|
المدرسة الأحمدية الفصل الأول سمعت جلبة يحدثها أقراني من صبية القرية بأصواتهم على مدخل القرية وهم يولولون باللعنات والشتائم التي يحفظونها عن ظهر قلب. عرفت أن القادم هو جدي لأمي "الحاج الحسام" الذي يقوم بزيارتنا في بعض الأيام عندما لا يكون فيها مشغولا بأموره ومنها غيابه في المدينة البعيدة حيث "يغارم" و"يشارع" الأقارب في "مقام الإمام الشريف" وعند الحاكم العجوز الذي يلذ له إطالة القضايا وإحباط الناس… ابتسمت لمقدمة وهرولت نحوه وهو يوزع بعض أقراص النعناع البيضاء على الأطفال ويحثهم على مزيد من الشتائم ويدعو لهم بالصلاح... عندما كنت أستفز لهذا الموقف ويعلو الغضب جبيني وأندفع للعراك مع الصبية كان يمسك بي دائماً ويقول ضاحكاً: - دعهم… لعناتهم تقربني من الجنة يا ابني… ويقبلني بلحيته الطويلة المصبوغة بالحناء فأتعلق بحضنه ليرفعني والدموع تنهمر من عيني… يأخذني الى بيت والدي شبه المهجور الذي أعيش فيه مع عمتي المصابة بكل ما خلق الله من أمراض الدنيا... يسألها دائماً عن أحوالنا وعن مدخراتنا من الذرة التي نحصل عليها من الأرض وعن البقرة والدجاج والعلف… وعن مشاكل القرية وما يخصنا منها… وعن الزكاة وعساكر الإمام… كان حريصاً على معرفة كل شيء وكان يهمه أن يكون صندوق والدي الخشبي بما يحتوي من (بصائر) وأوراق الأرض المختلفة محفوظاً كما هو في أسفل المكان... وعندما يفرغ من هذا كله يسألها عن صحتها وهل زارت الاولياء والصالحين الكثر الذين عندهم شفاء أمراضها العديدة وعن دراستي في (معلامة) القرية عند الفقيه... كان هذا اهتمامه الدائم عند كل زيارة... لكنه هذه المرة فاجأها برغبته في أخذي معه الى المدينة للدراسة… أجفلت عمتي وفرحت أنا… * * * لم أنم تلك الليلة ولم أهتم بلسعات البراغيث المزعجة... كنت سابحاً في خيال أجواء المدينة وبتلك النقلة التي ستضعني في عالم أخر... وعلى الرغم من كونها المدينة التي قُتل فيها والدي بضرب عنقه بالسيف في ميدانها الترابي كغيره من زملائه الأحرار المعارضين، إلا أن ذلك لم يؤثر علي فقد شدني حدث الانتقال بقوة.. لم تذهب عمتي تلك الليلة للصلاة في مسجد القرية الخاص بالنساء القابع تحت مسجد الرجال القريب من النبع كعادتها كل ليلة بل صلت بجواري على ضؤ السراج الخافت الذي يكاد دخانه الصدئ أن يحجب ذلك البصيص من الضوء والذي تتراكم أثاره على سقف المكان بطبقاته السوداء المتجددة كل يوم ليضيف لجو الغرفة مزيدا من العتمة والكآبة.. ظلت ترنو إلي وأنا أتقلب في فراشي سعيداً غير آبهٍ بحزنها... ولاحظت انهمار دموع آسنة تبلل وجهها المصفر ذو الأخاديد البارزة والواضحة... يكاد جلد وجهها أن يفرك تلك النـتوءات العظمية لتبرز الحفر الصغيرة الذي خلفها مرض الجدري بتشوه واضح... وعلى الرغم من ذلك كان وجهها دائماً يشع حناناً على الجميع... بشراً وحيوانات وجماد أيضا... * * * وصل جدي في موعده يحيط به الصبية بشتائمهم وهو كعادته يحثهم على المزيد منها ويوزع عليهم أقراص النعناع البيضاء التي يفرحون بها... كانت عمتي قد شغلت نفسها عن عمد (بتلقيم) البقرة طعامها لكنها لم تخفي مع ذلك حزنها بل وغضبها لقرار جدي الغير عادل بأخذي منها... وأجهشت بالبكاء وعلى صوتها وتجمع بعض الجيران أمام باب البيت الذي قام جدي بقفله... حاول أن يضمها إلى صدره مواسياً لكنها هربت نحوي تحتضنني بشدة وبتشبث عنيف... وكلما حاول أن يربت بيديه بحنان عليها كان السعال الحاد المزمن والملاصق لها منذ دهر مبرراً للابتعاد عنه... مهما يكن فهو عمها شقيق والدها وهي ابنة أخيه أوجبتها الطاعة التقليدية ان تخضع له مهما كانت فداحة الحدث بنظرها..ٍ استطاع جدي أن ينتزعني من أحضانها بمراحل وبهدوء يجيد صنعه ووقفنا جميعا على عتبة الباب وقد ابتعد الجيران قليلاً بينما مرقت النسوة يواسين عمتي مشفقات وقد ذرف البعض منهن دموعهن التي لا يملكن سواها لجبر الخواطر... دفعت إلي عمتي (بحرز) متسخ وعلقته على عنقي... لا أملك أنا شيء خاص بي سوى قميصي المتسخ الذي لا أتذكر زمن لبسه... وليس لديها هي شيء تعطيني إياه سوى ذلك (الحرز) الذي يبدو أن أسرتي قد توارثوه أباً عن جد وصرة صغيرة من الكعك فقط أجهدت نفسها في صنعه وتزينه "بالحبة السوداء"... ألقيت نظرة سريعة على البقرة والدجاج وباب المنزل وعلى عمتي الحزينة... واستنشقت بغير عمد عبق رائحة روث البقرة الذي يفوح من مرقدها... لا ادري لماذا فعلت ذلك..!! * * * عندما وصلنا كانت جدتي في المخزن الخاص بأنواع الحبوب والأشياء الهامة تخرج ما تحتاجه من مئونة لذلك اليوم... فرحت كثيراً بمقدمي مع جدي... كان مفتاح المخزن الخشبي ذو الأسنان البارزة المتدلي على صدرها قد آلمني وهي تحتضنني بلوعة... كم انبهرت بمحتويات مخزنها الشبيه بالمتحف..! حبوب لا حصر لأنواعها مكومة في أحواض مطلية (بالنورة) البيضاء... أصناف من الذرة المتنوعة الألوان حمراء، صفراء وغامقة اللون وقمح وشعير و(بلسن) وعدس وفول وفاصوليا... كانت هناك أرفف مجوفة في جدار المخزن تظم أوعية فخارية وخزفية لحفظ السمن وبعض الطنافس النحاسية الهامة... وركن كامل اكتظ بمعدات الحرث والزراعة والحصاد بجوار باب المخزن... وبعض كتب الفلك وحكايات ألف ليلة وليلة وتفسير الأحلام وقصة المياسة والمقداد وفتوحات الشام والغول وسيف بن ذي يزن..الخ. لمحتها محفوظة بعناية في أحد تلك الأرفف المجوفة... في منزلنا كان هنالك نفس الكتب الخاصة بوالدي وأكثر منها لكن عمتي كانت تختزنها في صندوق خشبي قديم من النادر ما تطلعني عليه لأن فيه وثائق تعتقد إنها مهمة تتعلق بمستقبلي كما كانت تقول وبأنني مازلت صغيراً لم ابلغ الحلم بعد لكي أتصفحها وأعي بجدية لأهميتها.. * * * يتميز دار جدي دائما (بدكته) الفسيحة... تلك الغرفة التي لا نوافذ لها ولا باب والتي عادة ما تكون على يمين الباب الرئيسي للمنزل... أمامها على الجانب الأيسر من الباب مكاناً مخصصاً لمطاحن الحبوب الحجرية... تعلوها عقود من الحجارة القوية تتدلى منها سلاسل تعلق بها المسارج والفوانيس... وقبل أن تدلف إلى درجات الطابق الثاني يقع مكان البقرة وعجلها في الجهة اليسرى ومكان آخر في الجهة اليمنى للثورين المعلقة على أعناقها نواقيس نحاسية رنانة... وتحت درجات السلالم المؤدية إلى الدور الثاني يقبع المكان الصغير المخصص للدجاج والأغنام والذي يقفل بلوح خشبي... أما الطابق الثاني فكان يظم مكانين بنوافذ صغيرة ومخزن ومصلى بحمام قديم... أما المطبخ فهو على السطح تتراقص فوق بابه وعلى الرفوف الخشبية عشرات الحمام المعششة الأليفة... كان دار جدي كبيراً بالنسبة لمنزل والدي الذي يفتقد لهذا التفصيل الرائع فقد كان في الأصل (نوبة) حراسة أصلحه والدي قدر الإمكان عندما انتقل للعيش فيه قبل أعوام من مولدي... * * * كان حمار جدي الأعور المشهور مربوطاً بعناية بجوار درجات المنزل خوفاً من أن يركل طفلاً او شاة أو أن يعض أحداً من المارة... كان قد فقد عينه العام المنصرم إثر طعنة وجهها له أحد جيران جدي في القرية لتعدي الحمار على حمارته... وبالكاد تم احتواء المشكلة بعد أن كادت تتحول إلى كارثة في القرية... كان عنيداً يخافه الناس لا يخضع فقط إلا لجدي ولصوته المبحوح... هذا ما جعلني أعتقد بأن جدي لا يريدني أن أركب الحمار معه فقنعت بالمشي بجواره بعد أن نصحني بأن أمسك بيدي اليسرى بمؤخرة سرج الحمار لكي يساعدني على المشي..!! لجدي رغم أنه متدين ومن أهل الجنة مساوئ كثيرة منها عدم الرحمة أو الشفقة بالغير ولو كان من أقربائه... هذا ما كنت اعتقده وأنا أهرع بعد حماره بقميصي المرقع حافي القدمين وهو راكب على الحمار مستظل من حرارة الشمس بالمظلة... ربما لعنه المارة... هكذا خيل لي وأنا أتذكر ما قصته لي عمتي عن "جحا" وحماره وولده... كان جدي قاسياً... - وتقاسمه جدتك نفس الطباع لأنها عندما ماتت أمك رحمها الله جمعت كل مسوغاتها وأشيائها الهامة وأخفتها عند إبنتها الكبرى ثم قامت بتوزيعها على بناتها الاخريات... هذا ما كانت تقوله لي عمتي دائماً..
|