالزمان والمكان وبالشخصيات الرئيسية والثانوية من سكان القرية التي نشأ بها . لكن الرواية تبقى عملاً فنياً بديعاً ومتميزاً تغيب معه سيرة الكاتب ليحضر الآخرون بكل همومهم وأحلامهم وليختصر الأرض بكل ما احتوته مناظرها الطبيعية والناس والأشياء ، ولعل أكثر ما أثار أعجابي بالوسيمة هو هذا الحضور المكثف للمكان بتضاريسه الاجتماعية ، وروح السيرة نفسه يكاد ينطبق على رواية "الرهينة" التي تسرد الأحداث باسم الراوي وكأنه يحكي سيرته الذاتية مختلطة بفصول من سير الآخرين الذين عايشهم في القرية ثم في المدينة رهينة في السجن أو " دويدار " في قصر النائب حيث كان يعد ليحل محل الرهينة السابق الذي سيتم الاستغناء عنه لوصوله السن التي لا يصح معها أن يبقى في القصر وان يخالط نساءه . علماً بأن زيداً لم يكن رهينة ولم يدخل السجن ولا عاش في أي قصر وإنما استطاع ان يلتقط أحداث الرواية من شفاه زملائه وأقاربه الذين قضوا سنوات في أداء ضريبة الرهانة ، وثم انتزع بعضهم من أحضان أمهاتهم في سن مبكرة ليضمن النظام ولاء آبائهم وعدم الخروج عليه . والنماذج كثيرة لهذا النوع من الأعمال الروائية التي تستمد عناصرها من السيرة الذاتية أو التي كثيراً ما تأخذ هذا المنحى لتكون الأقرب إلى مشاعر القارئ سواء أكانت واقعية أم خياليه . وما تزال ثلاثية نجيب محفوظ التي يرى فيها النقاد سجلاً روائياً حافلاً بتاريخ القاهرة منذ ثورة 1905 إلى ما بعد الحرب العاليمة الثانية ورصداً سردياً دقيقاً يعتمد الوقائع ولا يترك للخيال سـوى مساحة ضيقة لا تكاد تبين ، وما تزال من أحب الروايات إلى قلوب القراء . وما دام الحديث عن التشابه بين الكاتبين دماج والمشري وبين روايتيهما الرهينة والوسيمة ، فان ناس قرية الوسمية يشبهون الناس في قريتنا وفي بقية القرى العربية في النصف الأول من القرن العشرين قبل ان تعكر صفوها السيارات والإذاعات وتتبدل الأحوال وتفتح المدن – تلك التي لم تكن يومئذ سوى قرى كبيرة - أبوابها لاستقبال الجيوش النازحة عن القرى والباحثة في المدينة عن الحياة المريحة وعن لقمة العيش السهلة ، وكأن الحياة لا تساوي في عرف هؤلاء النازحين إلاَّ الطعام والثياب النظيفة ، ولا مكان في قلب النازح لقريته وما اختزنته ذاكرته من زمن الطفولة الجميل . ان غياب الروائيين الكبيرين زيد مطيع دماج وعبد العزيز مشري في أقل من ثلاثة أسابيع ، وبعد أن استكملا نضجهما وشرعا في امتلاك ناصية الفن الروائي وكتابة الرواية ذات الأبعاد المحلية والقومية والإنسانية يشكل خسارة فادحة للأدب العربي في ظروفه الراهنة . لاسيما في هذا الجزء الذي عانى من العزلة والغياب عن الساحة الأدبية ومهما كان العزاء المتمثل في أعمالهما الباقية فان مكانهما سيظل شاغراً ودورهما سيبقى مفقوداً . |