"الرهينة" اليمني.. يهرب إلى المستقبل

منير عتيبة  
 

اليمن من البلاد العريقة في الحضارة، وهي موطن العرب العاربة الذين هم أصل العرب بعدما يسمى بالعرب البائدة، وقد جاء ذكرها في القرآن في قوله تعالى "بَلْدَة طَيِّبَةٌ، وَرَبٌّ غَفُوْرٍ".

تمتد اليمن من حدود الحجاز ونجد شمالاً حتى البحر العربي جنوباً، والبحر الأحمر غرباً، حتى الخليج العربي شرقاً، وقد سميت يمناً؛ لأنها تقع على يمين الكعبة، أو من اليُمن والبركة وذلك لخصب تربتها ووفرة خيراتها وكثرة منابعها ووديانها.

كانت اليمن منطقة صراع دائم بين القبائل التي تعيش فيها، حتى بعد أن أسست الإمامة فيها، وأول إمام لها وهو يحيى بن الحسين الرسي، (الرس: قرية بين الحجاز ونجد)، وقد دخل اليمن لأول مرة سنة 280هـ، بل ويرى عبد الله الثور في كتابه "هذه هي اليمن" إن حدة الصراع بين الأئمة أنفسهم كانت أشد عنفاً وأكثر ضحايا من الصراعات التي كانت تقوم بينهم وبين منافسيهم، سواء كانوا من الحكام المحليين أو من الدول التي تأتى من الخارج كالأيوبيين والعثمانيين؛ إذ كان يظهر أحياناً أكثر من إمام يدعي أحقيته بالخلافة، مما يؤدي إلى صراع دموي، وهكذا "غرقت اليمن أثناء حكم الإمامة في بحر من الدماء والمشاكل، وخسرت ألف عام من التاريخ في صراع كان من الممكن أن يقودها إلى البناء والعمران والإصلاح، لولا مطامع الحاكمين واستهانتهم بالأرواح والأمجاد".

فإذا كان هناك شبه إجماع بين المؤرخين أن تاريخ اليمن توقف لمدة تقرب من ألف عام؛ فإن ذلك الإحساس الذي يأتيك وأنت تقرأ رواية "الرهينة" بأن أحداثها تدور في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر، رغم أن أحداثها تدور في النصف الأول من القرن العشرين، ذلك الإحساس لا يبدو غريباً، فقد كانت اليمن قطعة من القرون الوسطى تعيش في قلب القرن العشرين معزولة تماماً، يؤهلها لذلك طبيعتها الجغرافية الجبلية، والستار الحديدي الكثيف الذي وضعها الأئمة خلفه!!.

مؤلف رواية الرهينة هو الأديب اليمنى "زيد مطيع دمَّاج" المولود سنة 1943م.. بدأ تعليمه في "الكتَّاب" بحفظ القرآن الكريم.. درس الحقوق في جامعة القاهرة، ودرس الصحافة في جامعة صنعاء.. وانتخب عضواً في أول برلمان يمنى سنة 1970م ورئيساً للجنة الثقافة فيه.. من مؤلفاته: طاهش الحوبان – العقرب – الجسد - أحزان البنت مايسة.. أما رواية الرهينة فقد صدرت سنة 1984م.

يقول الناقد اليمني محمد علي الخولاني: "زيد مطيع دمَّاج واحد من الذين أَثْرَوا المكتبة اليمنية بدراية واقتدار، وبامتلاك ناصية العمل الفني الذي يتطلب قدرة على ضبط الإحساس النفسي بما يلائم الحدث وفق لغة خاصة تشدُّ القارئ إلى متابعتها".

والرهينة هو غلام صغير ينتسب إلى زعيم قبيلة أو أسرة ثائرة أو يخشى خطرها، يأخذه إمام اليمن أو نائبه ليسجنه في قلعة محصنة؛ ليكون ورقة تهديد في يده إذا ما فكَّر أهله القيام بما يغضب الإمام.

بعض هؤلاء الرهائن يتم اختيارهم للعمل كـ "دويدار" في قصر الإمام أو نائبه، أما عمل الـ "دويدار" وماهية وظيفته، فهذا ما لم يكن يعرفه بطل الرواية عندما تم إبلاغه باختياره للعمل كدويدار.. يقول: "الشيء الذي لم أكن أعرفه هو معنى (الدويدار) وما هو عمله؟ ولم أكن أعي أي تفسير يقال، ربما لصغر سني.

- من شروط الدويدار أن يكون صبيًّا لم يبلغ الحُلُم.

    هكذا كان يقول أستاذنا (الفقيه) السجين أيضاً معنا، والمكلف بتعليمنا القرآن والفروض والطاعة في قلعة القاهرة معقل الرهائن.

- يقوم الدويدار حالياً بعمل الطواشي.

   وعندما تبدو علينا الحيرة يقول:

       - والطواشي هم العبيد المخصيُّون.

فنزداد حيرة أكثر.

      - والخصي هو من تُضْرب خصيته.

ونحتار أيضاً من جديد متألمين لهذا العمل القاسي، فيقول:

     - لكي لا يمارس عملاً مشيناً، جنسيًّا، كمضاجعة نساء القصور، أي بمعنى آخر يجب أن يكون فاقداً لرجولته، أي بمعنى آخر عاجزاً.

ونحتار أكثر، فيقول:

    - هذا يكفى، مفهوم؟

    - غير مفهوم يا (سنّا) الفقيه. [أي يا سيدنا الفقيه].

يقوم غاضباً لردنا الجماعي الذي كان يعتبره وقحاً أو وقاحة، ونصيح بنشيدنا المعتاد:

    - غفر الله لك يا سيدنا، ولوالديك مع والدينا".

يذهب الغلام ليعمل كدويدار في بيت النائب، وهناك يصادق غلاماً آخر سبقه إلى العمل بهذه المهمة ويسمونه "الدويدار الحالي" أي الحلو أو الجميل.. ويصبح الدويدار الحالي مرشداً له، يخبره بكل أسرار القصر، النائب الذي لا يفعل في حياته سوى الجلوس على أريكته والاستماع إلى جهاز عجيب تصدر منه أغان وموسيقى اسمه "الراديو"، ويرسل جنوده لجمع الضرائب الباهظة من الفقراء الذين لا يملكون طعام يومهم - هؤلاء الجنود الذين ينتشر بينهم الشذوذ حتى مع الحيوانات -، ولا يترك مبسم النارجيلة من يده أو فمه.. وصورة هير (لقب بمعنى السيد) هتلر، وموسلليني ملك الطليان، والشيخ الوقور عمر المختار.. والشريفة حفصة أخت النائب من أبيه، القوية، الجميلة، المطلقة من ابن عمها لعدم قدرته على نيلها بسبب عجز متأصل فيه، الغنية لميراثها الكبير من أمها.. والعالم السِّرِّي لحريم القصر، وما يفعلنه مع الدويدار الحالي، ألعوبتهن التي يقطعن بها ملل الوحدة والعمر الذي يمضى بلا معنى..

        يدخل البطل في علاقة مركبة – متأزمة - مع عالمه الجديد، هو رافض لهذا العالم، وهو في الوقت نفسه أضعف من أن يثور عليه، ولا يملك حتى حق الاحتجاج، بل إنه يحب جزءاً من هذا العالم، يحب الشريفة حفصة، وهي بدورها على علاقة غامضة بالشاعر الخاص للإمام، وتستخدم "الرهينة" كمرسال بينها وبين الشاعر، وفى نفس الوقت تستمتع بوقوع "الرهينة" في حبها، وتعمل على امتلاكه، لكنه يرفض أن يتحول حبه إلى تسلية رخيصة، إنه من النوع العنيد الذي لا يستسلم بسهولة، إنه روح غير قابلة للامتلاك.

    استخدم دمَّاج أسلوب الاعترافات في سرد روايته، فهي تدور على لسان البطل، وقد وفق في اختيار هذا الشكل؛ لأن قدرته البوحية الهائلة تجعلك تصدق تماماً ما يجري، بعكس ما لو استخدم أسلوب الراوي الخارجي، خاصة وأنه لم يجعل بطله "الراوي" المعترِف عالماً بكل شيء مثلما يحدث مع الراوي الخارجي عادة، بل إن الرهينة "الراوي" لا يعرف شيئاً عن أي شيء منذ البداية، فجهله التام بالعالم الذي هو مقبل عليه لا يقل عن جهلنا نحن به، وهو يكتب اعترافاته أثناء اكتشافه لهذا العالم، ونحن نكتشفه معه، ونمتلك معه دهشة وبكارة لحظة الكشف والاكتشاف الأولى.. كما ساعد هذا الشكل الروائي على جعل القارئ يتمثل صورة البطل في نفسه؛ إذ يحرص دمّاج منذ البداية، ويجيد، وضع قارئه في الظرف المكاني والزماني والنفسي لبطله، بحيث تشعر بنوع من الدمج شبه التام بينك وبين البطل خلال قراءتك للرواية، وليصل بك الكاتب إلى هذه الحالة من الحلولية يستخدم وسائل شتى، مثل وصف المكان بطريقة تجسِّمه لك وتجعله مرئيًّا، واستخدام الأسماء اليمنية للأشياء والأدوات والصفات والعلاقات، فهو مثلاً يصف الحمام التركي هكذا: "سرداب وقباب وممرات كلها مرصوفة بالحجارة المربعة السوداء، ملحمة بالقضاض المصنوع من النورة البيضاء، البخار يتصاعد بكثافة عند القمريات الرخامية الجاذبة للضوء"، ويصف إسطبل الخيل: "كان إسطبل الخيل واسعاً، تنبعث منه رائحة ذكرتني بسفل منزلنا في الجبل، رائحة روث وبول البقر والثيران ممزوجة برائحة التبن والعجور وأصوات الدجاج المنزعجة لقدومنا بينما كانت تنبش بأظفارها أكوام السماد باحثة عن الحشرات، كم كان والدي حريصاً على بقاء النواقيس النحاسية على رقاب الثيران.. حتى الجمال والحمير في جبلنا كانت تعلق على أعناقها تلك الأجراس النحاسية القديمة التي تحذر الناس والأطفال بالذات في الطرقات والأزقة"*.. ويذكر "جمنة القهوة" وهي إناء فخاري تغلى فيه القهوة اليمنية من قشر البن، و"المداعة المنيبر" أي النارجيلة الممتازة.. و"قبيلي" أي فلاح نسبة إلى القبائل.. و"لمبة الألف" أي المصباح الغازي.. و"كاوش" وهو العنبر المخصص لإقامة الجند، وغير ذلك.. بالإضافة إلى حرصه على وصف ما يمكن تسميته بالجو العام خصوصاً فيما يتعلق بالعادات الشعبية مثل الاحتفال بحلول شهر رمضان: "غداً هو أول يوم في شهر رمضان، شعرت بذلك من خلال الإعداد الهائل  والاهتمام المشترك لجميع سكان القصر من سادته إلى عساكره وخدمه وحشمه، حتى صاحبي، فقد ملأ غرفتنا بأشياء عجيبة بيضاء اللون كأنها مصنوعة من الفضة، قال لي بأنها "الأتاريك" وبدأ في تنظيفها ثم ملأها بمادة القاز والسرت، وغيّر - كما أفهمني - ذبائلها الحريرية الملونة التي تشبه "قوس علان" بأوانه، ثم شرع يجرب تجاربه عليها، كم أدهشني صفاء نورها اللبني الناصع، وكم ضحك صاحبي مني وتلذذ في مباغتتي بأشياء عجاب تذهلني!".. ويقارن بين رمضان أهل الحضر كما وصفه في قصر نائب الإمام، وبين رمضان في قريته الصغيرة القابعة في حضن الجبل.."نَسْمُر لنستمع آيات من القرآن الكريم، نحفظها على ضوء سراج زيتي ذي ذبائل قطنية حارقة، وإذا ما قرئ أي شيء فهو طبعاً كتاب المولد والمآتم والأفراح الممل".

ولا ينسى أن يصف لنا كيف كان يقضى رمضان في قلعة الرهائن.. وكيف تقضى نساء القصر ليل الشهر الكريم ونهاره، وهكذا حتى تشعر أنك قد صمت نهار رمضان وسهرت ليله مع كل طبقات الشعب اليمني في ذلك الوقت..

   ولا يمر وقت طويل حتى يموت الدويدار الحالي بين يدي "الرهينة" نتيجة استنزاف نساء القصر ورجاله له.. فتشتعل الكراهية في قلبه لهذا العالم الموبوء.. "وهكذا يقودنا دمّاج إلى قصور الخرافة العربية حيث النساء والجواري والغلمان، والحرس المفتون بالأسرار، والملوك المؤطرين بالحجَّاب، والشعراء المدّاحين في قصر الإمام اليمنى، كاشفاً خباياه، متسللاً إلى دهاليزه".. يعري الكاتب مجتمع الصفوة اليمنى في ذلك الوقت كاشفاً عيوبه ومخازيه، محللاً للفساد الذي أدى إلى انهياره.. فالرهينة يكتشف خواء هذا العالم وهشاشته، ويكتشف في الوقت نفسه قدرة على المقاومة تسكن بداخله، ولا تحتاج إلا إلى استنهاضها واستخدامها، فيقاوم خوفه، ويقاوم حبه للشريفة حفصة.. ويولي هذا العالم ظهره.. "كنت قد قطعت مسافة كافية في طريق جديد مؤد إلى المستقبل، مخلّفاً ورائي صوتها المبحوح المحبب إلى قلبي، وذكرياتي مع صاحبي المرحوم".

    وكأن السطور الأخيرة من الرواية توحد بين الرهينة - الذي صهرته التجربة الرهيبة التي مر بها، فلم يَعُد غلاماً بريئاً يفتح فمه دهشة لكل شيء يقابله، بل أصبح شابًّا صاحب خبرة تواقاً إلى مستقبل أفضل في عالم أفضل - وبين اليمن، الأرض والإنسان، الجغرافيا والتاريخ، في محاولته الصعبة للفكاك من أسر العزلة "الزمكانية"، والتطلع إلى المستقبل.  

 مراجع:

1-       هذه هي اليمن - عبد الله الثور - دار العودة – بيروت - الطبعة الثانية 1979م.

2-       مجلة "اليمن الجديد" - السنة التاسعة عشرة - جمادى الثاني 1410هـ – يناير 1990م.

3-                 الرهينة – زيد مطيع دمَّاج – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999م.

- القمريات: نوافذ رخامية - بسفل منزلنا: أسفل منزلنا - العجور: قصب الذرة (علف البهائم).

source: http://www.islamonline.net