حين تستأذن الشمسُ صنعاء

محمد عبد السلام منصور

يوليو 2009
 

حين تستأذن الشمسُ صنعاءَ لتغيب عنها إيذانا بهطول الليل، ينجلي عن الذاكرة، ذلك الفرح اليمني الآسي، وهو يقرع بعود رشيق كأسا زجاجيا، فتُسكِتَ رنتُه الموسيقيةُ احتدامَ حوار مقيلنا، تتجه أنظار المتحاورين إلى قائد أوركوستراهم الفكرية ذات الهرمونيا اليمانية، صديقهم المحبب إلى نفوسهم جميعا، زيد مطيع دماج، لكني كثيرا ما الحظه، أثناء هذا الصمت المفاجئ، ينظر من فوق ابتسامة مطمئنة، يرسل ضوءا مُلهِما يثقب عيني، فأعلم أن صاحبي بل قل شقيق رؤيتي يدعوني، إلى الحديث في موضوع الحوار المحتدم، فأتوكل على الله وأسير، محاورا، تحت مظلة اطمئنانه، أني سألقي جديدا من الضوء، على أبعاد حوارنا، ورغم أنني كثيرا ما خيبت ظنه، إلا أن تلك الثقةَ المطمئنةَ التي أولاني إياها، كثيرٌ ما كانت تحمِّلني مسئولية أدبية وفكرية كبيرة، وتمدني بمزيد من طاقات البحث، الأمران اللذان كانا يبعثان لديَّ دافعا ذاتيا يلزمني الكتاب، ويفرض عليَّ، تخصيص مزيد من الوقت، للقراءة الدقيقة المتأملة، محاولةً مني الاقتراب من حقائق الأمور، وبخاصة حين يكون الأمر متعلقا بالكشف عن أسباب تخلف اليمن، أو تلمس منطلقات تقدمه، وهما الهمّان المشتركان فيما بين رؤيتي ورؤية صاحبي، بل ورؤى كل من شملته، دائرة أصدقائنا.
لعل كل واحد ممن التقوا بزيد مطيع دماج، ولو لقاءات قليلة، قد أدرك شيئا من مثل هذه الومضات التي تفرّد بها، ولابد أنها قد تركت لدى كل منهم ذكرى خاصة لا تنطفئ مهما تقادمت بها الأيام.
أما قبلَ أن تستأذنَ الشمسُ صنعاءَ للمغيب، فيكون قد أتى زيد، إلى المقيل، وهو أكثر تذوقا لضوئها الغامر، وما إن يستقرَ في متكئه المتميز، حتى تتجولَ عينيه، تركِّز نظرها على كل تفصيلة من تفصيليات المكان، فإذا ما لحظ خللا هنا أو هناك، نهض من فوره، ليعدِّل وضع صورة، أو يحوِّل تحفة من مكانها، إلى مكان أأنق بها، أو يصلح متكأ نافرا، وكان يحس إحساسا صادقا وعميقا، أنه بهذا العمل يعد لمسرح، سيكون زاخرا بحوار الفكر وموسيقى الروح، وأنه هو مخرجه وأوركستراه.
يعود إلى متكئه ثانية ويبدأ تجوال عينيه، في قراءة تفصيليات الملامح الإنسانية الخاصة بكل منا، فيجعلها طريقه إلى معرفة مكامن النفس، يطلع بها على الأفئدة، يحس مشاعر كل صديق، ويستكشف حقيقة كل غريب، فإذا ما لحظ شيئا لافتا قض متكأه، ونهض يسير إليَّ، في هدوء يجلس القرفصاء، و يهمس في أذنيَّ بما استقر في حفيظة نفسه، فيأخذ حديثي معه عبر المقيل، نحاول مسح غشاوة عين المحزون، ونمضي في تعميق فرحة المسرور، من خلال النكتة الهادفة، والطرفة الحكيمة، والتعليق الذكي، والتندر على مفارقات الأحداث التي تعيق تقدمنا، وعلى تناقض السلوك الفردي الشرير، مع مصالح المجتمع الخيرة، ولفت الأنظار إلى بدائع المجتمع الإنساني، وما يمتلكه من طاقات هائلة، تتيح لنا أن نصنع الحياة الأفضل، ونستمر في ذلك حتى ينظمنا سلك الحوار الفكري الجاد، وهكذا مضى بنا الزمن عقودا، نقارع ظلام الماضي، بنور حاضرنا، وبقوة أحلامنا، في صنع مستقبل أرقى.
أشهد للتاريخ أن فقيدنا زيد رحمه الله كان يمتلك قدرة عالية على قراءة ملامح الزمان، وتفصيلات المكان وانفعالات الإنسان، قراءة دقيقة، مكنته من إدراك الإمكانات الجوهرية الكامنة، في شغف الإنسان، وقدرته على تحريك الزمان وإثراء المكان، وكان فضلا عن ذلك، يمتلك طاقة حب وخيال هائلة، تفيض على كل شيء في الواقع من حوله، الأمر الذي فرض على صاحبه اختيار وإجادة فن من فنون الإبداع، النزَّاعة إلى الحرية والجمال، فكان لنا زيدٌ هذا الفنان الروائي القاص، الذي وهب، فكره وحبه، عقله وخياله، للفن وللمجتمع، لفنه الروائي الذي حقق له التميز، ولمجتمعه اليمني العربي، الذي أراد أن يكون ذا ملامح حرة فاضلة، تحدد له مكانا بين المجتمعات الإنسانية الراسية، على شواطئ العدالة والمساواة بين البشر، فشرع منذ بداية حياته، يفيض علينا بفنه، يغسل بمياهه الدافقة النقية مرارات واقعنا، ومكامن شروره، ويستلهم بخياله الرحيب مجتمعنا الجديد الذي ظل يصوره لنا تصويرا إنسانيا قابلا للتحقق، في هذه الحياة، ويدعونا إليه دعوات تفيض بالموسيقى، التي ما زالت تهمس في مسامعنا، أننا نحن الذين سنصنعه بأيدينا في عالمنا هذا الذي نعيشه، ولن يهبنا إياه أحدٌ من عالم الغيب، لأن هذا هو قدر الإنسان الذي أراده الله له كي ينهض، ويعمِّر حياته بنفسه.
لست معنيا هنا، أن أدلل على شهادتي، فألقي عليكم مسرد أعمال صاحبي الروائية والقصصية، ولا أنا معني حتى باقتباس شيء من نصوصها، فهذه الشهادة طامحة، إلى أن تكون هي ذاتها دليلا، على جوهر هذا الفنان الإنسان الذي شكل ينبوعا ثريا يحب فنه، ويتفانى في سبيل إجادته، ليكون وسيلته الراقية في نقد ورفض أوضاعنا المتخلفة، وليبقى من خلاله حيا، عبر الأجيال القادمة، يدعو أفراد المجتمع اليمني والعربي إلى العمل من أجل تحقيق حياة فياضة بكل معاني الإنسانية الراقية.
نعم لست معنيا بذلك الاستدلال، فأمامكم كتاب أعدته هذه الندوة، ولاشك أنه يحتوي على دراسات نقدية ضافية تتناول أعمال زيد مطيع دماج، وقيمتها الفنية، لكني سأسمح لنفسي بدعوتكم إلى قراءة آخر فقرتين من قصة الجسر علَّها تعبِّر ولو بعض التعبير عن خلجات حب زيد العميق لمجتمعه ووطنه، وهي عمل فني أنجزه ربيع 83 يصور فيه ما وصلت إليه حالة المجتمع السياسية إلى ذلك الوقت، وقد تداخلت في هذا العمل الفني قصتان لراوية واحدٍ احتل جسده، في آن واحدٍ، مكانين منفصلين، فَجَسَدُ الراوي يتدلى في فضاء الزنزانة المظلم، يعذبه المحققون نفسيا وجسديا، وفي الوقت نفسه يقف الجسدُ ذاتُه، متنزها على الجسر الحديدي الذي يفصل شاطئي النهر العظيم، وهو يشاهد سيارة تحاول النجاة من الغرق في النهر الهائج العظيم؛ وتبعا لذلك فقد كان للراوي، في هذا العمل الفني النادر، صوتان في زمن واحد: صوت يئن آت من أعماق السجن، وصوت يصيح، من على الجسر الحديدي الذي يمتد فوق النهر الهائج، يصيح وهو مفجوع مما يجري من غرقٍ في النهر، والمشهدان يصورا لنا تصويرا فنيا فاجعا، كيف أن صاحب الصوتين كان عاجزا، في السجن وعلى الجسر، عن صنع أي شيء يغير به، واقع حياته المرير، عدا ذلك النشيد الذي يردده، مع رفاق سجنه كأنه تراتيل آيات قرآنية، وعدا خبط رجليه وضرب يديه على أرض الجسر وحديده، وهو يصيح كالمجنون في وجوه أناس مسترخين في مقهى على أحد شاطئي النهر لا يستجيبون له، ثم ذلك الصراخ لمن كانوا في السيارة طالبا منهم أن يخرجوا من عليها، وكيف أنهم ظلوا متسمرين بل مسمرين في مقاعدهم، وكأنهم راضون بقدرهم المأساوي، فقرروا أن يغرقوا معها.
كان آخر ما استمعنا إلى الصوت الآتي من السجن همسه الحزين الذي يروي لنا حالته: "في الصباح جلت بنظري على وجوه زملاء الغرفة الطويلة عسى أن أعرف أحدا منهم، ملامحهم تدل على أني أعرفهم جميعا وربما لا أعرف أحدا منهم إطلاقا، منهم شباب في عمر الزهور تنوعت ملامحهم.. أو ربما كانت غير هذه الملامح في السابق.. أكيد تغيرت..معالم كثيرة في وجوههم وأياديهم وأرجلهم ..ومنهم رجال في منتهى الوقار شاهدت أحدهم يتناول كوب الماء بكلتا يديه..في الرسغ كانت أصابع يديه مشلولة ضامرة، كل أصبع متجهة عكس الأخرى.. وآخر لا يستطيع الحراك بجسمه الأسفل.. يتأذى ويتبول عن غير إرادته .. وقد وضعه زملاؤه في ركن مناسب له ولهم..وآخر كان مبطوحا دائما على ظهره لا يستطيع النهوض والتحدث، ويطعمه زملاؤه وهو على تلك الحالة.. وآخر منزو في ركن من الغرفة عرفت بعد ذلك أنه لا يبرحها مطلقا، يبكي دائما بصمت ولا دليل على بكائه سوى دموعه المنهمرة الدائمة التي لا تنضب دقيقة واحدة ليلا ونهارا..منهم دكاترة طب, وأساتذة جامعة، وطلبة، وصحفيون، وأدباء ومفكرون، وسياسة، وموظفون عاديون، بل ووزراء سابقون..متكاتفون جميعا لإزالة آلامهم في تضميد للجروح وتهدئة للنفوس وإصلاح المرقد ونظافة الغرفة ..ينشدون في المساء والصباح نشيدا حزينا كأنهم (يرتلون سورا من القرآن الكريم)... وأنا معهم...
وأما الشطر الآخر للصوت ذاته، والذي يصدر في الزمن ذاته، فإنه لا يصمت لدى نهاية القصة، إلا وقد روى لنا الحالة المفجعة للسيارة الغارقة، وكيف انتهى الأمر بصاحبه الراوي، وهو يصيح صياحا جنونيا، من على الجسر، يستنجد بأناس غير مبالين، مسترخين في مقهاهم، يصيح فيهم علهم ينقذون السيارة فلا يستجيبون له بل لا يلتفتون إليه إطلاقا، فلم يجد شيئا يصنعه إلا أن يصيح بركاب السيارة أنفسهم عسى أن يفروا من عليها، لينقذوا أنفسهم، ولكنهم، ويا لخيبة أمله فيهم، لا يستجيبون له أيضا، "تدحرجت السيارة بمن فيها إلى الوراء..إلى النهر العظيم الهائج.. كنت في حالة جنون أصيح. وبح صوتي وتشنجت وأنا على الجسر، بعيدا عنها وعمن في داخلها، كنت أخبط برجليَّ الأرض وبيديَّ حديد الجسر وأنا أصيح عسى أن يعملوا شيئا لإنقاذها وإنقاذ من في داخلها.. واستكانت السيارة بمن فيها لكي يلتهمها النهر العظيم الهائج.. كنت أصيح ويداي تشيران إلى من فيها بأن يخرجوا ويتركوها تغرق..لكنهم كانوا مصرين مسمرين إليها عن قناعة، وليس لديهم بديل سوى أن يغرقوا معها..وغرقت السيارة بمن فيها ..وصياحي مازال يعلو ويعلو..وكان الألم قد أفقدني وعيي" هكذا يغيب الصوتان الصادران في الزمن ذاته، عن راوية واحدٍ، بعد أن نقل الصوتان إلينا، بفنية راقية متفردة، حالة الواقعين المريرة، الحالة داخل السجن، وواقع حياة المجتمع خارجه ذلك الواقع الذي لم يكن أقل فجيعة عما يجري داخله، إن لم يكن أبشع منها، يغيب الصوتان وصاحبهما يستهول الحالة الاجتماعية والسياسية، ذاهلا مجنونا، مما يجري في السجن، ومما يجري في واقع حياة المجتمع خارج السجن، غير أننا سندرك بسهولة أن هذا العمل القصصي المتميز استطاع أن يتمسك بالأمل بقبضة فنية رائعة، فالأمل لم ينطفئ لا في روح الراوي ولا في عقل القارئ، فقد ترك لنا الراوي هذا الأمل ينبض بالحياة في نشيد السجناء الحزين الذي يترنمون به في قدسية كأنه آيات قرآنية، كما تركه لنا، يشعشع من صراخه المستنجد، ومن خبط رجليه وضرب يديه على الجسر الحديدي الذي يمتد في ثبات أعلى النهر الهائج العظيم.
ألم أشهد أن زيدا كان فنانا صاحب نظرة شفافة تستكشف ملامح الآتي؟ وأن زيدا كان محبا وأنه كان إنسانا منغمسا في قضايا وطنه ومجتمعه؟ وأن أعماله ستبقى خالدة تدعونا وتدعو الأجيال من بعدنا إلى كل ما فيه خيرنا وإنسانيتنا؟ نعم أني شهدت بذلك كله، ولا أظن إلا أنكم كنتم أكثر مني إيمانا بأن زيدا كان ذلك كله.
4/6/2009

 

 

 


Back to Home Page