مقدمة مجموعة المدفع الأصفر

د.عبد العزيز المقالح

من المحزن ، بل من المثير لأقصى درجات الحسرة أن تظهر هذه المجموعة القصصية في غياب صاحبها ، وأن تكون أخر ما كتبه المبدع الراحل زيد مطيع دماج في مجال القصة القصيرة بعد مجموعاته الأربع السابقة وهي " طاهش الحوبان " و" العقرب " و" الجسر " ثم " أحزان البنت مياسه " وبعد أن أثرى المكتبة العربية بإبداعاته الأدبية والفكرية قبل أن يحاصره المرض ويقطع عليه الموت جسر التواصل مع الحياة والإبداع .

وظهور هذا الكتاب اليتيم ( بالمعنى الحرفي للكلمة ) بعد رحيل صاحبه يستدعي إلى ذاكرتي تلك الحفاوة الحميمة التي كان زيد يستقبل بها أعماله الإبداعية مطبوعة ومنشورة ، ومدى سعادته وهو يتصفح النسخة الأولى ، لذلك فإنني أشعر بقدر كبير من الألم لان هذه المجموعة ستظهر في غيابه ولن يمسح على غلافها بيديه الحانيتين ولن يتذكر لحظات كتابتها ، علما بأنه كتبها في ظروف مرضية قاسية كان خلالها يتنازع القلم مع الموت ، فما يكاد يمسك بالقلم ويخط به على الورق بعض السطور حتى تمتد يد الموت محاولة انتزاعه من بين أصابعه لساعات أو لأيام لتحرمه من اللذة الوحيدة التي كانت قد بقيت له قبل أن تنـتزعه منه نهائيا وللمرة الأخيرة .

ولأنني اعرف أن كل تقديم يجافي التوصيف والتحليل ، لهذا لن أتوقف للحديث عن قصص المجموعة وأرجئه إلى دراسة موسعة فيما بعد ، واكتفي   هنا ببعض الإشارات التي قد تضيء جوانب من إبداع هذا الفنان الذي رحل قبل الأوان حاملا معه خرائط وخططاً لعشرات المشاريع في عالم الرواية والقصة القصيرة . وأولى هذه الإشارات أن زيداً كان يردد علينا نحن أصدقاءه الاقربين أنه اختزن في ذاكرته جملة قصيرة للروائي والقاص  العالمي الكبير ليون تولستوي تقول ( أن الفن العظيم هو الذي يعلم الناس أن يبصروا وأن يفهموا وأن يشعروا ) وقد كانت هذه الجملة أو العبارة البديعة دليله إلى كتابة كل أعماله كما كانت مرجعه حين تضطرب في ذهنه أحاديث النقاد ومفاهيم المذاهب المختلفة في رصد الإبداع السردي والشعري .

وثاني هذه الإشارات تؤكد على أن زيداً قد عاش خمسة وعشرين عاماً من حياته قبل أن يداهمه المرض في ألفة حميمة مع الكتابة وكان تفكيره على مدى هذه الأعوام منصرفاً إلى الكتابة ، وعلى الرغم من أنه شغل عدداً من المناصب العامة إلاَّ أنه كان يدرك أنه خلق ليكون مبدعاً لا موظفاً ولو أن الحياة في بلادنا كانت تسير وفقاً لشروط العصر وتنطلق من الحرص على تدبير الحياة المناسبة للمبدع لما اضطر إلى المكابرة وإلى تبديد طاقاته الخلاقة في أعمال يجيدها عشرات بل مئات الموظفين المحترفين .

أما ثالث هذه الإشارات ان هذه المجموعة القصصية التي كتبها زيد في مناخ المرض والأوجاع المبرحة ، كتب عدداً منها في المستشفى ، قد خلت من أية إشارة إلى مرضه ومعاناته ، وذلك ناتج عن حرصه على نزعة التسامي فوق الألم وانشغاله إلى آخر لحظة بما يعانيه الإنسان من عذاب سياسي واجتماعي . كما أن بعض قصص هذه المجموعة لم تخل من روح الفكاهة كما هو الحال مع قصة " قطط الإمام " ان زيداً في أعماله الإبداعية - لا يستطيع أن يشكو ، بل يحرض ويوجه ويقاوم الأخطاء .

أما رابع هذه الإشارات فان زيداً الذي تعرض لحملة شعواء ما تزال أصداؤها تتردد حتى هذه اللحظة بسبب إدانته العنيفة إبداعياً للممارسات الظالمة لعهد ما قبل الثورة ، قد أدان بنفس القدر الممارسات الظالمة والخارجة على القانون بعد الثورة بلغة لا تقل عنفاً وقسوة مؤكداً بذلك أن المبدع الحقيقي يرفض إذلال المواطنين وقهرهم واستلاب حريتهم تحت كل الظروف والأوضاع .

أخيراً ، لقد رحل زيد بعد أن وزع روحه في كلماته وفي أعماله وتركها وديعة بين الناس وإلى الأبد فإلى روحه السلام وإلى قارئه التحية والعزاء .

 

                                          كلية الآداب جامعة صنعاء

في 9/7 /2000

 

 


Back to Home Page