Dammaj.Net - Under Development






 

 

Back to Novel Page
Back to home page

          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

الانبهار والدهشة

مقدمة
Introduction

لم تعش في ذاكرتي أي مدينة كمدينة تعز، هذه المدينة الرائعة بمآثرها العظيمة التي "لم يخلق مثلها في البلاد"، عامرة بمدارسها ومساجدها وقبابها وأوليائها الصالحين، كانت مركزاً لملوك وسلاطين ومصلحين عظماء على مر التاريخ، ولم تخمد شعلتها وتنطفئ إلا بعدما تسلمها الإمام يحيى وبنوه من الأتراك في بداية القرن العشرين. تعج أسواقها بالناس والمزارعين القادمين من القرى والهابطين من "صَبر".

جعلها الإمام أحمد عاصمة لمملكته بعد أن أباح صنعاء للنهب عقب فشل ثورة 1948، رابضة تحت قبة من الوباء والمرض والفقر، سمة تلك المرحلة. ولأنني كنت صبياً قادماً من الريف دخل إلى فضاء أوسع وأكبر من قريته، كان لا بد أن أدهش بانبهار لأشياء لم تكن تخطر على بالي.

فهناك يجلس الساحر "علي خالد" يستظل تحت شجرة "الطولقة" العملاقة. وها هو "معاوية" المجنون يصيح بأعلى صوت: "جبل داكي على جبل"! يجتاز المقهى الوحيد المكتظ بالدراولة (السائقين) المحيطين بـ"الرصابي" يواسونه ويقدمون له حلولاً لشاحنته المعطلة. وفي وسط ساحة الإعدام "العٌرْضي" يقف "الوشاح" سياف الإمام، بسيفه الذي يهوي به على رقاب الأحرار. وفي الأعلى تقع "قلعة القاهرة"، تطل بسورها الضخم على المدينة وعلى الجبال والقرى الحزينة، وعلى سطحها تتمرجح أرجل الرهائن بينما ترنو أعينهم الصغيرة إلى البعيد، كلاً يبحث عن قريته البعيدة. تعز مدينة أسطورية عششت كحمامة وديعة في خيالي منذ الطفولة والصبا، تبيض فيه روايات وقصصاً لا تنضب حتى اليوم.

 

(1) كتاب تعز
The Book of Taiz

 

سور تعز

كان سورها العظيم المشيد بالحجارة من الخارج والداخل بعرض يسمح بتحرك الجنود بمعداتهم، ويكاد الآن يسمح بمرور المصفحات، لمتانته، يحيط بالمدينة من كل الجوانب، ببابيه، وهما "باب موسى" و"الباب الكبير" اللذين كانا ومازالا آية رائعة لفن العمارة اليمنية. وعلى بعد كل خمسين متراً تبرز منه "نوبة" شبيهة بالقلعة. ويتجه مسار هذا السور مرتفعاً وحاضناً للمدينة صوب "قلعة القاهرة" الجبارة التي تطل على المدينة شامخة وحارسة لها كأنها "أبو الهول" حارس أهرام الجيزة بمصر.

لا أبالغ إن قلت إن هذا السور العظيم بقلعته الشامخة لا مثيل له في أي مدينة يمنية، سوى سور مدينة ثلاء وحصنها الذي يشبهه ولكن بصورة مصغرة جداً، وأنني لم أشاهد أو أعرف مثيلاً له في أي مدينة عربية أو أجنبية.

* * *

إذا كان "سور تعز" العظيم يعد أعظم أثر، فهنالك داخل المدينة، التي احتضنها هذا السور العظيم وقلعته الحارس الأمين، مآثر عديدة غاية في العظمة يتوقف أمامها الناس بدهشة وإعجاب، أعني بها الجوامع والمدارس والأضرحة ذات القباب الصغيرة والأخرى العملاقة ذات البناء المتميز بدقة زخارفه التي لا مثيل لها، والكتابات البديعة بألوان من الأصباغ اليمانية الشهيرة التي مازال بعضها قائماً منذ مئات السنين حتى عهد الإمام يحيى وبنيه الذين عمدوا إلى طمس تلك المعالم بحجة تبييضها بـ"النورة" البيضاء، كما فعل "الجار الكبير" عندما طمس معالم وزخارف وأعمدة الجامع الكبير (جامع الملكة أروى) في صنعاء و"جامع الجند" الذي أقامه معاذ بن جبل، ويعد أول جامع أقيمت فيه أول صلاة جمعة في شهر رجب، وهي الجمعة التي مازال اليمنيون يعدونها عيداً من أعيادهم المهمة.


مدرسة (أو جامع) الأشرفية

نسبة إلى الملك أشرف. يطل الجامع على المدينة من الجهة الجنوبية الشرقية، بمئذنتيه اللتين لا مثيل لهما في أي مدينة، بفن عمارتهما وزخارفهما الخارجية وقبابهما العديدة. وتحيط به من الجانبين "برندات" طويلة ذات عقود كبيرة مفتوحة على الهواء، وعند كل فتحة "دكة" من "القضاض" يجلس عليها المصلون والدارسون يستنشقون الهواء الطلق المنعش ويطلون منها على المدينة وضواحيها والجبال البعيدة الخضراء. وفي الخلف أحواض لدباغة الجلود التي اشتهرت بجودتها. وبداخل هذا الجامع أو المدرسة (الأشرفية) أعمدة وعقود يرتكز عليها البناء، وقبتان كبيرتان مزركشتان بالخط الملون، ومحاريب غاية في الإبداع.


جامع المظفر

نسبة إلى الملك (المظفر). يعد "جامع المظفر" أكبر جوامع المدينة. كانت له مئذنة شبيهة بمئذنتي مدرسة وجامع الأشرفية، بل تكاد تكون أكثر طولاً (التقطتُ صورة للمدينة والمئذنة مازالت قائمة عام 1960 قبل انهيارها، عندما خرجتُ مع الطلبة اليمنيين من مصر في أول إجازة لنا). كانت تقام في هذا الجامع الكبير جميع الصلوات، وبالذات صلاة الجمعة؛ ذلك أنه الوحيد الذي كان يستوعب سكان المدينة، لاتساعه، له بابان رئيسيان، أحدهما من الغرب، وهو أشهرهما جمالاً ورونقاً بعقوده المقوسة التي تشبه  "الأزهر" و"جامع القيروان" وقصور الأندلس وجوامعها المشهورة. والباب الآخر خشبي منحوت عليه -بخط بديع- آيات منتقاة من القرآن الكريم. وكان يقع أمام الباب، على بعد خمسة أمتار، الحمام البخاري التركي الذائع الصيت.

يمتاز "جامع المظفر" برواقه الكبير "المصلول" بالحجارة بـ"قضاض النورة" المتين، وبركته الفسيحة التي كنا نسبح فيها معظم الأيام، وبالماء الرقراق الذي ينساب إليها بساقية "مقضضة" بـ"النورة" من منحدرات "جبل صبر" الشامخ إلى "سبل" للشرب بقبابها "المقضضة" أيضاً، وتتوزع بميازيب إلى كل بركة صغيرة أو كبيرة يتوضأ فيها المصلون أو يغتسلون صباح كل يوم (من الجنابة). وأمام الجامع من الجهة "القبلية" (الشمالية) مقبرة أثرية مسورة تحتل مساحة واسعة،  تضم رفات جميع ملوك وعظماء اليمن في تلك الحقب، ويطل عليها الجامع بقبلته البارزة ذات القبة الصغيرة المزخرفة البديعة، وبجوارها من الخارج على اليسار بوابة صغيرة ذات أعمدة عليها قبة صغيرة أيضاً ليدخل منها الملوك والسلاطين والحكام وحاشياتهم مباشرةً إلى الصفوف الأمامية أمام المنبر لكي لا يطؤا رقاب المصلين.

في كل صلاة جمعة كان الإمام أحمد يخرج من قصر "دار الناصر" على صهوة جواده "الرعد" مع حاشيته وحشمه وعكفته وسواريه وعساكره "النظام" و"البراني" بزاملهم المعتاد وأصوات أبواق "البورزان" وعبيده المحيطين به، ومظلته المزركشة بمعذباتها المزينة بلون الذهب تدور فوق رأسه، يقوم بمهمة تدويرها عبد عملاق. ومع أن المسافة قصيرة ما بين "دار الناصر" وجامع "المظفر"،إذ لا يفصل بينهما إلا "ميدان الشبكة" إلا أن الإمام أحمد كان يريد بموكبه هذا أن يثبت لسكان المدينة أنه أجل مهابة وأعظم سطوة من ملوك بني رسول والغسانيين! لكن الناس والعامة منهم أيضاً يعرفون أنه كان يخرج من قصر "دار الناصر" الذي استولى عليه، ويتجه ليصلي في "جامع المظفر" في مدينة مسورة بسور عظيم لم يكن هو ولا والده قد عمرا مثله في تاريخهما المظلم المديد!

كان "جامع المظفر" منافساً لـ"جامع الأشرفية" بالزخارف والكتابات ذات الخط الجميل، بألوانها الزاهية على المساحات الفضائية لقبابه الثلاث الكبيرة، وقبابه الصغيرة أيضاً، من الداخل وعلى جوانب أعمدته التي تسند هذه القباب والسقف الكبير للجامع بأكمله. كنت عندما أحاول رفع رأسي إلى أعلى لقراءة الكتابة عليها أصاب بالدوار ويظل رأسي يدور وجسمي أيضاً حتى أكاد أسقط من الدوران.


المعتبية

تحيرت في الحديث عنها، هل أسميها جامعاً أم مسجداً أم مدرسة!؟

فهي تحمل كل الصفات لهذه المسميات. تعد "المعتبية" ثالث أكبر جامع في تعز بعد "جامع المظفر" الكبير و "جامع الأشرفية".

كانت هذه "المعتبية" أحد الأشياء التي كنت في ذلك الوقت اتساءل عنها: لماذا لم تعلُها مئذنتان كـ"الأشرفية" أو مئذنة واحدة كـ"المظفر" ولماذا لها قبتان فقط شبيهتان بالنهدين!؟ ولماذا سميت بالمعتبية؟!

ظلت هذه التساؤلات في ذاكرتي منذ كنت طالباً في "المدرسة الأحمدية"، حتى التقيت أخيراً وبالمصادفة الأستاذ الأديب "الغريب" السفير "محمد أنعم". قال لي، والعهدة عليه، إن اسم جامع أو مدرسة أو مسجد "المعتبية" منسوب لزوجة أحد ملوك تعز وكانت جارية واسمها "المعتب"، وهي التي أمرت ببنائه وسمي باسمها.

وعن سؤاله: لماذا لا توجد بأعلاه مئذنة؟ ولماذا اكتفت ببناء قبتين فوقه فقط؟ كان جوابه: لأن التي بنته كانت جارية، فمنع عليها زوجها الملك بناء مئذنة. وأما لماذا اكتفت بتتويجه بقبتين فقط على شكل نهدين، فلأنها كانت ذات حكمة ودهاء، حيث رمزت بأهم مناطق جسم المرأة جاذبية للملوك.

هذا ما قاله أستاذي الأديب الشاعر "محمد أنعم غالب". اعتبرت كلامه منطق خيال شاعر؛ لكنني قمت برحلة سريعة إلى ذاكرتي وأيقنت فعلاً بقول أستاذي الشاعر.

لا تختلف هذه "المعتبية" عن "الأشرفية"، فهي صورة لها من الداخل والخارج، ماعدا المئذنتين وعدد القباب المتنوعة الأحجام. ولا تختلف "المعتبية" عن "المظفر" الجامع الكبير، إلا أنها أصغر منه حجماً وقباباً وأبواباً رئيسة واتساعاً. لكنني كنت عندما أزورها أشعر فيها براحة محببة إلى القلب، وعندما أطل من أروقتها الجانبية أشاهد عن بُعد "جبل التعكر" يحتضن قريتي وقرى أخرى. وتعتبر "المعتبية" متميزة بحيها وحارتها ذات البيوت النظيفة، القديمة منها أو المستحدثة، والمشجرة أيضاً.


قبة الحسينية العملاقة

هذه القبة- الضريح، العملاقة، الغاية في دقة فن عمارتها البديعة، لا أتذكر أنني صادفت مثلها في أي مكان. أتذكر أن هنالك قبتين كبيرتين في مدينة "موزع" إحداهما "قبة المحولي"، والأخرى لا أتذكر أسمها، مبنياتان بالحجر "الحبش".

لكن "قبة الحسينية" بمدينة تعز متميزة، فهي واسعة وقائمة على ستة أركان أو أكثر، بينما القباب الأخرى قائمة على أربعة أركان فقط.

تقع "قبة الحسينية" في ساحة شبه ميدان كنت مع زملائي نلعب فيه ونستأجر عجلة "السيكل" الدراجة الهوائية ونظل ندور بها في الساحة، وربما نصعد خارج باب المدينة إلى "العُر‘ضي" بصعوبة لكي نتمتع بعد ذلك بالعودة نزولاً مسرعين وبدون جهد!

لم نكن نستطيع الاقتراب منها أو الدخول إليها، لأن الإمام أحمد كان قد خصصها كمخزن كبير للمحروقات الخاصة به، ولـ"المحضار" الذي حاول جاهداً إيجاد مشروع حضاري بتوفير مولد كهربائي وتوفير المحروقات للسيارات القليلة ولحاجة الناس الضرورية من الكاز لمسارجهم "القماقم" أو "الفوانيس". ولأن الإمام أحمد كان حاقداً على كل مآثر هذه المدينة فقد أمر بأن تكون هذه القبة العملاقة (الحسينية) مخزناً للمحروقات بدلاً من أن يأمر بترميمها، وكأنه لم يجد بديلاً عنها، أو يأمر ببناء مخزن غيرها.


المنظار السحري

حين وجودي عصر كل يوم في ميدان "العُر‘ضي"، كانت إحدى متعي مشاهدة "الناظور" السحري الذي عاد به أحد  المغامرين من عدن في غفوة من الإمام أحمد الذي كان قد أصبح في ذلك الوقت مخدراً!

كان هذا المغامر يصيح بصوت عال:

-      أنظر!  أنظر! يا سلام! تعز العز، محل السلطنة... باريس بلاد الفرنسيس، محل الذهب والفضة... الخ.

أدفع نصف "بقشة" وأنظر في ذلك المنظار (السحري) الصغير بعد أن أضعه على عيني والرجل يصيح ويضغط بأصابعه لتحريك المناظر الملونة. كم كنت مبهوراً! تكاد الدهشة تغمرني وأنا أشاهد مدناً وشوارع وسيارات ونساء ورجالاً وأطفالاً يكادون يتحركون وينطقون، خلقهم الله في أحسن تقويم وأبدع، عز جلاله!

لم تكن هناك أي صورة لمدينة تعز في هذا المنظار السحري العجيب، فقد كانت الصور جميعها لمدن أوروبية؛ لكنني كنت أصدق بخيالي أن مدينة تعز موجودة في ذلك المنظار السحري العجيب!


بائعة البطاطا

كنت مع صديقي نخرج من المدرسة عصر بعض الأيام، ندخل من "الباب الكبير" للمدينة ونتجه عبر السائلة إلى "ميدان الشبكة" ونتقرفص أمام بائعة "البطاطا المقلية" الشابة الجميلة، لنأكل من بطاطها مع قليل من البهارات الحارقة ورذاذ من مسحوق الزعتر.

كان هناك غيرها من البائعات الكثر، نساء وشابات، بجانبها، لكنها كانت الوحيدة التي سلبت عقولنا؛ مليحة كانت وجميلة أيضاً، ذات أنوثة صارخة، ووجنتين حمراوين بالطبيعة، وعينين واسعتين مكحلتين، وأنف بارز رفيع، وشفتين ليستا منمنمتين بل ممتلئتين بلون البنفسج، وثغر ينفرج عن أسنان متسقة رغم ما علق بها  من لون رمادي، كغيرها من سكان المدينة، نتيجة للماء المنحدر من "جبل صبر" بسواقيه المقضضة بـ"النورة" للشرب وللوضوء في برك الجوامع والمساجد!

* * *

تأكد لي أنها تنفق دخلها على ملابسها وهندامها بالتأكيد! تلبس قميصاً مخصراً من الحرير المنقوش والمطرز بخيوط دقيقة بلون الذهب والفضة، مفتوحاً من تحت الرقبة ويضيق وسط نحرها الذي تبرز منه هالة نهديها المنعمين... وسروالاً يغطي ساقيها مزركشاً في نهاية فتحتيه. كان هذا القميص الحريري المزركش ذا كُمَّين فضفاضين تعقدهما خلف رقبتها، وتحته "زنة" من الحرير المزركش الشفاف يظهر من خلالها ذراعاها، وكانت يداها البيض منقوشتين بالخضاب الأسود و"الحناء" وبأساور من الذهب.

على رأسها "مقرمة" من الحرير الأحمر الناعم المطرز، يبرز من تحتها شعرها المغدق على الجبين والخدين يتدلى من أحدهما "مَشقُر" الريحان.

عندما كنت مع زميلي نتأمل هذه المفاتن فيها بعد أن نكمل وجبتنا من بطاطها المقلي ونماطل في الانصراف، كانت تصرخ في وجهينا "مكشرة" كلبوة مفترسة، ونقوم فزعين مذعورين فارين من أمامها ونعود إلى مدرستنا والغيرة تفتك  ببعضنا من بعض. نتخاصم ساعتها ونحاول أن نفتح كتبنا للمذاكرة، لكن خيال صورة وجهها كان أمامنا في كل صفحة نفتحها، ويجفونا النوم.


قلعة القاهرة

تحتل "قلعة القاهرة" موقعاً مناسباً على قمة منحدرات "جبل صبر" المشرفة على مدينة تعز من الجهة الشمالية. وكان لهذا الموقع المتميز أهمية بالغة، إذ مكن القلعة من أداء واجبها التحصيني والدفاعي عن المدينة، وجعل منها الإمام أحمد منذ كان أميراً للواء تعز وولياً للعهد -وحتى أصبح إماماً- سجناً رهيباً للرهائن!

* * *

في بداية كل شهر كان والدي رحمه الله يرسل -من مقر عمله في "المنفى"- مصاريف شهرية لي ولابن عمي، الأستاذ "أحمد قاسم دماج" (الرهينة)، أتسلمها من حامل البريد الذي يصل في بداية كل شهر إلى "قبة المُعَصوٍر" التي تبعد عن "باب موسى" حوالي 60 متراً. كانت "قبة المعصور" و"طولقتها" العملاقة و"سبل" مائها "المقضضة "القديمة تستقبل المسافرين المغادرين أو القادمين كنقطة تفتيش حدودية لعاصمة الإمام أحمد (تعز). أتسلم المصاريف من الريالات الفضية (ماري تريزا) الثقيلة جداً على جسمي النحيف؛

خمسة ريالات مصروف شهري لي، وثلاثون ريالاً لابن عمي الرهينة في "قلعة القاهرة".

* * *

كانت بداية معرفتي ومشاهدتي لهذه القلعة عندما صعدت إليها من المدينة في طريق مدرج مرصوف بالحجارة إلى مزار "الشبزي" الذي يزوره اليمنيون، رجالاً ونساء وأطفالاً. والمزار عبارة عن كهف صغير بابه "مقضض" بـ"النورة"، وحوله كراسي من الحجارة المنحوتة ليجلس عليها الزائرون. في تلك المرحلة من الطفولة والصبا لم أكن أعرف شيئاً عن هذا "الشبزي"، ولم يتسنَّ لي معرفة كونه أديباً وشاعراً وشخصية يهودية مشهورة، إلا أخيراً!

* * *

ينتهي الطريق المدرج المرصوف بالحجارة عند هذا المزار، وبعد ذلك كان عليَّ الصعود في طريق وعرة شقتها عبر الزمن أرجل الصاعدين والنازلين. كانت قد فُتحت فجوة من السور مستحدثة للدخول والخروج تدعى "عين الدمة" منها يؤدي الطريق إلى البوابة الرئيسية للقلعة بـ"مرحل" معبد بالحجارة المصقولة يصعد منه الناس والإمدادات وعربات المدافع التي تجرها البغال. كان "المرحل" ملتوياً ويستدعي المرء للاستراحة في كل منعطف فيه.

أذكر أنني وصلت إلى البوابة المنيعة المرصع خشبها بصفائح من الحديد والنحاس التي يعجز العدو عن إشعال النار فيه. كان باباً كبيراً يسمح بدخول القوافل التي تحمل المؤن أو التي تجر المدافع وعربات الذخيرة. أما الناس، من رجال ونساء، الذين كانوا يزورون أبناءهم (الرهائن) لتقديم بعض العون لهم أو لإعطائهم بعض الكعك أو الزاد ومدهم ببعض الحاجات الضرورية، فإنهم يتمكنون من الدخول من باب صغير مقوس من أعلاه يفتح في إحدى دفتي الباب الكبير، وفي وسطه نافذة صغيرة جداً تفتح للتأكد من هوية الطارق وممن يريد زيارته.

فتحت هذه النافذة الصغيرة المحصنة بأسياخ من الحديد غليظة بالرغم من أنها لا تسمح بدخول رأس كلب أو قط فما بالك برأس إنسان!؟

-         من تريد؟

-         أريد أن أقابل بن عمي، الرهينة.

وأطبق النافذة الصغيرة في وجهي بعد أن بصق"الشمة" (التبغ المطحون) من فمه فاتسخ ثوبي فوق ما هو متسخ.

بعد فترة انتظار طويلة فتح الباب الصغير المقوس من أعلاه محدثاً صوتاً مزعجاً.

كنت أول الداخلين، وخلفي مجموعة من الرجال الزائرين لأبنائهم يكادون يدفعونني إلى الأرض. لكن الحارس الجلف استطاع برجله الغليظة أن ينظم دخولنا بانضباط دقيق، وبدا الباب وكأنه دُبُر جمل يقص بعره بدقة!

فتشني بدقة وبسرعة، وأخذ من مصروف ابن عمي ريالين، وعندما حاولت التلكؤ والاحتجاج لكزني الذي كان ورائي وهمس في أذني بألاَّ أعترض، وأن أمشي سريعاً.

وجدت نفسي بعد خمسة أمتار أمام باب آخر، وتلاحق بعدي الآخرون، وفتحت نافذة صغيرة كسابقتها. وبعد فترة طويلة فتح الباب الصغير المقوس من أعلاه وتلقفنا حارس آخر غليظ الجسم والطباع أيضاً وأخذ مني ريالين، ولم أعترض، وهرول من ورائي الآخرون فرحين، لكننا صُدمنا ببوابة ثالثة. فتحت النافذة الصغيرة، ثم انتظرنا فترة طويلة إلى أن فتح الباب الصغير المقوس من أعلاه وتلقفنا حارس غليظ ثالث وأخذ مني ريالين ولم أعترض.

وأسرعت ومن ورائي الآخرون. كنت متألماً وخائفاً أن يظن بن عمي، الرهينة، أنني أخذتها لي، لكنني حمدت الله على أنني دخلت من البوابة الرهيبة لكي أرى بن عمي الرهينة فرحاً معانقاً لي!

كان الرهائن واقفين على بعد، كلاَّ يتطلع ليرى أقاربه. وكان قد لفت نظري رجل مهيب بثياب بيضاء نظيفة يقف في وسطهم.

أمرنا حرس القلعة بأن نتوقف في صفوف حتى يخرج الشيخ "المحجاني" قائد القلعة ليأذن لنا بالالتقاء بالرهائن. كنت أصغر الزوار. وعندما خرج الشيخ "المحجاني" مر علينا وسأل كل شخص عمن يريد زيارته من الرهائن وما هي الصلة أو القرابة التي تجمعه بالرهينة...

عندما رآني توقف ونظر إليَّ ملياً وهو يتلفت إلى الحراس، ثم صاح مستفسراً:

-         أهذا الصبي زائر أم رهينة؟

وتلقى الرد بأنه زائر لابن عمه الرهينة "دماج". أصبت برعب وهلع وارتجفت وجلا كعصفور أو كأرنب خائف.

* * *

عندما سمح لنا الشيخ "المحجاني" بالالتقاء بالرهائن انزعجت لصوت جلجلة القيود الحديدية على أرجلهم. لم أعد أتذكر أي ملمح لصورة ابن عمي، ولا هو؛ لكن صلة الدم كانت رائحتها تقودني وتقوده لنعرف بعضنا بعضاً.

هرولت إليه، وحاول أن يهرول إليَّ رغم قيده الغليظ. وعندما اقتربنا بعضنا من بعض تعانقنا، وتمسكت به وأنا أتشنج باكياً حتى علا صوتي.

حاول أن يبعدني عن الالتصاق به رويداً،

-+وبدأ يهمس في أذني بكلمات مطمئنة ومشجعة، وبأن الأمور عادية، وأخذ بيدي مع زملائه لكي يريني معالم القلعة، جاهداً أن يخلق جواً مرحاً باسماً يزيل عني الكآبة والبكاء.

* * *

أقبل نحونا ذلك الرجل المهاب بثيابه البيضاء النظيفة وبِعِمَّته البيضاء فوق رأسه كلباس علماء "الأزهر"، وربت على كتفينا بحنان وقال لابن عمي متسائلاً:

-         أهذا ابن عمك ابن "أول الثائرين"، ابن "نقيب الأدباء وأديب النقباء"؟! بارك الله فيكم!

تركنا، وسألت ابن عمي عنه فقال

-   إنه السجين الوحيد بين الرهائن، وهو أستاذ فاضل، قاسم غالب، يخصص كل وقته لتعليمنا اللغة والتاريخ والجغرافيا والمنطق والأخلاق والحساب. إنه أكثر علماً من معلمي "المدرسة الأحمدية".

قال لي ذلك بافتخار، ثم عرفني بزملائه:

-   هذا ابن عمي! "العنبري" من خبت "ذباب" وهذا "أمين نعمان البعداني" وهذا "ابن ناصر" من "ماوية"، وهذا "ابن "الهياجم" من "شرعب"، وذلك ابن "محمد عبد الله جابر" من "البوكرة- الوازعية"، وهذا "سلطان أحمد بجاش" من "المحاولة"...الخ.

وظل يطوف بي كل معالم القلعة ومدافعها، وسورها المحيط بها من كـل جانب، وأشرفت معه من كل شاهق لنشاهد المدينة بل اليمن كله الذي كنت أعتقده! وأشار إلى "جبل التعكر" حيث ترقد قريتنا الخامدة في حضنه. عجبت لمناعة هذه القلعة وكيف استطاع العمارون و"الأساطية" أن يبنوا سورها على تلك الشواهق دون أن يصابوا بالدوار والخوف أو السقوط إلى الهاوية.

* * *

لا أعتقد بأن أية قلعة أو حصن في العالم قبل التاريخ أو في القرون الوسطى منيع مثلها. جميعها تُخترق وجميعها يستطيع شخص ما الفرار منها.

فيما بعد، عندما توافرت لي الدراسة والزيارات الكثيرة إلى الخارج، أمكن لي مشاهدة قلاع وحصون في معظم البلدان العربية والأوروبية، شرقاً وغرباً. وكنت في بداية قراءاتي لروايات تاريخ الإسلام للأديب العربي الكبير المرحوم "جرجي زيدان" -كرواية "المملوك الشارد"- أتخيل ما وصفه الكاتب عن ذلك المملوك الشارد الذي استطاع أن ينجو من المذبحة ويقفز بحصانه من سور قلعة صلاح الدين (قلعة محمد علي باشا) وأن يفر إلى صعيد مصر. وأتذكر ونحن ندرس في المرحلة الثانوية في "بني سويف" حيث كانت رواية "سجين زندا" أحد مقررات اللغة الإنجليزية، كيف استطاع بطل الرواية القفز من إحدى نوافذ القلعة الحصينة إلى الخندق المائي المحيط بالقلعة وأن ينجو بنفسه... لا أعتقد أن شخصاً ما يستطيع القفز بحصانه من "قلعة القاهرة" كما فعل ذلك المملوك الشارد، فسيموت هو وحصانه قبل أن يصلا الأرض. ولا أعتقد أن أي شخص سيغامر بالقفز من إحدى نوافذها كما في "سجين زندا" لأنه سيصل قطعاً صغيرة مبعثرة في كل مكان.


ميدان الشبكة

كان "ميدان الشبكة" هو الساحة والمتنفس الوحيد لمدينة تعز التي يجثم عليها الوباء كضباب ذي لون رمادي مائل للاصفرار، يظل منذ الصباح الباكر راكداً فوقها إلى منتصف النهار.

يقع "ميدان الشبكة" في وسط المدينة، تحفه من الجانب الشرقي شجرة "الطولقة" العملاقة المعمرة التي لا يعرف أحد كم عمرها من السنين، حيث تضاربت الأقوال عن عمرها وفي أي عصر أو عهد غرست؛ قيل: منذ الحضارة الحميرية، وبعضهم قال بأنها منذ العصر الصليحي أو المملوكي والأيوبي، أو عصر بني رسول الغسانين، أو العصر العثماني... الخ؛ لكن المرجح أنها غرست في عهد الملكة العظيمة "أروى بنت أحمد" التي كانت تهتم بغرس هذا النوع العملاق من أشجار "الطولق" في كل أنحاء مدن اليمن وطرقه التي عبدتها بالحجارة "المصلولة" وبنت في كل "مرحل" "سماسر" ضخمة تؤوي القوافل بما تحمله، وأمام كل "سمسرة" وبجانب كل "سبيل" للماء "طولقة" عملاقة تستريح  القوافل والمسافرون تحت ظلالها الوافرة لتقيهم حرارة الشمس أو هطول الأمطار.

كان يحيط بهذا الميدان من كل الجوانب "ديور" وشبه قصور ببساتينها الصغيرة، وأضرحة بقبابها المنورة بـ"القضاض" الذي يعد حتى اليوم أكثر متانة من الأسمنت.

سمي بـ"ميدان الشبكة" نسبة لسجن رهيب يقع في شرقه وتفصله عنه "السائلة" الوحيدة التي تشق وسط المدينة والتي تمتلئ بالسيول المنحدرة من "جبل صبر" ومن بعض عوارض صخرة "قلعة القاهرة".

كان "سجن الشبكة" الرهيب يحتل مساحة كنصف مساحة الميدان وربما أكثر، يحيط به سور حجري مرتفع، وعلى أركانه الأربعة "نوب" (جمع نوبة) مدورة مرتفعة للحراسة. كانت بوابته الوحيدة تطل على "السائلة" والميدان، ولم نكن نجرؤ على الاقتراب منها. كان يدفعني الحنين والشوق في بعض الأحيان لاقتحام البوابة والدخول إلى السجن، الذي كان والدي رحمه الله- قد اعتقل فيه مع بعض الأحرار عام 1943 واستطاع بعد ذلك الفرار مع زميله المرحوم الأستاذ "عقيل عثمان" عن طريق "الحُجَرية" إلى عدن مشياً على الأقدام في نيسان/أبريل1944 ليؤسس مع زملائه الذين لحقوا به "حزب الأحرار".

* * *

لا أحد يعرف متى بُني هذا السجن (المركزي) الرهيب ومن الذي أطلق عليه هذا الاسم! من المؤكد أنه قديم، منذ العصور السابقة أو اللاحقة لبني رسول أو الأيوبيين أو الأتراك، وربما كان ثكنات للجيش يخرج منها الجند ليستعرضهم الملك أو السلطان في الميدان أمام المنصة "المقضضة" بـ"النورة"، القابعة تحت ظل تلك "الطولقة" العملاقة ليدافعوا عن الميدان أو يخرجوا غزاة إلى المناطق والثغور لاستعادتها من العدو.

لم يجزم البعض، بل قال بأن تسمية هذا السجن والميدان كانت منذ عهد الإمام يحيى وبنيه ومن سبقهم من الأئمة الكثر. ويستدلون على ذلك بأسماء السجون الرهيبة التي أطلقها الإمام يحيى وبنوه التي كانت مشابهة، مثل  "الزاجر" بمدينة إب، و"الرادع" في مدينة صنعاء، و"النافع" في مدينة حجة، و"المهلهل" في مدينة خمر، و"السنارة" في مدينة صعدة...الخ، وبأن "ميدان الشبكة" كان اسمه "ميدان الطولقة"، و"سجن الشبكة" كان اسمه غير ذلك.

كانت هذه معلوماتنا من أستاذ اللغة العربية والتاريخ، العجوز، الذي كنت مع صديقي وآخرين نذهب إلى غرفته المتواضعة في "المدرسة الأحمدية" ونترجاه بإلحاح ونحن جاثمين نحيط به من كل جانب أن يفتينا عن هذا الميدان والسجن، ويستجيب والبسمة تعلو شفتيه.

 

* * *

نحتشد مع بعض الناس على جوانب المدينة في كل جمعة وننتظر للتفرج على موكب الإمام أحمد القادم من "دار الناصر" متجهاً إلى "جامع المظفر" لأداء صلاة الجمعة. وتبدأ أصوات نفير "البورزان" من كل جانب، ويطل موكب الإمام أحمد بعساكر "النظام" وهم "يزملون" وينشدون، ببنادقهم "البشلي" وعلى جانبي الموكب "السواري" (الفرسان) على خيولهم ببنادقهم "أبو بيسة" القصيرة، ثم "العكفة" (الحرس الخاص)  بملابسهم الشعبية الزرقاء وبنادقهم الجيدة "الزاكي كرام" يحيطون بالإمام أحمد وهو على فرسه "الرعد" والعبيد والعمالقة من أمامه ومن ورائه على الجانبين، واحد يظلل الإمام بمظلته والإمام على حصانه "الرعد" كغول رهيب يهز رأسه إلى اليمين تارة وإلى اليسار تارة أخرى، و"عذبة" عمامته، تهتز مع كل حركة، وشفتاه تتحركان كأنه يرد التحية. قال مواطن كان بجوارنا إن الإمام يحرك شفتيه ليس للتحية وإنما باللعن: "لعنكم الله"! "قبح الله وجوهكم!..." نظرنا إليه بسذاجة.. فابتسم الرجل وربت على كتفينا.


الدكتور الجيلاني

في عام 1950، وعمري في ذلك الوقت لا يتجاوز السابعة، أخذني والدي معه من مقر عمله (المنفى) إلى مدينة تعز، وقد كنت وحيده الذي ظل على قيد الحياة إثر وفاة جميع أولاده الكبار من زوجات أخريات، والصغار من والدتي رحمها الله.

كانت تلك هي أول مرة أعرف هذه المدينة، وأسكن معه في منزل صديقه الدكتور "الجيلاني" كعادته دائماً بالقرب من "جامع المظفر".

كانت أول صورة فوتوغرافية التقطت لي مع والدي وصحبه، وكذلك بمفردي، في فناء منزل الدكتور "الجيلاني"، التقطها أول مصور في ذلك الزمان، الأستاذ "جغمان"، قبل أن يفتح الوالد المرحوم "أحمد عمر عبسي" أول استوديو تصوير خارج "باب الكبير" بعد سنوات.

كان الدكتور "الجيلاني" أشهر طبيب عرفته تعز، رغم وجود دكتور إيطالي يدعى "كفلون" أو كما يطلق عليه اليمنيون "طفلون"وكان يرافقه للترجمة "المنتصر" من ليبيا الشقيقة الذي أصبح  بعد سنوات رئيساً لوزرائها.

لكن الدكتور "الجيلاني" كان الأشهر، وهو -كما قيل- من أصل يمني اغترب والده إلى بلاد الهند والسند.

* * *

عاد الدكتور "الجيلاني" إلى اليمن مع زوجته التي هي أيضاً من أصل يمني، ومعهما ابنتهما الوحيدة "حفيظة". كانت لوالدي غرفة خاصة في منزل الدكتور "الجيلاني" في الدور الأسفل، وكنت أسكن معه أيضاً قبل أن أصبح تلميذاً في "المدرسة الأحمدية" بعد عدة سنوات.

وكان الدكتور "الجيلاني" قد خصص له بغلاً ينتقل على ظهره إلى المستشفى العسكري (العثماني الأصل) مع حارس يرافقه دائماً، بكوفيته الصوفية على رأسه وبدلته "الإفرنجية" المهابة، وهو على صهوة بغله وأمامه الحارس العسكري "النظامي" ببندقيته وحزامه "الطيار" الخاص بالرصاص يمشي أمامه ذهاباً وإياباً من المنزل إلى المستشفى.

كانت زوجته أم "حفيظة" امرأة فاضلة حنونة، لكنها ممتلئة الجسم ثخينة جداً بالمقارنة بنساء مدينة تعز، تعد الغداء وتأتي به إلى غرفة والدي ونتناوله جميعاً. وكانت "حفيظة" تتعلق بظهر والدها ويداها على عنقه هاربة من أن تأكل أي شيء يقدمه والدها إليها، فكان يقول لوالدي:

-         هذه البنت "حفيزة" لا تأكل، كم هي نحيفة يا أستاذ!

وكان والدي يجامله بأنني أيضاً أنحف منها!

* * *

كان والدي قد أهدى للمناضل العلامة المرحوم "عبد الرحمن الحداد" بغلة حبشية ومسدساً ألمانيا فريداً، وأهدى القاضي "عبد الرحمن الحداد" لوالدي خاتماً من الذهب تتوسطه ياقوتة نادرة، وأهداني أيضاً "سيكل" صغيراً (دراجة) بثلاث عجلات كنت ألعب به في ساحة منزل الدكتور "الجيلاني" المطلة على "السائلة"، وكانت الأخت "حفيظة" هي الوحيدة التي أسمح لها بالركوب عليه. هذا "السيكل"  كان بداية صداقة وثيقة فيما بيني وبين "حفيظة" التي كانت  تصغرني بسنة أو أكثر ربما. وكطفلين صغيرين تصادقا، حذرتني في يوم من الأيام ألاَّ ألمس بيدي مفاتيح الكهرباء وخيوطها التي تم تركيبها أخيراً من "محطة المحظار" والتي بهرتني فعلاً بضوئها.

ثم تطورت العلاقة بيني وبينها إلى أن أخذتني بيدي وقادتني إلى الدور الأعلى وفتحت غرفة خاصة بها، وعندما سحبتني إلى مدخل الغرفة بقوة، لترددي، صعقت بانبهار شديد لما شاهدته من لعب آلية من عربات صغيرة وطائرات ودبابات وقرود وأشكال كلها تتحرك معلقة بعضها على الجدران وأخرى على أرففها؛ هذه سيارة تمشي، وهذا قرد بهلوان يمارس حركاته متشقلباً، وهذا قطار يسير على قضبان ويصفر، وهذه عصفورة تلتقط حبات القمح...

جلست على عجزي مذهولاً، ثم سحبتني لأستقيم وأعود إلى وضعي الطبيعي لكي أنزل معها ساحة المنزل، نركب "السيكل" ذا العجلات الثلاث الذي كنت قد مقتُه ونبذته بعد أن انبهرت بما شاهدت من ألعاب غاية في السحر في غرفتها الخاصة.

كانت الأخت "حفيظة" هي كل ما يمتلكه والدها من كنز ثمين، يحبها حباً لا نظير له، إذا غادر المنزل يصيح: "أين حفيزة..؟"، وإذا عاد يصيح: "أين حفيزة"؟.

أما والدتها الفاضلة فقد كانت أشد حناناً ومحبة لابنتها الوحيدة "حفيظة"، لكنها كانت تكتم هذا الشعور في داخلها، لأن زوجها يبوح به بأعلى صوته دائماً أمام أصدقائه ومرضاه.


 صندوق الطرب

من البيوت التي كان يستضاف فيها والدي -رحمه الله- أثناء وجوده في مدينة تعز منزل "الحر بشير". كان صديقاً لوالدي منذ عدة سنوات، كما كان ابن عمه "مبروك الحر" أيضاً. في تلك الفترة كنت صغير السن ولم أدخل المدرسة بعد. وكعادته، كان والدي يأخذني معه في كل أسفاره إلى تعز. مازلت أتذكر الطريق إلى منزل الوالد "بشير" حيث نمر من "ميدان الشبكة" و"الطولقة" المطلة عليها دور عامل تعز رحمه الله، ونتجه صاعدين من جوار شجرة عملاقة معمرة من أشجار "الحَُمَر" "التمر الهندي" وبجوارها أيضاً شجرة عملاقة أيضاً من أشجار "القرناط" التي يبدو ألاَّ نظير لها في الخارج، بثمارها ذات الأحجام الكبيرة بلونها الأحمر الداكن، تتساقط على شكل قرون الفاصوليا أو قرون "الكشت". كنا نقطفها لمذاقها الحلو جداً وكانت تباع أيضاً في الأسواق. كان منزل الوالد "بشير" من المنازل المثالية الأنيقة، بابه من الخشب المزركش القديم، ويتكون من طابقين، الأسفل يضم عدة أماكن صغيرة أكثرها مخازن، أما الطابق الثاني فكان يضم منزلتين وعدة أماكن وحمامات في منحنيات السلالم ومطبخاً على سطحه. كانت إحدى "المناظر" يقيم فيها والدي، وعندما دخلتها شد انتباهي صندوق من خشب الأبنوس في أسفلها. كان الوالد "بشير" قد وفر عدة اسطوانات تلقاها من عدن بواسطة أصدقائه، وكنت لأول مرة أرى صندوقاً يفتح وتركب فيه أسطوانة سوداء وتوضع بدقة قطعة معدنية بيضاء ذات شوكة صغيرة مدببة على الأسطوانة بعد أن يقوم الوالد "بشير" بتحريك قطعة بيده على يسار الصندوق ويقفل النوافذ والأبواب.

كنت بجوار الصندوق. فزعت عندما سمعت صوتاً يقول:

-         "جعفر فون" يقدم لكم الفنان "العنتري" في هذه الأغنية.

ذهلت وأنا أسمع "العنتري" بعوده وصوته يغني، والتجأت إلى حضن والدي هامداً وهو يربت على ظهري بحنان مبتسماً... ثم يتكرر صوت "جعفر فون" في كل أسطوانة ليقدم الفنانين: "الماس"، "القعطي"...

كان والدي -رحمه الله- إضافة لكونه سياسياً ومثقفاً وأديباً وطنياً، فناناً ذا صوت جميل عندما يغني ويشدو بأغاني التراث، وبالذات أغنية "وامغرد بوادي الدور". أتذكر فناناً صديقاً لوالدي (لا أتذكر اسمه) كان يزور والدي دائماً في "منفاه" (موزع) وكان يظل معه أكثر من شهر أو لعدة أشهر. أذكر أن والدي ذات مرة دعاه واستضافه لعدة أسابيع في قريتنا بـ"النقيلين" التي يحتضنها "جبل التعكر". كان هذا الفنان يعزف على العود ووالدي يغني بصوته الجميل الذي كان يطرب جميع أصدقائه من الأحرار الأدباء والمثقفين الذين لقبوه "نقيب الأدباء وأديب النقباء"، لذلك كان الوالد "بشير" يوفر له الأسطوانات التراثية التي يحبها والدي وينتشي لسماعها.


صيدلية حسن بن حسن آغا

تُعد أول صيدلية فُتحت في مدينة تعز، بل وفي كل أنحاء اليمن، الذي احتله الإمام يحيى، وابنه سيف الإسلام أحمد ولي العهد وأمير لواء تعز الذي أصبح بعد ذلك إماماً وملكاً على اليمن. كانت هذه الصيدلية تقع في السوق الكبير الممتد على عرض المدينة من "الباب الكبير" شرقاً إلى "باب موسى" غرباً. وكانت الصيدلية أقرب بكثير لـ"باب موسى". كان الوالد "حسن بن حسن" صديقاً حميماً لوالدي مثلما كان نجله "فاروق" صديقاً لي أيضاً.

استطاع "حسن بن حسن" جاهداً في ذلك الزمن العفن المغلق أن يفتح صيدلية في غفوة من الإمام يحيى وولي عهده أمير لواء تعز سيف الإسلام أحمد، وكان قد اقتدى به -بعد ذلك بسنوات- "المحضار" وصاحب مقهى المخاء وآخرون. كان "حسن بن حسن" يعد من القلائل النوادر جداً بوسامته ونظافة ملبسه "وشياكته"، وكان والدي -رحمه الله- يتمنى أن يقتدي به الآخرون.

* * *

عندما كان والدي يصل من مقر عمله "المنفى" بعد شهور من المراجعة لكي يأذن له الإمام بالوصول إلى تعز كان يأخذني معه من "المدرسة الأحمدية" وأظل معه باستمرار في أماكن ضيافته عند أصدقائه الكثر، في منزل الدكتور "ألجيلاني" و "المجاهد" و"الحر بشير"... كان أحب وقت له قبل الظهيرة حين يجلس على كرسي خشبي عند صديقه الحميم "حسن بن حسن" داخل صيدليته الوحيدة في اليمن، وأجلس معه أيضاً، يأخذ بعض أدوية للملاريا والكلى؛ لأن منطقة عمله "المنفى" كانت مليئة بكل أمراض العالم.

كان والدي رحمه الله- أنيقاً أيضاً في ملبسه و"شياكته" قبل هروبه مع صديقه المناضل القاضي "عقيل عثمان عقيل" مشياً على الأقدام إلى عدن في 14نسيان/ أبريل عام 1944 وحتى بعد عودته عام 1947 بعد عودة جميع الأحرار اليمنيين. كنت أنظر إلى صديق والدي المشهور بوسامته وحسن مظهره ونظافة ملبسه وأنظر إلى والدي المشهور بهذه الميزة أيضاً. كان الوالد "حسن بن حسن" يلبس "زنة" (جلباباً) شبه بيضاء من الحرير الأصلي ومن فوقها "يلق" و"كوت" من الصوف "الكشمير" وعلى رأسه كوفية بيضاء مطرزة ومحاكة باليد، ويلبس حذاءً "مزايط" عدنياً و"شرابات" (جوارب) بيضاء مطرزة.

أما والدي -رحمه الله- فقد كان متميزاً بملبسة الأنيق، "زنة" بيضاء (جلباب) و"يلق" أبيض و"دجلة" بيضاء (بالطو) وعلى رأسه قُبْع أبيض أو "مشدة" (عمامة) وعلى خصره "جنبية" "محرفة" بالذهب الحميري ذات رأس "صيفاني" أصيل كان غمدها "جُلبة" مذهبة مزخرفة بالآيات القرآنية زخرفة بديعة من صنع "بيت الأكوع" أشهر أسرة توارثت صناعة هذه "الجلب" وحزامها المزركش المصنوع باليد والذهب، وكانت مثل هذه الأحزمة وأشهرها من صنع من يقيمون في سجون الإمام يحيى وبنيه. سألني الوالد "حسن بن حسن" وهو يربت على كتفي مبتسماً عن أجمل لباس أعجبني، لباسه أم لباس والدي! ابتسمت متردداً لكنني أجبت بأنه لباس والدي. ضحك الوالد "حسن بن حسن" وأخذني بين ذراعيه، وقال والدي بأنني متعصب له. كانت صداقة والدي بـ"حسن بن حسن" صداقة حميمة، فأثناء وجوده في تعز كان والدي يصلي الجمعة معه دائماً في "جامع المظفر" وكانا يتجهان بعد ذلك للغداء في منزل الوالد "حسن بن حسن" ويقضيان المقيل هنالك دائماً. وكنت أتعجب وأنا في تلك السن الصغيرة لماذا لا يأخذني والدي معه كعادته مع أصدقاء آخرين له!؟ واكتشفت فيما بعد عندما فتشت رسائل والدي القديمة المتبادلة مع "حسن بن حسن" أن الأوضاع التي يعيشها اليمن كانت محور حديثهما كل جمعة على مائدة الغداء أو مكان المقيل.


أشهر مقيل في تعز

يعد دار عامل تعز، المرحوم "محمد الباشا"، أشهر مقيل أدبي وسياسي وثقافي أيضاً. وكان والدي مع صديقه الدائم الشيخ "يحيى منصور بن نصر الحاج"، والقاضي العلامة "عبد الرحمن الحداد"، والمناضل العلامة "عقيل عثمان عقيل" وغيرهم يتوجهون دائماً للمقيل في دار "محمد الباشا". وكان فعلاً ملتقى أدبياً وسياسياً يجتمع فيه بعض من استطاعوا الإفلات من سيف الإمام أحمد وجبروته الذي جزر بسيافيه رؤوس شهداء من أبرز رجالات اليمن علماء وأدباء ورجال قبائل بعد فشل ثورة 1948. وكان نجل عامل تعز، "أحمد محمد الباشا" أحد الأوائل الذين فروا إلى عدن وكونوا "حزب الأحرار" عام 1944.

كانت أسرة "بيت الباشا" من أعرق الأسر في تعز وأكثرها جاهاً ومالاً ولها شعبية على مستوى المدينة ونواحيها.

عندما عين ولي العهد السيف أحمد أميراً للواء تعز ضاق بمدينة تعز ومآثرها وهجرها إلى قصوره في "العرضي". ورغم أن عامل تعز المرحوم "محمد الباشا" حاول توثيق الصلة به ليأمن شره خصوصاً بعد فرار ولده الأستاذ "أحمد محمد الباشا" مع الأحرار إلى عدن إلا أن ولي العهد السيف أحمد كان يعد عامل تعز وأسرته أعداء ومنافسين له، وكانت الغيرة من توافد الناس العامة، وبالذات الشخصيات الاجتماعية البارزة، إلى دور العامل أكثر من توافدهم إلى مقامه "الشريف" في "العرضي". وزاد الحقد عليهم إثر فشل ثورة 1948 وعودته من حَجَّة بعد أن أباح مدينة صنعاء وجميع المدن والقرى اليمنية للنهب والسلب وأصبح إماماً وملكاً على اليمن ونقل عاصمة مملكته من صنعاء إلى تعز حيث استقر في قصره الجديد في قرية "صالة"؛ لكن الأحرار والأدباء والسياسيين المثقفين ممن نجوا من سيفه وسطوته مازالوا يتواردون ولو خفية إلى دار عامل تعز "محمد الباشا" تجذبهم الكتب والمجلات المصرية التي كان العامل مشتركاً بها أو التي كانت تصله بوساطة العلامة "حيدرة" من عدن.

حاول الإمام أحمد جاهداً جذب الأدباء والشعراء إلى قصره في "صالة" مغدقاً عليهم الموائد العامرة والمساجلات الشعرية لكي يمنعهم من التوجه إلى بيت العامل؛ لكنهم ظلوا على صلة حميمة بدار عامل تعز، وعندما صرخ الإمام أحمد في وجوههم بأنه سيجز رؤوس العصريين بسيفه غادروا مرة أخرى فراراً إلى عدن.


موتر الرصابي

أحد معالم مدينة تعز، وكان يعد في زمانه أعجوبة. كان صاحبه وسائقه الأوحد من أشهر "الدراولة" (السائقين) الذين كان لهم شهرة أعظم من نجوم السينما في هذا الوقت. وكان الرجال والنساء والشبان والشابات مغرمين بمشاهدتهم وسماع حكاياتهم ومغامراتهم في مدينة عدن وبطولاتهم في رحلاتهم التي يتعرضون فيها للأخطار في طرق غير معبدة ولا ممهدة نحت السائقون معالمها بناقلاتهم الهزيلة على مر الزمن!

كانوا بعدد أصابع اليدين. والشاحنات كانت أقل من ذلك.

ورحلاتهم إلى مدينة عدن أو المخاء أو الحديدة أو إلى مدينة صنعاء نادرة جداً وبالذات إلى صنعاء. "الموتر" يظل أسبوعاً كاملاً يتجول في شوارع تعز و"الجراش بول" (الصبي المساعد) للسائق يصيح من فوقه: "عدن! عدن!..." لكي يكتمل فيه المسافرون إلى عدن.

كان هؤلاء "الدروالة" جميلي المظهر بلباسهم الأنيق المتميز وعلى رؤوسهم عمائم من "الصمائط" الحريرية المزركشة.

وكانوا أصحاء حمر الوجوه لحسن التغذية وتناولهم المشروبات الغازية والكحولية أيضاً وأكلهم خبز الروتي مع الشاي اللبن!

كان "الدريول" "الرصابي"، يعد شيخ "الدراولة"؛ لكنه أصبح هرماً، وأصبح "موتره" (الشاحنة) المشهور هرماً مثله، إلا أنه استطاع بجهد جهيد أن يحوله إلى حافلة شبه "باص" بعد أن أضاف إلى مؤخرته كرسيين من الخشب على طوله من كلا الجانبين وسقفه بألواح من الخشب أيضاً وطلاه من الخارج بألوان عديدة ورسوم مختلفة من "الرنج" أو"الورنيش". وهكذا سعدت مدينة تعز بوسيلة مواصلات تنقل بعض سكانها إلى "العُرْضي"- مقر قصور الإمام أحمد وإدارته، عبر "العقبة" التي عبدتها الملكة "أروى" بالحجارة "المصلولة" منذ عدة قرون لقوافل الجمال!

* * *

كنت مع صديقي نخرج من "المدرسة الأحمدية" عادة في بعض الأيام ونصعد "العقبة" إلى منطقة "حوض الأشراف" لكي يدرسنا الأستاذ المصري العظيم "عبد الغني مبروك" مجاناً في مقر إقامته في المبنى الحكومي الوحيد الذي بناه الأتراك. كنا نصل إليه بعناء شديد وبأنفاسنا اللاهثة -نتيجة الملاريا والبلهارسيا- التي نلنا منها نصيباً وافراً!

كان "موتر الرصابي" منقذاً لنا للصعود إلى "حوض الأشراف"؛ لكن الأجرة كانت "بقشة" للراكب، وهذا ما دفعنا إلى أن نبيع مقررنا من الخبز "الخاص" ونكتفي بأكل "الكدم" (الخبز العادي) حتى لو جُعنا، ونركب "موتر الرصابي" ذهاباً فقط. "الرصابي" يقف أمام الباب الذي بجانب مقعد القيادة ومساعده (الجراش بول) يتسلم "البقش" من الركاب. من الصعب على "الرصابي" إصلاح ما أفسده الدهر، فلم تكن تخلو أي رحلة من العطل والتوقف المتقطع، ونضطر إلى الاستعانة عليها بـ"الدهفة". أما إذا توقف في "العقبة" فلا مناص لنا من إكمال الرحلة مشياً على الأقدام!

* * *

في غفوة من الإمام أحمد استطاع أحد المغامرين فتح مقهى خارج "الباب الكبير" على نمط مقاهي عدن، وأسماه "قهوة المخاء" كان يقدم فيه بعض المشروبات الغازية وأشهرها "الكوثر" و"الكاكولا" التي يستوردها من عدن والشاي باللبن و فيه ثلاجة تعمل بلمبة كاز للماء البارد وحبات الثلج لـ"مخزني" القات! كان هذا المقهى ملتقى "الدراولة" سائقي الشاحنات وبعض من وجهاء المدينة، وأكثرهم من المثقفين الناقمين على الوضع.

كنت وصديقي نهرب من "المدرسة الأحمدية" لكي نعرف هذا المقهى الجديد الذي ذاع صيته. نقف أمام شرفته الخارجية نتفرج على "النجوم" وهم جالسون على كراسي خشبية وأمامهم على المناضد قوارير العصائر وكؤوس "الشاهي باللبن" ويدخنون السجائر، بأحاديثهم الصاخبة ونقاشهم المستفيض كأنهم في إحدى حانات أوروبا، والسائق "الرصابي" مهموم في وسطهم يواسونه بتقديم الحلول والأمل بإصلاح حافلته.

كان بودي أنا وصاحبي أن نتذوق ولو لمرة واحدة في حياتنا شراب "الكاكولا" الذي ذاع صيته بأنه شراب مُسكر، أو على الأقل نحتسي الشاي باللبن إذا أمكن. وكانت معجزة أن هذه الثلاجة تفرز البَرَد الذي كنا نتسابق على التقاطه عند هطول الأمطار في قرانا.

لا أدري كيف استطعنا، أنا وصديقي، إقناع ذوينا بمضاعفة "الجعالة" اليومية من "بقشة" إلى ربع ريال لمرة واحدة فقط!

جلسنا على كرسيين بجوار الثلاجة، متعمدين ذلك، نكاد نضحك من الفرحة. طلبنا قارورتين من "الكاكولا" ودفعنا الثمن مقدماً بعد أن شك صاحب المقهى بقدرتنا على دفع الثمن وأوشك على رمينا خارج المقهى!

وضع النادل "القارورتين" أمامنا وفتحهما  فتصاعدت منهما رغوة عجيبة. نظرنا  بعضنا إلى بعض. وبعد تردد توكلنا على الله وشربنا منها. شعرت بلذعة في حلقي. وكان بحوزتنا "كُدْمتان" من الخبز استعنا على ابتلاعهما بذلك المشروب اللذيذ. فتحت الثلاجة، لأن أحدهم يريد ثلجاً على مشروبه. كم كانت الدهشة حقاً أن نرى "المعجزة" حقيقة!

عدت مع زميلي إلى المدرسة ونحن نترنح كالسكارى ونضحك ونتحدث بصوت مزعج، مما دفع بحارس بوابة المدرسة إلى أن يماطل بفتح الباب بعد أخذ ورد و"سين وجيم"... حتى زملاؤنا في المكان الكبير فتحوا أكياس نومهم لنحكي لهم العجاب!

في يوم آخر خرجت مع صديقي لنصعد "العقبة"، وما أدرك ما "العقبة"! لكن دهشتنا كانت في أن "موتر الرصابي" كان قد نهض من كبوته. فرحنا كثيراً، وكان "الرصابي" مع مساعده أشد فرحاً. وصعد بنا "موتر الرصابي" "العقبة" دون أن يتوقف فيها، لأول مرة!


ابن محمود

كان هذا الصبي -الذي لا يعرف اسمه سوى أنه "ابن محمود"- أشهر من "نار على علم" ويعد من العجائب. طغت شهرته وذاع صيته ليس في مدينة تعز -عاصمة الإمام أحمد الرهيب- وحدها بل في سائر المدن الضحلة والقرى الهامدة، وربما على مستوى العالم العربي والدول الأجنبية، حيث كان بعض "القناصل" أو الصحفيين، عرباً أو أجانب، يتكبدون ذلك العناء ليظفروا بمقابلة الأسطورة المرعبة (الإمام أحمد) ليجدوه يلعب مع هذا الصبي في غرفة عرشه بألعاب متنوعة مستوردة للأطفال.

هذا الصبي الأعجوبة أصبح مقرباً من الطاغية الإمام أحمد ومحبوباً لديه أكثر من ابنه ولي العهد (محمد البدر) أو أبنائه الصغار من الجارية "العباس"، و"عبدالله"...

كان الإمام أحمد قد أخذ هذا الصبي "ابن محمود" من أحضان والديه، وكان والده -الذي كان أشهر "الدراولة" في ذلك الزمن جمالاً وأناقة -سائق الإمام المشهور للمهمات الصعبة!

* * *

كنت مع زميلي وزملاء آخرين نخرج من "المدرسة الأحمدية" عصر كل سبت ونستقل "موتر الرصابي" عبر "العقبة" إلى ميدان "العُرْضي": الساحة الرهيبة التي اشتهرت بقطع رؤوس معارضي الإمام أحمد. وفي هذه الساحة كانت تقام في غفوة من مجازر الإمام بعض الأنشطة الرياضية مثل كرة القدم بين الفريقين الوحيدين: فريق "الصحة" ومعظم لاعبيه من الأشقاء الأحباش، وفريق آخر من لاعبين يمنيين وبعض المدرسين من مصر وفلسطين، وأتذكر أن حارس مرماهم فلسطيني عملاق مهندس في الورشة القائمة بجوار الجامع الجديد أمام "عُرْضي" جند "النظام". كان أعجوبة في طوله، يتفرج عليه الناس أكثر من تفرجهم على المباراة والألعاب الأخرى. أطلق عليه اليمنيون لقب "عود بن عنق" الأسطوري! كنا نشاهد أيضاً رياضة الجمباز على خشبتين وحيدتين في الميدان، وكان بطلها الرياضي "محمد جمال" شقيق الزميل "محمود جمال".

لكن مشاهدة هذا الصبي "ابن محمود" كانت السبب الأهم وراء وجودنا في ذلك الميدان وأمام قصور الإمام التي يخرج منها "ابن محمود" ورفاقه من أبناء "العكفة" المشهورين، وبعض أصدقائه يحيطون به على دراجاتهم ويسبقهم بدراجته المزودة بموتور صغير يعمل بالوقود، يصولون ويجولون في أنحاء الميدان ويفر الناس من أمامهم، وتتوقف مباراة كرة القدم والألعاب الأخرى لنشاهد "ابن محمود" ورفاقه في سباق جنوني مرعب كنا نتسلى به رغم ذلك!

* * *

كان "ابن محمود" وسيماً بسمرة مليحة (أخضر اللون) ذا عينين يلمع منهما بريق الذكاء الحاد. ربما كان قد سبق عمره بالذكاء وبمهابة تجذب أي شخص إليه، وهذا ما حببه إلى الإمام أحمد ولم يعد دور "ابن محمود" ملاعبة الإمام والاستمتاع بالانتيكات المستوردة من الخارج، بل أصبح يتدخل في الشؤون الداخلية والخارجية أيضاً. وأصبح من موجهي القرار عند الإمام أحمد بل وأكثر أهمية من "سيدي عبد المحسن" الذي كان يأمر وينهي في غيبوبة الإمام أحمد عندما أدمن "المورفين"!

كم كان مظهر "ابن محمود" عجيباً ولافتاً عندما خلع عليه الإمام رتبة عسكرية كبيرة وألبسه الزي العسكري الحديث والنياشين المتدلية على جانب صدره الأيسر، وأصبح "الياور" الذي يظهر مع الإمام أحمد في بعض المناسبات أو المقابلات يقف خلفه أو بجانبه، بينما ولي العهد وبقية الحاشية تقف أو تجلس بعيداً!

عندما كان الإمام يضيق بتعز ويستقر في مدينة الحديدة القريبة من "عين السخنة"، كان "ابن محمود" ملاصقاً له، وخصص الإمام له طياراً روسياً ليدربه على قيادة طائرة حربية كانت هي وحيدة من مخلفات الحرب العالمية. وقد أجاد قيادتها في أقل فترة زمنية أدهشت مدربه الطيار الروسي.

وعندما توجه الإمام أحمد على ظهر باخرة صغيرة شبه يخت كان قد استأجرها لنقله للعلاج لأول مرة في إيطاليا، كان "ابن محمود" على رأس الحاشية المرافقة له، حتى في مقابلة الزعيم جمال عبد الناصر إثر عودته في عرض قناة السويس!

* * *

"ابن محمود" لا أدري هل جنى الإمام عليه عندما جعل منه أعجوبة عهده أم العكس! إذ لم يكن لهذا الطفل / الصبي/ الشاب ذنب عندما لمع كأعجوبة عصره وليس له ذنب أن نسيه الناس عندما اندلعت ثورة 26 أيلول/ سبتمبر عام 1962 كبركان هائل وثورة "لم يخلق مثلها في العالم" وغمره النسيان بعدها أيضاً حتى اليوم!

* * *

لا أعرف حتى اليوم أين قذف به التاريخ أو حدد مصيره! لكن المتداول بين الناس­ كحكايات- أنه يعيش في بريطانيا في إحدى ضواحي لندن كغيره من أفراد حاشية الإمام المخلوع (محمد البدر) وبعض رموز العهد الملكي البائد.

ربما، لا أجزم، ولكني أعرف أن "ابن محمود" قد زار والدته ووالده وأسرته في مدينة تعز عشرات المرات كمواطن يمني عادي؛ لأنه لم يسجل في قائمة السفاحين من أبناء أسرة الإمام يحيى وبنيه. هذا الطفل/ الشاب المدهش الذي ربما أصبح اليوم رجلاً أو كهلاً قد يكون مشروعاً لقصة منفردة أو ربما رواية كاملة.


علوس نزل البير (غبان)

كان أهم مبنى خارج سور مدينة تعز الحجري العظيم وأمام "بابها الكبير" هو مبنى "المدرسة الأحمدية" التي بناها الأتراك فوق أكمة مرتفعة تطل على المدينة و"بابها الكبير". كانت مكونة من دورين، وبداخلها مساحة كبيرة لطابور الطلبة، تضم عشرات الغرف المخصصة للدراسة في دورها الأسفل، أما الأعلى ففي الغرف نفسها أماكن للمدرسين مع ممرات و"برندات" تطل على الساحة الخاصة بالدراسة. كانت بوابتها على نمط فريد في البناء، بمقدمة ذات قواعد حجرية غاية في الفن. أما الطلبة الليليون فقد بنيت لهم ملحقات مرتبطة بالمدرسة ليس لها شبيه في نمط عمارتها إلا صورة مصغرة منها للمتحف الحربي حالياً في مدينة صنعاء الذي بناه الأتراك أيضاً.

كنا نطل من شرفات المدرسة ونوافذها على بستان ليس بالكبير ولكنه مُخَضَّر، تتوسطه بئر حجرية عميقة ارتكزت فيها مضخة ماء ذات مراوح هوائية تدور مع اتجاه الريح. كانت أعجوبة العصر! ركبها للإمام مهندس أجنبي، منافساً بذلك والده الإمام يحيى الذي بنى له المهندس "دي تسكر"، مضخة في إحدى "صوافيه" جنوبي صنعاء من الحديد شبه ارتوازية، لكنها لم تعمل مطلقاً، وفرَّ المهندس من الإمام يحيى بجلده! ومازالت قوائمها الحديدية موجودة قد أكلها الصدأ!

* * *

عندما سافرت إلى "مصر عبد الناصر" بعد عدة سنوات، وشاهدت السينما لأول مرة وبالذات أفلام رعاة البقر الأميركية التي تؤرخ غزو الرجل الأبيض الأوروبي لأميركا وإبادتهم للهنود الحمر سكانها الأصليين، وحرث المزارع الكبيرة وإقامة مضخات للماء ذات محركات هوائية ومضخات شبه ارتوازية... تذكرت فعلاً المضخة الهوائية في بير "علوس" في تعز، التي بناها الإمام أحمد، وشبه الارتوازية التي بناها الإمام يحيى في صنعاء. والفرق شاسع ومهول بين ما شيده الرجل الأبيض الأوروبي الغازي في مزارع أميركا، وبين ما شيده الإمام يحيى وابنه الإمام أحمد من مضختين الأولى لم تعمل والثانية كانت هزيلة وكلتيهما عُدت من عجائب عهد الإمام يحيى وابنه الإمام أحمد، اللذين كان العامة يؤرخون لمواليدهم بهما!

* * *

كنت مع زميلي وآخرين نخرج من المدرسة ونتجه إلى بئر "علوس" لنسبح في البركة الصغيرة "المقضضة" بـ"النورة"، التي تخزن الماء البسيط الذي تضخه المروحة الهوائية إذا ساعدها تيار الهواء. كنا نسبح ونغسل بعض ملابسنا المهترئة. لم نكن نعرف أو نعي قصة هذه البئر، وكنا نعتبر اسمها (بيرعلوس) كأسماء "بير باشا" و"بير علوان" أو "بير باهوت"...إلخ.

لكنني كنت أتذكر أن هذا الاسم ليس غريباً عليَّ، فقد سمعت أغاني وهجلات للنساء والرجال وهم يقومون بأعمالهم في الحقول: "علوس نزل البير غبان.. وا ليل الماء وا ليلان)... إلخ. وبعد إلحاح شديد منا على مدرس اللغة العربية العجوز أخبرنا بقصة هذه البئر وبطلها "علوس" الذي أصبح أسطورة تحكى على مر السنين!

كان الإمام يحيى قد عيَّن ولي عهده السيف أحمد أميراً على لواء تعز المهم. واصطحب ولي العهد الأمير الجديد، "السيد أحمد"، معه من صنعاء مضحكه الخاص "علوس"، كما هي عادة الأئمة والملوك والسلاطين والأمراء والسيوف، من وجود شخص مُضْحك أو شاعر مداح في حاشيتهم أو بلاطهم!

وهكذا استمر علوس يُضْحِك ولي العهد الأمير السيف أحمد مع حاشيته ورجال بلاطه المقربين بنوادره وفكاهاته المضحكة فترة من الزمن؛ لكنه لم يصبح في يوم من الأيام مهرجاً، وهذا ما حببه إلى قلوب العامة الذين كان يلتقي بهم في غفوة من ولي العهد الأمير السيف أحمد ليضحكهم بطيبة نفسه وهم يتحلقون حوله.

وكان ولي العهد الأمير السيف أحمد قد استولى على بستان خارج سور المدينة العظيم من أسرة عريقة، ببئره المشهورة "المنجورة" بالحجارة، وكان بين الحين والآخر يخرج مع حاشيته وبطانته من قصره (دار الناصر) بداخل المدينة، والذي استولى عليه أيضاً من أسرة عريقة، إلى البستان خارج السور وبئره العجيبة. وكان دائماً بصحبته المضحك الخاص "علوس" يستمتعون بفكاهاته اللاذعة المضحكة، وخصوصاً إذا كانوا منسجمين بانشراح بنشوة الخمرة البلدية "أول قطفة". كان المضحك "علوس" في بعض الأحيان يحجم عن منادمة ولي العهد الأمير السيف أحمد وحاشيته وبطانته منتشياً يتأمل الأشجار والزهور والخضرة في البستان الذي لم يكن كبيراً. وفي يوم من أيام الانسجام والنشوة والمرح تلك اقتاد ولي العهد السيف أحمد وبعض حاشيته المضحك "علوس" إلى حافة "البير" ودلوه بحبل أمسك بطرفه إلى قاع البئر وهم يضحكون بوحشية وهو يبادلهم الضحك، ينزلونه حتى تلامس رجلاه الماء ثم يرفعونه، وهم يضحكون، لعدة مرات حتى انفجر الدم من أصابع يديه وأصيب بالإعياء الشديد، فلم يكن باستطاعته الصعود مرة أخرى! كان يصيح مستغيثاً من الموت؛ لكن دون جدوى! وانزلق الحبل من يديه الداميتين وهوى إلى قاع البئر ومات غرقاً، بينما كانت ضحكات ولي العهد الأمير السيف أحمد وحاشيته تطغى على صياح استغاثة المضحك المبكي... علوس!

ومنذ ذلك اليوم أصبحت مأساة هذا "العلوس" مغاني وهجلات على أفواه الرجال في مزارعهم وقراهم وفي المدينة. أصبح أغنية حزينة على أفواه النساء وهنَّ يطحنَّ الحبوب فوق المطاحن الحجرية في "سفل" المنازل على ضوء سراج من الكاز المدخن:

-         علوس نزل البير غبان.. وا ليل الماء وا ليلان...!


معاوية.. جبل "داكي" على جبل!

لم تكن تخلو مدينة تعز في أي وقت من عشرات المجانين الهوام في شوارعها وأزقتها القذرة. كان معظمهم مؤذياً وعدواني السلوك وقذر المظهر... بملابسهم الوسخة، إن وجدت، على أجسامهم المتسخة بما تحتويه المدينة من قاذورات لا حصر لها!

لكن "معاوية"، الجبل "الداكي" على جبل، كان أعقلهم، ومتميزاً عنهم بنظافته وهيبته في عهد الإمام المجنون الأعظم "أحمد يا جناه"!

* * *

لا أحد يدري متى هبط "معاوية"، المجنون، اللغز، إلى مدينة تعز! أنا في الحقيقة لم أعرفه إلا في زمان الطفولة، الذي عشت معظمه في مدينة تعز في فترات متقطعة كان أهمها فترة "المدرسة الأحمدية".

كانت تعز من أعظم مدن اليمن قاطبة وأشهرها، موغلة في تاريخها الحضاري المبدع. كانت مدينة "لم يخلق مثلها في البلاد". كان "معاوية" أحد معالم المدينة، ومزاراً من مزاراتها العديدة، وطغت شهرته على شهرة الإمام "أحمد يا جناه"!

كنت مع زميلي وآخرين ندلف، كل عصر، من "الباب الكبير" متجهين إلى مكانه المفضل المتكئ فيه على درج بوابة أحد الأضرحة القديمة "المقضضة" بــ"النورة" يتناول "القات" وأمامه كوز ماء بارد، يطل على السائلة التي كانت طريقاً للسيارات القليلة.

كان لباسه عجيباً لكنه مهيب؛ عمامته من الحرير الهندي فوق رأسه كأنه أحد "مهراجات" الهند، وأرديته كلها أنيقة رغم قدمها. ذو وجه شبه أسمر، وأنف مستقيم، وشارب، ولحية كثة، كأنه "الزير سالم" أو "أبو زيد الهلالي"... كان يبتسم فرحاً عندما نصيح:

-         كيف حالك يا معاوية؟

ويجيب منتشياً بصوت عالٍ مدوياً بعبارته التقليدية:

-         جبل داكي على جبل!

ونظل متجمهرين أمامه كل يوم نستمع إلى كلامه العجيب وإجاباته حتى يقوم وينهرنا بعد الأصيل للإنصراف. لقد كان ذا مزاج عجيب. يتعاطى كل شيء. كان يمارس كل ما طاب له من المحرمات. ويصيح إذا استفز قائلاً:

-         الحلال بيَّن والحرام بيَّن.. يا ولاد الـ...!

وينهض فجأة فيفر الجميع!

ضاق به الإمام أحمد وهو يمر من أمامه يومياً بسيارته و"عكفته" و"البورزان"... من قصره "دار الناصر" الذي استولى عليه بالقوة من أعرق أسرة في تعز، "بيت المجاهد"، إلى قصوره في "العُرْضي" أو إلى قصره الجديد في قرية "صالة". كان "معاوية" عند مرور الإمام أحمد ذهاباً وإياباً يصيح به قائلاًً:

-         أنا معاوية.. جبل داكي على جبل!

وقرر الإمام أحمد ترك "دار الناصر" بالمدينة والاستقرار في قصره في "العرضي" هروباً من هذا المجنون "معاوية"!

* * *

لا أحد يدري كيف عرف "معاوية" أن الإمام أحمد قد استقر في أحد قصوره في "العرضي" عندما خرج الإمام أحمد من بوابة القصر ودهش حينما شاهد "معاوية" متكئاً كالعادة تحت شجرة صغيرة وهو يصيح:

-         أنا معاوية.. جبل داكي على جبل!

كنت وصديقي وبعض الزملاء مولعين بمشاهدة العرض العسكري الصغير في عصر كل يوم حين تنزل ثلة صغيرة من الجيش الحافي بلباسهم التقليدي وأمامهم فرقة موسيقية عسكرية صغيرة كان أفرادها من بقايا الأتراك قد أكل عليهم الدهر وشرب، وخلفهم بعض "كباش" الإمام "البربرية" التي يرعاها الجنود، متجهين إلى نوافذ القصور ليصيحوا ثلاث مرات بصوت عالٍ لا بد أن يسمعه الإمام:

-         حفظ الله الإمام.

وتعود الثلة أدراجها مع الفرقة الموسيقية "الهادمة" وكباش الإمام من ورائهم وصوت "معاوية" يغطى على أصواتهم:

-         أنا معاوية.. جبل داكي على جبل!

ضاق به الإمام أحمد مرة أخرى، وكان باستطاعته أن يقتله أو يمزقه إرباً إرباً ويقدمه لأسوده ونموره وضباعه المفترسة التي يحتفظ بها في ساحة القصر من الداخل في أقفاصها الحديدية، وكم كانت قد التهمت من الشخصيات المعارضة له في غفلة من الزمن! لكن هذه المرة كان الزمن غير غافل، والإمام أحمد بذكائه المتوحش يعرف ذلك، فهرب من "معاوية" تاركاً قصوره في "العرضي" واستقر في قصره الكبير الجديد في قرية "صالة"، أجمل منطقة ساحرة يحلم أي إنسان أن يعيش فيها مدى الحياة، والتي اقتطعها لنفسه واستولى عليها بكل ما فيها من منازل وأراض وينابيع وأشجار فواكه وصخور عملاقة... وحتى البشر! وكانت قرية "صالة" بالنسبة للإمام أحمد منتجعاً صحياً، بعيدة عن شكاوى وتظلمات رعاياه البؤساء، وأيضاً لمكسب مادي، وذلك عن طريق الجمارك المفروضة على بضائع الشاحنات الهزيلة التي كانت تمر بصعوبة من عدن إلى تعز بالقرب من القصر وتتحكم نقطة خشبية في طريقها.

* * *

لا أحد يدري أيضاً كيف عرف "معاوية" أن الإمام أحمد قد استقر في قصره الكبير الجديد في قرية "صالة"، فوجده الناس متكئاً كعادته أمام بوابة القصر يرمي ببقايا "القات" لحيوان "الوضيحي" (المها) النادر الذي كان يملكه الإمام أحمد.

عندما خرج الإمام من بوابة قصره الكبير الجديد بقرية "صالة" فجع وأصابه الاكتئاب وهو يشاهد "معاوية" يصيح:

-         أنا معاوية.. جبل داكي على جبل!

عندما غفا الزمن يوماً ما، اختفى معاوية هذا "الجبل الداكي على جبل"!
 


الوشاح

للإمام أحمد عشرات السيافين المهرة في قطع رقاب معارضيه من الوطنيين والسياسيين والعلماء والأدباء والمفكرين، بل ومن المواطنين العاديين أيضاً. لكن السياف "الوشاح" كان أشهرهم وأبشعهم، واستطاع أن يزيح الآخرين ويصبح هو السياف الأوحد وقرة عين الإمام أحمد وذراعه اليمنى!

وذاع صيته المرعب في جميع أرجاء اليمن، من مدنه الخامدة إلى قراه الهادمة. وأصبحت الأمهات يسكتن أطفالهن ليتوجهوا للنوم بذكر اسمه فقط! حتى الحيوانات والطيور والحجر والشجر كانت ترتعش وتموت لذكر اسمه، فما بالكم بطلبة صغار في "المدرسة الأحمدية" بتعز! ننام فيها وهو في مخيلتنا ونصحو وهو أمام وجوهنا!

يهبط من قصر الإمام في "العرضي" إلى مدينة تعز كوحش كاسر مفترس، بلباسه الأزرق المميز للحرس الخاص للإمام "العكفة"، متمنطقاً "جنبية" وحزاماً و"طيار" الذخيرة وبندقية "الزاكي كرام" الألمانية، يُرعب بائعات "القات" الهابطات من "صَبر"، فيعطينه ما يشاء، ويمر على حوانيت الباعة فيأخذ أيضاً ما يشاء.

* * *

بعد أحداث ثورة الجيش عام 1955 بقيادة الشهيد "أحمد الثلايا"، التي استطاع الإمام أحمد احتواءها وإفشالها والقضاء على كل رموزها، بما في ذلك إخوته، كان "صوان" ناظر مدرستنا، ذو اللباس الألماني النازي للفروسية، وسوطه الذي يستطيع أن يطال به -من أجل الإمام أحمد- أي طالب متمرد ولو كان وراء الجبال أو السهول والوديان اليمنية، وهو على صهوة جواده "الأرقش" المهدى له من الإمام أحمد؛ يأمرنا في طابور الصباح بأن نتجه في خطوات منتظمة في عدة تشكيلات بلباسنا الرسمي المكون من طاقية (كوفية) من "الرُّقع" و"زنة" بيضاء من قماش "المريكني" القطني الخاص بأكفان الموتى! أما الأقدام فهي حافية طبعاً كمثل الجيش الحافي، والرهائن، وبقية الشعب أيضاً!

* * *

كان المدير "صوان" يسوقنا من "المدرسة الأحمدية" لنصعد العقبة المرصوصة بالحجارة منذ عهد الملكة أروى، إلى ميدان العرضي لنشاهد قطع رؤوس عشرات المعارضين والمشاركين في ثورة الجيش عام 1955 وغيرهم. وكما كنا نحن نساق من المدرسة إلى الميدان، كان الشيخ "المحجاني" سجّان قلعة الرهائن، يسوق الرهائن أيضاً ليشاهدوا المنظر البشع نفسه الذي نشاهده نحن!

كان الإمام أحمد وحاشيته و"العكفة" (حرسه الخاص)، وبعض قناصل الدول العربية والأجنبية المرغمين على الحضور في منصة مطلة على ساحة الإعدام، جالسين على كراسي مصنوعة من خشب صناديق بضائع التجار (كعرش الإمام أحمد نفسه) يشاهدون تفنن "الوشاح" سياف الإمام وهو يجندل الرؤوس من رقابها ويمسح الدماء العالقة بسيفه على أجساد الضحايا كأنهم خراف تجزر في يوم عيد.

كنت أنا وزميلي "عبد اللطيف الربيع" نخفي أعيننا عندما ينهال سيف "الوشاح" على الرقاب، وتظل ليالينا في المدرسة كوابيس وأحلاماً مزعجة لا نهاية لها.

* * *

لا أتذكر متى حدث ذلك! بعد شهر أو ربما بعد سنة أو أكثر! لكن بالتأكيد بعد عام 1956، العام الذي كدنا نفتك فيه بالناظر "صوان" عندما حاول أن يمنعنا من الخروج من المدرسة في المظاهرات أيام العدوان الثلاثي على مصر. ورغم صرامة الناظر "صوان" إلا أننا حاصرناه وكدنا نفتك به، لكنه قفز من نافذة مكتبه إلى الأرض وكسر ساقه وفر هارباً!!

أتذكر أنه بعد ذلك بفترة زمنية قصيرة أيقظني صديقي وزميلي "عبد اللطيف الربيع" وأصدقاء وزملاء آخرون يخبرونني بفرح شديد بأننا سنشاهد إعدام "الوشاح"، سياف الإمام أحمد الأوحد. قفزت من مرقدي وأنا غير مصدق: لماذا؟ وكيف؟ وما السبب؟...  

* * *

الحكاية أن "الوشاح" كان لديه كوز فخاري للماء وضعه في مكان معرض للبرودة، وأن جندياً "نظامياً" من الجيش قد عطش فأقدم على الشرب من ذلك الكوز وشاهده "الوشاح" فأطلق عليه رصاصة من بندقيته وأرداه قتيلاً في الحال، وسُجن الوشاح في "سجن الشبكة" الشهير في المدينة لتهدئة الضباط وأفراد الجيش "النظامي" و"البراني" المحيطين بقصور "العرضي" الخاصة بالإمام، وكانت ثورة عام 1955 لا تزال دماؤها لم تجف بعد!

* * *

هرعت وزميلي مع من هرع إلى ساحة المدينة التي يطل باب "سجن الشبكة" عليها. رجال ونساء وشباب وأطفال لا حصر لهم تسابقوا جميعاً بحقد دفين ليشاهدوا خروج هذا الغول "الطاهش"، المفترس، من باب "سجن الشبكة". لم تستوعب الساحة كل تلك الجماهير، فتسلقوا أشجار "الطولق" و"الحُمَر" العملاقة. كنت مع زميلي قد استطعنا أن نكون في مواجهة البوابة لنرى خروجه. ربما أكون أنا وزميلي أكثر حقداً عليه؛ لأنه عندما كان يرى والدي أو والد زميلي الخارجين من السجون يمد يده اليمنى ويتحسس رقبتيهما بسخرية ويقول: "متى سأنال هذه الرقاب الدسمة؟". لكن حقد مئات من أفراد الأسر التي نال رقاب أبنائها ورجالها فعلاً كان أكثر من حقدنا وألمنا.

كان مشهداً لا أعتقد أن التاريخ قد سجل مثله، عندما أخرج هذا "الوشاح" من باب سجن "الشبكة" كما يخرج "رضيع" البقرة من "سفل" البيت لأول مرة بعد مولده: يختذل جسمه بشدة ويحاول إعادة ساقيه الأماميتين من عتبة "السفل" إلى الداخل، رغم أن أفراد الأسرة يحاولون جاهدين إخراجه لبيعه للجزار!

هكذا كان حال "الوشاح" عندما خرج من باب "سجن الشبكة" إلى سيارة "جيب" عسكرية من مخلفات الحرب العالمية الثانية والعساكر يصيحون به:

-         شد حزامك! مولانا معك!

وانطلقت به السيارة من المدينة عبر "العقبة" متجهة إلى ميدان الإعدام بـ"العرضي" ونحن نجري وراءها لاهثين، لكننا سبقناه إلى الميدان لنأخذ أماكن جيدة للرؤية. كان ميدان "العرضي" الذي شهد عشرات الشهداء الذين قطع هذا "الوشاح" رقابهم قد اكتظ بعشرات الآلاف ليشاهدوا نهايته.

لم يحضر الإمام أحمد إلى المنصة الرئيسية. كان متألماً على سيافه الأوحد، والأصح: مرعوباً من الحشود الهائلة من المواطنين ومئات من أفراد الجيش "النظامي" و"البراني" و"الجندرمة"، بل ووجود جميع القناصل العرب والأجانب ومن إليهم بدون دعوة رسمية. كان ينظر إلى الساحة من نافذة قصره المطل عليها.

كان "الوشاح" يستغيث بأعلى صوته بالإمام ويتوسل الناس وقد جثا على ركبتيه. واقترب منه أحد السيافين وحاول مع زميلين له أن يرفعوه من الأرض، وهو يصيح ويعود إلى الأرض متهاوياً، ويرفعوه من جديد كقطنة مبتلة، لكنه يعود إلى الأرض... وصاح به أحدهم:

-         كن أسداً!

وهوى بسيفه على عنق "الوشاح".

انطلقت صيحات التهليل من جموع الناس الغفيرة التي أدركت أن إعدام "الوشاح" كان بداية لنهاية ذلك العهد المظلم.

 


الساحر علي خالد

لا أحد يدري كيف هبط هذا الساحر "علي خالد" إلى مدينة تعز وأصبح حديث الناس والنساء والشباب والأطفال داخل المدينة، بل وفي أرجاء واسعة خارجها!

لا أحد يعرف له مسكناً أو مأوى، ولا أين يعيش، وهل له أسرة أو قرية أو قبيلة ينتمي إليها!

قيل بأنه من ناحية "ماوية"، وقيل أيضاً إنه هاجر إلى الهند وتعلم هناك بعض حيل السحر ثم عاد... يظهر قبل الظهيرة ويغيب قبل المغيب دائماً! وعلى الرغم من أن ملبسه من الرأس حتى القدم شبيه بلباس "الدروالة" المشهورين، فإن مظهره كان رثاً وغير أنيق.

لم يستطع أحد أن يقرر عمره، ولو بالتخمين؛ بعضهم قال إنه كهل، وآخرون قالوا إنه مازال شاباً!

عندما كنت وصديقي نخرج من "المدرسة الأحمدية" نجوب الأماكن المحببة لدينا، كنا نجده في كل مكان. تارة نراه يمشي الهوينا وتارة يهرول، ساعة يضحك وأخرى يتطاير من عينيه الشرر. مزيج هو من الفرحة والرعب. كنا نفرح لرؤيته ونقترب منه ونفزع رعباً منه ونهرب!

كنا نتابعه ونشاهد فزع بائعات "القات" والفواكه المشهورة : "الفرسك" والرمان... و"مشاقر" الريحان والورد، الهابطات من جبل "صبر"، بلباسهن المزركش الجميل الذي يبرز مكامن أنوثتهن اليانعة، و"مشقر" الريحان ذي اللون الغادق يتدلى من خدودهن... جميلات، خلقهن الله في أحسن تقويم. وكذلك بائعات "الخمير" (الخبز) المتنوع من ساكنات المدينة نفسها. كان هذا الساحر "علي خالد" إذا مر من أمامهن يعطينه ما يحتاج له بدون طلب منه؛ قات، فواكه، مشاقر صبر، وأقراص من خبز "الخمير"...

كان سبب رعب فتيات "صبر" وبائعات الخبز "الخمير" المتنوع، من هذا الساحر "علي خالد" كونه يستطيع إيهامهن بتصديق سحره، حيث يحول حليهن الذهبية المتدلية على صدورهن إلى ثعابين، وخواتمهن إلى "عقارب" وأشياء أخرى لا وجوب لذكرها! يوماً ما شاهدتُ إحداهن وهي تصرخ وترمي حليها وتجري مفزوعة تاركة قاتها وفاكهتها... وفزعتُ معها هارباً!

* * *

أثناء العدوان الثلاثي على مصر كان المسافرون العائدون من مدينة عدن يوزعون صوراً للزعيم جمال عبد الناصر، وبالذات صورته وهو يخطب من على منبر جامع "الأزهر"، وصوراً أخرى للطائرات والدبابات وفرق المظلات والسفن الحربية للأعداء، وصوراً لرجال المقاومة والجنود المتطوعين، ولصفوف من فتيات وفتيان "الفتوة" باللباس العسكري والبنادق...

كان المواطنون يتهافتون عليها، يعلقونها في منازلهم، وبالذات تلك الخاصة بالزعيم جمال عبد الناصر. لكن في المقهى الوحيد خارج الباب الكبير للمدينة (باب الكبير) وفي مطعم صغير داخل المدينة علقت على الجدران جميع الصور.

كان هذا الساحر "علي خالد" إذا دخل المقهى أو المطعم يوهم الزبائن -وأنا منهم- بأنه يستطيع تحويل الصور الملصقة على الجدران من صور جامدة إلى صور حية تتحرك. ويصبح الوهم حقيقة، وتنطلي علينا الحيلة  مندهشين لسماع أزيز الطائرات والقنابل، ومرهوبين ونحن نشاهد الدبابات تتحرك وتقذف قنابلها المدوية، ونهتف عندما يندلع صوت الزعيم جمال عبد الناصر وهو يخطب على منبر "الأزهر". وما هي إلا لحظات وتعود الأمور كما كانت، كأن شيئاً لم يحدث، بينما يكون هو قد تناول وجبته الدسمة من كل ما يشتهيه في المطعم أو المقهى الوحيدين في المدينة!

* * *

صادف أن خرجت من "المدرسة الأحمدية" مع أستاذ الدين الكهل، "الأحمق" -كما كنا نلقبه لقسوته- لكي يحملني أغراضه التي سيشتريها من السوق. وفجأة صادفنا الساحر "علي خالد". كانا يعرفان بعضهما بعضاً، لكن المودة بينهما كانت غير واردة.

صاح الساحر "علي خالد" منادياً:

-         يا فقيه!

فزع الأستاذ الفقيه، وفزعت معه أيضاً. وقال له الساحر "علي خالد" ساخراً:

-         كم الساعة يا فقيه؟

وارتبك الأستاذ الفقيه، وارتبكت معه. وارتعشت أصابع يده وهو يتحسس ساعته الموضوعة في جيبه والمربوطة بسلسلة ناعمة من فتحة جيب ردائه، وانتزع السلسلة ورماها مع الساعة إلى الأرض كأنها ثعبان ناعم الملمس! وركض مهرولاً مذعوراً وأنا معه.

* * *

أذكر أن الساحر" علي خالد" مرَّ ذات مرة وكان والدي في إحدى زياراته لمدينة تعز من مقر عمله "المنفى"، مع صديقه الشيخ "يحيى منصور" والقاضي "عبد الرحمن الحداد" رحمهما الله، وبعض أصدقائهم، في فناء بيت "الحكيم الجيلاني" رحمه الله، وباغتهم بنوع من التحدي وأخذ قطعة من العملة النحاسية (بقشة) وقال:

-         سأحولها الآن إلى جنيه ذهب.

أطبق بيده اليمني عليها وبدأ يفركها ثم يزيح يده اليمنى صائحاً:

-         تفرجوا! أصبحت جنيهاً ذهبياً.

لقد شاهدت بريق الذهب فعلاً؛ لكن والدي أمسك بكتفي، بينما صمت الآخرون. وابتسم والدي وقال له:

-         إنها بُقشة!

دُهشتُ أنا وضحك الآخرون، بينما أعاد "علي خالد" فركها من جديد وهو يصيح:

-         إنها جنيه من ذهب.

ويهز والدي رأسه بالنفي. وتصبح معركة تحدِّ بينهما. حتى أنا أصبحت أراها كما هي "بُقشة". واستمر الساحر "علي خالد" يفرك العملة النحاسية (البقشة) ليحولها إلى جنيه ذهب دون جدوى.

ونظر إلى والدي بحقد والعَرَق يتصبب منه، وانسحب مولياً الأدبار وهو يصيح بوالدي متهماً إياه بأن لديه علماً بكتب السحر!

وانتشر نبأ ما حدث للساحر "علي خالد" ووالدي، وكنت أسمع باعتزاز منادمات الناس القائلين:

- هزم النقيب الساحر علي خالد!

* * *

كانت هذه الحادثة أحد العوامل التي جعلت الناس لا يصدقونه. لكن العامل الأهم الذي دفع الناس لازدرائه وكرهه هو عندما كان يحضر دائماً في ميدان "العرضي"، ساحة الإعدام، والإمام متربعاً على عرشه المصنوع من أخشاب صناديق التجارة، في المنصة الرئيسية الهزيلة، بحشمه وخدمه وحرسه وعبيده، ليشاهد بتر رؤوس الأحرار الشرفاء بسيف "الوشاح" سيافه الرهيب. كانت ثلة من "العكفة" وعساكر "النظام" تكوِّن حلقة مقفولة حول الشهيد المحكوم عليه بالإعدام، والسياف "الوشاح"، وشخص ثالث، هو الساحر "علي خالد"، كان يرفع يديه مهللاً إثر قطع رأس الثائر الشهيد، ويصول ويجول في "الحلقة" عسى أن ينال إعجاب المواطنين، ويشير عليهم بأن يصفقوا ويهتفوا بحياة الإمام واللعن لهؤلاء الشهداء؛ لكنهم كانوا ينسحبون والدموع الحزينة تسيل من مآقيهم الراكدة.

* * *

واختفى هذا الساحر "علي خالد" باختفاء السياف "الوشاح" والطاغية الإمام احمد وطاهش الحوبان.