Dammaj.Net - Under Development






 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

     

الانبهار والدهشة

تقديم

د. عبد العزيز المقالح

قليل هم الكتاب الذين تقرأ لهم وتحب أن تلتقيهم لتزداد بهم معرفة ولهم محبة. وزيد مطيع دماج واحد من هؤلاء، تقرؤه فيغمر وجدانك بالصدق والجمال، وتلقاه فيغمرك بفيض من صداقته ورحابته ومحبته. ومنذ التقيته لأول مرة في مطلع الستينيات بعد قراءتي لمحاولاته القصصية الأولى، لم تفترق مواقفنا ولا رؤانا؛ فقد آنست فيه الصديق الودود الحفي بأصدقائه والوفي لهم، ومنذ ذلك الحين وهذه الصورة تزداد وضوحاً وإشراقاً.

ومن حقي، كما هو من حقه عليَّ -في بداية مقدمتي لكتابه الجديد- الاعتراف بأنه نموذج فريد بين كل الأصدقاء في وفائه ورهافة شعوره ونبله الأخوي، هذا النبل الذي يجعل منه إنساناً ودوداً متوهجاً لا يتسلل الفتور إلى قلبه، رغم التحولات والتبدلات النفسية والمزاجية التي تعتري غالبية البشر بين حين وآخر، ورغم المتاعب والأمراض التي أنهكت الجسد الصبور، لكنها لم تقترب من مجال الروح الفتية المرحة المترعة بالمودة والحنان، ولم تتغلب على أحلام تلك الروح وطموحاتها اللا محدودة. ولن أنسى الصورة التي رسمها له أحد الأساتذة الأشقاء بعد زيارة قصيرة لزيد في منزله وهو يعاني أوجاع مرض مرهق يجعله ينسى معارفه وتلتبس عليه أسماؤهم وشخوصهم. قال ذلك الأستاذ: "يا له من إنسان رائع، يحمل روحاً نقية مبتهجة وإرادة تسخر من الألم! لقد عرفني بعد عشرة أعوام من لقائنا الأول وتحدث معي حول قضايا كانت بالنسبة إليَّ قد صارت ضمن أرشيف النسيان!".

هذا هو زيد مطيع دماج، الكاتب الفنان الذي ينتمي إلى جيل الصبر والمعاناة، جيل التنوير والحرية والتطلع نحو حياة كريمة خالية من القمع والحقد والتخلف، وهذا الجيل هو الذي تكون فكرياً وأخلاقياً في زمن التحولات العظيمة، زمن جمال عبد الناصر والثورة العربية وما رافقهما من ملاحقة للاستعمار وأذنابه من طغاة وعملاء وحراس لأوثان التخلف والظلام.

وما اللوحات التالية المرسومة بالكلمات في هذا الكتاب سوى الدليل على الهموم الباكرة التي أرهقت كاهل زيد وأبناء جيله ممن هالهم أمر وطنهم الذي بقي إلى مطلع الستينيات صورة مؤلمة لمتحف كبير وفريد من نوعه للتخلف البشري. ومن ذلك المتحف العجيب اغترف زيد الألوان وأجاد التقاط المفارقات وقدم للقارئ هذه اللوحات المتميزة التي توقف بها عند الطريف والمعبر عن الموقف الإنساني العميق الذي يرتسم في الذاكرة ولا يبرحها. ومن تحصيل الحاصل القول بأن العشرات قد كتبوا عن هذه المرحلة وبتفصيلات دقيقة؛ لكن ما كتبه زيد في هذه اللوحات المكثفة يختلف كثيراً ويجعل القارئ يطالب بالمزيد لاستكمال بقية المراحل وإضاءتها بمزيد من حالات الدهشة والانبهار، علماً بأنه في هذا الزمن الصعب يصبح التذكر واجباً وضرورة وطنية؛ فربما كان في مقدور هذا النوع من التذكر العفوي التلقائي إرسال شعاع من الأمل المضيء إلى عقول تكاد تفقد توازنها، وما هو بمثابة المواساة لمن تبقى مؤمناً من أبناء الجيل الذي بدأت التراجعات تسحقه وتهز ثوابته.

ومن السهل على القارئ أن يتبين أن زيد مطيع، الكاتب الفنان الذي نجح في أن يسكب روحه الخاصة في كتاباته وأن يعكس في أعماله القصصية صورة الواقع الاجتماعي عن إنسان الأربعينيات والخمسينيات، من خلال المزج بين الحياة والفن والواقع والخيال، ووضع القارئ وجهاً لوجه إزاء كل ما كان يحدث وكأنه (القارئ) أمام مرآة صافية لا تخفي شيئاً، أقول إن من السهل على القارئ أن يتبين أن زيداً الكاتب الفنان يأتي اليوم ليعكس أصداء من سيرته الذاتية في هذه اللوحات البديعة التي يربط بينها جميعاً خيط من الصدق والواقعية، وآخر من فن القص الذي برع فيه وأجاد.

وإذا اصطلحنا على أن هذا النوع من الكتابة أشبه بالمذكرات أو السيرة الذاتية، فإننا لا بد أن ندرك الكيفية التي استطاع بها زيد أن يحولها من مذكرات ذاتية تعرض لنا مرحلة من حياته المبكرة إلى مذكرات عامة، ومن سيرة شخصية إلى سيرة التطورات التي لحقت بالبلاد، ابتداء من مغادرته القرية إلى تعز، ووقوفاً عند المناظر المؤذية للقلب والضمير كما رصدها في عودته الأولى إلى البلاد بعد أن أمضى سنوات في مصر طالباً في المرحلتين الإعدادية والثانوية ورأى الفارق العظيم بين شعوب تعيش عصرها وشعوب مكرهة على أن تعيش في عصور بائدة أسدل الزمان عليها ستائر النسيان.

وإني لمدين للحظ السعيد الذي جعلني أقرأ هذه اللوحات قبل أن يتم جمعها للنشر في كتاب؛ ومع ذلك فإنني أمني النفس بالعودة إلى قراءتها مرات ومرات بعد أن يتم ظهورها بين دفتي كتاب؛ ليس لأنها تسجيل أمين لجزء من حياتنا وحسب، وإنما لكونها أيضاً مرسومة بريشة فنان بارع وقادر على استحضار مشاهد وصور عفوية من طفولته وشبابه الباكر وتوضيحها بأسلوبه الخاص القائم على البساطة والخالي من التعقيد والمبالغة.

وهنا يأتي دور الإشارة إلى عنوان الكتاب: "الانبهار والدهشة"، وهو مأخوذ من موضوع الجزء الثاني في هذا الكتاب الذي يتألف من جزأين، أحدهما يتناول انطباعات ابن القرية عن تعز، عاصمة اليمن طوال حكم الإمام أحمد حميد الديـن (48-1962)، والجزء الآخر عن مصر. وفي هذا الجزء الأخير يتحدث زيد عن رحلته إلى مصر للدراسة وما أصابه من حالات الانبهار والدهشة. طالب في الخامسة عشرة من عمره، يركب الطائرة ويحلق في أجواء مصر مفتوناً بالخضرة التي رسمها النيل، ولا يكاد يصل إلى المطار حتى تستقبله القاهرة بكل ما ادخرت لأمثاله من مفاجآت سارة ومدهشة.

لقد أدرك زيد، وهو يعبر الضفة الغربية من البحر الأحمر إلى مصر عبد الناصر، أنه انتقل من زمن جامد ميت إلى زمن ينبض بالحركة والحياة، ومن أرض تشكو الرتابة إلى عالم يفيض بالحيوية والنماء، وهنا خلاصة "الدهشة والانبهار".