عالمية الإنسان.. أنسنة العالم
قراءة
إنسانوية في مجموعة "الجسر" لزيد مطيع دماج محمد عبد الوكيل جازم |
كتب أدونيس في "دبي الثقافية" (مايو 2009): "إن العالمية لا تتأكد إلا بدخول الكتاب المترجم في نسيج الثقافة الكونية؛ مثلاً: فكر ابن رشد عالمي لأنه جزء أساسي من الفكر الفلسفي الكون". وأضيف إلى قول أدونيس أن الأدب العالمي هو الأدب الذي تحمل خصائصه البنائية والفنية صفات العالمية، بحيث أنه إذا تُرجم إلى العالم احتفظ بقدرته على التأثير والإدهاش، لأن العالمية تجري في شرايينه وأوردته. * * * قليلون هم الكُتّاب الذين استحقوا أن نطلق عليهم مفردة "عظماء". إنهم قليلون جداً ليس لأنهم ثوار أو قادة رأي أو منظرون أو أدباء متمردون، ولكن لأنهم توجوا كل صفة من الصفات المذكورة بالأخلاق التي ربما نفتقدها أحياناً. غير أن هذه الروح الخفية التي امتلكها زيد مطيع دماج (1940-2000) اختفت خلف شخصياته، وصارت تدفعها دفعاً نحو الثقة بالنفس. ويبدو أن من أعظم منجزاته هو التوق الدائم إلى شكل العبادة المقدسة، الخشوع في الإبداع، الإبداع وليس غير ذلك. وإذا كانت القصة القصيرة تنتمي إلى فن السرد فإنني أود أن أشير هنا إلى أن أنماط السرد تتغير بتغير الكتاب وتعددهم. وفي الوقت الذي صار فيه العديد من الكتاب يتمردون على الأشكال السائدة فإن "زيد" استطاع أن يتميز من الداخل، مستوعباً الكثير من الطرائق الحديثة، ومتجاوزاً الانتهاكات التي قد تحدث في المسار الطبيعي للقص. وفي الوقت الذي كان فيه معدو صفحات الصحف يطرحون سؤالاً كبيراً مفاده: هل هناك أزمة قصة؟ وذلك مع تغيير أوجه السؤال: هل القصة القصيرة تعيش مأزقاً إبداعياً؟ هل القصة القصيرة استهلكت جميع أسسها وتنويعاتها؟ بالتأكيد مثل هذه الأسئلة أرقت كُتّاب القصة العرب خلال عقدي السبعينيات الثمانينيات؛ جاءت مجموعة "الجسر" للأديب زيد مطيع دماج لترد على مثل هذه الأسئلة القلقة. وهناك أسئلة أخرى مغايرة، إلا أننا نجد عوناً لها في العوالم الإبداعية لكاتبنا. ومن هذه الأسئلة تلك التي أطلقتها فاطمة المرنيسي: لماذا نخشى العولمة؟ لماذا نخشى ذوبان الحدود القائمة بين الدول التي تخضع لمراقبة جحافل من أفراد الشرطة؟ لماذا نخشى الأغراب؟ هل كان الأغراب دائماً خطيرين في نظر الناس؟ وهل كانت الحدود دائماً ضرورية؟ جميع أعمال كاتبنا، المصبوغة بصبغة "المحلية العالمية"، ترد على مثل تلك الاستفسارات القلقة. وما دام لدينا كُتّاب مثل زيد مطيع دماج فعلينا ألا نبتئس، وإنما علينا أن نعيد قراءتهم لاكتشاف الأجمل. ولكنا هنا مجبرون على تعريف بعض المصطلحات؛ فمثلاً: ما هي العالمية؟ وكيف يمكننا أن نزيل اللبس القائم عادة بينها وبين العولمة؟ وماذا تعني الإنسانوية أو الأنسنة؟ وما علاقة كل ذلك بأدب زيد مطيع دماج؟ * * * يعتمد القاص على عدة تقنيات في مجموعة "الجسر"، ولكن أهم ما يعتمد عليه القاص تقنيتان: الأولى: عالمية الإنسان، وهي التقنية التي أخذت المحلية والقومية بعين الاعتبار. الثانية: أنسنة العالم، وهي التي يتم من خلالها رصد التبادل التأثيري في الكوكب، أو بمعنى أدق: رصد المشترك الإنساني. لا شك أن الصناعات التي ظهرت في هذا العصر وضعت في تقديرها الثقافة الواحدة العابرة للقارات، وهي ثقافة تنطلق من شهوة جموحة للسيطرة على العالم وإعطائه صبغة الوجه الواحد. ولكن المناهضين لهذه الفكرة يرون أن الإنسان لن تتحقق عالميته إلا إذا حافظ كل قوم على ملامحهم وعاداتهم وتقاليدهم. وكان الشاعر الألماني الشهير جوته قد بشر بهذا الأدب العالمي قبل وفاته عام 1832، حيث ناقش في كتاباته وقراءاته موضوع البعد الفني العالمي في الأدب والثقافة. والعالمية مفردة عربية يقابلها بالإنجليزية Universalism من مفردة Universalنحو التفاعل بين الحضارات، والتلاقح بين الثقافات. والمقارنة بين الأنساق الفكرية ترى العالم منتدى حضارات بينها مساحات كبيرة من المشترك الإنساني العام) لكي نفرق هنا بين العالمية والعولمة فإن العولمة تنطق في الإنجليزية هكذا Globalization وهي مرحلة ما بعد الحداثة، وتمثل واحداً من مخرجات الرأسمالية بعد مرحلة الإمبريالية، وتعني في أبسط مفاهيمها "جعل العالم كله يسير في نسق اقتصادي وسياسي وثقافي واحد) (2). ولعلنا سندرك أن العالمية حلم إنساني نبيل وتوق إلى الالتقاء بالعالم؛ إنها شغف إلى رؤية الإنسان محافظاً على خصائصه الإنسانية والقومية. العالمية رؤية روحية للقرية الكونية. أما العولمة فإنها رؤية بعيدة عن الروح. "أما الإنسانوية فإنها تأتي بطرق مختلفة، فهناك إنسانوية النهضة وهي ما تتمثل في روح التعليم، والإنسانوية الثقافية والتي تتمثل بالتقاليد العقلانية والتجريبية، والإنسانوية الفلسفية، وإنسانوية الأدب التي تكرس للإنسانيات والثقافات الأدبية" (4). الإنسان بفطرته كائن عالمي أو كائن كوني يتوق دائماً إلى مساءلة الغيب والمجهول، لذلك نرى هذا الاستعداد للوقوع في المغامرة. فعندما تكرست المحلية اليومية في حياة الناس في أوربا والقرون الوسطى سعوا إلى اكتشاف عالم جديد، ليس من أجل نهب الثروة فقط، ولكن من أجل توسيع دائرة القلق الوجودي ولملمة أطرافها التي لا بد من اكتمالها ضمن منظومة متعددة، وإن ظهر في بادئ الأمر أنه هيمنة أحادية لثقافة مركزية. إن القلق الذي يطرأ على الآخر جراء هذه الهيمنة هو الذي يسعى إلى وضع التحديات عبر الحفاظ على الهوية. وقد رأينا أن عالمية الإنسان لن تتحقق إلا بإزالة ذلك القلق وتلك الهيمنة. عالمية الإنسان هي ألا يخالج الإنسان شعور بأنه غريب أثناء تواجده في أي مكان من العالم. والأدب القادر على اختراق الحواجز والحدود هو الذي يصنع مثل ذلك الشعور، وذلك عن طريق أنسنة العالم دون السيطرة عليه أو محاولة احتوائه والتغلب عليه. ليست الدول الأوروبية أو المتقدمة هي الوحيدة المصدرة للأدب والفنون. وعلى هذه الدول أن تستوعب أن هناك تدفقاً كتابياً وإبداعياً خاض التجربة بنجاح، ولكن صوته لم يصل، متجاوزين ما أخبرنا به جابر عصفور من أن "نزعة المركزية الأوربية - الأمريكية لا تظهر تجلياتها الأدبية عند منتجيها الأصليين وحدهم، وإنما عند مستقبليها الذين يقعون في اسر تخييلها"(4). عالمية الإنسان لن تتحقق إلا إذا تركنا آدابنا العالمية تتحرك وتتنقل دون أن نتدخل في توجيهها أو تسيير أحلامها وطموحاتها. فالأدب ليس سوى أناس وشخصيات تتحدث وتفكر وتعبر عن أحزانها وأفراحها؛ إنها العالم بكل سلالاته، يطير في الهواء الطلق بحثاً عن عالم جديد في كواكب ومجرات غير مدركة. العالم هو أيضاً بحاجة إلى أنسنة. واستخدام مفردة "أنسنة" هنا للتعبير عن قدرة الكاتب زيد مطيع دماج على تقريب ما هو بعيد وعصي وبالتالي تحويله (أي ذلك البعيد والعصي) إلى كائن أليف قريب من الإنسان ومتفاعل معه، بل ومتداخل. فالجسر في قصة "الجسر" شكل غير موجود في اليمن بتلك الهيئة التي وصفها الكاتب، فلا يوجد لدينا جسر كبير على نهر عظيم تتهاوى السيارات من على حافته وفي ضفته مقهى، لا يوجد شيء من ذلك، ولكن كاتبنا أراد أن يؤنسن الجسر ويجعل له لغة عامية. قصة "الجسر" إن مفردة "الجسر" التي تمثل عنوان المجموعة القصصية تحمل في أحشائها كل ما نريد أن نقوله. فالعالم لكي يتواصل يحتاج إلى جسر، وليس بالضرورة أن يكون هذا الجسر محسوساً، ولكنه هنا على العكس من ذلك. لكن السؤال: هل نحن حقاً بحاجة إلى جسر؟ الجواب: نعم، نحن حقاً بحاجة إلى جسر. قد تأتي الإجابة هنا مباشرة وسريعة، إلا أننا منقادون إلى ذلك، فليست الأجوبة عمياء دائما، ولا الأسئلة مفتوحة العيون عادة. إن مفردة "الجسر" هنا تدعونا إلى الخوض في طرحنا الذي خرجنا به في تأمل ما قرأناه. والجسر هو في الحقيقة دعوة إلى معرفة النفس، دعوة تقول لنا: قفوا فوق جسور التأمل واستمعوا ما تقوله دواخلكم، استمعوا إلى ما يقوله المجاورون لكم! و"الجسر" توق إنساني يدعونا كعقلاء في جميع أنحاء العالم إلى مد يد العون لبعضنا، لنستمع إلى صوت الإنسان في أنفسنا، ولا شيء يتيح لنا الفرصة في تأمل أنفسنا وما حولنا سوى التفكير في جسر لنبني جسوراً بيننا كأفراد وجماعات وأمم وشعوب وقارات. وضب الكاتب الجسر في قصته توضيباً فنياً، حيث ربط بين البطل كوجود حقيقي على الجسر والبطل ووجوده كإنسان خارج الزمان والمكان. فالرجل الذي يقف على الجسر هو الشخص الآخر الذي يستحضره البطل، ويتعرض للاعتقال والسجن والتهديد بالتصفية، ومع ذلك فقد عاد وبنى جسره من جديد. عاد البطل يمتطي جسر الأمل الطائر، وصار يسخر من هؤلاء الشباب الذين يقدمون على الانتحار من على حافة الجسر. إن عوامل الانتحار لدى بطل قصة "الجسر" كثيرة جداً، إلا أنه لا يفكر بالانتحار، ففي الوقت الذي كانت فيه تتهاطل الذكريات المؤلمة كان يتغلب عليها بمشاهدة السيارة ومحاولة مناداتها؛ تلك السيارة التي صدمتها سيارة عسكرية وألقتها في النهر، فذهبت تحاول الصعود إلى أن صعدت بر الأمان، وهو يلاحقها ليقيم جسراً بينه وبين حضه العاثر الذي أحزنه في السجن حين أخذه الجنود وعلقوه من أطرافه الأربعة وفقد الوعي لكنه الآن شخص آخر مليء بالأمل ويتمنى للسيارة وكل من فيها النجاة. وفي قصة "الجسر" هناك جسر آخر خفي؛ إنه الجسر الرمزي الذي يربط بين عوالم القصة. ولا شك أن الجسر هو في الحقيقة رمز، والنهر رمز، والسيارة التي هوت في النهر رمز آخر، وكذلك هناك رمزية المقهى ورواده الكسالى، ورمزية أخرى في الشاحنة العسكرية التي دلقت السيارة، ورمزية في السجن الذي كان يستحضره بطل القصة الواقف فوق الجسر يمد جسوره الفنية إلى كل مكان، ويكمن في البناءات المتعددة للعمل أستطيع أن أقول إن في القصة جسور رمزية متداخلة تحتاج إلى دراسة متأنية لا يمكن القيام بها هنا نظراً لتعدد مساراتها.
والقصة تكشف في مقطع السجن (الأخير)
أهمية الجسر لكل من في السجن،
وبالتالي كل من في هذا العالم. يقول بطل القصة وهو يصف المسجونين
داخل السجن: "منهم دكاترة طب، وأساتذة
جامعيون، وطلبة، وصحفيون، وأدباء، ومفكرون، وساسة، وموظفون عاديون،
بل ووزراء
سابقون...
متكاتفون
جميعاً لإزالة آلامهم".
"خلف الشمس بخمس" القصة الثانية في مجموعة "الجسر" هي "خلف الشمس بخمس"، تلك القصة التي وصفها الناقد عبد الكريم قاسم في أحد أعداد مجلة "الحكمة "بـ"الرواية المختصرة"؛ إنها القصة الأكثر قدرة على اختزال ما نذهب إليه من "أنسنة العالم" و"عالمية الإنسان"، حيث تقوم فكرة القصة فنياً على إيقاعين سرديين: إيقاع يصور بيئة بطل القصة وخلفيته ومنبته، وإيقاع يصور البيئة المجتمعية التي انتقل إليها البطل في أماكن بعيدة مثل: "عصب"، "ليفربول"، "البرازيل"... القصة مشهدية، يتراقص فيها السرد بين مشهدين: مشهد يصور حالة البطل في مجتمعه القرية(بعدان)، ومشهد يصور الحال الذي آل إليه البطل في الغربة. لكن الراوي لم يترك البطل يفلت من مرصده منذ انطلاق "قدميه العاريتين تدوسان، الأشواك دون ألم..."(ص21)؛ لأن هناك ألماً آخر كان الراوي قد صوره وهو يتحدث عن الوضع الإنساني الذي عاناه البطل مع أخيه في القرية الصغيرة. جعلته آلام الفقر والمعانة والاغتراب الداخلي "يحث خطاه وسط ذلك الظلام الدامس، غير آبه لعشرات الأشواك التي يدوسها، وقد انغرز بعضها داخل قدميه الحافيتين"(ص21). في وصف الراوي للبطل/الإنسان، بكل أحزانه، وفي هذه اللحظة التي يقرر فيها مغادرة وطنه، توضيح للمحلية التي تحمل بين مفرداتها توضيحاً آخر، وهو قدرة الراوي على أن يكون هذا الوصف السردي عالمياً بامتياز في قصدية لتحرير ثقافتنا من العزلة. ففي طريق خروج البطل من الوطن لا ينسى الراوي أن يتوقف معه في "سمسرة السبيل"، التي تعد ملمحاً مهماً في تلك الحقبة. ولا ينسى الراوي المرور مع بطله إلى وضعه النفسي وهو يشاهد ميناء "المخاء" وبحره المتلاطم الذي انتقل عبره إلى "عصب". وفي "عصب" يعود الكاتب في محاولة جديدة لأنسنة العالم؛ إنه يرد على السؤال الذي أثارته فاطمة الرنتيسي في بداية هذه الورقة: "لماذا نخشى الغرباء؟". لا تحتفي قصة "خلف الشمس بخمس" بتفصيلات ثانوية، لأن كل ما فيها يندرج ضمن تحقيق هدفين: عالمية الإنسان، وأنسنة العالم؛ فهذا بطلنا وقد صار في "عصب" وأصبح الغرباء أصدقاءه، ها هو يجد أحد أبناء قريته (محيميد)، فتتحقق عالمية الإنسان. ثمة قاسم مشترك بين الناس هنا وهناك: الملابس التي يرتديها الناس في هذه البلاد "من السرة إلى الركبة" وهي تتفق مع دواعي الستر التي كان يطلقها فقيه القرية مشيراً إلى أن العورة في الإسلام للرجل من السرة إلى الركبة. هناك قاسم مشترك آخر بين ليفربول وبعدان، وهو :الضباب. وهناك أشياء أخرى حثته على اكتشاف إنسانية العالم، فهو يستطيع أن يضع رجلاً على رجل في أي مقهى في أوروبا ويطلب "واحد موكا" (قهوة يمنية)، يتعرف على امرأة بسبب هذه القهوة التي تعد من أهم صادرات بلده، وفي ذلك ملمح إنساني مشترك. البشر هنا يأكلون البطاطا أيضاً كما يأكلها الناس في القرية، في ذلك الركن من العالم. ببساطة: يتحول كل ما هو محلي إلى عالمي، وكل ما هو عالمي يتحول إلى محلي. ها هو يقف أمام مغنية سمراء مستعيداً ذكرى حدثت له هناك، ويتزوجها، وكان في القرية مغنيات سمراوات أحب واحدة منهن، لكنه لم يستطع الاقتران بها لأنها خادمة! إن العالم حقاً قرية واحد وبيت صغير. حُمادي "المجنون" تتحدث القصة عن قرية صغيرة انتهت من جمع الحصاد، وكالعادة يذهب الناس في القرية بحصادهم إلى "المجران" (البيدر) الذي سيتم في ساحته غربلة المحصول وتنقيته من الشوائب ثم العودة به إلى المنازل. جاء الناس كلاً يحمل محصوله إلى المجران الواسع الذي يتوسط القرية، وهناك وضعوا محصولها المعد للتنقية، كل واحد منهم وضع محصوله في بقعة ما من أرضية المجران، وكل كمية من المحصول كانت تعود لشخص ما في القرية، وكل شخص وما يمتلك من محصول. فقد كان للشيخ كومة كبيرة أكبر من كومات الآخرين من محصول، ويأتي بعده العاقل، والأعيان، والفقراء بعد ذلك. لم تكن الأكوام متساوية، فهناك الكبيرة جداً، وهناك الصغيرة جداً، ولا شك أن مثل هذا الأمر لم يرُق لحمادي، مجنون القرية، وهو يتأمل ذلك؛ خرج ذات يوم وقد اتخذ قرارا واحداً، وهو أن يتحول هذا المجران وما فيه إلى كومة واحدة ووحيدة. قصة حمادي "المجنون" تقوم على تساؤل: لماذا لا يأخذ العالم بالحكمة من أفواه المجانين؟ يقول الراوي: "خرج حمادي من زاويته التابعة للمسجد كعادته في مثل هذا الوقت من الليل..." (ص50 ). فإذا كانت الإنسانوية المتدينة تمثل حالة الإيمان بالعمل((6، فإن هذا ما كان من بطلنا، فقد خرج من زاوية تابعة للمسجد، وللمسجد في الثقافة الإسلامية سطوة التشريع. إذن فحمادي ليس مجنوناً، ولكن درج الناس على وصف كل سلوك مغاير بذلك، وكل من يحمل فكرة عالمية أو محلية يصفونه بالصفة نفسها مع أن ذلك من صميم تعاليمنا الإسلامية؛ ألم يدعُ الإسلام إلى المساواة؟ ألم يقل إن للفقراء حقاً من أموال الأغنياء؟ فكرة القصة -إذن- تدور حول عالمين: عالم الإنسان بأفكاره وأحلامه ورؤاه وشهواته، وعالم الأرض بعطائها ونقائها، وقد رأى الكاتب من خلال هذه القصة أن العالم لا بد أن يكون واحداً، ولكن ليس بإملاءات العولمة وشروطها، وإنما بما يمليه العقل والمنطق، فما تدره الطبيعة ليس ملكاً لفئة أو لفرد، وإنما هو في الحقيقة للناس جميعاً، "وإذا كان الأدب الإنساني هو أدباً محلياً استكمل أبعاده الفلسفية كلها" على حد تعبير نجيب محفوظ؛ فإن هذه القصة لا يمكن تناولها تناولاً سطحياً دون الذهاب إلى أبعادها الفلسفية التي تنطلق من اشتراك الناس في مخرجات الطبيعة والحياة والعلم والثقافة، وأهمية ذلك من أجل الحفاظ على النوع البشري وصيرورة الارتقاء. فالقصة تدعو إلى الاشتراكية/الحياة ولكن من يدع إلى ذلك سيقولون إنه مجنون، ولو خرج من زاوية المسجد مثل "حمادي". الفتى مبخوت تبدأ قصة "الفتى مبخوت" بحوار بسيط يظنه القارئ عاديا، وهو في الحقيقة حوار عالمي تكمن أهميته في قدرة الكاتب على التقاطه وتحريره من أسر العادية وإلحاقه بمداءات أرحب. ودار هذا الحوار بين بائع "البرعي" و"مبخوت" الذي يعمل عنده بالأجر. أصبح الحوار غير عادي إذن، وذلك بمجرد توضيبه في قصة ملفتة. تشبه هذه القصة مسرحية ذات مشهد واحد، لأنها مبنية على الحوار حتى النهاية. ومع دخول شخصية ثالثة إلى القصة تزداد إنسانيتها، لأنها تنمو باتجاه نقل مشهد يحدث في الهواء الطلق كل يوم، ولكن لا أحد يلتقطه. الشخصية الثالثة هي بائعة "الكُدَم" التي تتهم "مبخوت" بسرقة "الكدم" وذلك بعد أن وثقت به فاختارته ليحرس "قُفَّتها" بدلاً منها حينما ذهبت لاستخراج بطاقة شخصية. القصة تصور مقطعاً من الحياة اليومية اليمنية في "باب السباح"، ولكنها تنقل الحياة بكل تفاصليها، كأنها عين كاميرا مضاف إليها المشاعر الإنسانية والأحاسيس، ويمثل الراوي فيها إحدى شخصيات الرواية. يرى نجيب محفوظ أن الفرق بين المحلي والإنساني في الأدب هو فرق في شمول وعمق المعالجة الأدبية للموضوع. لا في نوع هذا الموضوع وبيئته. وعلى ذلك فإننا نرى أن الكاتب هنا يستقي قصصه من الذاكرة المفتوحة على الإنسانوية الأخلاقية والثقافية، مضيفاً إليها أسلوبه الممتزج بين الجدية والسخرية والطرافة، وهو نسق لم يُعرف به أحد قبل زيد، ولا عرفه أحد بعده في اليمن؛ في تلك المناطق الأكثر إثارة للجدل، في تلك الأمكنة المزدحمة بالبشر والحكايات والوقائع، في تلك الأحياء والقرى المليئة برائحة البن اليمني والعرق اليمني والحزن اليمني... ومن ذلك قصة "الفتى مبخوت" حدثت في قلب صنعاء، في "باب السباح" الباب المفتوح على الحياة المزدحمة المتناقصة، الحياة المتنافرة، المتناحرة... هنا يعمل الفتى مبخوت لدى بائع البرعي، وهنا وقف الكاتب ليغترف من الواقع والحقيقة. "بائعة الذرة" يرى هشام جعيط أن هناك أنماطاً متعددة للنزاعات الثقافية الإنسانية في العالم الثالث، ومنها "النزعة الإنسانية العفوية، وهي نزعة موجودة عندنا" حسب قوله(7). هذا ما نلمسه في قصة "بائعة الذرة" التي تعد ملجأ إنسانياً صارخاً انتقاه الكاتب بعناية مدهشة من وسط الزحام، نقلها الكاتب كما هي بالفعل ولم يضف إليها سوى الأبعاد الفنية والخيالية، والرؤية التي ساهمت في إعادة صياغة المشهد القصصي وكثفت معانيه ودلالالته. يقول في مطلع القصة: "صعقني من بعيد بريق عينيها وهي تقف في مدخل سوق القات تبيع كيزان الذرة الرومي، المشوية. صرت مشدوداً إليها بكل حواسي...". كان البطل يختلس سويعات قليلة يذهب فيها إلى تلك الفتاة، وهناك بطل يتأمل حركاتها وانفعالاتها وعلاقاتها مع المجاورين، ولكنها للأسف الشديد قررت في إحدى المرات ترك هذه المهنة والتحول إلى بيع "القات" لأن بيع الذرة غير مربح، وهي تريد الربح السريع، ولو كلفها ذلك التخلي عن مهنتها الأصلية: بيع كيرزان الذرة. أما الشيء الذي أحزن بطل القصة هو اكتشافه أنها لم تكن تحب هذا التحول، ولكن الرجل البدين المتخفي خلف نظارة سوداء وابتسامة ماكرة هو الذي دفعها إلى هذه المهنة، لأنه يسيطر عليها وعلى ثروتها. ولعلنا سوف نكتشف أن هناك من استغل عفوية بائعة الذرة؛ وهو فعل لا يمت للإنسانية بصلة، ولكن الحياة الإنسانية لن تموت ولن تنتهي مع اختفاء بائعة الذرة الأولى، فهناك ألف امرأة سوف تهتم بهذه المهنة، فها هي الفتاة الصغيرة تحتل مكانها وستكبر ذات يوم، لكنها لن تغادر دفء كيزان الذرة. وفي هذه القصة إشارة إلى أن العمل في بيع الذرة وشرائها عمل يتعلق بالجانب الإنساني بين البشر، وأن العمل في بيع القات هو عمل طارئ لن يدوم، لأن هناك أجيالاً ستتولى المهمة، مثل الفتاة الصغيرة التي جاءت لبيع الذرة بعد تحول الأولى إلى سوق أخرى. "البداة" إن علماء الاثنولوجيا والمختصين في الميثولوجيا والديانات والأدب المقارن يعينون للأسطورة وضعية عالمية(8). ومن هنا فإن الحكايات والأساطير والخرافات تعد شأناً عالمياً، بدليل تشابه هذه الحكايات العالمية. ولعلنا نعرف أن حكاية "سندريلا" موجودة في معظم بلدان العالم، مع اختلافات وتحولات سطحية، إنما جوهر الحكاية يظل واحداً. ومن ذلك أيضاً تشابه حكاية "وريقة الحناء" في الموروث الشعبي اليمني، وحكاية "سندريلا" العالمية. و"البداة" هنا هي حكاية ثور اشتراه أحد الجزارين من إحدى قرى "همدان" وفوجئ بعد شرائه أنه لا يحب طعام الحيوانات ولا يستسيغها، وأما إذا قدم له من طعام البشر فإنه يلتهمه بشهية، وفي ذلك -حسب المعتقد الشعبي الذي كان يكرسه الإمام- إشارة إلى أن الثور ليس ثوراً وإنما هو إنسان حولته (البداة) الساحرة إلى حيوان. أشفق الجزار على الثور وذهب به إلى الإمام ليخلص الرجل من شكله الحيواني الجديد. وبالفعل ذهب الجزار بثوره إلى الإمام، الذي وعد بعمل اللازم كالعادة، ولكن المفاجأة حدثت بعد ذلك عندما أخبر أحد الجزارين العاملين في قصر الإمام صاحب الثور بأنه شاهد ثوره مذبوحاً في القصر وشاهد جلده الذي دبغه هو بنفسه، مع أن الإمام كان خطب في الناس وأعلن أنه أخرج البداة من الرجل وأن الرجل عاد لحالته الطبيعية. وإذا كانت الأساطير عالمية بطبيعتها، فإن محاولة قراءتها وإعادة صياغتها بما يخدم الذهن الإنساني يعد عملا إنسانوياً، لأننا بذلك نحيي فكرة إنسانية كانت مهيأة للانقراض. في حكاية "البداة" الأسطورية التي ينقلها لنا القاص زيد مطيع دماج يتجلى تعالقها مع حكايات التناسخ التي ترى أن الإنسان لا يموت وإنما تذهب روحه لتتلبس كائناً آخر أو إنساناً آخر. ويظهر ذلك في بعض المعتقدات الدينية العالمية، فهناك من يرى أن بمقدور السحرة مثلاً تحويل الإنسان إلى ذئب أو قط أو حمار أو ثور، كما هو في حكاية "البداة" التي خطها قاصنا لينتقد وضع الإنسان اليمني أثناء حكم الأئمة حيث يلجأ الحاكم إلى تمييع القضايا العامة والأولوية بواسطة خلق قضايا هامشية لا واقعية، لكنها تحمل من الدهشة والغرابة ما يجعل الإنسان الأمي حائراً متفكراً متلهفاً خلف حلم وجودي. أخيراً... العثور على كنز كلما قرأت قصص زيد مطيع دماج شعرت أنني عثرت على كنز. ويحدث ذلك كلما أعدت القراءة؛ لأن كل قراءة لا تكشف سوى أجواء خيالية مغايرة. وإذا كانت محنة الأدب اليمني تكمن في بعده عن الوسط الثقافي العربي، فإن هذه المحنة لا تقلل من شأنه ولا تثبط من عزائمه، وإنما تزيده خصوصية وجمالاً. والواقع أنني لست من أولئك الكُتّاب الذين يذهبون إلى اليأس سريعاً، أو يتقهقرون كلما أحزنهم الوضع الذي يؤول إليه الأدب اليمني، فاليأس والتقهقر ليس من طبائع الكتاب المجيدين والمثابرين، القادرين على التجاوز والصعود. ولو أن المؤسسين ساورهم مثل ذلك الشك لما دفعوا بالأدب الكتابي القصصي إلى المستوى الذي يستقر عليه اليوم، ولا شك أنهم كانوا يكتبون انطلاقاً من الوعي الذي توصلوا إليه وهم يتعاركون مع ثورة التقنيات التي دشنها "برد" في اختراعه لهذه الآلة السحرية العجيبة: التلفزيون، حيث تحول التلفزيون إلى سلطة إعلامية عملت على تخميش وجه العمل الكتابي الأدبي. الهوامش: (1) فاطمة المرنيسي، مجلة "الدوحة"، العدد 17، مارس2009، ص5. (2) أحمد جاسم محمد، مجلة "الحكمة"، العددان 239 و240، أبريل/ مايو 2006 ص25. (3) د. محمد مقداد، مجلة "الحكمة"، العددان 231 و232، نوفمبر/ ديسمبر2004، ص35. (4) فردريك أدوارزد، مجلة "إنسان"، ترجمة: الهادي المعموري، مؤسسة "إنسان" العدد السادس، أيلول 2007، ص18. (5) جابر عصفور: النقد الأدبي والهوية الثقافية، "كتاب دبي الثقافية"، الطبعة الأولى، فبراير 2009، ص204. (6) نجيب محفوظ: أتحدث إليكم، دار العودة، بيروت،1977، ص141. (7) زكي الميلاد: مجلة التسامح، العدد 24، مؤسسة عمان للصحافة، خريف 2008 (8) بيير شارتيه: مدخل إلى نظريات الراوية، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى،2001 ص31.
|