Dammaj.Net - Under Development






 

 

Back to Novel Page
Back to home page

          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

 

 

 

          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to Novel Page
Back to home page

الانبهار والدهشة

(2) كتاب القاهرة
The Book of Cairo

 

الطائرة

عندما قرر والدي رحمه الله إرسالي إلى الجمهورية العربية المتحدة (مصر عبد الناصر) للدراسة، سنة 1958، كدت أطير فرحاً؛ لأنني سأسافر إلى بلاد بعيدة وسأركب لأول مرة على طائرة من حديد تطير في السماء!

كان والدي قد أعدني إعداداً جيداً في مدرسته الخاصة ومن مكتبته العامرة التي عاد بها من عدن عام 1946، وألحقني بـ"المدرسة الأحمدية" في تعز لاجتياز المرحلتين الابتدائية والمتوسطة هناك. كان لديه أمل في صديق عزيز في تسهيل سفري. وتم ذلك.

اشترى لي بدلتين وقميصين "وكرافتة" وساعة وشراباً (جورباً) و"جزمة". كنت ألبسها جميعها لأول مرة في حياتي. لكنني كنت قد تذكرت من قراءتي لكتاب "القراءة الرشيدة"، المدرسي، المزيَّن بالصور، ذلك التلميذ المصري الذي كان لباسه طربوشاً فوق الرأس و"شورت" وقميصاً أنيقاً، وكانت الخادمة توصله إلى المدرسة عبر الشوارع، بحقيبته الجلدية... وتلميذاً آخر طار طربوشه من نافذة القطار السريع... كانت تلك صوراً لا تمحى من مخيلتي؛ لذلك حاولت جاهداً أن أحصل على طربوش بأي طريقة، ولو كانت غير مشروعة. وفعلاً استطعت ذلك دون أن أعرف كيف واتتني الجرأة في "جامع المظفر" أن أخطف طربوش أحد الآباء من أصل شامي، أثناء وضعه على حافة البركة وهو يتوضأ للصلاة، وطرت به هارباً مخفياً إياه حتى عن والدي.

* * *

وصلت صباحاً إلى مطار "الحَصِب" الترابي، وأثارت الطائرة زوبعة من الغبار والأتربة والدخان، كأنها طائر العنقاء الأسطوري، واستقرت بالقرب منا بهديرها المدوي.

لا مكان يجلس فيه المسافرون أو يظللهم من الغبار والشمس. كانت يدي بيد والدي، ممسكاً بها بشدة. ودَّعني بقبلاته، وتسلقت سلم الطائرة بسرعة، وشنطتي بيدي، واستقريت في أحد الكراسي المقعرة إلى الخلف، بجوار أحد زملائي الأصغر مني، أما أكبرنا فكان مسافراً للعلاج من مرض جلدي، إلى روما.

* * *

كانت الطائرة من طراز "داكوتا" ذات المحركين التابعة للخطوط الإثيوبية، تربط اليمن بالعالم الخارجي في رحلة واحدة أسبوعية أو ربما في منتصف كل شهر، من مدينة "أسمرة" إلى مدينة تعز.

بدأ تشغيل المحرك الأيمن واستغرق ربع ساعة، ثم المحرك الأيسر واستغرق أكثر من ذلك. وعلا دويها بشدة، وشعرنا بتحركها، وارتفعت قليلاً وأنا أنظر من النافذة، تغمرني الدهشة، وهي تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال، تعلو وتهبط. شعرنا برجَّة كبيرة وتيار هواء شديد. كان بابها قد انفتح قليلاً ورجل قوي البنية يربطه بحبل متين!

كنت مع زميلي نضحك بصوت مرتفع عندما ترتفع فجأة وتهبط بنا بشدة، كأن أحداً يدغدغنا، بينما كان الآخرون ينظرون إلينا شزراً تعلو وجوههم العابسة مسحة من القلق والخوف. لم أشعر أنا وزميلي بهذه المخاوف وهذا القلق الذي أصاب الآخرين؛ ربما لأننا نركب الطائرة لأول مرة ولا نعرف مخاطرها وكوارثها، كأننا نركب حماراً أو بغلاً! وسخرنا لقلق الآخرين وفزعهم. لكنني فزعت وشهقت مستغرباً: "يا إلهي!"، وأنا أنظر من النافذة وأرى السحب والجبال تلاحقنا. وبدأ اللون الأزرق للبحر الممتد إلى ما لا نهاية والذي أراه تحتي. قلت لنفسي: "هذا هو البحر إذا!". وكنت أعتقد أنه أكبر من بِرْكتنا في قريتي، أو أكبر من "عصيفرة" في تعز... لكنه كبير، كبير جداً! وبواخر وسفن تعبر فيه تاركة عبابها الأبيض يتموج خلفها.

* * *

قبل عشرات السنين عاد أحد المهاجرين من "وراء البحار" إلى منطقته في اليمن، وكان أول عمل قام به زيارة الشيخ، للسلام عليه وتقديم فروض الولاء والطاعة.

في "ديوان" الشيخ سأله الشيخ عن رحلته وكيف وصل من وراء البحار. وحكى له رحلته وكيف أنه وصل بواسطة "الطائرة" التي تطير في السماء، وشرح له أنها من حديد وبداخلها "كهرباء" ومقاعد للمسافرين من بلد إلى بلد، وأخيراً إلى مدينة أسمرة في إثيوبيا. ودهش الشيخ مع من في حضرته، ولم يصدق، واعتبر أن هذا "الرعوي" العائد من وراء البحار يسخر منه، وأمر بحبسه وقيَّده في سجنه الخاص.

ومرت عدة أشهر عندما قامت الطائرات البريطانية من قاعدة عدن لقصف بعض المدن اليمنية. شاهدها الشيخ بأم عينيه. وندم وقام بنفسه بفك قيد "الرعوي" المهاجر، وأجزل له العطاء وطلب منه المعذرة والمسامحة.

* * *

كم شعرت بالروعة عندما بدأت الطائرة بالهبوط في مطار أسمرة.

الأشياء الصغيرة بدأت تكبر، من جبال وأشجار وبيوت وشوارع وبشر... كان الوقت ظهراً، ومياه الأمطار لم تجف بعد، والغيوم الداكنة بدأت تنقشع. كان الجو منعشاً. وكنا في صالة "الترانزيت" الفخمة، بأثاثها وأنوارها، وصوت الموسيقى يصدح في أرجائها، ومأكولات ومشروبات وفاكهة قُدمت لنا، وخليط من كل الأجناس، رجالاً ونساء وأطفالاً، ينتظرون معنا.

* * *

ٍحلقت بنا طائرة أكبر بكثير من الأولى، ذات أربعة محركات، مروحية، من طراز "دي سكس" وكنت جالساً مع زميلي على مقعدين متجاورين. أدهشني جو الطائرة من الداخل، والإنارة الهادئة، وصوت الموسيقى الخافت، وجمال المسافرين والمسافرات، والنداءات المتكررة بالتعليمات والإرشادات التي لم نفهم منها إلا الخاصة بالإشارة الحمراء: أن نعود إلى مقاعدنا ونربط الأحزمة لحالة الطقس الرديء بمطباته.

جلست امرأتان على الكراسي الأماميين لنا، ممن تفنن الخالق الباري عزت قدرته في خلقهن. تدلى شعرهن المندوش الطويل من خلف الكرسي إلى أمامنا. كان عجيباً كأنه من خيوط الذهب! حاول زميلي أن يلمسه، لكنني نهرته بشدة!

جاء إلينا كبيرنا من مقدمة الطائرة ليتفقد حالنا، وأرشدنا كيف نأكل بالشوكة والسكين والملعقة، وأوصانا بألاَّ نوسخ ثيابنا وألاَّ نزعج المسافرين، وبأن نكون هادئين، وأن هنالك حماماً في أسفل الطائرة إذا احتجنا قضاء الحاجة...الخ.

* * *

حرت مع زميلي عندما قدمت لنا المضيفة ذات اللباس و"المقرمة" البيضاء، أطباق الطعام. كانت شبه سمراء، أمهرية، حميرية، كأنها من شابات مأرب: "مشرق الله"! كيف نتعامل مع الملعقة والشوكة والسكين حسب إرشادات زميلنا الأكبر! شوكة تسقط مني وسكين تسقط منه... ونلتقطها ونحن نكتم ضحكاتنا قدر الإمكان. كان لا بد أن نتذوق المأكولات التي قدمت لنا بسخاء. انحنينا واستعملنا كل أصابعنا، بخفية أيضاً‍‍‍! ومسحنا أيدينا بقطعة القماش التي قدمت لنا. لم تكن كافية لتزيل ما علق بأيدينا من بقايا المأكولات، وكان لا بد أن نتجه إلى الحمام لنغسل الأيدي ونقضي "الحاجة".

سرنا في الممر ونحن نرى تلك الوجوه لنساء ورجال متعددي الألوان. وعند باب الحمام حاولنا أن نفتحه، لكننا لم نستطع. ونظرنا إلى أعلى حيث شاهدنا إشارة ضوئية حمراء، وفزعنا وعدنا مهرولين نحو مقعدينا. لاحظتْ تلك المضيفة السمراء، فأخذتنا من جديد إلى باب الحمام وهي تبتسم لنا وللآخرين، وحاولت جاهدة أن تشرح لنا أن الإشارة الحمراء ليست للخطر، إنما لأن الحمام مشغول، وعندما يكون خالياً تضيء إشارة خضراء!

قبل الأصيل نُبهنا أن الطائرة تمر فوق نهر "النيل" العظيم. ونظرت من النافذ: "يا إلهي! أهذا هو نهر النيل!"، يتلوى كثعبان، وكنت أحسبه كـ"غيل براقة" أو كـ"سائلة نخلان" لكنه شيء آخر ومهول.

كبير، كبير جداً، يخترق وادياً أخضر ومدناً وقرى على ضفتيه... كل هذه الأشياء التي كنت أتخيلها صغيرة كم هي كبيرة الآن!

بعد المغيب بساعة أو أكثر نُبهنا مرة أخرى إلى أن الطائرة تمر الآن فوق مدينة القاهرة. ونظرت من النافذة، كأنها بحر من الأنوار الساطعة المتلألئة لا نهاية له. ذكرتني بما كنت أشاهده مع والدي بالمنظار المقرب من على سطح منزلنا الواقع في إحدى قمم جبل "التعكر" لنشاهد النجوم والكواكب في المساء بأضوائها المتلألئة.

كم هي رائعة مدينة القاهرة ليلاً وبالذات من الطائرة!

* * *

كان وجهي لا يزال ملاصقاً للنافذة عندما هبطت بنا الطائرة في مطار "الماظة". وكان في استقبالنا عند سلم الطائرة مندوب السفارة، المرحوم "حسن الحبيشي" الذي أخذنا إلى إحدى صالات الانتظار ليكمل معاملة الدخول وأخذ حقائبنا.
 


القاهرة

في صالة الانتظار في مطار "الماظة" شاهدت، من خلال النوافذ الزجاجية الواسعة، هبوط وإقلاع عشرات الطائرات، بانبهار شديد. قُدم لنا بعض قطع من البسكويت والشاي وعصائر الفواكه أثناء انشغال مندوب السفارة الأستاذ المرحوم  "الحبيشي" بإكمال معاملة الجوازات وأخذ الحقائب. كنت مصمماً على وضع الطربوش فوق رأسي! قال لي الأستاذ "الحبيشي":

-         ابعد هذا من على رأسك، لا تلبسه مرة أخرى!

حاولت أن أشرح له ما قرأته في كتاب "القراءة الرشيدة"، فضحك وقال:

-   هذا كان زمان يا بني، أيام الملكية والباشوات، أما الآن، بعد "ثورة ناصر" فمن العيب أن يلبسه أحد، وسوف يضحك منك الناس ويسخرون!

ركبنا معه سيارة السفارة من بوابة المطار عبر شارع تحفه من الجانبين أعمدة الكهرباء المضاءة والأشجار المنسقة، وعلى ضفاف الشارع مبان وقصور و"فيللات" بحدائقها الغناء المضاءة من الداخل...حتى وصلنا إلى "ميدان رمسيس"، على يميننا "محطة رمسيس" للقطارات، وأمامنا تمثاله العملاق المسلطة عليه وعلى نافورته المائية الأنوار بألوانها المدهشة.

وقفت السيارة بنا أمام "فندق فيكتوريا" بالقرب من الميدان. صعدنا عدة درجات إلى باب الفندق الزجاجي، الذي قام بفتحه لنا رجل أسمر بطربوش أحمر على رأسه وبدلة خضراء مزركشة، انحنى لنا مشيراً بيده اليمنى إلى صالة الاستقبال ويده اليسرى على صدره كنوع من الترحيب الحار. ومددت يدي وسلمت عليه بالطريقة اليمنية (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) واخترت "بأحسن منها". دُهش الرجل وابتسم ورفع طربوشه الأحمر من على رأسه مبالغة في الترحيب! لكزت زميلي بكوع يدي مشيراً نحو طربوش الرجل وأنه لا يلبس "شورت" وعند المدخل حاولت خلع حذائي، فنهرني المرحوم "حسن الحبيشي" وقادني إلى كرسي عتيق مريح وسط حركة دائبة وأضواء باهرة وأثاث فخم لم أشاهد مثله في حياتي!

أخذ أحد العاملين حقائبنا إلى المصعد، بلونه الأسمر وطربوشه الأحمر وبدلته الخضراء المزركشة، وفتح لنا باب المصعد وضغط بإصبعه على زر حيث شعرنا بأننا نرتفع. شيء مذهل أن تستخدم المصعد لأول مرة، هذا الصندوق السحري!

* * *

كنت لأول مرة أشاهد غرفة فسيحة بسريرين وثيرين وفراش نظيف وإضاءة بالكهرباء مريحة للنظر، بجدرانها الملساء التي لا تتيح فرصة لذرة غبار أن تعلق بها، وقاعها المبلط بقطع من الخشب المصقول باللون الرمادي اللامع، تتوسطها مفرشة فارسية، وبجوار كل سرير "كمدينو" و"أباجورة" فوقه.

عندما دخلنا الغرفة كانت شنطتي مع شنطة زميلي قد وضعتا في أسفل الغرفة فوق قاعدة من الخشب وبجوارها دولاب الملابس الخشبي العتيق بمرآته الكبيرة.

استمررت مع صاحبي كلاً يهتز فوق سريره بمرح شديد! بعد فترة شعرت مع زميلي بأننا في أمس الحاجة للتبول وقضاء "الحاجة".

وجدنا باباً داخل الغرفة، فتحناه لنجد أنفسنا في مكان بهرتنا أنواره ورخامه اللامع. تأكد لنا أنه الحمام، لكن أين هي "النقرة"؟! لم تستغرق حيرتنا كثيراً، كانت الضرورة قد دفعتنا لقضاء "الحاجة" في أي فجوة مفتوحة. كانت هناك أمامنا سلسلة صغيرة متدلية وفي نهايتها مقبض عاجي تعجب له صاحبي  وأمسكه بيده وشد السلسلة إلى أسفل فدوى هدير ماء مزعج لم يتوقف! خرجنا مسرعين بعد أن أقفلنا باب الحمام وأغلقنا باب الغرفة أيضاً واتجهنا نحو زميلنا الأكبر في نهاية الممر ودخلنا عليه فزعين. كان قد خرج من حمام غرفته وشرع في ارتداء ملابسه الأنيقة. تساءل عن فزعنا هذا، فشرحنا له بأن المياه ربما قد غمرت الغرفة بل وممر الطابق، وربما ستغرق الفندق كله! وأننا لم نستطع إيقافها.

ضحك زميلنا وأكمل هندامه وخرج معنا. كنا ننظر إلى الممر بترقب، وتأكدنا أن المياه لم تخرج من الغرفة بعد. وفتحنا باب غرفتنا، وتأكدنا أن المياه لم تغمرها بعد. وفتحنا باب الحمام وتأكدنا أنه لا وجود لأي صوت مياه. ضحك كثيراً وأخذنا معه للهبوط بالمصعد لتناول وجبة العشاء في مطعم الفندق حيث اتبعنا إرشاداته في تناول وجبة العشاء بالملعقة والشوكة والسكين بين الأنوار الخافتة وصوت الموسيقى الناعم.

* * *

فتحت مع زميلي باب الشرفة التي كانت مسدلة عليها ستائر مزركشة بيضاء، وأطللنا من حافتها على عالم عجيب لم يكن يخطر لي على بال ولا يمكن أن أصدق مشاهدته حتى في خيالي أو في أحلامي! وتجول بصري من علو على أنحاء الشارع الذي يعج بعربات "المترو" و"الترم" وعربات "الكارو" التي تجرها الخيول بأجراسها ذات الرنين المتميز الذي ذكرني بأجراس البقر والثيران في قريتي... والسيارات والأتوبيسات والأضواء متعددة الألوان.

سهرت مع زميلي على حافة "البلكونة" (الشرفة) حتى مطلع الفجر، عندما سمعنا صياح صبية بصوت عالٍ ينادون: "أهرام! أخبار! جمهورية"!

* * *

فتحنا باب الغرفة على طرقات متكررة من المرحوم "الحبيشي" وبجواره زميلنا الأكبر في كامل لباسه المهندم. لم نكن قد غفونا لحظة، وكانت ملابسنا لا تزال كما هي.

أخذنا إلى مقر السفارة. مقر مهيب، بحديقة غناء وأشجار "المانجو".

وفي اليوم التالي تقرر سفرنا إلى مدينة "بني سويف"، حيث توجد بعثة طلاب يمنيين يمكن أن يساعدونا في المأكل والإقامة حتى تتقرر لنا منحة مالية بعد ذلك.

فرحت كثيراً عندما أخبرنا المرحوم "الحبيشي" بأنه سيأخذنا إلى حديقة الحيوانات، وزاد فرحي أكثر أنه سيأخذنا بعد ذلك إلى السينما. في حديقة الحيوانات الكبيرة شاهدنا أنواعاً من الحيوانات والطيور والأسماك والزواحف، متعددة الألوان والأحجام، لم تكن تخطر على بالي. كنت أبحث بلهفة عن الوحش المرعب "طاهش الحوبان"، لكنني لم أجد شبيهاً له كما وصُف وعلق في ذهني.

توقفت مبهوراً أمام الغوريلا، قلت لنفسي: "هذا هو الغول الذي تحكي لنا أمهاتنا وجداتنا عنه!". وتوقفت أمام الشمبانزي وقلت لنفسي: "هذه هي الصياد أو "العضروط" أو ربما "أم الصبيان" أو "جارة البيت"، التي كانت أمهاتنا يرعبننا بذكرها لإرغامنا على النوم. أما وحيد القرن فقد ذكرني بـ"تبيع الليل" الرهيب!

 

أمام "سينما كليبر" كنت مع زميلي والمرحوم "الحبيشي" نقطع التذاكر، وكان أمامنا متسع من الوقت، فأخذنا إلى محل "جنة الفواكة" المقابل للسينما. سألنا عماذا نريد أن نشرب:

-         عصير جوافة؟ فراولة؟ برتقال؟ موز باللبن؟...

شربت مع زميلي كل الأنواع وبلهفة شديدة. دهش المرحوم "الحبيشي" الذي ما لبث أن ضحك كثيراً حتى كاد يسقط على الأرض!

دخلنا السينما وجلسنا على الكراسي منبهرين؛ أغان تصدح وصور وملصقات وأنوار شبه خافتة... وفجأة أطفئت الأنوار، فقمت مع زميلي لنغادر المكان، لكن المرحوم "الحبيشي" أمرنا بالجلوس.

* * *

من حكايات المناضل الأستاذ "أحمد المروني" أنه عندما وصل إلى عدن مع أول بعثة يمنية إلى العراق في الثلاثينيات دخل مع رفاقه "سينما مستر حمود" لأول مرة في حياته. بُهروا بالملصقات الملونة وصور الممثلين والأغاني القديمة لـ"لفريد الأطرش"، والإضاءة الساطعة... وفجأة أطفئت الأنوار فقام مع رفاقه للخروج من السينما ظناً منهم أن ذلك كان كل شيء.

الحالة نفسها، الانبهار نفسه، والدهشة نفسها التي مرت بي وبزميلي!


القطـار

كان في انتظارنا أمام الفندق عربة "كارو" فخمة، يجرها حصان أشهب تتدلى على صدره قلادات نحاسية، بعضها فضي، وأجراس ونواقيس صغيرة صفراء اللون، و"عثكال" من ريش الطاووس أو النعام فوق رأسه وما بين أذنيه، مرفوع بأبهة. كان الحصان رائعاً، يشبه حصان الإمام أحمد (الرعد) المشهور الذي كان يصول به ويجول وسيفه بيده اليمني في ميدان "العُرْضي" بتعز!

ركبت مع زميلي، وبجوارنا المرحوم "حسن الحبيشي" العربة "الكارو" التي ستنقلنا إلى محطة ميدان "رمسيس" القريبة من الفندق، بعد أن وضع حقائبنا بواب الفندق ذو الطربوش الأحمر متمنياً لنا رحلة سعيدة، ماداً يده اليمني حيث وضع مرافقنا المرحوم "حسن الحبيشي" عدة نقود صغيرة فيها!

كان "العربجي" (صاحب العربة) قد همز حصانه وتحرك بوقع أقدامه المنتظمة على إسفلت الشارع، وسوطه مرفوع على يمينه.

كان "العربجي" في المقدمة وظهره إلينا. ابتسمت وكدت أضحك فرحاً بأنه يضع على رأسه الطربوش الأحمر بـ"عثكاله" الأسود!

لاحظ مرافقنا المرحوم "حسن الحبيشي" ذلك، وجذبني إليه باسماً وقال:

- يا بني! لا تدهش لأن بواب الفندق أو "السفرجي" أو "العربجي" يضعون على رؤوسهم الطرابيش بعد أن كان الملك فاروق والباشوات والوزراء يضعونه على رؤوسهم في العهد الملكي البائد!

صمت قليلاً ثم قال:

- عندما قام جمال عبد الناصر بالثورة وقضى على الملكية والإقطاع والاستعمار والباشوات منع لبس الطرابيش لأنها رمز للماضي، ثم سمح بها ليلبسها "العربجية" وبوابو الفنادق و"السفرجية" والمترجمون في الأهرام من أجل السياح الأجانب؛ نكاية بالملك والباشوات. هل فهمت هذا؟

***

عالم عجيب ومدهش، يفرض على أي إنسان أن يدقق النظر في كل شيء، صغيراً كان أم كبيراً، وبالذات على يافع مثلي قدم من أدغال التخلف وكهوفها ونجا بأعجوبة من الموت والأمراض والجهل!

صعدنا درجات طويلة جداً من الرخام إلى بوابة المحطة الكبيرة الضخمة بعقودها وزخارفها العربية الأندلسية، ودخلنا منها إلى بهو صالة كبيرة بأرصفتها المبلطة على مدى البصر، وأصوات صفارات القطارات القادمة والمغادرة:

ما أشبه هذه القطارات بحشرة "الحليبان" ذات اللون الأسود التي نراها في طرقات مزارع قريتنا بألف رٍجْل حمراء تتموج!

قطع لنا مرافقنا التذاكر وانتظرنا على الكراسي لمجيء قطار الصعيد. عالم مكتظ في المحطة الكبيرة، ما بين مسافرين، ومودعين، بألبستهم المتنوعة من بدلات أو جلابيب، وباعة يحملون جميع المشروبات والمأكولات الخفيفة وصياحهم يعلو ليطغى على هدير محركات القطارات.

* * *

أقبل القطار وأطلقت عدة صفارات تنبئ بمقدمه والدخان ينبعث من مدخنته. أشعرنا مرافقنا بأن نستعد على الرصيف الخاص بقطار الصعيد.

لم أكن أتوقع أن القطار بهذا الطول؛ كنت أعتقد أنه بحجم "موتر الرصابي" في تعز أو أكبر منه أو أضعاف موتر "محمود"، العنترناش، المشهور! لكنه كان أطول، أطول بكثير!

ألم أقل لكم إن الأشياء التي كنت أتخيلها صغيرة أصبحت الآن بالواقع كبيرة، كبيرة جداً!

* * *

فتحت أبواب عربات القطار، وصعدنا مع مرافقنا المحترم، وجلست مع زميلي على كرسي عريض، وجلس أمامنا مرافقنا وبجواره أحد المسافرين "الصعايدة" الذي تبادل معنا التحية:

-         سلامات! سلامات! ورايحين الصعيد تعملوا إيه؟

وشرح له مرافقنا، فدهش قائلاً:

- ياخبر ! إنتو من اليمن، بلد الجدعان. ما لكم كده نحاف وقصيرين؟! هو  "الريس" بتاعكم ما بيوكلكمش خالص وا لا إيه؟!

* * *

بدأ القطار بالتحرك بعد أن دوتْ صفارته، وتناهى إلى مسامعنا هدير عجلاته الحديدية ببطء، ثم ارتفع صوت إيقاعها بعد خروجه من المحطة، وانتظمت موازية لسرعته الرهيبة.

درت بجسمي كله أنظر من نافذة القطار نحو الحقول الخضراء على مدى البصر، وخيوط الكهرباء والتلفونات تعلو وتهبط بانتظام.

وعلى ضفاف النيل والترع قرى كثيرة مبعثرة بيوتها من الطين.

الفلاحون وجواميسهم السوداء، والسواقي والنواعير و"الطنابير"، وطيور "أبو قردان" البيضاء بأعناقها وأرجلها الطويلة التي قرأت عنها في كتاب "القراءة الرشيدة" أنها صديقة الفلاح المصري!

عدت إلى وضعي السليم وأرحت ظهري،. لكني مازلت أنظر إلى النافذة بلا ملل. ابتسمت وأنا أذكر ما قرأته في كتاب "القراءة الرشيدة" عن الطالب الذي كان مسافراً في رحلة على القطار وعندما نظر من نافذة القطار طار طربوشه من على رأسه.

لاحظني مرافقنا المحترم وأنا أنزل شنطتي من على الرف وأفتحها وأخرج منها ذلك الطربوش الذي شغفت به وألقيته من نافذة القطار!

ضحك لذلك، كما دهش بقية المسافرين المجاورين لنا، واسترخيت أنا على مقعدي مبتسماً مغمض العينين كأنني أزحت جبلاً من على ظهري أو من على "رأسي"!


البـاخرة

في نهاية صيف عام 1960 سمح الإمام أحمد بخروج جميع الطلبة اليمنيين لقضاء إجازاتهم بين ذويهم في اليمن، بعد سنوات من مراجعته المتكررة من قبل السفارة اليمنية بالقاهرة ومن الشخصيات الاجتماعية ومن المقربين إليه ولم يبق إلا مراجعته من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والصليب الأحمر وجمعية الرفق بالحيوان!

لم أكن مستعجلاً لقضاء الإجازة في اليمن، فلم يمض عليَّ سوى عامين فقط، لكن الأخبار التي وصلتني من قادة الاتحاد اليمني بالقاهرة (الزبيري والنعمان) كانت تفيد بأن والدي "أول الثائرين" كان قد تمرد من جديد على الإمام إثر مقالات نقدية للأوضاع في الصحف الصغيرة في تعز: "سبأ"، "والطليعة". أما الزملاء الآخرون فكان منهم من انقطع عن أسرته عشر سنين وربما أكثر من ذلك.

كان الطلبة اليمنيون الوافدون في ثلاث بعثات متفرقة على عدة مدن أهمها "حلوان" و"بني سويف" و"طنطا" ومدينة القاهرة "لاضغلي". وأكثرهم كان على حساب مصر "الوافدين".

كانت مدينة القاهرة هي نقطة التجمع. بعثة "بني سويف" وبعثة "طنطا" وضعتا معاً في "لوكندة" رثة حقيرة في "وسط البلد". كان إفطارنا فولاً مدمساً مع قرص من "العيش"، وغداؤنا فاصوليا بيضاء مع قرص من العيش، وعشاؤنا قطعة من الجبنة البيضاء مع قطعة بصل ورغيف "عيش". تكدسنا في الغرف، كل غرفة يحتلها خمسة أو أكثر. كانت حشرات "الكتن" (البق) تتساقط من سقف الغرفة كأنها جنود من فرق المظلات العسكرية تهبط علينا بالبراشوت فنظل ساهرين نحرق بعضها بالصحف المشتعلة دون فائدة!

أما طلبة بعثة "حلوان" فقد كانوا -كما علمنا بعد ذلك- في أشهر فنادق القاهرة، المطلة على نهر النيل.

* * *

عندما التقينا نحن طلبة بعثة "بني سويف" بطلبة بعثة "طنطا" شعرنا بأننا نعرف بعضنا بعضاً من عشرات السنين. وخففت "مجابراتنا" وضحكاتنا وعناقنا بعضنا لبعض الحالة البائسة والحشرات الضارية والتغذية الحقيرة التي عانيناها معاً في "لوكندة وسط البلد". وكان من أحد العوامل التي خففت نكد المأساة أيضاً أننا علمنا بأن النجم المشهور الكابتن "علي محسن" كان مسافراً معنا على الباخرة نفسها، وكان "علي محسن" في ذلك العام يعد أشهر لاعب كرة قدم شهدته مصر، وكان في نظرنا أشهر من نجوم "هوليوود" بل وأشهر من زعماء أوروبا وأميركا والعالم.

في ميناء السويس اتجهنا بحقائبنا نحو رصيف الميناء. كنت مشتاقاً فعلاً لرؤية البواخر والسفن التي لم أكن أعرف عنها شيئاً. كان أمامي ونحن نسير على الرصيف عشرات البواخر العملاقة كأنها مدن وحصون وناقلات وعابرات كالجبال الرواسي، يصعد المسافرون إليها بعدة سلالم طولية حتى يصلوا إليها. تعبنا من السير على أقدامنا وراء المراقبين نبحث عن باخرتنا التي ستنقلنا إلى الوطن، وفجأة وجدناها قابعة بين تلك السفن والبواخر والناقلات العملاقة، صغيرة جداً كسمكة صغيرة لاصقة بجسم حوت عملاق. ولم نصعد إليها كباقي السفن بل هبطنا إليها!

ومع ذلك فقد كان انبهاري ودهشتي بها لا حدَّ لهما. كان اسمها "المعز"، يملكها -كما قيل لي- "التاجر المحظوظ والطاغية"! لم تكن مخصصة لنقل المسافرين "البني آدم" بل لنقل الجلود والحيوانات، وبالذات الأغنام والماعز وإذا سمحت حمولتها لنقل مواد البناء من إسمنت وحديد. وكان مداها المفروض هو التنقل ما بين ميناء اليمن وموانئ الحبشة والسودان وجيبوتي فقط. وعلمنا بعد ذلك أن الإمام قد أمر بتوجهها من أحد موانئ السودان لنقلنا فوق ما تحمله من السويس إلى الحديدة.

* * *

وضعنا حقائبنا على سطحها، حيث كانت شبه أفرشة مهترئة غبراء دبراء من بقايا "شوالات" أو أكياس سم الجراد منتشرة بعشوائية.

وألقينا بأنفسنا عليها غير آبهين لوهج الشمس الحارقة وحرارة الصيف. لا أذكر كم كان عددنا، ربما مائة وسبعين طالباً أو ربما أقل من ذلك. أما أبناء الأمراء والنبلاء الذين وضعوا في الكابينات الخاصة فعددهم ربما كان عشرة طلاب أو أكثر أو ربما أقل من ذلك، لا أدري! لأننا لم نرهم إلا عندما كانوا يطلون من نوافذ الكابينات.

لم يكن أمامنا سوى أن نرتب أمورنا. الأكثر كانوا على الجانبين، رؤوسهم إلى الداخل وأرجلهم إلى حافة الممرات المطلة على البحر من الجانبين. والأقل هم الأصغر سناً في الوسط بين الآخرين على الطول وغير متلاصقين، كلاً حقيبته عند رأسه أو بجانبه. وضعت حزمة من قصب الذرة الخاص بغذاء الماعز تحت رأسي، ووضعت "المناشف" و"الفوط" فوقها بدلاً من المخدة، كما فعل كل الزملاء الآخرون.

كم كانت فرحتنا بالعشرات من الماعز معنا على السطح، ألواناً وأشكالاً، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً.

كان في مقدمة الباخرة حمامان من الحديد، وعلى سطحها مساحة مثلثة على جانبيها فوهتان "للهلب" كابح السفينة. حمدنا الله على أن صفارة "المعز" تشبه صفارات السفن الكبيرة في الميناء عندما بدأت إحدى القاطرات بالخروج من الميناء. كانت أكبر من "المعز" حجماً وبحارتها يضحكون على هذه الباخرة "القزم" التي يشدونها. عندما خرجت "المعز" بسلامة من تلك "الضياح" العملاقة كانت صفارتها تعلو تزمجر مجدداً. قلنا لأنفسنا:

- "بدنا مصيت لا امّظهر"!

* * *

بدأت باخرتنا "المعز" تمخر أمواج خليج السويس متجهة بنا إلى الوطن. تركت مكاني واتجهت نحو مقدمتها، وتبعني الآخرون. كان هواء البحر منعشاً، وكانت أمواج الخليج تتطاير رذاذاً يميناً وشمالاً وأنا أستقبلها برأسي وصدري، وذراعاي مفتوحتان كأنني أحاول الطيران!

* * *

إن صورة الباخرة والأمواج والبحر والموانئ كانت شبه واضحة في مخيلتي كالطائرة والقطار وعربة "الكارو" الخ...

كنت أسمع في قريتي أغاني شعبية للنساء اللاتي شرد أزواجهن إلى ما وراء البحار هاربين من مظالم الإمام يحيى وابنه السيف الحسن... أغاني عن "الساعة" و"المركب" و"الهوري" و"السنبوك"...

يا مركب "البس" يا أبو دقلين...!

                                        شاسري بك البر والبحرين

ورغم أن باخرتنا "المعز" كانت قزماً بجوار ما شاهدناه من بواخر وسفن عملاقة في ميناء السويس، إلا أنني لم أكن أتوقع أن بها غرفاً (كابينات) وحمامات ومطابخ، قبطاناً وبحارة، كهرباء وراديو، وطبيباً هندياً أيضاً!

ذكرني نظام التغذية في السفينة بنظام التغذية في "المدرسة الأحمدية" بتعز؛ كل مجموعة مخصص لها "قروانة" مكونة من رز ولحم ومرق، و"تنكة" متوسطة من الصفيح للقهوة أو الشاي، و"قلاصات" (فناجين) من مخلفات علب الصلصة والمواد الغذائية الأخرى!

كان لكل مجموعة "قروانة" خاصة بها، وكان المسؤول عن مجموعتنا هو الزميل الظريف الطيب "عبد الرحمن فايع" (ومعذرة من جميع الزملاء إذا ذكرت اسمه من بين أسماء الأحبة الزملاء والأصدقاء الآخرين الكثر!).

* * *

في اليوم التالي -ومازلنا في نهاية خليج السويس- توقفت محركات الباخرة فجأة، ربما لعطل طارئ. كنا قد ألفنا هدير محركاتها وتعايشنا معه، لكن توقف صوت ذلك الهدير أزعجنا، وأصبح الموج يتقاذف السفينة ومياه البحر تقذف إلى السطح.

حاول المسؤول عن "القروانة" -وكان يحملها فوق رأسه نازلاً بها من رأس السلم- أن يحافظ على توازنه، لكنه في النهاية سقط معها في الممر، مع تقيؤ الزملاء من دوار البحر. وكان يوماً "أغبر أدبر"! ومع ذلك لم يمنعنا من الضحك ولا الأغنام من الهرع بعنف لأكل محتويات "القروانة"!

لا أتذكر اليوم، ربما كان الثالث أو الرابع، عندما شعرنا بتهامس ثم أصبح جلبة ثم شبه جمهرة كثيفة تتزاحم حول مقر الكابتن المشهور "علي محسن" نجم نادي "الزمالك". هرع الطبيب الهندي إثر استدعاء وكشف عليه. أعطاه عدة حبوب من "الصلفاطة" التي لا يوجد سواها في صيدليته، لكنه كذلك نصح بأن يكون المريض في مكان غير سطح السفينة يقيه الشمس والرياح!

وفجأة سمعنا وقع أقدام سريعة هابطة على درجات السلم من غرف (كابينات أبناء الأمراء "السيوف" والنبلاء. وإذا بشاب يأخذ الكابتن "علي محسن" طوال ما تبقى من الرحلة إلى ميناء الحديدة.

كان هذا الأمير هو علي ابن الشهيد "سيف الحق" إبراهيم.

* * *

انبهرت لرؤية حيتان الدولفين التي كانت تتقافز أمامي وأنا منحنٍ في مقدمة السفينة، بحركاتها البهلوانية مطلقة ضحكاتها المحببة إلى القلب. ورغم شح الغذاء في السفينة في الأيام الأخيرة من الرحلة، إلا أنني كنت حريصاً -وربما بعنف في بعض الأحيان- على أن أجمع أي بقايا من فتات الخبز "حاف" حتى ولو كان مما هو مقرر لي لكي ألقيه إلى أصدقائي "الدلافين".

* * *

كانت أكبر أزمة مرت بنا هي نفاد السجائر منا بعد أن يبست أقراص الخبز وانتهت "شوالات" الرز واللحم. وكنا قد فكرنا بذبح الماعز والأغنام، لكنها الأخرى كانت تشكو مثلنا من الجوع فرحمناها.

كنا نتسابق إلى الحمامات في مقدمة السفينة لتدخين ما تبقى لنا من حبات السجائر، وبعضنا ينتظر خارج أبوابها ليلتقط ما رمي من مخلفاتها، تماماً كما يفعل صبية "السبارس" في أرصفة شوارع القاهرة الذين يجمعون أعقاب السجائر.

بدأ النحول والاصفرار والهذيان والخيلان يصيبنا. وتأكدنا من ذلك في منتصف ليلة مقمرة بصياح مفزع لزميلي الذي كان رأسه بجوار رأسي في الوسط. لقد خُيِّل إليه أن تنيناً انقشع عنه البحر واتجه برقبته الطويلة وفمه المفتوح نحوه ليأخذه بين أسنانه إلى غياهب البحر. أصابتنا تلك الصرخات بالأرق، وأفزعتني كما أفزعت الزملاء، وأسهرتنا حتى الصباح.

* * *

حاول زعماؤنا الكبار في الأيام الأخيرة أن يغذونا بالخطب الحماسية وبتوزيع الكتب الرنانة لكي ننسى الجوع والمرض والخمول... دون جدوى. وبعد ستة أيام بالكمال والتمام دوَّتْ صفارة الباخرة "المعز" تبشرنا بأننا على مشارف مدينة الحديدة. تجمعنا بفرحة على حافة السفينة، وشاركتنا الماعز والأغنام بأصواتها الفرحة مثلنا أيضاً.

* * *

كنا نتوقع أن تدخل بنا الباخرة "المعز" إلى ميناء الحديدة، لكنها توقفت على بعد مسافة كبيرة لم تتح لنا أن نميز ملامح مدينة الحديدة، سوى أربع عمارات بيضاء من دورين على الساحل فقط بناها الخبراء السوفييت. خلع بعض الشبان ملابسهم بفرح رغم الجوع والمعاناة، وبدؤوا بالقفز من مسافات قريبة إلى البحر، ثم من مسافات أعلى، ثم صفي التنافس بين زميلين للقفز من أعلى قمة في السفينة بين تصفيق الجميع وتشجيعهم.

طال الانتظار، وبدأت همسات الطلبة تعلو تدريجياً مع الجوع والإرهاق لتصبح أناشيد حماسية بأصوات عالية تكاد تصل إلى ساحل المدينة ويكاد يسمعها الإمام أحمد وحاشيته والمواطنون أيضاً. كان هذا الانتظار فرصة لزعمائنا الثلاثة الكبار: البعثي، القومي، والإخواني؛ للخطابة المركزة على مظالم الإمام وعلى التخلف وعلى النظام الملكي الرجعي والمناداة بالثورة والجمهورية والتقدم الخ...

كنا نصفق بحماسة شديدة وبهتافات قومية عربية وحدوية وأناشيد ثورية.. الخ... ولم تكن خطب زعمائنا الثلاثة متباينة، بل كانت تصب في إناء واحد. ولم تكن هنالك حساسية أو حقد أو تنافس أو عداء، بل كانوا باسمين لا يكفر أحدهم الآخر. كان الهدف هو: الثورة، الجمهورية، والوحدة.

* * *

بعد برهة سمعنا صوتاً مدوياً لقارب تجاري شبيه بيخت هزيل يقترب من الباخرة "المعز". كنا قد تأهبنا، كلاً بشنطته؛ لكن القارب الشبه يخت كان قد رسا بجوار الباخرة "المعز".

فجأة سمعنا وقع أحذية "مزايطة" تنزل من درجات الغرف العلوية إلى سطح السفينة. إنهم الأمراء أبناء "السيوف" وقد ارتدوا العمائم الحريرية بـ"العذائب" المتدلية إلى الوراء، "الأجواخ"، و"الجنابي" المنقوشة بالذهب، وقد حمل "العكفة" حقائبهم إلى داخل اليخت.

كنا ننظر إليهم بانبهار ودهشة لما يلبسونه، لكنهم لم ينظروا إلينا مطلقاً. شيعناهم ويختهم بنظرات عدائية تحولت إلى حقد وكراهية غمرت قلوبنا حتى كتابة هذه السطور!

طال انتظارنا رغم الجوع والإنهاك وشماتة القبطان الأوروبي ومساعديه وبلاهة الطبيب الهندي بحالنا. وتفاعل البحارة اليمنيون بحماسة معنا، يودون بعد رحيلنا أن يغرقوا السفينة بمن فيها إلى أعماق البحر!

لمحنا قدوم "ساعية" شراعية متجهة إلى باخرتنا "المعز". هللنا فرحين بمقدمها السعيد لتقلنا إلى مدينة الحديدة، العاصمة الشتوية للإمام أحمد وحاشيته!

اقتربت "الساعية" ولاصقت جسم الباخرة "المعز". كان علينا أن نرمي حقائبنا إلى سطحها ثم ننزل. كان القبطان الأجنبي ومساعداه وبجواره الطبيب الهندي الساذج ينظرون إلينا من نوافذ كابينة القيادة وهم يضحكون بسخرية، بينما كان معظم بحارتها اليمنيين يساعدوننا على النزول تكاد أفئدتهم تتمزق حزناً وألماً! عندما قذفنا بحقائبنا إلى الساعية كانت الحقائب الحديدية تحدث خروقا شنيعة بالحقائب الجلدية. وهبطنا إلى "الساعية" بطرق عشوائية.

* * *

تحركت "الساعية" الشراعية وكادت حبالها تغرق الزميل "عبد الحميد الطوقي" بعد أن كسرت نظارته الطبية! لم يكن بيننا وبين ماء البحر سوى عشرة سنتيمترات أو (نصف شبر) تكاد تشرف على الغرق بما تقله من طلبة بحقائبهم ومن الماعز أيضاً.

ابتعدت "الساعية" بنا عن الباخرة "المعز". كان القبطان مع مساعداه والطبيب الهندي الأبله قد تجمعوا على متن الباخرة يضحكون ويلوحون بأيديهم بإشارات وقحة تهزأ بنا. كان رد الجميع على هذه التحية بمثلها أو "أحسن منها": برفع الأحذية والتلويح بها!

واقتربت "الساعية" من ميناء الحديدة ونحن نتزاحم لرؤيتها لأول مرة. لم يكن هناك أثر لمدينة، بل بيوت و"عشش" هادمة كأنها مقبرة.

وتوقفت بنا "الساعية" فجأة حيث أخبرني ربانها العجوز بأنها لا تستطيع الوصول إلى "دكة" الميناء وأنه لم يستطع إعانتها بـ"القرب".

* * *

فجأة سمعنا جلبة تتراكض نحونا بين أمواج الساحل لرجال سود البشرة أو "أخدام" شبه عراة مندفعين نحونا وقد طوقوا "الساعية" من كل جانب يطلبون أن يحملونا على رقابهم مع حقائبنا، فقد اعتادوا ذلك أباً عن جد منذ سنين عديدة، مقابل أجر رمزي!

لم نكن نتوقع ذلك مطلقاً. وامتنعنا عن فعل ذلك، خصوصاً بعد أن انبرى زعيمنا "البعثي" المهاب بخطابه المؤثر مطالباً بأن نقفز إلى البحر مع حقائبنا، وأن من العار أن نركب فوق "بني آدم" يمنيين، ونحن الذين تعلمنا في مدارس وجامعات مصر الحرية والمساواة والعدالة!

واندفع البعض منا بحقائبه إلى البحر وكادوا يغرقون لولا إنقاذ "الأخدام" لهم، فما كان من الزعيم إلا أن رضخ للأمر فقال: "أمرنا لله!"، فكانت إشارة خضراء منه لنا وللإخوة "الأخدام" الفرحين!

وتعلقت برقبة أحدهم ممسكاً بيدي اليمنى حقيبتي التي أصابها الهزال مثلي من جراء تلك الرحلة. وعند "الدكة" اتجهنا نحو "دار الضيافة" حيث قيل إننا سننزل بالدور الأسفل. كانت الوجوه التي تجمعت بحشد كبير على رصيف "الدكة" شاحبة كأنها تعاني سكرات الموت. ذكرني ذلك بسذاجة قول الصعيدي لنا على قطار الصعيد: "ما لكم كده نحاف وقصيرين؟! هو بتاعكم الريس ما بيوكلكمش وا لا إيه؟!".