يوليو 2009 |
الزمان: ربيع 1983 المكان: منزل الأستاذ عبد الله عبد السلام صبرة – صنعاء بدعوة من الصديق الجليل الشاعر والناقد العربي الكبير الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح كنت أزور مدينة صنعاء. كان اليوم الثالث والعشرون من شهر أبريل واحداً من الأيام الأجمل في حياتي. كنت أُقيم في فندق دار الحمد، وجاءني السائق الخاص بالدكتور عند الساعة الثالثة ليصطحبني إلى منزل الأستاذ عبد الله عبد السلام صبرة للمقيل، كان المقيل مزيناً بنخبة من المثقفين والأدباء والدبلوماسيين، على ما أذكر، والأكاديميين. بعد مصافحتي الحاضرين دعاني الدكتور للجلوس بجانبه، وأغدق عليَّ من روحه النقي بحنو كبير، ثم راح يقدمني للحاضرين ويعرّفني بهم. كان بين الحاضرين القاص الكبير الصديق الرائع زيد مطيع دماج. كانت فرحتي عظيمة وأنا أتعرف وجهاً لوجه إلى اسم كبير في حركة الثقافة والأدب، وفي الإبداع السردي على وجه الخصوص. مواضيع كثيرة وشتى تنوولت، حينها، في المقيل. وكان أستاذنا الدكتور عبد العزيز المقالح –بهدوئه وحصافة آرائه وصوته الخفيض المعهود– يعلّق على رأي لهذا ووجهة نظر لذاك بتواضع العلماء. بعد انتهاء المقيل خرجت صحبة الراحل الكبير زيد مطيع دماج، الذي أقلني بسيارته. في الطريق استكملنا حواراً انقطع في المقيل. وفي خلفية الحوار كانت مقطوعة (love story) الموسيقية الشهيرة تصعد من مسجل السيارة مع مقطوعات ناعمة أخرى؛ حينها تعرفت إلى اهتمامات أخرى وذائقة عالية لدى صديقي الراحل، إضافة إلى إنسانيته الغامرة. وحين عبرت له عن هويتي بالموسيقى أهداني ذلك الشريط. لم أكن أريد أن تنتهي الطريق بعد أن أسرني زيد بثقافته وشفافية روحه. كان ذلك هو اللقاء الأول، ثم توالت اللقاءات، في تلك الفترة، وفي فترات لاحقة زرت فيها صنعاء.
لا أجد هذا المدخل زائداً، وأنا أقدم شهادة عن الكاتب الكبير زيد مطيع دماج؛ ذلك لأني أعلم أن الشهادة تنكتب حول الإبداع الذي ينتجه هذا الأديب أو ذاك. بيد أنني أزعمُ أن زيداً الإنسان لا ينفصل عن زيد المبدع بارتباطه الحميم بمجتمعه وثقافة مجتمعه.
عام 1986 تساءلت في مقال نُشر في عدن: "بِمَ تتحقق الرواية؟". كان السؤال عاماً، لكن التخصيص كان في التساؤل حول وجود رواية في اليمن؛ الرواية بما هي بناء لعالم يحتشد بالدلالات، وبما هي مسعى إلى تكسير البنائية التقليدية في الحكاية من دون إلغاء الحكي، بغية تفكيك الحكائية لتبيان الصيرورة الخاصة لمظاهر الوعي وتناقضاته في المستويين المجتمعي والفكروي. في ضوء هذا المفهوم سنذهب للبحث عن رواية تقدم لنا هذا العالم في أدبنا اليمني. فما نشر حتى ذلك الوقت لا يعدو كونه مشاريع روايات، ومحاولات لتأسيس رواية، وهو جهد مرموق، مع ذلك.
الرواية بوصفها "مجرى فنياً كبيراً يجمع روافد التجربة الإنسانية في حيز ضيق من الحياة"، هذه الرواية تخلخل البنى والعلاقات، ليس من أجل هدم العالم، بل من أجل إعادة تكوينه، ومحاولة صياغة معادل للوعي في الواقع يخلق بعداً داخلياً للتخلص من الصيغ الجاهزة. هل أنجزت رواية "الرهينة" لزيد مطيع دماج اشتراطات الرواية، أو قاربت اشتراطات الرواية؟ وهل ثمة اشتراطات للكتابة الروائية –أصلاً- يمكن تطبيقها على رواية "الرهينة"، والروايات التي انكتبت بعد ذلك، ليصار إلى القول ببدء زمن الرواية في اليمن أو بالتأرخة للرواية في اليمن بدءاً بـ"الرهينة"، أو بدءاً من الرهينة؟ لست أقصد إقصاء تجارب روائية بعينها هنا، ولست أزعم القدرة على الإجابة على الأسئلة التي وضعتها هنا، ذلك لأنني أوجهها إلى مُؤرّخي الأدب والنقاد والباحثين المتخصصين، لأربأ بهذه الكتابة عن السقوط في شرك التعميم من جهة، ولأبتعد عن صياغة عاطفية تكاد تقودني إلى تقريرية جاهزة.
استأثرت رواية "الرهينة"، منذ صدورها وإلى لحظتنا الراهنة باهتمام عشرات الباحثين والنقاد والكتاب، محلياً وعربياً وعالمياً. والإشارة إلى العالمية هنا يُقصد بها ترجمة هذه الرواية إلى لغات عديدة، منها الألمانية والفرنسية والإنجليزية. هذا الاهتمام بالرواية جاء من وجهتين، أولاهما الفنية العالمية التي انكتبت بها الرواية، وثانيتهما أن الرواية طرقت موضوعاً مسكوتاً عنه لأسباب يطول الكلام فيها. كما أن الاهتمام بالرواية جاء على حساب إبداع دماج السردي في مجموعاته القصصية، بدءاً من "طاهش الحوبان" ومروراً بـ"الجسر" و"العقرب"، وانتهاء بـ"المدفع الأصفر" التي صدرت بعد رحيله. يحتفي زيد مطيع دماج في سرده بالمكان بما هو حياة وتفرد، بل "وكائن يتنفس" حد تعبير الشاعر والقاص الكبير عبد الكريم الرازحي. ومع احتفائه بالمكان يحتفي بالإنسان في كل تحولاته. إنه يستنطق المكان وكائناته وتفاصيله، ويحول هذا المكان إلى فضاءات أوسع مما هي عليه في الواقع، لكن من دون تهويمات فوق هذا الواقع. وفي قصصة القصيرة، كما في الرواية، ثمة شعرية عالية يتوسلها خطابه السردي، جرياً على الطريقة التي اعتمدتها القصة الحديثة والمعاصرة عند كبار روادها يمنياً (كما عند رائد القصة القصيرة أحمد محفوظ عمر، وعند جيل السبعينيات الذين يمثلهم محمد عمر بحاح وميفع عبد الرحمن وكمال الدين محمد وعبد الكريم الرازحي وعز الدين سعيد وآخرون)، وعربياً (عند حيدر حيدر وزكريا ثامر وعاصم الجندي وعشرات غيرهم)، وعالمياً (عند آلان روب جرييه في فرنسا وآخرين في أمريكا اللاتينية وبعض دول أوروبا الشرقية والغربية معاً).
كنت أشرت في مقال "بم تتحقق الرواية؟" إلى أن بإمكان القاصين كتابة الرواية. وقد تأسست قناعتي تلك على قراءتي ومتابعتي كتابات القاصين الذين تميزوا بالنفس الطويل في القصة القصيرة، مثل سعيد عولقي وحسين السيد، ثم وجدي الأهدل وياسر عبد الباقي وسمير عبد الفتاح وعبد الناصر مجلي، وكاتبنا الكبير زيد مطيع دماج، وآخرين([1]). في مجموعة "الجسر" لدماج نجد قصة "خلف الشمس بخمس" تحتل إحدى وثلاثين صفحة (من الصفحة السابعة عشرة إلى الصفحة الثامنة والأربعين)، وهذه القصة مكتوبة قبل "الرهينة" بسنوات. وثمة أمر لافت هو أن عدداً من الشعراء دخلوا إلى عالم الرواية وأنجزوا روايات مهمة، نذكر فيهم في اليمن الشاعرة الكبيرة نبيلة الزبير، والفلسطيني الأردني إبراهيم نصر الله، واليمني حبيب السروري، والكردي السوري سليم بركات. على أننا نترك هذا الأمر للدارسين المتخصصين للحديث فيه وعنه. من الثيمات التي اشتغل عليها زيد مطيع دماج، سواء في قصصه القصيرة أم في الرواية، ثيمة الاغتراب بأشكاله المختلفة: الاغتراب المكاني والاغتراب النفسي والاغتراب الاجتماعي. نقف على هذا الإحساس بالاغتراب في جُلّ قصصه؛ فثمة الاعتقال والتعذيب في المعتقل: "كان النور قوياً مسلطاً على وجهي.. شعرت بالدفء نوعاً ما، لكنه تحول إلى نار حامية بعد لحظة. ـ تذهب إليه دائماً في ذلك الوقت...؟ ـ من هو؟ وانهالت صفعة على خدي من كف برزت كومضة لم أعرف من أي مصدر أتت... (ثم) عُلّقت من أطرافي الأربعة بواسطة أشباح برزت في الظلام إلى النور... وفقدت وعيي" (قصة "الجسر"، مجموعة "الجسر").
وثمة الاغتراب المكاني النفسي معاً نقع عليه في قصة "الذماري" من مجموعة "طاهش الحوبان". ولا تخلو أعمال زيد مطيع دماج من قيمة الضحك والسخرية المريرة الحارقة، إذ إنه كاتب ساخر بامتياز: "فجأة دوّى صوت فرقعة، اهتزت له الآذان، وكبّره صدى القاعة الفخمة... إنها ضرطة فاحت رائحتها على المجاورين... ولاحظت أن رئيس وفدهم قد علته مسحة من الارتباك الممزوج بالخجل والغضب" ("حكاية غير مرتبة" من مجموعة "الجسر"). ولا ينتهي الحديث عن زيد مطيع دماج من دون الإشارة إلى ارتباطه بقضايا وطنه وقضايا الإنسان بأحزانه وأفراحه، وانحيازه إلى هذه القضايا، توقاً للخروج بهذا الإنسان من شرانق الظلام إلى مدارج الفرح.
زيد مطيع دماج، لك السلام في مدارج الخلود! (1) ـ في البلدان العربية يمكن الإشارة إلى محمد شكري ومحمد زفزاف وعبده خال وحيدر حيدروقبلهم يوسف إدريس وآخرين كثيرين.
|