الواقعية النقدية في قصص زيد مطيع دماج
د. مسعد أحمد مسرور
 

اخترنا زيد مطيع دماج ممثلاً ورائداً من رواد المذهب الواقعي النقدي في القصة القصيرة في اليمن، لأن خصائص هذا المذهب متوافرة في كل مجموعاته القصصية المنشورة الآتية:
- طاهش الحوبان- مجموعة قصصية صدرت عام 1973م.
- العقرب - مجموعة قصصية صدرت عام 1982م.
- الجسر- مجموعة قصصية صدرت عام 1986م.
- أحزان البنت مياسة- مجموعة قصصية صدرت عام 1990م.
- المدفع الأصفر- مجموعة قصصية صدرت عام 2001م.
هذه المجموعات القصصية وهذا الكم من الإبداع القصصي جعل منه قصاصاً متميزاً بخصائص ذاتية وأصالة فريدة، متفرداً في طريقته وأسلوبه، فهو يكتب وفق ما تمليه عليه ملكته الفنية، وموهبته الأدبية ضمن إطار الواقعية.
كما أن الحياة السياسية والاجتماعية في اليمن تعتبران من أهم العوامل التي كونت شخصيته الأدبية، لأنها تركت تأثيراً بعيد المدى في حياته الفكرية والفنية.
ولقد عاش القاص زيد مطيع دماج طفولته وشبابه في وسط منطقة ريفية جُلَّ سكانها يعملون بالزراعة وتسيطر على حياتهم عادات الريف وتقاليد القبلية: مثل الثأر، والدية والرهائن، والاحتكام إلى الأعراف القبلية في فض النزاع وحل المشاكل بين الأسر المتنازعة.
كما لا ننسى أن والده الشيخ مطيع عبدالله دماج تعرض للسجن عدة مرات لمواقفه السياسية والاجتماعية ولتمرده على حكم الأئمة، وفي 14 مايو 1994م فر والده من سجن (الشبكة) في تعز إلى عدن مشياً على الأقدام وبدأ يكتب مقالاته الشهيرة في صحيفة (فتاة الجزيرة) ضد نظام حكم الإمام يحيى وبنيه وأسس مع رفاقه فيما بعد حزب الأحرار.
لقد تفاعل دماج مع هذه الحياة بعمق، فتركت أثراً بعيداً في تكوينه الفكري والنفسي، وأمدته بمادة وفيرة، اقتبس منها كثيراً من موضوعات قصصه، وانعكست في نتاجه الأدبي، وأخلاقه الشخصية بصورة عامة، فأكسبته خيالاً فسيحاً، يتناسب مع آفاق حياته التي عاشها في اليمن ومصر خيالاً بسيطاً بعيداً عن الغموض والتعقيد، وشكلت لديه نبعا من الينابيع، التي منح منها حكاياته المشوقة الطريفة، فقد استطاع أن يحقق هدفاً من أهم الأهداف التي يسعى إليها أي كاتب، هو منح إبداعه الملامح المحلية، دون أن يتعارض ذلك مع الملامح العربية والإنسانية، فقد حقق اقتراباً من البيئة المحلية من خلال اقترابه من ذاته، كما أنه أوجد ذاته من خلال اقترابه من الواقع المحلي.
يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح: «ومنذ بدأ زيد الكتابة، وعينه على الواقع يختزنه في ذاكرته، وقلمه ينبش ويقلب هذا الواقع ويتغلغل إلى أعماقه راصداً ما ظهر من المآسي تارة، ومكتشفاً ما خفي تارة أخرى، ولهذا لم يشغل نفسه بأنماط التعبير الأخرى: القصة عنده هي الأداة الوحيدة والهواء الذي يتنفس به ويعبر من خلاله عن تجارب الماضي والحاضر بأسلوب قصصي يميل إلى بساطة الأداء.
ولعل أخطر ما في الفن القصصي أنه فن لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن محيط البيئة وفي الوقت ذاته لا يمكن أن يعيش بمعزل عن حركة العصر، وكأنه شاهد دقيق الملاحظة يرصد ملامح التغيير والثبات في خارطة الواقع «1» لقد عالجت قصصه بصورة عامة الواقع المحلي، مع شيء من التفاوت في تغليب إحدى صور الواقع على الصور الأخرى.
لقد انعكس الواقع اليمني وقضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على صعيد الرؤية الواقعية للقاص وموقفه ، من خلال نماذجه القصصية، التي تتسم بالأصالة والتفرد، من بين الإبداع القصصي المتزامن معها، كما أن إبداعه القصصي يشكل علامة مهمة على طريق الفن القصصي اليمني وآفاق تطوره.. وذلك يتجلى من خلال مجموعاته القصصية.. حيث تمكن القاص من خلال إبداعه من رسم لوحة فنية شبه متكاملة للبيئة الريفية التي عاشها وأغنى فنه بهذا اللون المحلي، الذي يعتبر أبرز سمة من سمات إبداعه الأدبي القصصي.
وفي عملية التلمس لملامح الواقعية النقدية في القصة القصيرة في اليمن نسير بدءاً مع القاص دماج، وذلك من خلال معالجة بعض قصص من مجموعته الأولى «طاش الحوبان» «2» مبتدئين بالقصة التي تحمل عنوان «بياع من برط». «3»
في هذه القصة يدفع القاص بشخصية «ابن ثوابة» ابن شيخ قبيلة يحاول أن يتمرد ويرفض ويرفض تقاليد القبائل الضيقة، أن يصبح تاجراً في مدينة «العنان» متحدياً تراث القبيلة وأفكارها التي تنظر إلى من يشتغل بالتجارة «البياعة» على أنه «حثالة لا أصل ولا نسب» «4» لكن هذه الشخصية عندما شقت طريقها نحو حياة الاستقرار والتحضر وحققت بعض أحلامها تحدث الكارثة، وتقتل الشخصية المتمردة وتقع ضحية لثأر إحدى القبائل الأخرى التي قتل أحد أفرادها، دون أن يكون لهذه الشخصية علم أو يد في ذلك.
إنه قانون القبيلة ظل هو السائد ووقف سداً منيعاً أمام التغيير.
يقول الراوي: كان الفرق شاسعاً بين مدينة «العنان» كعاصمة «برط» وملتقى لقبله وبين ضواحيها.. لكن عاصمة «برط» يسكنها أناس آخرون غير القبائل هم «البياعة» أي التجار الذين يتأفف القبيلي منهم ويعاملون على أساس انحطاط في العرق.. وكم كان «ابن ثوابة» يحتار لذلك وهو يتسكع في طرقات «العنان» مشدوهاً بما يراه في الحوانيت والعجلات النارية والأبهة والرفاهية التي يعيشها سكان «العنان» وكان في بعض الأحيان يتساءل عن سبب ذلك:
لماذا نعيش نحن في «الحصون المظلمة على قمم التلال الجرداء في بؤس بينما يعيش سكان «العنان» في قصور راقية على سهل أخضر وفي بحبوحة من العيش؟..
ولم يستطع النوم في تلك الليلة فصعد إلى سطح الدار يريد أن يرى أنوار «العنان» الساطعة المتلألئة.. لكن المتاريس الحربية حالت دون ذلك فعاد إلى غرفته وفي كوة صغيرة نظر وأمعن النظر. «5»
يقدم لنا القاص هذه الشخصية في حالة نفسية ومادية ضمن صراعها اليومي، ومن خلال التصوير والحوار في القصة تنكشف لنا حالتها وتتعرى أمام أبصارنا سمات قضيتها وملامح أزمتها وتكشف بأزمتها الخاصة معضلة الواقع المأزوم ومكامن البؤس والتعاسة فيه، وهنا يظهر العنصر الإنساني المتميز الذي يهب القصة رصيداً آخر من الامتلاء والنضج، اعتباراً هنا بأن الشخصية هي سيدة الواقع ومحركة خيوط الحياة وفيها تلتقي مجاري الصراع وإليها ينتهي المطاف إما بخلاصها أو بهلاكها، وفيها معاً تظهر الخبرة بالمعرفة الإنسانية وتسطع ملامح الواقع الاجتماعي المتخلف وتظهر عيوبه، ويحقق القاص مقصده بتصوير هذه العيوب والتركيز عليها، على أساس أنها تمثل صورة الواقع المشوه الذي ينبغي انتقاده والكفاح لزواله ، أو على الأقل الإشعار بوجوب زواله.
كما ساعد الحوار في القصة رسم شخصياتها، لأن الشخصية لا تبدو كاملة الوضوح والحيوية إلا إذا سمعها القارئ وهي تتحدث ومن خلال حديثها تظهر مواقفها تجاه القضايا الاجتماعية المختلفة، ونسوق الحوار التالي بين «شيخ القبيلة» وابنه المتمرد على الأعراف والعادات القبلية: هل تغتر بهذه المظاهر الباهتة؟.. إنهم حثالة لا أصل ولا نسب ولا قبيلة.. ليس لهم وزن ولا ثقل ولا قواعد عرفية يحتكمون بها.
أغراب وسيعيشون دائماً أغراباً تحت حمايتنا وفي ظلنا.. يا والدي.. لقد أصبح أصغرهم يفوقنا ثراء..! وما زلت تردد على مسمعي تلك المظاهر الباهتة.. ولقد كنت ألاحظ عليك دائماً شذوذاً في أفكارك ومسلكك أمام القبائل.. أنظر إلى إخوانك وأبناء عمومتك، انظر إليهم تتعلم كيف تكسب أشرف العيش.. ولا أريدك بعد اليوم أن تردد على مسمعي تلك المظاهر الباهتة للبياعة والجزارين والحلاقين..!!
ولم يكن الطابع النقدي الذي تنهجه القصة الواقعية طابعاً بالواقعية وحدها، فالموقف الناقد سمة من سمات العمل الأدبي تلتصق بطبيعة ارتباطه بالتعبير عن المظاهر الاجتماعية والإنسانية، وقد كانت القصة القصيرة في اليمن تجنح نحو هذه السمة منذ اتجاهها الإصلاحي وبواكيرها الأولى.. ولكن لم يكن يعني ذلك صدورها عن رؤية واقعية.. إذ تظل النزعة النقدية في الواقعية علامة من علامات استيعاب هذه الفترة لمظاهر التطور الفكري المعاصر في اليمن التي أوجبت على الفنان ألا يسلم بالواقع، أو يتناوله كما هو، بل لا بد له من التصدي لهذا الواقع بالنقد والتحليل والاستقصاء والبحث عن العلل والأسباب التي تكمن وراء الظاهرة مهما تراكمت فوقها التفاصيل والجزئيات الصغيرة.
لقد عمقت القصة الواقعية النقدية علاقتها بحياة الفئات الشعبية وأبرزت خصائصها الوطنية، من دون أن يعني ذلك الإيغال في عرض الجانب الرث الظاهري البائس من حياة هذه الفئات.. على نحو ما فعلت القصة التسجيلية، كما توجهت القصة الواقعية النقدية إلى رصد الإحساسات الإنسانية، وتناولت بعمق موضوع الإنسان الصغير المسحوق، وأزمة المثقف وصراع القيم، وهموم بناء المجتمع الجديد، والحب والصبوات الإنسانية، كما ركزت على مشاعر الانتماء، وارتباط الإنسان بالوطن.. وقد كان التعامل مع الموضوع يتم من خلال رؤية الأديب ذات الخصوصية، وعمق نظرته وشمولها وسعة دلالتها، وهذا ما خلق توازناً بين ذات الكاتب وموضوع المعالجة وأصبح بالإمكان أن ننظر إلى أسماء قصصية امتلكت تميزاً واضحاً عندما سعت إلى تعميق الرؤية النقدية فنياً، تجسد ذلك في الإبداع القصصي لدى باوزير وعولقي وزيد دماج.
ومن المفيد الإشارة إلى أبرز النتائج التي قدمها تحليلنا للإبداع القصصي عند زيد مطيع دماج وهي:
أولاً: التنوع في أساليب القص محكوم برؤية فنية متسقة، عمادها انتقاد المواقف والسلوكيات والقيم السائدة، وجعل الانتقاد يهدف إلى إصلاح المجتمع.
ثانياً: مضامين القصص مستمدة من مجتمع يتسم بالحراك الاجتماعي ويتجه إلى طبيعة جديدة ما زالت محكومة بثقافة راسخة الجذور وبعادات متخلفة جاهلية موضوعة موضع التساؤل.
ثالثاً: التمسك بالاتجاه التقليدي للقصة القصيرة. وما يقتضيه هذا الاتجاه من ولوع بالحكاية واهتمام بالحوادث وحرص على الموضوع والتحديد.
 

الهوامش:
1- عبدالعزيز المقالح «دراسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن» ص 198
2- زيد مطيع دماج «طاهش الحوبان» القاهرة، دار الهناء، 1973م.
    الطاهش:حيوان مفترس يوجد في وديان اليمن الكبرى ويقال إنه نتاج ضبع وذئب.
    الحوبان: واد بالقرب من مدينة تعز وتمر به القوافل الصاعدة إلى صنعاء والهابطة منها، وهو مرتع خصب للوحوش الكاسرة.
3- زيد دماج «طاهش الحوبان» ص 84.
4- المصدر نفسه صـ84
5- نفس المصدر صـ86-87