دور المكان في ديناميكية نص الرهينة

زيد الفقيه  

  المقدمـــة
هذه الدراسة المتواضعة التي أقدمها تحت عنوان "دور المكان في ديناميكية نص الرهينة" للروائي اليمني زيد مطيع دماج، عمدت تقسيمها إلى ثلاثة أقسام .
الأول : وظيفة المكان وتأثيره في البعد النفسي عند الشخوص.
الثاني : البعد الاجتماعي والسياسي للمكان .
الثالث : دور المكان في مصداقية الخطاب بين شخوص الرواية.
وقد حاولت من خلال هذه الدراسة استغوار هوية المكان في مساحة الأمكنة التي استخدمها الكاتب، ولم اتقيد بعقم المخافة، فقد نفضت غبار التحرج عن إيراد بعض الصور الشبقية في الرواية بل وضحتها مع كيفية فرض المكان لأسلوب الخطاب المنفعي فيه، كذلك ربط الأمكنة من حيث دورها الاجتماعي المزدوج، وكيف تكسر كل القيم المكانية والاجتماعية عندما تعصف الحاجة – بل الجوع العاطفي – بالإنسان، وهذه قد أشكلت عندي لبعض الوقت مما جعلني استعين ببعض الكتب الفلسفية للفن وغير المتخصصة في دراسة الرواية بل في فلسفة الفن بشكل عام ككتاب"الفنان والإنسان" لزكريا إبراهيم، وتلك السالفة الذكر هي إحدى صعوبات البحث أما الصعوبة الثانية فهي شح المراجع التي تدرس هذه الرواية إلا من بعض المجلات الدورية التي لم تستغور الرواية بشكل منهجي ، هذه هي أهم الإشكاليات التي واجهتها.وأخيراً أضع بين يدي القارئ الكريم هذه الدراسة، راجياً أن تحوز ببعض رضاه متوسلاً إلى الله أن تكون هذه الوريقات قد اكتنفت في طياتها بعض الفائدة إن شاء الله، وقد اكتفيت بذكر الصفحات في متن البحث للإشارة إلى مواضع الاستشهاد من الرواية دون الهامش .

  مدخــــل
مرت اليمن في حقبة زمنية من عمرها المديد بنظام إمامي فردي استطاع أن يسيطر على جماع هذه البلدة، وقد فرض نمطاً معيناً من الحكم، أختاره لنفسه وشريحة من إسرته واتباعه بأساليب مختلفة .كان من بين هذه الأساليب أخذ أبناء مشائخ ووجهاء البلاد رهائن في معتقلاته بغية ضمان ولائهم وطاعتهم له، وقد كان مكان الرهائن "القلعة" في تعز ثم ينتقل إلى قصر النائب أن حضي بعناية أحدى الأميرات وقد صورت هذه الرواية وضع هذه القصور التي حكم أهلها البلاد باسم الدين والمثل الأخلاقية ثم نقل إلينا صورة فنية استخدم قلمه فيها فأحسن الصنعة وأجاد التصوير، وكان هذا القلم ريشة فنان بارع وعدسة مصور محترف، إذ " القصة والرواية فن "يجمع من كل الفنون" (1) وبين يدي هذه الرواية اليوم بعد مضي أكثر من خمس وأربعين عاماً من ذلك الزمان- زمن الحدث – أقف لبعض الوقت مع هذه الرواية والتي كانت ذات جو سينمائي تختلف الأحداث فيها لتحريك فكرة يريد المؤلف أن ينصح بها قومه ولا تخلو من نسمة رومانسية، ولكنها كانت ملتصقة بالواقع تنقل منه وتحلل قضية ما، ومن خلالها تتسرب إلى نفوس الشخصيات وتعرَّيها، ومن خلال حركة سريعة ونامية ومن خلال نهاية إجتماعية موحية" (2).

 المكان وتأثيره في البعد النفسي عند الشخوص
كان ذلك الفتى القروي ساكناً بين أحضان أمه تدفئه بحنانها .. لا يعلم من أمور السياسة بشيء، كانت قريته هي الطفلة الأليفة التي يعلب على ظهرها وهي الحبيبة التي يلاعبها، وهي كل شيء في حياة ذلك الطفل الذي لا يفارق تجاعيد وجهها الجميل ومنحنيات جسدها الرخو .
قلعة هي أول مكان معتزل يغيب به عن صدر والدته الحنون، وكانت القلعة هي أول معتزل فكري يضع الفتى أمام سؤال يطرح نفسه عليه. لماذا جيئ بي إلى هذا المكان؟!
كانت القلعة قد بذرت في نفسه جرثومة السخط الثوري على من أتى به إليها، وقد وصل إلى القلعة وهو يحمل انطباعاً كاملاً عن مجتمعه القروي، فكان ينظر من القلعة إلى المدينة ويشعر بالنشوة وهو يمرجح سيقانه في هواء سور القلعة صـ6، لأنه ينظر إلى المدينة ويستنشق هواءها العليل، وهو يشاهد المآذن والقباب البيضاء والمنازل المرصوصة داخل السور المنيع والهضاب والسهول والجبال الممدودة على مدى البصر صـ42 . وعند وصوله مقوداً إلى قصر النائب رأى المدينة – التي كان ينظر إليها من القلعة وهي تلبس حلتها الجميلة عن كثب – فلم يظل ذلك الإنطباع الجميل في نفسه عندما شاهد مئات الجياع والمجانين والعراة، كان لا يدري أن حال تلك المدينة هي نفس حال قريته البائسة، وعندما وصل قصر النائب وجد مجتمعاً جديداً غير ذلك الذي رآه في الشارع والقلعة !  فلم تكَّون نفسه رؤية واضحة لما يدور في هذا المجتمع "ومن هنا نجد أن هذه الضدية القائمة بين الوسطين شكلت بؤرة للرؤية التي تجلوها الرهينة وهي رؤيا التعرية والرفض التي تشكل خط الرؤية".(1)
يصف الكاتب مكان مرافقته لصديقه الدويدار بدقة متناهية حيث يقول:"يهرع بي من السلالم الواسعة المرصوفة بالحجارة المربعة ليقودني إلى "الحمام" (2)
.التركي.. سراديب وقباب وممرات كلها مرصوفة أيضاً بالحجارة المربعة السوداء ملحمة بالقضاض ، عندما عمد الكاتب إلى وصف المكان بشكل مفصّل وركز على السلالم وبدأ العبارة بكلمة يهرع بي إنما أراد أن يربط المكان بالزمان إذ أن كلمة يهرع تدل على سرعة السير بشغف وهذا يدل على أن ثمّة أمراٍ يشغله بزمان معين " ومن الصعب الفصل بين الزمان والمكان. فمجرد التواجد في المكان هو استمرار زمني، والتحرك في المكان إنما يتحقق في الزمان، بدوره لا قوام له بغير المكان، بل هو مقياس الحركة في المكان" (3)،كما أراد أن ينقل لرجل الشارع الجائع الذي يمشي حافياً عارياً ، كذلك عكس صورة الدويدار الذي لا يمتلك أي مهمة سو سدانة النائب ونساء قصره، وقد جسَّده بكلمة يهرع من جانب التحرك في المكان والزمان لروح القلق النفسي عند دويدار القصر، تلك تعكس رهبة النائب وكثرة أوامره ومن خلال النادل الذي عرفه على نساء ورجال القصر "رافقت هذه مشاعر الدهشة الانفعالية وشهوة السؤال"(4).لمعرفة دقائق الأمور حول جو هذا القصر، وحول هذه الضدّية المتفارطة بين الشارع والقصر والتي عكست جانباً نفسياً سلبياً على بطل الرواية والمكان هنا يؤدي وظيفة هامة إذ يعد في النص محطة التواصل بين أحداث النص تتزود منه شخوص العمل الروائي ، وللمكان شخصية بارزة تتحرك بين ثنايا الرواية، وتحتضن كل من ورد اسمه في العمل الروائي ، إذ المكان يعد الشخصية الصامتة التي تطوَّع للسير بها حيث ما أراد الكاتب، لكن هذه الشخصية الصامتة تعد خزانة أسرار كل شخوص العمل الروائي ووظيفته تظهر عندما تثور الغرائز البشرية على صاحبها فتضطره إلى الإنسلاخ عن مجتمعه والخروج عنه أكان من الطبقة العليا أم الدنيا وتغير أسلوب خطابه من الأمر إلى الترجي – والترجي الممقوت – أما الوظيفة الثانية للمكان فهي الوظيفة الديناميكية حيث تعمل على تحريك أحداث الرواية والسفر بها عبر الزمان والمكان " أي أن الحوادث في كل قصة لا تنمو نمواً عضوياً متماسكاً بحيث تكون النهاية ملتقى خطوطها جميعاً لأن اهتمام الكاتب الروائي أو القاص – كاهتمام السامع – هو في حمل البطل من جو إلى جو، ومن مخاطرة إلى مخاطرة والهدف منها هو استعراض " المخاطر والأحوال" في أكثر الأحيان ) (3)

مكان متحرك وشخصية ثابتة
ظلت الشخصية في الموروث الشعبي العربي البطل والمنقذ المخلص ، حيث صنع الخيال العربي لهذه الشخصية أدواراً خارقة قد تقترب من أفلام الخيال العلمي اليوم، بل وقد تفوقها ، فقد وصلت إلى درجة اللامعقول فمثلاً : في قصة سيف بن ذي يزن أو الزير سالم وغيرهما يصل الخيال إلى أن يضع بيد سيف صخرة كبيرة قد يصل حجمها إلى حجم التلة ويرمي بها جيشاً يصل تعداده إلى ألف ألف جندي -على تقدير ذلك العصر– فيبيده عن بكرة أبيه وصار الخيال الأسطوري العربي يخيط على هذا المنوال الكثير من بطولاته ، ولعبت السير الشعبية والمقامات –فيما بعد- دوراً في تكريس صورة البطل في الموروث الشعبي – ( لقد تبلورت شخصية البطل قديماً في الأساطير ، وتعد أقدم مصدر لجميع المعارف الإنسانية والصياغة الأولى للتاريخ الجغرافياوالاجتماع)(4) ولعل آثار هذا الموروث ما يزال قائماً إلى يومنا هذا ، خاصة في المجتمعات الأكثر أمية .(وهكذا نلاحظ أن السيرة الشعبية تعتمد على المبالغة والتهويل ، وعلى الأكاذيب المختلقة في بعض الأحيان ،تجذب إليها القارئ العادي وتجعله يعيش في عالم من الخيالات والأوهام )(5).فقد سمعنا –عن الوسط الشعبي- في أزمة الخليج الأولى أن صدام حسين يمتلك أسلحة يمكنه أن يمسح إسرائيل من الوجود في لحظة واحدة ، وسمعنا أيضاً أنه يمتلك مدفعاً عملاقاً يمكّنه من اسقاط الأقمار الصناعية في الفضاء، وهذا ضرب من الشطط الأسطوري الشعبي الذي لا يعتمد على المعطيات الواقعية .هذا الموروث ربما أثر على ذهنية الدارس العربي فجعلته يدرس الشخصية في السرد العربي – أياً كان نوعه – من ذلك المنطلق -وإن كان في اللاَّوعي- مُلصِقاً بها كل الأدوار البطولية والعاطفية التي تعمل على التصاعد النصي للسرد ، دون أن يدرسها دراسة محايدة لتأخذ حقها الطبيعي في تقاسم الأدوار النصية داخل العمل السردي. يقول الدكتور شكري عياد : " آلهة الأساطير رجال تَجَّمَع حولهم ضباب الزمن والخيال، فضخمهم ، وصور أشكالهم حتى خلع عليهم صفة القداسة ، وعلى هذا الأساس أنصرف معظم جهد اليوهيمريين – أتباع يوهميروس اليوناني الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد –القدماء والمحدثين إلى بيان ما في الأساطير من التاريخ " (6) وفي هذا المنحى التطوري للمكان والزمان وتلاشي دور الشخصية الكلاسيكية في اتجاه الترميز والانطفاء يشير الدكتور / حسن عليان إلى (أن الرواية الكلاسيكية كانت تهتم بتصوير فرد يقوم بدور البطولة ، وتكسبه ميزات وصفات خاصة ، وترسم أبعاده ليكون المحور الرئيسي في الرواية، حيث تصب أفعال الشخصيات الأخرى ، وأنماط سلوكها في قناته الرئيسة ... لاعتبار شخصيته البطل المحوري ، فإن البطل في الرواية المعاصرة لم يستأثر بمثل هذا التركيز ، أو يستقطب هذا الاهتمام ، بقدر ما يبين البطل مشاعر المجتمع ، وبقدر ما يعول على قضايا الأمة ومشاكلها التي تحتاج إلى حلول . ويمكن إرجاع تطورّ البطل من الصورة الكلاسيكية لمفهوم البطولة إلى مفهوم تلاشي البطل في الرواية المعاصرة إلى ثلاثة عوامل رئيسية أهمها : (الواقع في الفن ، والأسلوب العلمي) (4).وقد لا يصدق الفرد حين يسمع أن المكان والزمان في الرواية هما المتحركان النصَّيان وأن الشخصية هي التي تقدم الأدوار من خلال تحرك المكان وانتقاله عبر المساحة المتاحة لفضاء الرواية ، والمكان والزمان ليسا متحركين بصريين لكنهما متحركان ذهنيان يلعبان الدَّور المؤثر في حركة النص . ولعل أثبات مثل هذا التصور لهذه الرؤية النقدية مهمة قد تأخذ حيزاً زمنياً غير قليل لإثباته ، وقد تكون –الآن- ضرباً من الشطط النقدي، لكنني جنحت إلى هذا المفهوم متكئاً على حوافر الزمن المخول باثبات هذا المنظور أو رفضه ، إذ أن الشخصية هي التي تظل الثابت داخل النص وإن تعددت وتغيرت أدوارها، فتغير الدور يعود لتغير المكان والزمان وليس العكس ، ومن هنا جاز لنا إطلاق هذا المفهوم للتعبير عن ذلك.ففي رواية الرهينة لزيد مطيع دماج نجد تعدد المكان واختلاف الأزمنة هما اللذان أعطيا الرواية دينميكية وتجدد رغم ثبات الشخصية وتوقفها. سنتناول دور المكان في هذه الرواية في بحث مستقل يلي هذه الرؤية لإثبات فاعليتها .
نص ( مرت الأيام ، وبرغم عملي في دار الشريفة حفصة فإنني شعرت بالاكتئاب والضجر والملل. كنت مع صاحبي الدويدار الحالي ، كما يحلو للبعض تسميته ، نقضي معاً بعضاً من أوقات ممتعة في الساحة أو في البوابة الرئيسية حسب العادة الصباحية مع العسكر والبورزان ، وزاملهم المعتاد ، ثم يضمنا مرقدنا المشترك في غرفته ، منهمكين نجتر همومنا اليومية ، لكي نلتقى مجدداً في دهاليز وسلالم وحجرات وساحة القصر وملحقاته ، وفي المطبخ أيضاً بين أفراد أسرة النائب وحشمه وخدمه .. نلتقي في غرفة النائب المنبطح دائماً على جنبه الأيسر منذ الصباح ، ونهجع معاً في غرفتنا في النهاية )(7)
.تلحظ في النص السالف كيف أعطى المكان حيوية للنص وشكَّل مدركات الذهن بتعدده : دار الشريفة حفصة ، الساحة ، البوابة الرئيسية ، مرقدنا المشترك في غرفته ، دهاليز وسلالم وحجرات وساحة القصر وملحقاته ، المطبخ ، غرقة النائب رغم فرادية الشخصية التي تروى، فالرواية -كما يرى هنري جمس- (قد ظلت تستمد قوتها من حريتها المطلقة ، وبذلك رفض أن تكون للرواية قوانين صارمة لا بد من التقيد بها في كل رواية حية )(8).
وفي اعتقادي أن الرواية في الوقت الحاضر لم تعد بالضرورة ذلك السياج المتكامل الذي يسرد سيرة ذاتية لبطل تاريخي كسيف بن ذييزن أو الزير سالم ولكن أضحت الرواية نبضاً إبداعياً يقدم مشهداً منفصلاً يعرض فيه الكاتب للقارئ وضعاً إنسانياً عاماً تشترك فيه غالبية عظمى من البشر ، وبالتالي فإن كل قارئ يرى في هذا النص وتراً يعزف عليه منفرداً .
تلعب الأمكنة والأزمنة الدور الرائد في حيوية النص وتظل الشخوص- خاصة الثابتة والمتكررة – ثانوية التفاعل النصي وإن كانت لازمة من لوازم البنى الأساسية للنص الروائي. وقد يأتي كاتب روائي في زمن ما يرفض أن تتخلل روايته شخصيات، أو بمعنى آخر هناك ثمة ملامح في الرواية المعاصرة لاطفاء جذوة الشخوص على النص الروائي والسير بها نحو الترميز، أي أن الشخصية في الرواية قد تصبح رمزاً كما هو الآن في الشعر. خذ مثالاً على ذلك في رواية "قوارب جبلية" لوجدي الأهدل حينما استخدم الطفل "مزبجه" (1)
. اللقيط للشحاتة ولن أدخل في تفاصيل ما رمى إليه الروائي كون الرواية شكلت في زمن ما جرماً أدبياً –على رأي مأوليها- ومثال آخر المرأة الملفوفة بالستارة التي كشفت الرياح عن جسدها العاري ولفها المهندس الأمريكي بالبطانية السوداء ووضعها بشنطة سيارته ،وشخوص أخرى، لكن لابد أن نتأمل المكان في رواية الأهدل كيف شغل عنصراً محركاً ودافعاً للنص برمته وإن كان الزمان فيها غير طاغ كعنصر هام وفاعل .أما في رواية : " من مأرب إلى طشقند " لجلال الرويشان فقد رأينا كيف عمل المكان على تصعيد أحداث الرواية واتساع فضائها تدريجياً حتى وصل إلى الذروة عند القبض على / صالح علي، ذلك الرجل القاتل في طشقند والعودة به مكبلاً لينال جزاءه طبقاً للقانون في بلده اليمن .
نص ( عندما كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساءً وهو وقت متأخر بالنسبة لسكان وادي سبأ – الأشراف وعبيده – الذين ينامون في العادة مبكرين...(9).
رن جرس الهاتف في منزل أحد الأشراف ، وبدا من كلام الطرف الآخر أنه كان مستعجلاً – حيث بادره بالسؤال :
-هل وصل إليكم صالح ومحسن ؟
-من تقصد بصالح ومحسن ؟
-صالح بن عبد الله ، ومحسن بن عبود .
-       لا . لم يصلوا إلينا حتى الآن- أين هم ؟
-أنا تركتهم صباح أمس في ثمود ، وقد سلمتهم البضاعة.)
-حين نتأمل النص نجد أنه بدأ بنقطة صغيرة تشير إلى الزمان والمكان : الساعة التاسعة مساءً ، المكان وادي سبأ . حين نتابع أحداث الرواية سنجد أن المكان ظل طاغياً على النص وبشكل محطات دافعة بالنص إلى الصعود ، ويتعدد المكان ويتسع لتتنامى به أحداث ومجريات الرواية .
-نص ( وصلت المجموعة إلى منطقة العبر وخشم الجبل ، وبدأوا يبحثون يسألون الناس في كل مكان عن أوصاف أصحابهم وسيارتهم ... ، حيث يمكن أن تكون هناك معلومات : في الفنادق ، المطاعم ، محطات الوقود .. ، وأخيراً في الجهات المختصة الأمن ، المستشفيات .. لكن دون جدوى.
-قرروا التوجه إلى ثمود نقطة إنطلاق أصحابهم أثناء العودة ... ، قطعوا رحلتهم من سيئون إلى ثمود خلال ساعات الليل ، في رحلة صحراوية... كان صعباً عليهم – بعض الشيء- أن يلاحظوا آثار السيارات في خطوط متعرجة ومتعددة الاتجاهات ) (10) .
-يتواشج المكان والزمان في العمل السردي القصصي والروائي بخاصة، ليكوناسبحة الرواية في عقد تفضي حباته الأولى إلى التي تليها ولا يستطيع القارئ أن يصل إلى الضفة الأخرى من الرواية دون أن يعبر عليها جميعها . بمعنى : أن المكان الروائي لا يمكن (تناوله بمعزل عن تضمين الزمان كما يستحيل تناول الزمان ، في دراسة تنصب على عمل سردي ، دون أن لا ينشأ عن ذلك مفهوم المكان ، في أي مظهر من مظاهره )11)نص : (عقد لقاء في صنعاء ، ضم مجموعة صنعاء ، والمجموعة التي تتبعت خط سير الجاني في المهرة إلى سيئون ، إلى المكلاء ، ثم إلى لحج والتي كان من أفرادها ضابط البحث الجنائي بالمهرة أحمد علي ، والشاب خالد سائق السيارة التي أستأجرها الجاني في رحلة الهروب الأخيرة قبل مغادرته البلاد... الجاني غادر البلاد بالتأكيد .. واحتمالات وجوده تتعدى الدولة التي غادر إليها . هل هو في سوريا .. الإمارات .. روسيا ؟! )
(12)هذا النص ينقلك إلى مدار جديد من الرواية يضعك على عتبة السفر إلىخارج الوطن من خلال تعدد المكان وتصاعد الحدث وكأنك تطير علىبساط الريح ، رغم أن ليس ثمة زمان في النص السالف ، وكانت الشخوصالواردة في النص هامشية وهذا يشير إلى تحرك المكان تحركاً ذهنياً في سبيل الدفع بأحداث الرواية إلى التصاعد ( ففي الاتجاه التقليدي الواقعي –مثلاً- يكتسب المكان أهمية كبيرة في بنية السرد الروائي . ويحتل صفحات طويلة من بنية الرواية )(12)
-نص (غادرت المجموعة الجديدة من الأشراف المكونة من ... خمسة أشخاص يرأسهم محمد عبد العزيز مطار صنعاء الدولي متجهة إلى سوريا ـ الجهة التي غادر إليها الجاني ـ للبحث عنه في مغامرة جديدة في الخارج ... هبطت الطائرة على مطار دمشق ... كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهراً ... فور خروجهم من المطار . توجهوا مباشرة إلى الفندق للاستراحة والصلاة ، ثم النوم قليلاً )(14)
-في هذا النص يتصاعد المكان وتتسع فضاءاته ليشكل دينميكية التتابع النصي وانحسار دور الشخصية الفاعل وإن تعددت الشخوص بمجموعة من الأفراد لكن يظل الدور هامشي كما هو في هذا النص حيث يقتصر دور الشخوص بمطاردة الجاني صالح علي. ما نود الإشارة إليه أن الأمكنة لعبت الدور الأكبر في تصاعد الأحداث فيها ، فقد نقلتنا عبر خارطة من الأحداث بدأت بنقطة صغيرة تمثلت بصوت الهاتف في ساعة من ساعات الليل الأولى في مدينة مأرب وأنتهت في مدينة طشقند عاصمة أوزباكستان بروسيا.
-نص (غادرت الطائرة الروسية مطار دمشق في رحلتها رقم(518) الساعة الرابعة وعشرون دقيقة .. ، وعليها أفراد المجموعة ، واستغرقت الرحلة أربع ساعات سيطر عليهم خلالها الخوف والقلق، ليس من ركوب الطائرة فحسب بل ومن المجهول الذي هم مقدمون عليه . وصلت الطائرة إلى مطار موسكو الساعة الثامنة والنصف صباحاً وكان في استقبالهم أحد موظفي السفارة اليمنية في موسكو، ويدعى أنور –كما عرفهم هو بنفسه- وقد كلفه السفير بانتظارهم في المطار منذ الصباح الباكر . ( توقف أفراد المجموعة لبعض الوقت في موسكو في ضيافة السفير وتحركوا في اتجاه طشقند ) أقلعت الطائرة الروسية من مطار موسكو متجهة إلى العاصمة الأوزبكية طشقند .. ، وكان أحمد شقمان يؤشر لأفراد المجموعة من مقعده بفك أحزمة الأمان بعد أن استقرت الطائرة في الجو ، والملحق الثقافي يراقبهم بنظراته وهو يبتسم .. ، وأندهشوا لأن الرحلة من موسكو إلى طشقند تستلزم منهم تقديم ساعاتهم بمعدل ساعتين كاملة . خلال الرحلة كان ناصر بن زايد يحاول بين الفينة والأخرى أن يزيل تلك الهالة من الخوف والقلق التي علقت بأذهان بعض أفراد المجموعة، عندما كان يطلق بعض النكات والأحاديث الساخرة ، منها أنهم ذاهبين إلى نهايتهم المحتومة ، ثم قال : معلقاً على ذلك وهو يشير إلى الملحق :
-نحن جئنا بمحض اختيارنا .. لكن ما ذنب الملحق ؟!
-ضحكوا جميعاً – وضحك الملحق الثقافي معهم . وصلت الطائرة إلى مطار طشقند ، واستغرقت معاملة الخروج من المطار ما يقارب من ساعتين ، دون أن يعرف الملحق وأحمد شقمان سبب هذا التأخير المتعمد... تركو طشقند في اتجاه بخارى في رحلة تستغرق أثنتي عشر ساعة .. ، كان معهم في نفس غرفة القطار ثلاثة أزبكيين بدت عليهم الدهشة من حديث وحركات أفراد المجموعة .. كانت الطريق تمر بين الجبال والوديان السحيقة ، وكان منظرها بعد سقوط الأمطار وجريان السيول رهيبا وخلابا في آن واحد .. مما جعل ناصر بن زايد ينطلق في احاديثه الساخرة ليؤكد لهم أن الأماكن التي يمرون منها هي الأنسب لنهايتهم )(15).
لعل هذا النص قد أعطى القارئ والباحث خلاصة ما نرمي إليه في هذا المبحث وهو دور المكان والزمان في آلية التصاعد النصي وتلاشي دور الشخصية وثانويتها في هذا السياق ، ورغم أن الرواية من مأرب إلى طشقند رواية كلاسيكية تعتمد على تتابع الأحداث وفقاً للترتيب السردي ، إلا أن دور المكان والزمان كانا ظاهرين إذ غير المكان دور الشخصية ونقلها من حالة إلى أخرى فعندما يتغير المكان تتغير معه دور الشخصية، ومن هنا جاز لنا القول بفاعلية المكان ، وإذا تخيلنا أن المكان لم يتغير وظلت الشخصية ثابتة في مكان واحد لن يكون لها أي فاعلية ولن تتغير أحداث الرواية، فلو نظرنا إلى شخوص المجموعة المكونة من : محمد عبد العزيز ، ناصر بن زايد ، محمد بن صالح ، وطالب شقمان ، وعلي بن عبود سنجد أن دورهم – بناءاًً على هذه الرؤية الفرضية – كانت غير فاعلة ، لم يلعب تغير المكان والزمان في الدفع بمجريات أحداث العمل الروائي الذي يسمى بالفضاء الروائي (وفي وصف المكان الروائي ، يبرز ما يسمى بـ((فضاء الروائي))، الذي يعني مفهومه الفني : مجموع الأمكنة التي تظهر على إمتداد بنية الرواية مكونة بذلك – فضاءها الواسع ، الشامل )(16).
وجنوحاً لما طرحناه في بداية هذا البحث من رؤية حول اتجاه الرواية إلى اللغة الشعرية التي تجعل من الرمز أحد مكوناتها. وإذا كان التقارب اللغوي بين الأجناس الأدبية المختلفة سيكون هو السائد فإن ( المسافة جد قصيرة بين لغة هذا النوع من الكتابة الروائية ولغة الشعر ، تجمع بينهما صفة التكثيف ، وهيمنة ضمير المتكلم ، وحيوية الصور الحسية التي قد لا تعتمد على المجاز أو التشبيه بل على حيوية الوصف . وأخيراً وضع إيقاعات الكلمات وعلاقات التراكيب موضع الصدارة من بنية اللغة التي تؤدي وظيفتها شعرياً في روايات أصبح الكثير منها يعرف بمسمى (الرواية الشعرية)(17).
وفي رواية الشيخ والبحر : لارنست همنغواى تلحظ من الوهلة الأولى كيف استوزر الزمان المعادل النصي دافعاً بالأحداث نحو حركية النص :
نص ( كان رجلاً عجوزاً يصيد السمك وحده في قارب عريض القعر في "تيار الخليج" ، وكان قد سلخ أربعة وثمانين يوماً من غير أن يفوز بسمكة واحدة . وفي الأيام الأربعين الأولى كان يصحبه غلام صغير . حتى إذا قضى أربعين يوماً من غير أن يوفق إلى صيد ما ، قال أبوا الغلام لابنهما: أن الشيخ منحوس نحساً لا ريب فيه ولا برء منه ، وسألاه أن يعمل في قارب آخر ما لبث أن فاز بثلاث سمكات رائعات في الأسبوع الأول ) . وتواصلاً للنص إلى القول : (كان كل شيء فيه عجوزاً خلا عينيه ، وكان لونهما مثل لون البحر . وكانتا مبتهجتين باسلتين . وقال له الغلام – فيما هما يصعدان الضفة بعد أن دفعا القارب إلى اليابسه – ( سانتياغوفي استطاعتي أن أذهب معك من جديد، لقد فزنا بشيء من المال ) .
كان الشيخ قد علّم الصبي صيد السمك ، وكان الصبي يحبه ، وقال الشيخ :-" أنت تعمل الآن على ظهر مركب محظوظ . إبق حيث أنت " 
-  " ولكن أذكر كيف سلخت سبعة وثمانين يوماً من غير أن توفق إلى سمكة واحدة، ثم تدفقت علينا الأسماك الكبيرة فكنا نصطاد منها كل يوم عدداً غير يسير ، طوال أسابيع ثلاثة( 18)
-في النص السالف نجد الأزمنة التالية : أربعة وثمانين يوماً، الأيام الأربعين الأولى، سبعة وثمانين يوماً ، أسابيع ثلاثة، الأسبوع الأول .
-ونجد الأمكنة التالية : قارب عريض القعر، تيار الخليج، قارباً آخر ، يصعدان الضفة، اليابسة، ظهر مركب محظوظ . عينية .
-نجد الأزمنة قد دفعت بالنص نحو تصاعد أحداث الرواية وكيف ترتب على هذه الأزمنة تنظيم علاقة الفتى بالشيخ من خلال توفيقه بين رغبتين متناقضتين في نفسه رغبته على مرافقة الشيخ وأن كان منحوساً ، ورغبته في تنفيذ أوامر أبويه ، وكذلك الأمكنة كيف عملت على مساندة الأزمنة في تفعيل الأحداث وترتيبها ونقلها من حالة إلى أخرى في أتجاه صنع المتواليه النصية للأحداث اللاحقة في الرواية .
-فتعدد المكان واختلاف الزمان هما اللذان يعطيان الرواية آلية التنوع والتجدد وليست الشخصية