أسلوبية الرواية في "الرهينة".

د.طه حسين الحضرمي

 

مقدمة

أثارت رواية "الرهينة" للروائي اليمني زيد مطيع دمّاج (1943-2000) جدلاً كبيرا،ً سواءً في الأوساط اليمنية أم على مستوى الوطن العربي، فقد احتُفِيَ بها محلياً وعربياً وعالمياً. نقلت هذه الروايةُ الروايةَ اليمنيةَ من المحلية الضيقة إلى العالمية الواسعة. كما عُدَّتْ ضمن أفضل مائة رواية كتبت في القرن العشرين. وطُبع منها حوالي ثلاثة ملايين نسخة، وتُرجمت إلى سبع لغات، هي: الانكليزية، الفرنسية، الألمانية، اليابانية، الصينية، الهندية، الصربية. وتُعدُّ هذه الرواية تمثيلاً واقعياً لأوجاع اليمنيين في فترة من أحلك فترات تاريخهم، في ظل التسلط الإمامي البائد، فقمينٌ بنا ـنحن اليمنيين ـ أن نحتفيَ بها تحليلاً ودراسةً؛ لهذا ارتأى الباحث أن يتخذ أطروحات النقد السردي الحديث مركباً نقدياً لاستكناه النسيج الداخلي لهذه الرواية؛ لأن النقد الروائي لم يعد يتكئ كثيراً على مضمون الخطاب السردي واتجاهاته المذهبية، بل تخطى كل ذلك بالولوج إلى مكونات النص وأنسجته الداخلية المتداخلة، ممتطياً لذلك مراكب عدة، منها علوم اللغة ودلالاتها، ومباحث الأسلوب بأدواته الإجرائية، كما أفاد من معطيات الفنون البصرية الحركية، ولاسيما السينما؛ في ضبط مصطلحاته وقياس مسافاته وتحديد التقنيات الموظفة فيه. وقد كان للشكلانيين الروس إسهام جليل في الاهتمام بقضايا الشكل والبناء في السرد، فمضى النقاد السرديون يمتحون من هذا الإسهام زمناً طويلاً، لتتشكل من ذلك كله –بعدئذ- آراء واجتهادات أصبحت رافداً من روافد تقنيات السرد الحديثة، التي بلغت ذروتها على يد جريماس وتودوروف وجينيت وبارت وغيرهم، وبهذا تداخل الإبداع والتنظير له، فتبادلا التأثير بعضهما في بعض.

حاول الباحث الإفادة من هذه التقنيات، ولاسيما من مجمل أطروحات عالم اللغويات الروسي بوريس أوسبنسكي، المبثوثة في كتابه "شعرية التأليف"، والإفادة من كتاب "أسلوبية الرواية" لحميد الحمداني؛ في إطار نظرية ميخائيل باختين المبثوثة في كتاباته النقدية عن فن الرواية، ولاسيما كتابه القيم "الكلمة في الرواية"؛ وذلك للولوج إلى عالم رواية "الرهينة" المفعم بالغرائبية، لاستكناه تجليات الأسلوب الروائيّ في أحشائها.

بين يدي أسلوبية الرواية

يثير مصطلح "أسلوبية الرواية" عدة تساؤلات: ماذا نعني بالأسلوب ها هنا؟ وهل له صلة بالبلاغة التقليدية، عربية كانت أم غربية؟ وهل له صلة بالأسلوبية الحديثة وريثة البلاغة التقليدية؟ وهل للرواية أسلوب مثل الشعر؟ وكيف يتشكّل هذا الأسلوب في الرواية؟ وهكذا تتابع الأسئلة. ولسنا في مقام تفنيد هذا المصطلح، فلذلك مقام آخر تتقاصر دونه جهودنا، وإنما نحن في مقام تطبيق منهجية تمتح من هذا المصطلح على رواية "الرهينة" نبحر من خلالها في خضم تشكّل الأسلوبية فيها. بيد أنه يجدر بنا -قبل هذا الإبحار- أن نستنطق شيئاً من أسس هذه الأسلوبية، حتى تستبين السبيل أمامنا.

هناك مصطلحات كثيرة تعاورتها أقلام بعض دارسي الرواية العربية بشأن جلاء جمالياتها، من مثل شعرية السرد وبلاغة السرد وإنشائية الرواية، وغيرها؛ بيد أنها مصطلحات تخضع في الغالب لذائقة هؤلاء الدارسين النقدية، دون تسويغ تنظيري لاختيارها، وإن كانت في معظمها تدور في إطار بلاغة الرواية بمفهومها العام، ولكن "بلاغة الرواية إذا أريد لها أن تصبح علماً قادراً على استيعاب تقنية الرواية ومقوماتها الجمالية، عليها أن تتحول إلى استيعاب ما يمكن تسميته بأسلوبية الرواية(2). غير أننا ينبغي أن نتوخى الحذر عند استخدام مصطلح "الأسلوبية"؛ لأنه جرت العادة في النظر إلى مفهومه بوصفه منهجاً يعالج قضايا الشكل والصياغة الصورية(3)، في حين أن فن الرواية يقتضي نظرة أكثر شمولية من القضايا الشكلية البحتة؛ لهذا ينبغي على دارسي أسلوبية الرواية أن يضعوها "في إطار التلفظ، وفي طليعتها نوعية الوعي الذي يتحكم في صياغة العمل الروائيّ شكلاً ومضموناً"(4).

فما هي إذن مقومات أسلوبية الرواية؟ علمنا فيما سبق أن التعدد الأسلوبي في الفن الروائيّ -سواء أكانت الرواية مونولوجية أم حوارية- يقتضي قيام أسلوبية مخالفة لأسلوبية الشعر؛ لهذا كان لهذه الأسلوبية طبيعة مغايرة، ومن هنا كان لأطروحات ميخائيل باختين في شعرية الرواية وفنيتها أهميتها البارزة، التي أنتجت مصطلحات مثل: تعددية اللغة وتعددية الأصوات والحوارية، فكان اهتمامه منصباً على علاقة الذات المبدعة بإبداعها، وعلاقة الصوت الفردي بالأصوات الأسلوبية للشخصيات المختلفة، من خلال أسلبتها وإدماجها في نظام عام يأتلفها(5). فمن هنا تخفت نغمة بافون الشهيرة القائلة بأن "الأسلوب هو الرجل"؛ لأن هذه المقولة لا يمكن تطبيقها إلا على أنواع أدبية محددة، الرواية بمنأى عنها؛ لهذا كان أغلب التطبيقات الأسلوبية التي تناولت فن الرواية في العالم العربي تنطلق من "مبدأ إخضاع الرواية للقوانين الأسلوبية للشعر، في الاهتمام بالصورة واختيار أجود الأساليب وأسماها، مع الحرص على المطابقة التامة بين الكاتب وأسلوبه"(6)، في حين أن طبيعة النوع الأدبي للرواية تقتضي تعاملاً خاصاً ينطلق من التعددية الأسلوبية التي تمثل الخاصية الجوهرية للجنس الروائيّ، سواء أكانت الرواية ذات صوت رئيس مهيمن على بقية الأصوات (مونولوجية) أم كانت تعتمد على أصوات متعددة كلها رئيسة (حوارية). فمن هنا كان باختين يشير دائماً إلى هذه الخاصية الجوهرية، فهو يرى أن الرواية ترفض مطلقية اللغة الواحدة أو الوحيدة(7). فمن هنا كانت الرواية في مجموعها "ظاهرة متعددة في أساليبها، متنوعة في أنماطها الكلامية، متباينة في أصواتها، يقع الباحث فيها على عدة وحدات أسلوبية غير متجانسة توجد أحياناً في مستويات لغوية مختلفة وتخضع لقوانين أسلوبية مختلفة"(8). ثم يشير باختين إلى أبرز الأنماط التأليفية الأسلوبية التي تكتنف العمل الروائي في الغالب على النحو الآتي(9):

1- السرد المباشر للمؤلف بكل أشكاله وصوره المتنوعة.

2- سرد المؤلف عن قصد بصوت آخر غير صوته الخاص، مثلما هو الحال في المونولوجات المؤسلبة(10) المتمثلة في الـskaz (11).

3- كلام الشخصيات المتفرد أسلوبياً والمتميز الذي يعكس نمط تفكيرها ووجهة نظرها، فـ"هذه الوحدات الأسلوبية غير المتجانسة تأتلف فيما بينها، حين تدخل في الرواية، في نظام فني محكم وتخضع لوحدة أسلوبية علياً هي وحدة الكل، وهذه الوحدة العليا لا يمكن مطابقتها مع أيّ من الوحدات التابعة لها أو معادلتها بها"(12)؛ لهذا لا معنى لدراسة الوحدة الأسلوبية بمعزل عن موقعها الخاص(13). وهكذا نجد أن الرواية هي حصيلة أنماط أسلوبية متعددة. ولا يعني هذا الأمر أن الروائي يكتب بأساليب متعددة، "ولكنه على الأصح يوظف هذه الأساليب، ويتقمصها، ويمكن أن يُدخل أسلوبه الخاص إلى الرواية في السرد، غير أنه سيكون واحداً من الأساليب الموجودة في الرواية"(14)؛ لهذا كان اهتمام باختين بالأمر الجوهري في هذه المسألة وهي "من أيّ زاوية حوارية وضعت هذه الأساليب جنبا إلى جنب أو الواحد في وجه الآخر داخل العمل الأدبي؟"(15)­­. لهذا سيحاول الباحث تلمس هذه الحوارية في رواية "الرهينة" قدر الإمكان، ومدى تنظيمها للأساليب المتنوعة في أحشائها، من خلال العناصر الأسلوبية الآتية:

أولا: بنية عنوان "الرهينة"

العنوان في هذه الرواية عتبة أساسية، لهذا فهو "ذو طبيعة مرجعية، لأنه يحيل إليه [أي: النص]، ومع ذلك فبنية كل واحد منهما تختلف عن الآخر"(16)، مما يعطي العنوان استقلالاً نسبياً عن النص. بيد أن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل بينهما، "فعن طريق العنوان تتجلى جوانب أساسية أو مجموعة من الدلالات المركزية للنص الأدبي"(17)، مما يجعلنا نسند إليه وظيفة "العنصر الموسوم سيميولوجياً في النص، بل ربما كان أشد العناصر وسما"(18). وينبغي أن نلاحظ أن هناك تلاحماً بين العنوان والنص، "بوصف النص هو الإطار الموسع للعنوان"(19)، فكلاهما رسالة لها تجلياتها الدلالية، صادرة عن مرسِل "يتأول عمله، فيتعرف منه على مقاصده، وعلى ضوء هذه المقاصد يضع عنواناً لهذا العمل، بمعنى أن العنوان من جهة المرسِل هو ناتج علاماتي بين المرسِل والعمل... وكثيراً ما كانت دلالية العمل هي ناتج تأويل عنوانه، أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق"(20). فالكلام السابق، وإن كان أدخل في المستوى التعبيري، فإن له دلالته الأيديولوجية، مع ملاحظة أن المستوى الأيديولوجي تنصرف عنايته إلى التقويم، لمعرفة منظومة القيم السائدة في النص، المنعكسة على المستوى التعبيري إلى حد ما. لهذا يذهب الباحث إلى أن المؤلف واحد من الأصوات في النص، فهو يشكّل حلقة من حلقات صراع المنظومات فيه. وهكذا يصبح للعنوان كينونة لغوية، لها استقلالها من جانب، فيمكن عدّه حينذاك علامة يتمثل فيها صراع المنظومات في النص، ليبرز الصوت الذي يشكّلها، سواء أكان صوت المؤلف أم صوت الراوي أم صوت إحدى الشخصيات. ومن جانب آخر هناك علاقة تفاعلية بينه وبين النص، فهو "ليس بنية نهائية، إنما هو بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها، فالعنوان -بهذه الكينونة– بنية افتقار، يغتني بما يتصل به من قصة ورواية وقصيدة... ولن يُفهم منقطعاً عن نصه، ولا تدرك إشاراته إلا عبر العلاقة بينهما"(21)؛ لذا فهو جزء من البنية الكاملة للعمل، وليس نصا موازياً النصَّ الأدبيَّ الذي يمثله، مثلما نجد في المقدمات والإهداءات وغيرها؛ لهذا سنتناول هذا العنوان (الرهينة) من زوايا أسلوبية معينة على النحو الآتي:

(1) عنوان "الرهينة" على المستوى التركيبي:

"الرهينة" عنوان أحادي الصياغة، فهو مكوّن من دال واحد، ففيه غياب صياغي لبعض مكوناته، فهناك افتراضان لهذا الغائب:

أ- الافتراض الأول: تقدير الغائب مبتدأً؛ أي: هذا هو الرهينة.

ب- الافتراض الثاني: تقدير الغائب خبراً؛ أي: الرهينة يتذكر أو يهرب.

وكلا الافتراضين يضعنا أمام جملة اسمية، غير أن الباحث يذهب إلى اختيار الافتراض الثاني، لاعتبارين:

- الاختيار الأول يضعنا أمام جملة اسمية، ركناها الأساسيان اسمان، وهذا يشي بثبات الجملة واستقرارها وجمودها، وهذا لا يتفق مع مدلول النص الذي ينتهي بهروب الرهينة من سجنه.

- الاختيار الثاني يضعنا أمام جملة اسمية، الخبر فيها جملة فعلية، فعلها فعل مضارع (يتذكر- يهرب). فهذا الجانب الصياغي من الجملة يشي بالحركة والحيوية ونماء الحدث، وهو ما يتفق مع أحداث الرواية. كما أن التقدير بالفعل "يتذكر" له ما يسوّغه. ويكمن التسويغ في كثرة الاسترجاعات التي يمارسها الراوي والاستباقات، وهو تقدير له صلة المبنى الحكائي. أما التقدير بالفعل "يهرب" فيسوغه ربط الرهينة غالبا بالهرب في غير موضع(22)، كما أن خاتمة الرواية تحيل على هذا المعنى، وهذا التقدير له صلة بالمتن الحكائي.

(2) عنوان "الرهينة" على المستوى الصرفي:

أما البنية الصرفية للرهينة فهي "فعيلة"، فالوزن "فعيل" قد يؤتى به ليدلَّ على معنى "مفعول" كجريح وقتيل... ويستوي المذكر والمؤنث، وهو وزن يدل "على أن الوصف قد وقع على صاحبه بحيث أصبح سجيةً له أو كالسجية، ثابتاً أو كالثابت، فتقول: هو محمود وهو حميد، فحميد أبلغ من محمود، لأن حميداً يدل على أن صفة الحمد له ثابتة"(23). فمن هنا نرى أن صيغة "فعيل" بمعنى "مفعول" تدل على الثبوت أو ما هو قريب من معناه، في حين أن صيغة "مفعول" تدل على الحدوث، "ثم إن فعيلاً أبلغ من مفعول وأشد، فإن صيغة مفعول تدل على الشدة والضعف في الوصف، بخلاف فعيل التي تفيد الشدة والمبالغة في الوصف، فالمجروح جرحاً صغيراً أو بالغاً يصح أن يسمى مجروحاً، ولا يقال: جريح، إلا إذا كان جرحه بالغا"(24). وقد تلحق تاء التأنيث صيغة "فعيل"، "فتحوّلها من الوصفية إلى الاسمية، كالذبيحة والنطيحة، فالذبيحة ما أُعدّ للذبح"(25).

فمن خلال البنية الصرفية للرهينة نستنتج أن أجواء الحبس والقيود الواقعَة على مَن هو مرهون عند الإمام وكثرة المعرّضين لهذا الأمر من المعارضين له، مؤشرات دلالية تنبئ عن الظلم الذي تعرّض له الشعب اليمني وقادته في مسيرة الثورة ضد هذا الحكم، والاضطهاد الذي مارسه عليهم الحكم الإمامي، فأبناء الثوار والمعارضين لسياسة الإمام في حكم الرهائن، وإن لم يرهنهم الإمام، وهذا يتفق مع معنى من معاني هذه الصيغة الصرفية كما أشرنا سابقا. فالرهينة إذن تعني الثبات والدوام والكف والحبس، كما أنها حولت المرهونين من الوصفية إلى الاسمية، من خلال "فعيلة"، وفي هذا إشارة إلى أن الرهينة لم تعد صفة بل اسما على كل أبناء اليمن ممن كانوا تحت سطوة حكم الإمام، سواء أكانوا رهائن عنده أم لم يكونوا. وهناك شيفرات نصية في الرواية تشير إلى هذا الأمر، فالراوي (الرهينة) كان يتشوق إلى رؤية المدينة التي كان يراها جميلة من أعلى قلعة الرهائن، بيد أنه يفاجأ بحقارتها عندما يراها مباشرة، فهي "بؤرة للوباء المميت، مليئة بالمرضى والمجانين وأصحاب العاهات والمعوقين والحكام الظالمين، إنها مدينة تعيسة وبائسة غاية البؤس"(26)، وفي موضع آخر يقول: "السجين المقيّد مرتاح أكثر ممن هم طلقاء بلا قيود في هذه المدينة، بل ربما في البلاد كلها"(27).

(3) عنوان "الرهينة" على المستوى المعجمي والدلالي:

الرهينة هي "واحدة الرَّهائن، وفي الحديث: كل غلام رَهينة بعقيقته، الرَّهينة: الرَّهْنُ، والهاء للمبالغة كالشَّتيمة والشَّتْم، ثم استعملا في معنى المَرْهون فقيل: هو رَهْن بكذا ورَهِينة بكذا... ومعنى قوله: رهينة بعقيقته أَن العقيقة لازمة له لا بد منها، فشبهه في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرَّهْن في يد المُرْتَهِن... وكل شيء يُحْتَبَس به شيء فهو رهينة ومرتهنة"(28)، بيد أن صوت الروائي زيد مطيع دماج يحدّد دلالة هذه الكلمة تحديداً خاصاً في الهامش على النحو الآتي: "الرهائن [هم] أبناء المشايخ ورؤساء القبائل الذين يعتقلهم الإمام لضمان ولاء آبائهم"؛ لهذا نرى أن الناتج الدلالي لهذا العنوان له صلة وثيقة بجو الرواية، فجوُّ الانغلاق يكتنف الرواية من جميع اتجاهاتها، ابتداء من عتبة النص الأساسية (الرهينة)، فالحبس والأمكنة المغلقة والقيود والأسوار علاماتٌ مبثوثة في النص، غير أن مآل ذلك هو الخروج إلى الفضاء واستنشاق هواء الحرية، مما يعني أن هذا الحبس لم يكن حبساً نهائياً، ففي خاتمة الرواية يقول الراوي: "ووثبتْ قائمة حيث أخذت حجرا من الأرض لتقذفني به، لكنني كنت قد أطلقت لساقي العنان، فابتعدت... وتلقفتني ظلمات الجبال المطلّة على الوادي الموحش المنحدر إلى المستقبل المجهول، وأنا أتوقع صوتها أو حجراً مقذوفا منها سيقع على ظهري، لكنني كنت قد قطعت مسافة كافية في طريق جديد مؤدٍّ إلى المستقبل، مخلفا ورائي صوتها المبحوح المحبب إلى قلبي، وذكرياتي مع صاحبي المرحوم والبورزان والطبشي... وزملائه الجند المنشدين:

يا رهينة قد امك فاقدة لك

                                                دمعها كالمطر!!" (29).

فمن هنا كان تقدير الخبر الغائب صياغياً بالفعل "يهرب" له ما يسوّغه دلالياً. والسؤال الذي يضع نفسه أمامنا هو: صوت مَن هذا العنوان (الرهينة)؟ هل هو المؤلف الروائيّ زيد مطيع دماج المطبوع اسمه على غلاف الرواية؟ هل هو الراوي (الرهينة)؟ هل هو شخصية من شخصيات الرواية؟ وهل هذه الشخصية من منظومة الراوي أم من المنظومة المناوئة له؟ وما النغمة(30). المنبثقة من هذه الكلمة في سياق النص؟ هل هي نغمة تشاؤمية أم نغمة تفاؤلية؟ وهل هي نغمة مدح أم نغمة قدح؟ وحتى تكتمل الحلقة التحليلية لهذه الكلمة (الرهينة) في النص الروائيّ، ينبغي اللجوء إلى المتابعة الإحصائية والسياقات النصية التي تحتضن مفرداته. وقد تردد دال "الرهينة" بصيغتي الإفراد والجمع في المتن أربعاً وخمسين مرة، وعدد مرات الإفراد أربع وثلاثون مرة، وعدد مرات الجمع عشرون مرة.

نجد أن جمع التكسير (الرهائن) هو الممثل لصورة الجمع، وقد جاء هذا الجمع على صيغة "فعائل" وهي صيغة "جمع لكل رباعي مؤنث بمَدةٍ قبل آخره مختوماً بالتاء أو مجرداً منها، نحو: سحابة وسحائب وحمولة وحمائل وصحيفة وصحائف وشمال وشمائل وعجوز وعجائز"(31). وما جُمع على هذه الصيغة يراد به الاسمية، "لأن هذا الوزن من جموع الأسماء، كالصحائف والقلائد والنصائح والرسائل، فما حُوِّل من الصفات إلى الأسماء جُمع على فعائل، وما أريد به الوصفية جمع على فعال أو جمع جمعا سالماً"(32). وبهذا تتفق صيغتا "فعيلة" وجمعها "فعائل" على الاسمية التي تدل على الثبات والدوام، وهو ما تؤيده شواهد المتن الروائي؛ لأن الرهن والحبس والتقييد والسجون مؤشرات علامية مبثوثة في عموم النص، وكأن كل ذلك أصبح أمراً لازباً في اليمن أيام الحكم الإمامي لعموم الشعب اليمني. وقد ورد هذا الدال في تركيبات مختلفة، أبرزها التركيب الإضافي الذي يوحي بالتلازم بين المضاف والمضاف إليه (قلعة الرهائن، ومعقل الرهائن)، فلا ترد هذه الصيغة (الرهائن) إلا مضافا إليها، فكأنها تمثل الأصل الثابت للمضاف (معقل وقلعة)، ونصيب الراوي من هذه الصيغة ست عشرة مرة، تحمل في أحشائها نغمة الألم والحزن والإحساس بالقهر، فهو يقول: "لم أعد حرا منذ عرفت قلعة الرهائن"(33). وفي سياقاتها الأخرى يغلب عليها الأسلوب الإخباري.

في حين أن وزن "فعيلة" هو الممثل الوحيد لصيغة المفرد. بيد أن هذه الصيغة وردت بصورة النكرة أربعاً وعشرين مرة، ونصيب الراوي منها عشر مرات، ونصيب الشريفة حفصة منها ثماني مرات، وصورة المعرفة عشر مرات من خلال شكلين، المعرف بـ ألـ(الرهينة) سبع مرات، ومعرف بالإضافة إلى ضمير الغائب المؤنث (رهينتها) مرة واحدة، وضمير المتكلم (رهينتي) مرتين، ونصيب الراوي من المعرفة مرتان، ونصيب الشريفة خمس مرات. وتحمل نغمة المفرد عدة دلالات، منها:

1- دلالة الحزن والألم والإحساس بالقهر:

وهذه نجدها في نغمة الراوي، الذي يقول بكل مرارة عندما يسمه كبير عكفة ولي العهد بأنه الغلام الخاص للشريفة، "غلام، صفة ثالثة أوصم بها"(34). وتتكرر هذه النغمة في لغة شاعرية آسرة حينما يبث الشريفة آلامه وأحزانه: "كم يغمرني الحنين كلما تكورت بجانب النافذة الصغيرة المنفية... وقد تهدل يمامة أو يزقزق عصفور ليذكرني بأنك الملجأ والملاذ البارد الحنون. إيه! شريفتي الحبيبة، ذات الصوت المبحوح، منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين الصادر منك! كم هو رائع! في بلادي التي حكيت لك عنها العجاب، استضعفوني، واعتدوا عليّ، ومسخوني رهينة ودويداراً في بلاطك[...] كأن صوتك الرنان ينزلق في رفق يحول الصدى إلى موسيقى ذات إيقاع حالم وحالي"(35). وتقرب من هذه النغمة نغمة أصدقاء الرهينة المنتمين إلى منظومته؛ يقول البورزان بشيء من العطف والحنان، مشفقا عليه من حب الشريفة: "مسكين يا صديقي الرهينة! فإما تموت بحبها وإما ترحل به خارجاً"(36).

2- دلالة الاحتقار والازدراء:

وهذه نجدها في نغمة خصوم الرهينة المناوئين لمنظومته، فسائق سيارة البريد حينما بدأ ينعم النظر في نساء القصر الصعود نبهه الرهينة إلى سلوكه المشين، "فعاد إلى مكانه في مقدمة السيارة غاضبا... وصممت على موقفي ونفذته رغم تعاليه المقيت واعتباره إياي مجرد دويدار ورهينة"(37). وفي ازدراء نسوة القصر له ووصفه بأنه رهينة "لا يعرف الذوق ولا الأخلاق ولا الأدب"(38).

3- دلالة التملك والاستعلاء الممتزجة بالإشفاق والتحبب:

وهذه نجدها في نغمة الشريفة، حينما تناديه بـ"رهينتي الحالي"(39). فمن خلال الإحصاء السابق لدال عنوان "الرهينة" في المتن، وتتبع سياقاته المختلفة في النص، يتبين لنا أن المؤلف استعار صوت الشريفة حفصة المضمخ بالإشفاق والتحبب والتملك المغلف بالاستعلاء نابعاً من منظومة الشريفة، وهذا يشكّل انزياحاً عن الشكل المونولوجي للرواية.

 

ثانياً: التسمية في "الرهينة" بين الثبات والتغيّر

بإمكان كل متكلم يبني سرده أن يغيّر موقعه ويتبنى على التوالي وجهة نظر شخصية أو أخرى من شخصيات المشاركين في الفعل السردي، أو حتى إحدى الشخصيات غير المشاركة فيه. ويغلب على رواية "الرهينة" الثبات في تسمية الشخصيات. وسبب هذا الثبات يعود إلى الإبهام الغالب على التسمية، فأغلب الشخصيات تسمى وفقاً لوظائفها، مثل: النائب، الدويدار، الشاعر(40)، البورزان، الطبشي... أو وفقاً لصفتها، مثل "الرهينة". ويرى الأستاذ عبد الله البردّوني أن غياب اسم البطل الرئيس من هنات هذه الرواية؛ "لأن قيمة اسم البطل الرئيسي هو تحقيق الواقع أو الإقناع بالإيهام أو تحويله إلى حقيقة"(41). وهذا الثبات المتجلّي في الإبهام يشي بغلبة الصوت الواحد في الرواية.

        ويستثنى من هذا الأمر الدويدار في بعض المواضع، حينما تناديه نساء القصر تدليلاً بـ"عبادي"(42)، ويناديه الجند بـ"الدويدار الحالي". ويتبنى الراوي وجهة نظر الجند منذ الصفحات الأولى من الرواية، وكأنه بهذا يتبنى وجهة نظر المنظومة التي ينتمي إليها.

         أما الشريفة حفصة فهي الشخصية الوحيدة التي صرّح الراوي باسمها، وعلى الرغم من ذلك فهي تلزم الثبات. وقد وقف البردّوني أمام تسمية "الشريفة حفصة"، فرأى أنها تخالف الواقع الذي دارت أحداث الرواية في أوانه، فقال متسائلاً: "لماذا سماها حفصة ولم يختر لها اسم فاطمة أو زينب؟ إن اختيار حفصة يشي عن قلة اختبار الروائي بثقافة البيت الذي منه حفصة... من المعروف أن البيوت الإمامية في تلك الفترة وما قبلها كانت تجتنب اسم حفصة، لأنه يذكّر بحفصة بنت عمر بن الخطاب، الذي يراه الشيعة متواطئاً مع الصدّيق على علي، لهذا ندر اسم حفصة واسم عمر في بيوت الشيعة في فترة الرواية وما سبقها من فترات"(43)، فالكلام السابق مقنع ومسوّغ تسويغا تاريخياً ومعرفياً وعقلياً، بيد أنه ليس ذا شأن في نقد السرديات الحديثة، فنحن أمام عمل روائي متخيّل لا صلة له بواقع المؤلف أو زمن أحداث الرواية، فللمؤلف مطلق الحرية في تسمية شخصيات روايته، وليس أمام النقد إلاّ التأويل وفقا لمنطوق النص. والخروج عن المأزق الذي أشار إليه البردّوني ينبثق من آليات العمل نفسه، فالشريفة حفصة تتكون تسميتها من لقب واسم، فاللقب يشير إلى انتمائها الواقعي للبيت الإمامي المتمثل في المنظومة الأولى، أما الاسم "حفصة" فينتمي إلى المنظومة التي ينتمي إليها الراوي (الرهينة)، في إشارة ذكية من الروائيّ إلى انتماء الرهينة إلى المناطق الشافعية السنية؛ لتصبح الشريفة حفصة منطقة وسطى تتجاذبها المنظومتان المتصارعتان في الرواية، مع ميل يسير إلى منظومة الرهينة، وهذا شكل درامي آخر يخدش في مونولوجية الرواية، المنبثقة من هيمنة الصوت الواحد المتمثل في الرهينة ومنظومته.

 

ثالثاً: الحوار بوصفه تشكيلا لوجهة النظر

        ونعني بالحوار ها هنا: الحوار المباشر المتمثل في المشهد، وذلك حين تتجلّى على السطح الشخصيات وقد تخلصت من هيمنة الراوي لتعبّر عن نفسها مباشرة وبلغتها؛ لأن الحوار خطاب مباشر يختفي فيه الراوي، فتحل الشخصية محلّه لتعبّر عن وجهة نظرها بلا وساطة منه؛ لهذا ينزوي الراوي في مقاطع سردية تؤدي وظائف التمهيد والتفسير والتعليق، تتجلّى حينا وتخبو أحيانا أخرى. والحوار الذي يهمّ البحثَ هنا، هو ذلك الذي يجلو وجهة نظر الشخصيات مما يساعد على جلاء الحدث أو يزيد من توتره.

        الحوار في "الرهينة" انفتاح على الآخر، لتعبّر من خلاله عن وجهة نظرها، بسبب سيادة صوت واحد في السرد: صوت الراوي/الرهينة، الذي ينتمي إلى منظومة أيديولوجية مخالفة للمنظومة التي ينتمي إليها أبرز شخصيات الرواية (الشريفة حفصة، النائب، الشاعر).

            في هذه الرواية قرابة أربعين مشهداً تتكئ على تقنية الحوار، يشكّل الرهينة في معظمها القاسمَ المشتركَ، يتوزّع وفق الشخصيات على النحو الآتي

35%

الشريفة حفصة

43%

الدويدار

14%

شخصيات أخرى 8% النائب

        وبهذا يتضح هيمنة المنظومة التي ينتمي إليها الراوي، متمثلة في شخصية الدويدار، في حين تحتلّ المنظومة المخالفة مساحة أصغر (النائب). أما الشريفة حفصة فتمثّل حلقة وسطى بين المنظومتين، فهي أقرب إلى منظومة الراوي في المساحة، منها إلى منظومتها؛ فهي تحتل ثلث مساحة الحوار في الرواية.

ينبني الحوار في هذه الرواية -غالباً- على صوتين يمثلان توافقا في وجهات النظر، مثل معظم الحوار الذي يدور بين الرهينة والدويدار، والصوت المهيمن فيه هو صوت الدويدار؛ أو على صوتين يمثلان تخالفاً، مثل معظم حوار الرهينة مع الشريفة حفصة، وجزءا من الحوار بين الرهينة والدويدار. أما الحوار بين الرهينة والنائب فهو وسط، وفي معظمه يتجلّى الرهينة صوتاً قويا معبّرا عن وجهة نظره بجلاء، في حين لم تكن ردود أفعال النائب عنيفة بالقدر الكافي، مما لا يشي عن موقف منظومته الفعلي، المتمثل في القوة الفعلية. والحوار الآتي يبيّن هذا الأمر:

"- هه... اقترب!

واقتربت نحوه وما زلت قائماً حيث تربّع في مجلسه وقد برز كرشه السمين إلى الأمام، قائلاً:

-        ماذا فعلت في قصر وليّ العهد؟

-        لم أفعل شيئاً.

-        كيف؟ وكل هذه الضجة الصاخبة!؟

-        مجرد ضجة لا أساس لها من الصحة.

-        لا أصدقك! لقد فعلت شيئاً ما سيئاً!

-        وما هو؟

-        أتسألني!؟

-        ومن أسأل!؟

-        لا تكن وقحاً!

-        لست بوقح.

ورمى بقصبة "المداعة" جانباً ثم تراجع وقد خفف من توتره قائلاً:

-        أين ذهبت مع الشريفة حفصة بعد ذلك؟

-        إلى هنا!

-        كذب!

-        هل هنالك معلومات لديكم عكس ما ذكرت؟!

صمت برهة ثم أعاد قصبة "المداعة" إلى فمه من جديد وقرقر بها، وقال:

-        تأخرتما عن الركب.. أعني عن باقي النسوة!

-        فضّلت المشي برجلي بعد وصولنا المدينة لازدحام السيارة.

-        والشريفة حفصة؟

-        تركت السيارة أيضاً للسبب نفسه واتجهت معي ماشية إلى هنا.

-        لماذا؟

-        للسبب نفسه... وقد حبذتْ أيضاً السير لخلوّ الشارع من المارة في تلك الفترة.

-        هذا كلام لم أسمعه حتى من الشريفة حفصة!

ولم يكمل. وكنت على استعداد للردّ عليه، إلاّ أنه قال بصوت حاد وغاضب:

-        هذه أول وآخر مرة أسمح لك بهذا.

لم أجبه وقد طأطأت رأسي، فقال:

-        إعرف ذلك جيداً، وخصوصاً في هذه الأيام المقبلة.

لم أجبه أيضاً، فقال مستفسراً مرة أخرى:

-        وماذا فعلت بغلام وليّ العهد؟

-        كان هو المعتدي، وقد حصل ما حصل.

-        لا تكرر ذلك مرة أخرى بعد الآن.

-         ... سمعاً وطاعة!" (44).

        أما الحوار الذي دار بين الرهينة والشريفة حفصة في خاتمة الرواية – بعد قبْر الدويدار- فيمثل مزجا بين صفتي الاتفاق والاختلاف، والقوة والضعف. ولطول الحوار سيختار الباحث منه ما يجلو وجهتي نظر الشخصيتين المتحاورتين:

"[تقول الشريفة للرهينة]- هل نعود؟

- أريد أن أجلس قليلا هنا.

- لماذا؟

- هكذا أردت.

- لا تغضب، كلنا حزانى عليه.

- ليس مثلي.

- لا تكن مبالغا في عواطفك!

- لا وجود للعاطفة في هذا القصر وملحقاته!

        ابتسمتْ، وقالت بصوت هادئ:

- لا تكن فظا، وجلفا، ومتطرفا!

- ما ذا تقصدين؟

        قالت بهدوء وهي تربت على كتفي:

- لا أقصد شيئا، كل ما أقصده، هو أن نعود إلى الدار لكي نستريح وننسى.

- ما ذا ننسى؟

- ننسى هذا! هذا الذي رحل، وما فات مات.

- لن أنساه.

- لن ننساه جميعا، ولكن ما المبرر لبقائنا وحدنا في المقبرة؟ [...] وقت الغداء قد أزف، والنائب ربما يحتاج إليك!

        وتفوّهتُ على النائب وعلى الجميع بألفاظ نابية وجارحة، لكنها تمالكت أعصابها وقالت:

- هدئ من غضبك!

 - لستُ غاضبا.

- أوَ متألم أنت؟

- لا.

- حزين؟

- ربما![...]

- ألديك فكرة ما؟[...]

- نعم.

- الهروب؟

- نعم.

- لا يمكن.

- وما المانع؟[...]

- لن أتركك.

- هذه المرة سأفلت منك.

- لن تستطيع [...] هذا منك مجرد طموح لا تقوى على تنفيذه!

- بل تصميم.

- سأضطر لرميك بالحجارة حتى أدميك.

- حتى ولو بالقنابل.

- إلى أين ستذهب؟

- إلى الجحيم!

- أسألك بهدوء، فلماذا تجيب بغضب!؟

- هذا طبعي.

- ليس هذا طبعك. أنت حالي دائما!

- كان ذلك قبل هذا اليوم [...].

- سيدتي...!

وقاطعتني بنرفزة:

- لا تخاطبني هكذا!

- عزيزتي!

- كن رجلا وحدّدْ موقفك!

- أيَّ موقف تريدين مني تحديده.

- هل تحبّني؟

- نعم.

- هل تؤمن أو تثق بأنني أحبك؟

-ربما! يخامرني الشك في ذلك.

- قلت لك كن رجلا!

- سمعت منك هذا من قبل! مجرد نزوة كلام!

- ليس كلاما فارغا الآن.

- بل هو مجرد كلام! أعرف مَن تحبين، وما هو طموحك!

- عدت إلى الطموح مرة أخرى!

- حقيقة لا مناص منها!

- الحقيقة أنك لا تفهم!

- والحقيقة أنك تطمحين ولا تحبين!

        تمالكت أعصابها قليلا ثم قالت:

- قلت لك خذني معك!

- كلام فارغ!

- أنت جبان.

- في نظرك [...].

- لن أتركك.

-ستتركيني كرها عنك"(45).

حينما ينقل الراوي خطاب الشخصية المباشر، يكون هذا النقل نقلا وهمياً(46)؛ لأنه ينقل الخطاب كما يفترض أن تكون الشخصية تفوّهتْ به، وربما بالغ الراوي في حرفية هذا النقل، فيكون أشدَّ حساسية في نقل المميزات الصوتية للشخصيات، مما يجعله قريباً إلى حدِّ الوسوسة. وقد أشار أوسبنسكي إلى وسوسة تولستوي وحرصه النظري على هذه المسألة، من مثل نقله لثغة دينيسوف في الصوت الصحيح (ر) في رواية "الحرب والسلام"(47). وفي تبني الراوي هذا النقل الموضوعي إشارة إلى أحد المواقع التي ينتحلها، فالتمثيل الدقيق لخصائص كلام الشخصية هو موقع خارجي، وفي هذه الحالة تتباعد وجهتا نظر الراوي والشخصية على المستوى التعبيري، وتشير تقنية التنقيط إلى حدٍّ ما إلى هذا الموقع الخارجي، فبوساطته يصف الراوي مسار الحوار بين الشخصيات. وللتنقيط في رواية "الرهينة" دلالات، أبرزها:

1- الدلالة على الانقطاع الزمني، ويشكّل التنقيط في هذه الدلالة رمزاً رَسْمياً ينوب عن التعليق السردي، من مثل: "سكت برهة" أو ما شابه ذلك، كالحوار الذي دار بين الدويدار والرهينة:

- لقد سئمتني... تريد وجهاً جديداً.

- فقط.

-.. وربما لتوزّع أعمالي على الجميع.

- حتى العساكر.. والبورزان؟(48).

2- الدلالة على امتناع الشخصية عن المحاورة، وغالبا ما يكون هذا الحوار أحاديا. وفي التنقيط استعاضة عن التعليق السردي: "فلم أكن أجيب" أو ما شابه ذلك(49).

3- الدلالة على الاستدراك، كقول الدويدار للرهينة: "اسمها حفصة.. الشريفة حفصة"(50).

4- الدلالة على التردد في إكمال الكلام، كقول الشريفة حفصة للرهينة: "اخرس.. يا..."(51).

 

رابعاً: أسلوبية الخطاب الروائيّ في الرهينة

ينتفي في الرواية ما يُسمّى بأسلوب المؤلف؛ لأن النص الروائي يشكّل تنوعاً لغوياً تتعدّد فيه مستويات اللغة، وتتداخل فيه الأصوات، وبهذا يكون صوت المؤلف أو الراوي واحداً من الأصوات التي يتشكّل منها مجموع أصوات النص السردي، يتقابل معها، يماثلها، يمتزج فيها؛ لهذا كانت الرواية أقرب إلى الدراما؛ "تعطي الفرصة للذوات الأخرى لكي تعرض نفسها بأمزجتها المختلفة وأساليبها المتميزة، وهكذا فالكاتب أو الراوي الذي ينوب عنه يتقمّص كل هذه الأدوار ويصطنع أساليب الشخصيات المؤدية لها... ومن الطبيعي أن تكون هذه الأساليب المستخدمة هي غير الأسلوب الخاص للكاتب"(52). والذي يهمنا هنا هو التعالق بين هذه الأساليب؛ لأن أيَّ تغير في وجهة نظر الراوي يتضح "حين تنفذ عناصر من كلام شخص آخر في نص المؤلف أو تقتحمه، أيْ عناصر من كلام تتميّز به شخصية أو أخرى، فتضمين عناصر من كلام الغير هو إحدى الوسائل الأساسية للتعبير عن تغيّرات وجهة النظر على المستوى التعبيري، فهي ليست محصورةً أبداً باستعمال الأسماء الشخصية فقط"(53).

        وهناك طرائق متعددة لنقل كلام الشخصيات، تنتظم في نمطين(54):

1- تعديل نص المؤلف في ظل تأثير كلام لا ينتمي للمؤلف نفسه، وهو كلام الغير.

2- تعديل نص منتمٍ لإحدى الشخصيات في ظل تأثير إعادة صياغة المؤلف.

        وفي رواية "الرهينة" تقلُّ الانكسارات الأسلوبية، إن لم نقل إنها معدومة، مما يجعل الرواية تنحو جهة الرواية المونولوجية(55) ؛ لأنه "إذا كانت الرواية الديالوجية(56) تخلو من هيمنة أسلوب ما على الأساليب الأخرى، فإن المسألة تختلف بالنسبة للرواية المونولوجية؛ لكون هذه الرواية تعطي الحق لأحد الأساليب في أن يهيمن بشكل واضح على باقي الأساليب الأخرى الموجودة في الرواية... كما أن غياب تلك المساواة يُحْدِثُ فجوة كبيرة في نسيج الإقناع الروائي الذي تتميّز به الرواية الديالوجية، وهو ما يتم تعويضه في الرواية المونولوجية بالتمويه الشعري، وهذا يعني ميل الرواية المونولوجية إلى تكثيف الطاقة الشعرية"(57)، ولهذا لا نجد في الغالب في الرواية المونولوجية إلا صورة النمط الثاني، ويتخذ هذا النمط عدة أشكال، منها:

1- تمييز المؤلف كلام الشخصيات طباعياً في النص، أو إمالة الحروف، حيث يتميز عن كلام المؤلف أو الراوي، هذا إذا لم يكن النص منقولاً بلغة أجنبية، وهذه أيسر الأشكال.

2- الخطاب شبه المباشر: وهو خطاب وسط بين المباشر وغير المباشر، وفيه يجتمع منطوقان ينتميان إلى شخصيتين مختلفتين.

3- الجمع بين وجهتي النظر في جملة غير مركبة، بدمج وجهتي نظر المتكلم والمستمع، أو في كلمة واحدة، وقد نصادف في الالتحام نفسه دمجاً بين وجهتي نظر في عنصر واحد من عناصر الكلام، وذلك في التنغيم والإيماء وتعبيرات الوجه وغير ذلك من الظواهر اللالغوية المصاحبة للكلام.

        لم يوجد الباحث في رواية "الرهينة" سوى صورة الشكل الثاني (الخطاب شبه المباشر)، فالرهينة حين يتذكر لقاءه بالشريفة حفصة يحاول أن يتبنى تعبيريا وجهة نظرها؛ "صورتها ما زالت أمامي رغم كل ذلك، بصوتها الرخو المبحوح الذي يملأ مسامعي، تخيلتها بابتسامتها المتسائلة عني، عمن أكون؟ ابن مَن أنا؟ ما اسمي؟ ومن أي منطقة أتيت؟"(58) وهذا الأمر يشي بتقوقع الراوي داخل ذاته، وهذا يعلل إبحار الراوي إلى أعماقه بوساطة صورة شعرية مرسومة برشاقة، ربما تكون قريبة مما سماه لحمداني بالتمويه الشعري. " منذ فترة لم يعد يطرق أذني الرنين الساحر المبحوح الصادر منكِ. كم هو رائع! في بلادي التي حكيتُ لكِ عنها العجاب، استضعفوني، واعتدوا عليَّ، ومسخوني رهينة ودويداراً في بلاطكِ وخادماً في ديوان مقيل أخيك النائب المحترم... ومع ذلك لكأن صوتك الرنان ينزلق برفق فيحول الصدى القاسي إلى موسيقى ذات نغم "حالي". "كم يغمرني الحنين كلما تكورت بجانب النافذة الصغيرة المنفية!"، "وقد تهدل يمامة أو يزقزق عصفور ليذكرني بأنك الملجأ والملاذ البارد الحنون. إيه! يا شريفتي الحبيبة ذات الصوت المبحوح، منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين الصادر منك"(59).

        ومن خلال تجليات بعض أسلوبية الرواية في "الرهينة" بوساطة العنوان والتسمية والحوار المباشر والخطاب الروائي، تبين للباحث أن رواية الرهينة أقرب إلى الرواية المونولوجية، بشكل من الأشكال؛ بيد أن الدرامية تدخل خلسة إلى مجموعة من مبانيها، ولاسيما في العنوان والتسمية وجزء من الحوار المباشر؛ لهذا تتخذ الرواية شكلا حواريا مظهريا، وإن كانت في العمق تحتفظ بسلطة الراوي/الرهينة، الكاملة تعبيريا وتقويميا؛ ولعل هذا ما عناه ألبيريس عند حديثه عن اجتهاد الراوي خفية "في تدبير النتائج وإدخال النغم الشيق أو المؤثر حينه"(60)، وهذا ما يميز أسلوبية الرواية التي تتيح إمكانيات هائلة للرواية ما دامت قادرة على الانفتاح دائما على جميع الوسائل الفنية المستخدمة في الأنواع الأدبية الأخرى.

الهوامش:

(1) زيد مطيع دماج: الرهينة، دار الآداب، ط1، يناير1984.

(2) حميد لحمداني: أسلوبية الروايةـ مدخل نظري، دار سال، الدارالبيضاء، ط1، 1989، ص7.

(3) نفسه.

(4) نفسه.

(5) نفسه، ص9

(6) نفسه، ص15

(7) ينظر: الكلمة في الرواية، ترجمة: يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1988، ص156

(8) نفسه، ص9

(9) نفسه، ص10

(10) الأسلبة عند باختين "لغة واحدة محينة (أي لي لها صورة معينة أي ضمنية) وملفوظة، لكنها مقدمة على ضوء اللغة الأخرى، وتلك اللغة الأخرى تظل خارج الملفوظ ولا تتحين أبداً. وفي الأسلبة نجد وعيين لغويين مفردين: وعي من يشخص (وعي المؤسلب)، ووعي من هو موضوع للتشخيص والأسلبة" (الخطاب الروائي، ص30). أو هو "لغة مباشرة (أ) من خلال لغة ضمنية (ب) في ملفوظ واحد" (أسلوبية الرواية، ص88).

(11) الـ skaz مصطلح استخدمه الشكلانيون الروس، وهو "طريقة في السرد تشبه طريقة القاص الشعبي، حيث يمزج الروائي بين حديثة وأحاديث الشخصيات ووجهات نظرهم" (محمد عناني، معجم المصطلحات الأدبية الحديثة، مكتبة لبنان: بيروت، ط1؛1996، ص100.

(12) الكلمة في الرواية، ص10.

(13) ينظر: أسلوبية في الرواية، ص21.

(14) نفسه، ص22.

(15) قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي، ترجمة: جميل نصيف التكريتي، وزارة الشؤون الثقافية العامة: بغداد، ط1، 1986، ص266.

(16) بلاغة السرد، ص18.

(17) صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد (164)، أغسطس1992، ص236.

(18) نفسه.

(19) د. محمد عبد المطلب: بلاغة السرد، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية (114)، سبتمبر2001، ص20.

(20) محمد فكري الجزار: العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص19.

(21) محمود عبد الوهاب: ثريا النص ـ مدخل لدراسة العنوان القصصي، دار الشؤون الثقافية، الموسوعة الصغيرة، 1995، ص9.

(22) ينظر: "الرهينة"، ص91.

(23) فاضل صالح السامرائي: معاني الأبنية في العربية، دار عمار، عمَّان، ط2، 2007، ص53.

(24) نفسه، ص54.

(25) نفسه، ص56.

(26) نفسه، ص42.

(27) نفسه، ص47.

(28) ابن منظور: لسان العرب، بيروت، دار صادر، ط1، 2000، (رهن).

(29) "الرهينة"، ص151-152.

(30) النغمة Tone مصطلح منبثق من وجهة النظر، يشير إلى موقف المؤلف الوجداني نحو الموضوع الذي يعالجه.

(31) معاني الأبنية في العربية، ص149.

(32) نفسه.

(33) "الرهينة"، ص116.

(34) نفسه، ص94.

(35) نفسه، ص130.

(36) نفسه، ص124.

(37) نفسه، ص83، 84.

(38) نفسه، 97.

(39) نفسه، ص62، 100.

(40) وقد عدّ الباحث الشاعرية هنا وظيفة وليست صفة، لأن الشاعر في الرواية شاعر سلطة.

(41) الثقافة والثورة في اليمن، دار الفكر، دمشق، ط4، 1998، ص223.

(42) "الرهينة"، ص 15.

(43) الثقافة والثورة في اليمن، ص 223.

(44) "الرهينة"، ص109-111.

(45) نفسه، ص146-151.

(46) خطاب الحكاية ـ بحث في المنهج، ترجمة: محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة (10)، القاهرة، ط2، 1997 ص185.

(47) بوريس أوسبنسكي: شعرية التأليف (بنية النص الفني وأنماط الشكل التأليفي)، ترجمة: سعيد الغانمي وناصر حلاوي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة)،1999 ص57. وقد نقل الراوي في موضع واحد، حسب كلام الطبيب الأجنبي في المدينة، بحرفيته: «ما فيش خوف، واحد حبة بعد أكل، ان شاء الله تمام، بعدين، تأتي مرة يجي عندي، لازم أشوفه!» "الرهينة"، ص133.

(48) "الرهينة"، ص30، وينظر: ص5، 6، 31، 56.

(49) نفسه، ص7، 100.

(50) نفسه، ص10. وينظر: ص 21، 29.

(51) نفسه، ص47.

(52) أسلوبية الرواية، ص54.

(53) شعرية التأليف، ص43.

(54) نفسه.

(55) المقصود بها الرواية ذات الصوت الواحد.

(56) المقصود بها الرواية الحوارية، أي ذات الأصوات المتعددة.

(57) أسلوبية الرواية ـ مدخل نظري، ص26.

(58) "الرهينة"، ص25.

(59) نفسه، ص129-130. وينظر: ص138.

(60) تاريخ الرواية الحديثة، ترجمة: جورج سالم، عويدات، بيروت، ط2، 1982، ص256.

 

 


Back to Home Page