إلى صديقي
المرحوم زيد مطيع دماج
شأنه كشأن زميله الراحل محمد عبد الولي ، دخل القاص
اليمني زيد مطيع دماج عالم الرواية من باب القصة القصيرة . فروايته
" الرهينة " ظهرت عام 1984 ، بعد أن ثبت القاص أقدامه جيدا في دروب
القصة القصيرة ، فقد أرخت أقدم نصوصه المنشورة بعام 1961 ، ونشرت
ضمن مجموعته الأولى " طاهش الحوبان "الصادرة عام 1973 ، وتلتها
مجموعة " العقرب " 1982 ، و " الجسر " 1986 ، و " أحزان البنت
مياسة " 1990 . وكانت الرواية اليمنية ، التي بدأت برواية " سعيد "
لمحمد على لقمان عام 1939 ، قد استقرت في رحلتها البطئية والعسيرة
عند محطة هامة اسمها محمد احمد عبد الولي ، في روايتيه القصيرتين :
" يموتون غرباء " 1970 و " صنعاء مدينة مفتوحة " 1977 ، ولم يزد
عدد الروايات اليمنية ، وهي في الغالب قصص طويلة ، على عشر ، حتى
عام صدور " الرهينة " .
ورغم اهمية روايتي محمد عبد الوالي تاريخيا ، إلا أنهما لم تتهيأ
لهما من الأسباب ما يمكننا أن نسمّيهما فنا روائيا مكتمل النضج ،
فقد ظل بريق القصة القصيرة أشد سطوعا في ابداع عبد الولي وأكثر
اكتمالا . وبظهور " الرهينة " تكون الرواية اليمنية قد خطت الخطوة
المرتقبة ، التي لم يتمكن سابقو زيد من تحقيقها ، والمتمثلة
باجتياز حاجز القصور الفني ، وامتلاك شروط النضج القصصى كاملة .
ولا يجد المتتبع للادب القصصى في اليمن غرابة في أن يكون زيد مطيع
دماج أول من اكتملت لديه أسباب النضج الفني بروايته الأولى "
الرهينة " . فلزيد صلة قديمة بخيوط العمل الروائي . وغير مرة يشار
إلى قصص زيد بما ينبئ ويوحى بظهور رواية . ففي مقدمة مجموعته
القصصية الثانية " العقرب " ، التي كتبها د . عبد العزيز المقالح ،
نلمح إشارات توميء إلى أن بعض قصص زيد تشكل " نواة " عمل روائي ،
كقصة " أول المنتحرين " و " الرحلة " . وعند العودة إلى الخلف بضع
خطوات ، الى مجموعة القاص الأولى " طاهش الحوبان " نجد تأكيدا
مبكراً لما يمكن تسميته بالميل الروائي عند القاص ، نلمحه في طول
النفس القصصي ( من حيث الحجم ) ، وسعة الرقعة المكانية والزمانية
للسرد القصصي ، وبروز صور مخففة من المعالجة الروائية كضعف تركيز
الحدث وتشعبه وظهور أكثر من شخصية قصصية .
أما مجموعة " الجسر " فإنها توصلنا إلى شيء من ضالتنا أيضاً . ففي
هذه المجموعة ، التي صدرت بعد صدور " الرهينة " بسنتين ، نعثر على
قصص تعود إلى عام 1981 ، منها قصة ( خلف الشمس بخمس ) ، التي ظلت
طريقها واستقرت في المجموعة كقصة قصيرة . وعند تمحيصها جيداً نكتشف
أنها ليست كذلك ، فهي رواية لبست ثوب القصة القصيرة ، فأضاعت زيها
وقوامها . وربما تكون الأشارات التي ختم بها ناشر مجموعة " طاهش
الحوبان " ، في طبعتها الأولى ، تشي أيضاً ببعض نوايا زيد مطيع
الروائيه ، التي ربما جرى تعديلها لاحقاً ، وتغيرت أسماؤها . فليس
غريباً أن يتغير أسم قصة لزيد مطيع ، كما حدث مع قصة ( مجاعة ) ،
التي نشرت ضمن مجموعة طاهش الحوبان باسم " الرمال العابرة " . ومن
هذا نخلص إلى أن اصابع زيد قد لامست تجربة الرواية ودغدغت اسرارها
مشاعره . واذا كانت قصة " خلف الشمس بخمس " قد ضلت طريقها واستقرت
عند حدود القصة القصيرة ، فأن قصة " أول المنتحرين " المكتوبة علم
1979 ، كانت قصة طويلة فيها كثير من اجواء ما أصطلح عليه في أدبنا
العربي بالرواية .
وأذا كان المسعى نحو الرواية قد بدأ عند زيد مطيع دماج كميل ملازم
لبعض قصصه القصيره ، فمن الطريف هنا ان نشير إلى أن اول عمل روائي
له " الرهينة " نفسها ، قد خرجت من ثنايا القصة القصيرة . ولو شئنا
الدقة ، فقد برقت فكرتها في قصة " ثورة بغلة " ، المنشورة ضمن
مجموعته الثانية " العقرب " وعند مقارنة قصة " ثورة بغلة " ،
المكتوبة عام 1980 برواية " الرهينة " المنشورة عام 1984 ، نجد
أنهما تتشابهان في نقاط جوهرية ، عديدة ، منها :
أولاً وحدة الإطار العام للحدث . فالقصتان تصوران حياة الرهينة ،
التي تبدأ بالسجن وتنتهي بالهرب من قبضة السلطة .
ثانياً : وحدة الشخصية الرئيسية ، الرهينة . وتطابق مصيرها وسعيها
واهدافها الشخصية .
ثالثاً : تشابه الإطار السياسي ، والمتمثل بسعي المعارضة اليمنية
للتخلص من سلطة الأمام يحي بن حميد الدين وتسلط إمام جديد .
رابعاً : وحدة الإطار التاريخي للقصتين : أجواء فشل حركة 1948 .
خامساً : تشابة بعض شخصيات الرواية الهامشية وشخصيات القصة :
الطبشي العجوز الذي رفسته البغلة في راسه ، والفقيه ، السجين ،
معلم الرهائن .
سادساً : تشابه في بعض الصور الحسية : تسلق الرهائن اسوار السجن ،
زامل النظام ، احتفالات النصر ، خبر موسليني وهتلر . .
وكل تلك دلائل تؤكد بما لا يقبل الشك، لا على وحدة الخابية التي
صدرت منها الرواية فحسب، بل وتؤكد أيضا ً أن "ثورة بغلة" لم تكن
سوى تمرين قصصي أول على رواية الرهينة . وعلى الرغم من نقاط
التشابه تلك بين الرواية والقصة ، إلا أن الاختلاف بين الإثنتين ظل
كبيرا . فلو قدر لرواية " الرهينة " أن تخرج من قصة " ثورة بغلة "
، كان لزاما على القاص أن يحول الدوامة التي طفت على سطح " ثورة
بغلة " الى نهر روائي . فقصة " ثورة بغلة " لا تحمل مقومات عمل
روائي . وإذا قدر لزيد مطيع أن ينطلق منها لانشاء رواية ، وجب عليه
أن يعيد كتابتها روائيا ، أن يعيد تأسيس شخصيتها الرئيسية (
الرهينة ) ، بما يكفل تطوير ابعادها داخليا وخارجيا ، وصولا الى
إرساء فكرة قصصية أكثر سعة وشمولا ، تتجاوز لحظة بناء " ثورة بغلة
" . وقد وفق زيد في مسعاه هذا وأظهر مهارة عالية في إنتخاب القضاء
الذي يسهل عليه ملأ روح الشخصية وفكرها وحياتها ومجريات حركتها
الشخصية والاجتماعية ، الى الحد الذي يبعدها من آنية المشهد في
القصة القصيرة ، وينقلها الى رحابة الحياة المتقلبة في الرواية .
ومن هنا ظهرت حلقة جديدة لم تكن جزءا من حدث " ثورة بغلة " ، وهي
تحول " الرهينة " من سجين إلى " دويدار " ( خادم لدى نساء القصر )
. وبذا تحولت اللحظة في " ثورة بغلة " الى حياة مترعة ، وتحولت
المعالجة من التكثيف الى الأنفتاح على العالمين الداخلي والخارجي .
ولهذا أيضا ظهرت الى جانب الشخصية الرئيسية ( الرهينة ) شخصيات
جديدة ، لعبت أدوارا أساسية في بناء الحدث الروائي وتشكيل مصير
الرهينة نفسه ، مثل : الدويدار الحالي ، والشريفة حفصة ( أخت
العامل ) ، إضافة إلى شخصيات ثانوية عظيمة الأثر ، أمثال :
البورزان ، الشاعر ، نائب الإمام ، وحشد من نساء وعكفة ( حرس )
وصبيان . .
كان لا بد ، لكى تكون " ثورة بغلة " رواية ، أن يعيش الصبي (
الرهينة ) حياة متكاملة ( روائية ) . وقد فتح القاص للرهينة كوى
عديدة ، جعل الرهينة يطل منها على هذه الحياة . فعوضا عن الهرب ـ
الذي أرجأه الى نهاية الرواية ـ يساق الرهينة إلى قصر نائب الإمام
للعمل كخادم لدى نساء القصر . وفي هذا الواقع ، يقوم الصبي بدور
المكتشف للمنطقة المحظورة ( عالم الظالمين الداخلي ، المغلق ) ،
وخباياهم السرية . وهي منطقة سحرية غامضة ، لها بريق لا يوصف ،
لوعورتها وسريتها واستعصاء ولوجها على الجميع . إنها التابو
السياسي والاجتماعي والأخلاقي ، حيث توجد هناك حقيقة الطغاة ، التي
يسترونها بأسوار من الحجر والأوهام والقيود والقوانين ، التي تمنع
على الشعب رؤية حقيقة حالهم ، وتتستر على واقع حياتهم : ملذاتهم ،
شهواتهم ، نسائهم ، وحتى انكساراتهم وخيباتهم ، التي يحرسونها
بسيوف البطش .
ولم يكن عدد منتهكي هذه الأماكن السرية كبيرا في الأدب اليمني .
فإضافة الى طبيبات أجنبيات زرن قلاعهم واقتربن من نسائهم ورجالهم ،
كان القاص اليمني محمد أحمد عبد الولي واحدا من الذين زاروا هذه
القلاع . ففي روايته " صنعاء مدينة مفتوحة " ، صور بلمحات سريعة
المناخ الذي فشلت فيه حركة الأحرار ، وهو المادة الأساسية لرواية
الرهينة ، كما ان شخصية البحار ، كانت اول يافع يمني يدخل ويكشف
روائياً ، وإن كان على نحو مقتضب ، أسرار هذا العالم المغلق . فقد
دخل البحار ـ كان في السادسة عشرة انذاك ـ بيت عامل زبيد ، وعاشر
بعض حريم البيت الشرهات ، ثم ولى هاربا نحو البحر ، كما هرب
الرهينة نحو الأفق . لقد مر محمد عبد الولى مرورا عابرا ، عن طريق
حكايات تأتي على لسان الصنعاني والبحار ، على موضوعي حركة الأحرار
ودخول قصور الحاكمين ، اللذين صاغهما زيد في روايته الرهينة . ورغم
تشابه الموضوعين ، إلا أن الاختلاف بينهما عظيم .فقد قص عبد الولي
فكرته في إطار حكاية من بضعة أسطر ، اما زيد مطيع دماج فقد صور
حياة زاخرة . لقد أومأ عبد الولي ايماء ، كما أومأت " ثورة بغلة "
، لكن زيدا صنع عالما متكاملا من العلاقات والمشاعر والمصائر ،
ووضع الحجر الأساس لتاريخين : تاريخ انقلاب عام 1948 في اليمن
مصاغا بشكل نثري ، وتاريخ بلوغ الرواية اليمنية سن الرشد وفي
الجانب التاريخي للرواية ، لا نكاد نعثر على تاريخ دقيق ، قاطع ،
يشير الى بدء وانتهاء حدث الرواية . وهذا أمر حسن من الناحية
الفنية . بيد أن الإطار التاريخي العام للرواية شديد الوضوح . فهو
يمتد من فترة قريبة سابقة لقيام حركة عام 1948 الانقلابية ، التي
استهدفت قلب السلطة وابدال إمام بإمام ، بقيادة حزب الأحرار
المعارض ، ويستمر الحدث بعدها بفترة وجيزة . ويمكن لنا أن نحصر زمن
الرواية بالفترة الممتدة من أواخر الحرب العالمية الثانية حتى فترة
قريبة لاحقة لقيام حركة 1948 . وهي فترة لها أهمية تاريخية كبيرة
في حياة الشعب اليمني ، كونها تمثل مرحلة قيام المعارضة بشكلها
السياسي المنظم ، وقيام أول هبة عنيفة استهدفت رأس السلطة السياسية
، في الجزء الشمالي من اليمن ( المملكة المتوكلية ) . وما هو ثابت
تاريخيا ، أن الرعيل الأول من قيادة المعارضة اليمنية قد فر الى
عدن ، هربا من بطش الإمام يحي بن حميد الدين ، حيث تم تشكيل حزب
الأحرار ، وأعقب ذلك تأسيس الجمعية اليمنية الكبرى ، واصدار صحيفة
" صوت اليمن " في عدن عام 1946 . وبهذا الصدد يروي السياسي والأديب
اليمني محمد على لقمان " أن الرعيل الأول للمعارضة اليمنية وصل إلى
عدن في شهر شعبان عام 1363 الموافق يوليو 1944 ، وهم الزبيري ،
والنعمان ، والشامي ، وأبو راس ، ولحق بهم الموشكي ، كما سبقهم
المطيع دماج وعقيل عثمان " . وفي رواية أخرى لعلي محمد عبدة ، يشار
الى وصول الزبيري والنعمان ، ثم لحاق الشامي والموشكي بهم . وهذا
الاختلاف الطفيف ، لا يغير من طابع الحدث ، بل على العكس يؤكد صحة
الاطار التاريخي لحدث الرواية ، إضافة الى ما يكشفه ، وهو ما يهمنا
هنا ، من صلة شخصية للقاص زيد مطيع دماج بالحدث ، من خلال أبيه
المناضل المطيع دماج ، أحد قادة الأحرار .
أما إهتمام القاص وولعه بتصوير الماضي فهذا معروف لمن قرأ قصصه .
إذ أن عددا غير قليل من قصص " طاهش الحوبان " تصور حياة الشعب
اليمني في فترة سابقة لقيام الجمهورية 1962 ، واستمر هذا الميل يمد
برأسه من حين الى آخر في بعض قصصه اللاحقة .
يجري السرد القصصي في الرواية بلسان الشخصية ( ضمير المتكلم ) ،
ويقوم الرهينة بمهمة رواية الحدث ، حيث يلعب دور العين الكاشفة .
ولهذا الضرب من السرد مزاياه ، فهو وسيلة فعالة للمراقبة ، حينما
توجد أماكن خفية ، يتطلب الوصول إليها درجة عالية من الاقناع
النفسي والمشاركة الشعورية وهذا ما حققه الرهينة بغزوه لعرين
الطغاة . إضافة الى هذا فالسرد بضمير المتكلم يعطي للشخصية خصوصية
وتفردا ، ويمنحها ملموسية أكبر ، حينما تكون مشاركة ، لا مجرد عين
محايدة . وعلى الرغم من المزايا السالفة ، وربما بسببها أيضا ،
تكتنف هذا الضرب من السرد مخاطره الكبيرة ، منها أنه يوفر فرصا
واسعة للتجوال في عالم الشخصية ـ المتكلمة ـ الداخلي ، لكنه يقلل
من فرص تقصي أعماق الآخرين بنفس القوة ، كما أنه يقلل من زوايا
المراقبة المتعددة التي تملكها ألوان السرد الأخرى . ولعل أخطر ما
يتعرض له القصاصون يكمن في أن ضمير المتكلم يجعل من الشخصية
الروائية موشورا تمر عبره الصور والألوان والأفكار والأحداث
والحالات النفسية جميعها ، وهي إذ تمر عبر " موشور " يتوجب أن
تُعكس من دون اضطراب ، بما يكفل تحقيق الاتساق النفسي والفكري
واللغوي للأحداث والشخصيات ، و المحافظة على وحدة خصائص الصورة
العامة . ويتعاظم الخطر حينما تكون الشخصية مخالفة للقاص في السنّ
أو الجنس أو زمن رواية الحدث ، مثل شخصية الرهينة ، التي كانت تمثل
صبيا قرويا ، محدود الثقافة ، قليل الخبرة ، مما أوجب أن تتشكل
صورة العام المروي ـ مشاهد السرد ـ من خلال وعيه الشخصي . وقد وفق
القص في تحقيق هذا الغرض ، حيث عكس لنا من خلال الصدمات العديدة
التي تعرض لها الرهينة ، قلة خبرة الرهينة ، وسطحية وعيه ، وطفلية
مشاعره ، وفطرية سلوكه ، كما جسم خط تطور مشاعر الرهينة ووعيه
وتقلبهما ، وانعكاس ذلك كله على موقف الرهينة لا من نفسه فحسب ، بل
أيضا مما يحيط به . وقد يعيب البعض على السرد بلسان المتكلم ظهور
صورة القاص من حين لآخر وسط حدث يفترض أنه منسوب الى آخرين ، مما
ينجم عن ذلك ظهور أفكار ومشاعر ومواقف غريبة عن الشخصية ، وهذا أمر
لا نجده في الرهينة ، حيث نرى القاص يحسن احكام بناء الشخصية
ووحدتها ، والمحافظة على اتساقها النفسي بشكل عام ، رغم وجود هنات
صغيرة علقت بالشخصية ، تسربت اليها من وعي القاص نفسه ، أو من
حماسه السياسي الشخصي ، خاصة في القضايا السياسية الكبيرة ، مثل
ضرورة قتل سيف الاسلام قبل الامام لكي تنجح الثورة
. إن القصة زاخرة باللحظات العاطفية والنفسية والاجتماعية المؤثرة
، التي تجعلها أكثر من تجوال ممتع في مخادع الحريم . ففي علاقة
الرهينة بالشريفة حفصة ، تتجاوز العلاقة حدود التلصص والفضح ، الى
حدود انسانة عميقة ، حيث ينقلب الجلاد فجأة الى ضحية ، ويبرز من
بين حشايا الشريفة حفصة كائن مقهور ، يبحث عمن يحرره . فتلجأ في
لحظة ضعف قاهرة الى ضحيتها ، وتناشده أن يحررها . لكن الضحية يرد :
" ومن ينقذني أنا أولا ، ومن ينقذ هذا البلد ايضا " . وربما بدت
إجابة الرهينة على قدر كبير من الحصافة تفوق مقدرته الشخصية ،
لكنها في واقع الأمر ، كانت نداء الاستغاثة الذي يتردد بخوف في
صدور الجميع ، في مجتمع ظالم ، مغلق .
إن الرهينة ، وهي الرواية الأولى للراحل زيد مطيع دماج تتجاوز آلام
الولادة الروائية الأولى ، بأصالتها وعمقها ، وسلاسة ووضوح عرضها .
وهي تقدم في صورة رهينة شعبا كاملا مرتهنا ، وتقدم صورا فريدا
لشخصيات مملوءة الداخل ، حية في بنائها ، وتطور مسلكها ، وتنوع
حالاتها النفسية ، وتلون طبائعها ، قلما نجد نظيرا لها في الحياة
الاعتيادية فالرهينة بدأ طفلا ، ثم وصل إلى مرحلة قريبة من النضج
النفسي والاجتماعي ، والدويدار الحالي ( الحلو ) ، بواقعه المأساوي
المعقد ، مُص واحتُلب حتى لم يبق منه سوى قشر بشري ، لا مكان له
سوى أن ينهال عليه التراب . بينما برزت حفصة ، بشخصيتها الطاغية ،
كامرأة كاسرة كسيرة ، اختلط فيها الغموض بالطموح بالقوة ، مع ضعف
خفي وميل الى المروق . ولعل شخصية البورزان هي إحدى الشخصيات عظيمة
الوقع والحضور ، بمسلكها العجيب ، وخصوصيتها الساطعة ، رغم
ثانويتها وكذلك شخصية الشاعر . إن جودة بناء الشخصيات ، وامتلاءها
، وتنوع مصائرها ، وعمق تفرداتها ، واحتدام دواخلها ، ومقدراتها
على تعميم حالات اجتماعية نموذجية ، كانت هي المؤشر الرئيسي على
دخول الرواية اليمنية ، ممثلة بالرهينة عالم النضج الفني .
وربما يجد البعض في طغيان التصور الشعبي المتعلق بالموقف من السلطة
الغاشمة ، المتخلفة ، شئيا من المبالغة الأخلاقية ، أو شئيا من
ردود الفعل الأخلاقية على ظلم لامردّ له . وهو أمر نجده أيضا عند
القاص محمد عبد الولي في روايته صنعاء مدينة مفتوحة ، حيث يجري
تصوير العداء للسلطة ، ولشخص الحاكم من خلال ثلم شرفه ، بالانتقام
الاخلاقي . إن النزعة الأخلاقية ، كموضوع للصراع فكرة شعبية محببة
، فنساء الطغاة فاسقات ، وقصورهم تفوح منها رائحة السقوط السلوكي
والعاطفي ، في مقابل نقاء الشعب وطهره . وقصة عبد الولي وزيد
تنطلقان من أساس شعبي واحد ، ومن تصور أخلاقي واحد ، ولذلك لا
غرابة أن نجد الجميع يوضعون تحت وطأة دوافع عارمة : الرهينة الذي
انتفض ضد حريمهم ، منتصرا بذكورته على تسلطهم السياسي ، وهو عين ما
فعله بحار محمد عبد الولي مع نساء عامل زبيد ، في محاولة لايجاد
معادل أخلاقي يطابق الموقف السياسي . لذلك أيضا انساق الدويدار
الحالي في الرهينة الى ارادتهم الجنسية ، وكان مصيره الموت . انها
نفس القوة التي جرت الشريفة حفصة نحو الخذلان ، ثم جعلتها تسلم
مقودها الى الرهينة . هذا المظهر الأخلاقي للصراع الاجتماعي ، نجده
يسيطر على شخصيات كثيرة ويتحكم بها ، كالبورزان ، والشاعر ، ونساء
القصر من دون استثناء ، والطبشي العجوز ، وحتى البغلة !
وكم كان مؤثرا ودالا التفات القاص الى مظهر آخر للفساد الأخلاقي ،
حينما صور العلاقة القائمة بين الإمام وعامله ، ودور الشاعر الوسيط
، القائم على الإبتزاز وعدم الثقة ، والمداهنة والنفاق ، والخوف من
البطش والغدر . وهي صور حية لفساد بشر السلطة ، ولفساد السلطة
ذاتها .
كل ذلك الجهد الفني المتقن والمنسوج بسلاسة ، ساعد على قوة تدفق
وتفاعل خطي الرواية : الخاص ، الشخصيات بمصائرها الفردية ، وخط
الرواية العام ، مجرى الحدث السياسي والاجتماعي . وربما كان تدفق
الحدثين بتواز منسق ، وتمايز تام ، يغذي أحدهما الآخر بشكل خفي ،
هو عنصر القوة في الرواية ، وعنصر الامتاع فيها . فالحدث الخاص ،
المصير الفردي ! سعي الشخصية للتخلص من الأسر الفردي ، كان يجري
بطريقة موازية لمجرى الحدث العام : سعى المجتمع عامة للتخلص من
سلطة الإمامة . لكن خصوبة الرواية تكمن لا في هذا التوافق في جريان
الحدثين ، وإنما تكمن في تمايزهما ، فالحدثان جريا بتواز وتزامن ،
لكنهما لم يتماثلا ، ولم يتطابقا في جريانهما أو في نهايتهما ،
وإنما ترابطا في إطار الهدف التاريخي العام وتوحدا . ففي الوقت
الذي فشلت حركة 1948 ، وعاد إلى السلطة إمام جديد ، لا يقل جورا عن
سابقه ، كان الرهينة قد فك اسره الشخصي ، وامتلك قدرا من الوعي
والتصميم ، سيمكنه من أن يكون جاهزا للانخراط في مجري النشاط الذي
سيقود إلى الخطوة التالية ، التي ربما ستكون حركة عام 1955 ، وربما
ثورة سبتمبر ، أو ربما الكفاح البطولي ضد المستعمر البريطاني في
عدن . لكن الذي لا شك فيه ، أن الحل الفردي كان أفق المستقبل للحل
السياسي والاجتماعي العام ، الذي لم تتمكن حركة 1948 من تحقيقه .
وهناتكمن أعمق وأنضج مواقع الرواية فنيا وفكريا .
حسبنا أن نقول ان الرهينة عمل واقعي ، مكتمل النضج ، وقطعة أدبية
زاخرة بالمشاعر ، جسدت بعمق ونفاد طابع الصراع الاجتماعي والسياسي
في المجتمع اليمني في الحقبة الأولى من حقب النضال السياسي المنظم
ضد الامامة ، كما جسدت بامتلاء شخصياتها وتنوع مصائرها ، توق الشعب
اليمني عامة إلى كسر سجن الطغاة وبناء عالم أفضل ،. وحسبنا أن نقول
انها العمل الروائي الذي ظل الأدب الروائي اليمني ينشد الوصول اليه
قرابة نصف قرن .