Dammaj.Net - Under Development






 

Back to main page
Back to Novel Page

                    

المدرسة الأحمدية

الفصل الثالث

جلست مع زميلي في أزقة المدينة... كنتُ أغني وأصّفر بشفتي وبقلبي، بقلب الولد المدهوش المبهور... أغنى وأصّفر بشفتي حتى كدت أن أفقد صوتي... وعدنا مع دخول الليل، أهزّ يدي أتضرع للمدينة باستسلام وخنوع حتى تدمع عيناى، لعلها تفتح أبوابها الموصودة لكنها أبداً لا تفتح أبوابها التي ظلت موصدة وسورها صلد أصم...

 تحسست كل جدران مبانيها وسورها العظيم وتعرفت على كل بصمات الذين سبقوني، والذين تحسست ملامحهم الصخرية على جدران المنازل والأسوار العالية... أصابني الذعر إذ كانوا ينظرون إليّ وينادونني بأن ألحق بهم، لكنني فكرت أي مصير سيحيق بي إن أنا فعلت ذلك... قلت هذا لنفسي لكن ربما كان بصوت مسموع فقال صاحبي:

-       حِكمك هذه شعر..!!

-       ما هو الشعر؟

سخر مني كعادته وقال شارحاً:

-       الشعر يا إبني...

ولم يكمل بل ضحك بصوت عال...

-       ألا ترى أنني أكبر منك؟

-       نسبياً..!!

-       ... ماذا تقصد‍‍‍؟‍ 

كان ما يزال يضحك.. حاولت أن أضربه على رأسه لكنه هرب مسرعاً...

 

* * *

قصير القامة مثلي، لكنه كان ممتلئ الجسم أكثر مني... هذا هو زميلي في الغرفة الطويلة المعتمة ذات العقود الحجرية كأنها قبو... كانت الرطوبة ذات العفونة الخانقة تملئ المكان... ساقتني الأقدار، وربما ساقته أيضاً، لنفترش ركناً بين عقدين في الغرفة الطويلة العفنة... تفصل بيننا في مرقدنا شنطتان (حقيبتان) من الحديد الصدئ هي كل ما كنا نملكه... نحفظ فيها بعض أسبالٍ من الثياب المقرفة. وكان زميلي هذا قد حرص أن تكون بيننا مساحة كبيرة، فأنا قادم جديد، وكان الذي يحتل مكاني من قبل وصولي زميلٌ مقيدة أرجله بقيد حديدي كوسيلة للتحكم به لما أصابه من خلل في عقله لنقص التغذية ولسلوكه الشاذ والمشاكس..!!

لا ألوم زميلي هذا الذي أود أن أكتشفه، ويود هو أيضا أن يكتشفني... لا ألومه في تحرزه مني كقادم جديد فهو أيضا كان قادماً جديداً لكنه سبقني بأيام قلائل إلى هذه الغرفة في المدرسة الأحمدية ببنائها العثماني منذ الاحتلال التركي. هذه الغرفة هي الوحيدة التي قام ببنائها مدير المدرسة الفلسطيني (صوان) فوق متخذات المدرسة المكشوفة العفنة بروائحها المزرية... كان صوان يتفاخر ببناء هذه الغرفة وكأنة قد حقق للإمام منجزاً عظيما يتباهى به أمام الدول العصرية..!!

الظلام مطبق على جو الغرفة إلا من بصيص ومضات النجوم الساهرة مثلي في كبد السماء، يتسلل ضوئها من خلال نوافذ هذا المكان الطويل الذي أنجزه المدير في عهده الذي قارب السبع السنوات، والذي سُمي بـ"المكان الطويل".. وكانت هنالك في المدرسة أماكن أخرى أكثر رحابة، وهي التي بنيت منذ عهد الاحتلال التركي، أطلقت عليها أسماء لمناطق أو أشخاص، فكان هناك مكان (طلبة إريان) ومكان (طلبة إب) ومكان طلبة (عنتر والباروث) ومكان طلبة (الأيتام) ومكان (الابتدائي) و(المتوسط)... الخ

* * *

لم يداعبني النوم... كنت ساهراً، ليس من شغب زملاء المكان الطويل وأعمالهم وحركاتهم المزعجة والمشبوهة، ولكن لأن جدي المحترم قذف بى إلى هذه الغرفة الطويلة العفنة تماماً كما قذف بي من قبل على ظهر ذلك الجمل العجوز المثخن بجروحه العفنة..! لا ألوم جدي فقد عانى كثيراً كي يتخلص مني ويضعني في هذا الارشيف المعتم... ولا اخفي أن الشك قد بادرني بأنه قد تخلص مني ربما لكي يفرغ لأموره ونزواته الخاصة جداً في المدينة..!!

قلت بضجر موحياً لزميلي عسى أن يسمعني ويشاركني أرقي:

-       آيه.. ليلة..!؟

همهم ثم تنحنح وقد قلب جسمه نحو مرقدي..

-       أليس لهذا الليل من آخر..!؟

تنهدت بإلحاح وبصوت أعلى... وسرعان ما سمعت حركشة نهض بعدها ذلك الزميل ليجلس كبوذي هندي قائلاً بسخرية غير مؤلمة..

-       فيلسوف صاحبي.. هذا الجديد..!!

جلست متقرفصاً مثله.. كان قد اشعل سيجارته (المتوكلية) ذات الرائحة المزعجة ومد لي بأحدها... أخذتها بثقة ظاهرة على الرغم من أنني لم أدخن في حياتي من قبل، لكنني أخذتها من سبيل المجاملة ولكي أضمن رفيقاً في السهر..

* * *

قصت عليَ عمتي عن والدتي عن والدي عن.. عن.. بأن (جعفر البرمكي) كان إذا خلى إلى نفسه في داره مع أصدقائه قُدم له الشراب ولباس السهرة الحريري ودخلت عليه الجواري الحسان يعزفن أعذب الألحان ويقدمن ما طاب من الأكل والشراب... وصادف أن دقَ الباب رجلٌ مهاب يرتعد لذكر اسمه كل الخلان والأصحاب، وكان هذا الرجل هو عم الخليفة... وكان مشهوراً بالتقوى والزهد عن مباهج الحياة... والتبس اسمه على الحاجب لأن سيده (البرمكي) أوصاه بفتح الباب لرجل له اسم مشابه لأسم هذا المهاب...

دخل المهاب عم الخليفة المجاب فوجد جعفر وندمائه في حال انسجام وانبساط، وقد ارتعشت أجسامهم وجلاً وخوفاً من قدومه المفاجئ الذي أخذ الألباب.. لكن الرجل المهاب، عم الخليفة المجاب، خلع ردائه ولبس رداء اللعب والمجون المراد... وجلس بجانبهم وشرب من شرابهم وأكل من طعامهم وتمتع بالغناء والطرب واللهو مع الجواري الحسان... ثم قام واقفاً والجميع حائرين، وهمس في أذن (البرمكي) يطلب منه الإيعاز للخليفة المجاب بمطالب العم المهاب... و في اليوم التالي نفّذ (البرمكي) مطالب عم الخليفة، وقد سر الخليفة لهذه الحكاية الطريفة وضحك حتى استلقى على الأريكة...

* * *

 

-       من أنت...؟

قلت له من أكون باختصار، وسألته:

-       ومن أنت…؟

تمدد ولم يبالي في سرد قصة حياته حتى مطلع الفجر…!!

* * *

هو يتيم مثلي ولكن من الأم، أما أنا فيتيم من الأم والأب معاً... يعانى مثلي من أشياء جوهرية لا بد من تأثيرها في تكوين الطفل، لكنه كان أكثر معاناة مني لوجود خالته زوجته أبيه... ابنة الشيخ القاسي الذي يحكم مئات من القرى في ذلك الجبل (المهيب) الدنيا المطل على المدينة والذي يحتضنها بأطرافه الشاسعة.

عرفت أن والده كان صديقاً لوالدي على دروب الحرية في السجون... لكن والده كان أكثر حذقاً من والدي في تقرير مصير حياته فغّير من مواقفه ولم يجازف بحياته وأصبح مع الإمام بعد ذلك وحتى الآن، وقد أصبح جداً لأحفاد كثر ينتشرون في بقاع الأرض كانتشار أحفاد حماه الشيخ القاسي الموغل في القدم.

* * *

لا أدري كيف تأبطت ذراعه وتأبط ذراعي وسرنا كصديقين قديمين سوياً نحو المطبخ العفن الخاص بالمدرسة لنأخذ نصيبنا من أقراص (الكدم) و(مغرف) صدئ يغطي حوافه (الذحل) تُصب فيه  قهوة باهتة مغلية من داخل أحدى براميل الزيت الفارغة، تجرعناها على مضض وأكلنا الكدم تحت إلحاح الجوع القاتل..!!

 

انتظمنا في صفوف متراصة في ساحة المدرسة الترابي ننتظر المدير لكي يوزعنا على الفصول الدراسية... كانت الشمس حارة وتراب الساحة دافئاً. كان زميلي واقفاً بجواري (بكوفيتة) المزركشة التي أمال نصفها على جبهته... كم حسدته عليها وأنا اتفقد كوفيتى القماشية المتسخة... لكننى وضعتها على جبهتي كما يفعل هو. نظر إليّ وضحك فأعدت وضعها كما كانت، لكنه ضحك مرة أخرى ولم أنظر إليه هذه المرة.

 

اندهشت لدخول المدير من بوابة المدرسة الخشبي الكبير وهو على صهوة جواده وأمامه عسكري حافي القدمين مثلنا بلباس القبائل وبندقية على كتفه وحزامه ممتلئ بالرصاص ظهرت من تحته (جنبية) عريضة و(طيار) ملتف على صدره وظهره مملوء بالذخيرة أيضاً.

وترجل المدير من على صهوة الحصان بلباسه الغريب الفروسي النازي الألماني وطربوشه الشامي الرمادي الصوفي وبيده كرباج كان يمرجحه وهو يمر على الصفوف عاقدا حاجبيه الثخينة يلتفت بسرعة على البعض ويتوقف عند البعض الأخر.

كنت واحداً ممن توقف أمامهم ولكز بمقبض سوطه كوفيتي فسقطت من على رأسي إلى الأرض... حاولت التقاطها لكنه نهرني:

-       ما هذه القاذورة... استبدلها..

ارتبكت... ونظر إلي زميلي بإشفاق

-       وهذا الجلباب المتسخ.. مزقه والبس غيره..

نظرت إلى زميلي الذي بدا عليه الغضب.. نظر المدير إلى قدماي الحافيتين وقال متأففا:

-       قلّم أظافر رجلك واغسلهما جيداً عند كل صلاة...  

كانت أصبع رجلي الطويلة مجروحة من كثر اصطدامها بالحجارة، وكنت عادة ما أبول عليها في كل مرة كعلاج متبع لهذه الجروح.

 

* * *

لم ننم تلك الليلة رغم ان المدرس المناوب قد أطفاء نور الغرفة المعتم.. كان كلاً منا يحكي بصوت خافت حكاية أمهاتنا وجداتنا التراثية الشعبية المرعبة عن (الصياد) و(ام الصبيان) و(جارية البيت) و(العضروط) و(الغول).. تملّكنا الخوف مما نحكيه لبعضنا البعض، وفجأة دوى صرير باب الغرفة قوياً فارتمى كلاً منا إلى حضن الآخر بين الحقيبتين الحديديتين اللاتي تفصلننا عن بعضنا البعض، وزاد من رعبنا عندما اضيء المكان وسمعنا صرير قيود حديدية وصوت المدير المرعب قائلاً:

-       ارقدا هنا حتى أراكما في الصباح.. 

اطفئ المدير ضؤ المكان مرة اخرى وركل باب الغرفة خلفه فارتعبنا بشدة.. وأنسانا الهلع كل شيء وهجعنا في مرقدنا كطيور ميتة، فلم نتساءل حتى عن هوية القادمين...  

* * *

رغم سهادنا قمنا مبكرين... فقد كانت فرصة لنلتقى في ساحة المدرسة بذوينا الذين يقومون يوم الجمعة بزيارتنا واعطائنا مصاريف ضئيلة لأسبوع كامل، مع أخذنا إلى داخل المدينة أو للصلاة في جامع (المظفر) الكبير... 

قبل خروجنا من المكان الكبير إلى الساحة ألقينا نظرة عابرة على الزملاء الجدد الذين أزعجونا بمقدمهم في الليل... هما اثنان وكلاً منهما مقيد بقيد حديدي على رجليه، وكانا يغطان في نوم عميق..!

اقتربنا من بوابة المدرسة، الحصن الحصين تشرأب أعناقنا نحو القادمين، وصحت فجأة:

-       هيه... جدي "الحسام"...  يا الهي كم هو مهيب..!

دخل من باب المدرسة بزيه الناصع البياض وعمته المزركشة و(جنبيته) المذهبة وبيده اليمنى عصاه الذي كان خشبها من الأبنوس والمطعمة بالفضة. وكما توقعت، كان يفرغ من جيوب (دجلته)[1] حبوب النعناع للطلبة الذين يلتقي بهم ويطلب منهم لعنه وسبه..!!  كانوا يبتسمون له ويضحكون منه... واتجهت إليه مسرعاً وأخذته إلى جوار صديقي محاولاً أن أشرح له بتذمر أن الطلبة هنا ليسو صبية القرية، فربّت على كتفي ضاحكا..!

نظرت إلى صديقي عسى أن يضحك أو يبتسم لهذه الحكاية، لكنه كان عابساً وقد انتفخ عرق أخضر على جبينه يكاد أن ينفجر...!

قدرّت ظروفه... فلم يقم والده بزيارته، وتألمت كثيراً لذلك لكنني فرحت عندما ربّت جدي بيده على ظهر صديقي وظل يلثمه بذقنه الكثيفة المسبوغة بالحناء مما جعل صديقي يبتسم ويضحك أيضا لدغدغات شعرها الكثيف الحاد... 

* * *

خرجنا من بوابة المدرسة المرتفعة على تل صغير، كنت سعيداً لتحول مزاج صديقي الذي وافق على الخروج معنا واستمتاعه بحديث جدي الذي كان يعرّفنا بأسماء الأماكن التي كنا نمر بها ويحكي لنا بعض النوادر والحكايات عنها... توقفنا عند بستان قريب ليس بالكبير ولكنه مخضر تتوسطه بئر حجري وبركة مقضضة بالنورة، ارتكزت فيها مضخة ماء ذات مراوح هوائية تدور مع اتجاه الريح. لاحظ جدي دهشتنا وأنشد فجأة بلحن شعبي:

"علوس" نزل البير غبان[2]

واليل الماء واليلان

ضحكنا مستفسرين فبادرنا قائلاً:

-       "علوس" المسكين... مات غرقاً!

-       "علوس"؟

-       غرق في هذا البئر... ولم ينقذه أحد..!!

-       هه...!!

-       كان علوس "مضَحِك" ولي العهد الأمير السيف أحمد، أصطحبه معه من "صنعاء" عندما عُين أميراً في تعز...

-       .....

-       لقد كان يدهش الجميع بنوادره وفكاهاته المضحكة... لكنه لم يكن مبتذلاً مثل بقية المهرجين، وهذا ما حببه إلى قلوب العامة الذين كان يلتقي بهم في غفوة من ولي العهد ليضحكهم بطيبة نفسه وهم يتحلقون حوله.

-       وكيف غرق في البئر؟

-       كان ولي العهد يخرج بين الحين والآخر مع حاشيته وبطانته من قصره "دار الناصر" بداخل المدينة، إلى البستان خارج السور وبئره العجيبة. وكان دائماً بصحبته "علوس" ليستمتعوا بفكاهاته اللاذعة المضحكة وخصوصاً إذا كانوا منسجمين بإنشراح بنشوة الخمرة البلدية..."أول قطفة"..

-       هه..!!

-       كان "علوس" في بعض الأحيان يحجم عن منادمة ولي العهد الأمير السيف أحمد وحاشيته وبطانته... منتشياً يتأمل الأشجار والزهور والخضرة في البستان. وفي يوم من أيام الانسجام والنشوة والمرح تلك اقتاد ولي العهد السيف أحمد وبعض حاشيته المضحك "علوس" إلى حافة البئر وأدلوه بحبل أمسك بطرفه وأنزلوه إلى قاع البئر وهم يضحكون بوحشية وهو يبادلهم الضحك... ينزلونه حتى تلامس قدماه الماء ثم يرفعونه وهم يضحكون لعدة مرات حتى انفجر الدم من أصابع يديه وأصيب بالإعياء الشديد فلم يكن باستطاعته الصعود مرة أخرى! كان يصيح مستغيثاً من الموت لكن دون جدوى... وانزلق الحبل من يديه الداميتين وهوى إلى قاع البئر ومات غرقاً بينما كانت ضحكات ولي العهد الأمير السيف أحمد وحاشيته المنتشين تطغى على صياح علوس!

 

لاحظ جدي أفواهنا المفتوحة وتأثرنا بالقصة فابتسم بافتخار وأمسك بأيدينا لنواصل الرحلة... كنا نحاول اللحاق بخطواته السريعة ونحن ملتفتين إلى الخلف ننظر إلى البئر برهبة وهو يختفي عن أنظارنا رويداً رويدا حتى اختفت آخر رؤوس أشجار البستان العملاقة التي بدت لنا كأشباح تضحك بوحشية كضحكات ولي العهد وحاشيته.

تجولنا ذلك اليوم في أرجاء المدينة وشاهدنا مع جدي أماكن كثيرة لكن صورة "علوس" التي تخيلتها لم تبارح تفكيري...

في طريق عودتنا إلى المدرسة لاحظ جدي أننا تشبثنا بمئزره بخوف ونحن نقترب من البستان ومن البئر، فضحك عالياً وأنشد مرة أخرى:

"علوس" نزل البير غبان

واليل الماء واليلان

 

 


 

[1] الدجلة: معطف طويل مصنوع من صوف الغنم

[2] غبان: عطشان