Dammaj.Net - Under Development






 

Back to main page
Back to Novel Page

                    

المدرسة الأحمدية

الفصل الثاني

سافرتُ مع جدي صباحاً.. كان راكباً حماره المشهور وأنا بعده.. وفي بعض الأحيان كنتُ أمشي أمامه من فرط شوقي للوصول إلى المدينة والمدرسة المنشودة.. نهبط "المرْحَل"([1]) المعبدة درجاته بالحجارة السوداء.. نستأنس برنين أجراس جمال القوافل من الوحشة والخوف.. وتريحنا أهازيج وأغاني تتلقف صداها الجبال:

                                   يا ليتني جمال بعد "سودي"([2])

                                            شاسايرك([3]) يا نادش([4]) الجعودي

                                   يا ليتني جمال والخِل تاجر..

                                            شانزل عدن يا خيرة البنادر

 

وفي بعض الأحيان يكمل آخر بصوت غنائي وبجلافة موجهة إلى جمل حاد قليلاً عن الطريق:

"الحيد" أنا ربيعك..([5]

                                               

وصلنا إلى نهاية المرحل في أسفل الجبل.. تلقفتنا "سمسرة"[6] كبيرة ضخمة لم أشاهد في حياتي هيكلاً مبني بالحجارة مثل هيكلها.. كأنها المسجد الأقصى المبارك، لكنها غبراء من وعث السفر والمسافرين.. لا قبة تعلوها وإنما "شماسية" لإدخال الضوء إلى بهوها الرحب المقسم إلى "دكاك" وأماكن مبيت للرجال والقوافل وكل "جمل بما حمل".. وأمامها على قارعة الطريق تنتصب شجرة "الطولق" العملاقة لتظلل بفروعها الخضراء طوال العام جموع المسافرين ودوابهم وبجوارها سبيل الماء الجميل بقبته الرائعة، "المقضضة" بالنورة البيضاء، وحوضه المخصص للناس، أما الدواب فكان لها حوض آخر. شربتُ من الماء العذب البارد حتى ارتويت وهمدت بجوار جدي على دكته داخل "السمسرة" وحماره الأعور الذي كثر نهيقه عندما دخلنا الأماكن المخصصة للدواب والجمال... وزاد هياجه وركضه ومحاولة طحن أسنانه على اللجام عندما شم رائحة بول الحمير والبغال الإناث.. لكن جدي كان يحكم تصرفاته هذه بوضع "النخلة"([7]) المملوءة بحبات الحسيك (الشعير) التي تكتم أنفاسه.. ومع ذلك لم تكن هذه الطريقة تهدئ من هياج الحمار الأعور إلا قليلاً.

 

* * *

أتذكر هذه الحادثة لحمار جدي الأعور وأنا رجل مسؤول أشرف على معرض لبلادي في قُطْر عربي مجاور عُرضت فيه أعمال أشهر الفنانين التشكيليين. كان من ضمن اللوحات لوحة لفنان يمني مشهور عن سوق شعبية أسبوعية تصور تفاصيل السوق من بشر وحيوانات.. كان من أبرز شخصيات اللوحة حمار ينهق وعضوه التناسلي يرتكز تحت بطنه.. أتذكر كيف قامت الدنيا ولم تقعد في ذلك القطر الشقيق.. وكيف أصر الفنان على لوحته.. وأصر المسؤولون في القطر المجاور على رأيهم.. وتم الاتفاق في الأخير على أن يحجب العضو التناسلي للحمار بأي شيء أسوة بأننا كنا السباقين في تغطية الأعضاء التناسلية لأهم تمثال يمني عالمي من البرونز بورقة توت.. (تمثال ذمار علي)([8]).

 ***

كنتُ في نوم عميق.. شعرتُ بجدي يرفعني فوق "أخراج" جمل عجوز. ارتعبت عندما هبَّ مستقيماً بعد أن وُضعت على ظهره.. لا أدري هل أركبني جدي الجمل شفقة بي أم أن الناس والمسافرين كانوا قد لاموه من أجلي.

كان الوادي أخضر والطريق سالكة والبرودة قد خفت وبدت الحرارة ترتفع رويداً رويدا والشمس ترسل أشعتها المحرقة التي لم أعهد مثيلها في قريتنا الجبلية.. هذا إذاً هو وادي "الحوبان" المشهور المؤدي إلى المدينة المشهورة أيضا والذي تحاك حوله الأساطير والحكايات المرعبة بوحوشه الكاسرة وأمراضه الخطيرة وأوبئته الفتاكة.. كان الجمل الذي طرحت على ظهره عجوزاً تؤذيه الحشرات الطائرة على أنفه الجريح الذي أدماها "الخطام"([9]) من كثر الاستعمال.. وجراحه الأمامية والخلفية في جسمه تفوح رائحتها العفنة المقيحة من اثر احتكاك "القتب"([10]) المستمر دائماً بسنامه الهادمة.

 

* * *

عَلَتْ أصوات الحمير النكرة والقافلة تشرف على مدخل قرية اشتهرت بأنها تستوعب القوافل كنقطة لمرحلة استراحة معروفة.. وتلقفتنا كلاب القرية شبه مرحبة بنباحها الذي كان رداً على نهيق الحمير في القافلة.. هذه هي "العماقي"... القرية المشهورة بمقاهيها المكتظة بالمسافرين.. كانت "العماقي" هي المرحلة ما قبل النهائية للوصول إلى المدينة.

تداخلت القوافل الصاعدة والهابطة من داخل "العماقي" واكتظت مقاهيها بالمسافرين ودوابهم وانتعشت الحياة في أرجائها ورغم ذلك التزاحم فقد شعرت بأنها قرية شبه مقبرة.. دامرة.. لا حياة في وجوه سكانها من البشر.. حتى نساؤها المشهورات اللواتي كنا نسمع عن جمالهن ومفاتنهن وجدتهن شبه هياكلٍَ عظمية مصبوغة أجسادهن ووجوههن بإعشاب "الهرد"([11]) الأصفر..

 * * *

كان جدي ولمعرفته الكاملة بمقاهي هذه القرية الدامرة قد حط بنا في مقهايته المفضلة عند المقهوية (عتيقة) الشهيرة بجمالها وحسن خدمتها وما توفره لزبائنها المسافرين من أشياء ممتعة وخدمات مغرية جداً كما كانوا يقولون..!

كان جدي رغم مظهره الوقور الشائخ يكاد ينفجر حيويةً ونشاطاً.. عرفتُ بعد ذلك أنه كان يُفتي لنفسه باجتهاد فقهي من الكتاب المقدس والسنة الشريفة ما يبرر بعض تصرفات الشيخ المتصابي..!!

 

* * *   

تذكرت الفتاة (حاكمة) الممتلئة حيويةً وجمالاً.. والتي كنتُ على يقين بأن الله قد خلقها لقدرته على الإبداع وصنع شيء جميل..! كم وددت أن تكون معي.. بجواري.. تحتضنني وتخفف عليَّ وطأة الحمَّى الخبيثة التي أصبت بها خلال انتقالنا من قمة الجبل إلى الوديان الموبوءة..! كم وددت أن تكون معي تخفف علي وطأة تصابي جدي، ووطأة الروائح المنبعثة من جروح الجمل العجوز العفنة ومن المقهاية المكتظة التي تتوسط القرية الدامرة الشبيهة بالمقبرة! مازالت الحمى تهز جسمي القابع في سفل مكانٍ معتم أعدته فاتنة جدي (عتيقة) بجوار الباب.

* * *

ليلتي هذه لن تنجلي. تداعت الذاكرة.. والدتي تلفظ أنفاسها الأخيرة.. حقل والدي المدّرج المشهور.. قرون الفول الخضراء ومذاقها المحبب.. الفتاة (حاكمة).. هزّني جدي بشدة كي أصلح من مرقدي بعد أن أزعجه شخيري وهذيان الحمَّى..

 * * *       

- كان أبوك وسيماً… مؤدباً…

-  ....

- عرفَ والدتكَ لأول مرة وهي تغسل الثياب في "سائلة"([12]) الوادي عند النبع.

-  هه..!

- كانت في ريعان شبابها.

- هه..!

- كان قادماً، عن عمد، على صهوة جواده من "المخلف"([13]) المار من بين المدرجات الزراعية.. قادماً نحو النبع في السائلة…

- هه..!

- همز حصانه بغرور يريد الوثوب به عليها.

- هه..!

- يريد تخويفها…!

- هه..!

- لكنها كانت أذكى منه فرمته بثوب أسود مبلول.

- هه..!

- فزع جواده ورماه أرضاً على صخرة السائلة..!

ضحكتُ لذلك وضحكت عمتي معي لكنها سرعان ما ضمتني إلى حضنها وأجهشت بالبكاء.. لكنني كنتُ ما أزل أضحك رغم ذلك.

 

* * *

لكنني بكيت بحرقة وتشنج وأنا هنا في مقهاية "العماقي" الدامرة.. انزعج له جدي ونهرني بشدة فهمدت كطيرٍ ميت…!

 

* * *

- كان والدك أذكى أخوته..

- ....

- وأكثرهم تفتحاً..

- ....

- هيه! كان رجلاً ولا كل الرجال.. عندما اغتيل والده من قِبَل الأتراك تكالبت....

ولم تكمل بل هزتني بعنف قائلة:

- أتعي ما أقوله..!؟

- نعم يا عمتي.

- أصلحك الله!

ثم أكملت:

- تكالبت عليه وعلى أخوته الناس من القرية ومن القرى المجاورة تحاول بقدر جهدها أن تنال منهم بشتى الطرق...

- ....

- وفي أحد الأيام وبينما كانت تلك الجموع المتكالبة تدلف نحو دارنا كان أبوك على "ضمد"([14]) الثيران يحرث الحقل المرتفع على الطريق.. ترك الثيران والأرض وهرع مسرعا إلى مدينة "جبلة"…

- ....

- اعتكف في خلوته في جامعها الكبير.. وتعلم فيها أصول الشريعة والفقه ونبغ فيهما.. 

- … هه!

- وعندما عاد استطاع أن يهزم تلك الجحافل بعد ذلك..

 

* * *

في فجر اليوم التالي شعرتُ بأنني قُذفت قذفاً على ظهر الجمل العجوز لنواصل الرحيل نحو المدينة.. ما أجمل الفجر وأشعته اللطيفة ونحن مقدمون على سهل واسع تحده الجبال البعيدة في الأفق من كل الجهات.! 

الحمى مازالت تنهشني رغم انتعاشي لجو الفجر الباكر.. كنتُ قد أُصبت بشبه إغماء وأنا راقد على ظهر ذلك الجمل العجوز المثخن بجراحه..

 

* * *

حين رحلتُ بكت عمتي واحتضنت ضلوعي وشدتني أليها.. وظلت أصابعها علي ظهري طوال سنين عدة.. وكنتُ كلما جعت في المدينة أو أحسست بالبرودة تحسست ظهري. حكت لي عمتي عن ذلك الصبي الذي كان يُسمع عنه في الحكايات.. ذلك الذي رحل وعصاه على كتفه إلى المدينة يضرب أزقتها ويرتاد أماكنها ويتحدث بقلب الطفل المدهوش إلى أهاليها.. ويغني بعد ذلك ويظل يغني لهذه المدينة زمنا طويلاً يتنقل من زقاق إلى آخر حتى بُحَّ صوته وفقد قدرته على الغناء.. ضاعت كلماته في فمه وأصبحت دموعاً في عينيه.. والذين شاهدوه قالوا إنه كان يبكي بلا صوت ويشير بيديه في أزقة المدينة. قالوا إنه كان حزيناً مشعث الشعر يمضي كدمعة تتدحرج فوق المآقي.. ضامراً.. يمضي يبتلع ريقه ويشير بيديه إلى سور المدينة العالي.. ثم قالوا إنه بعد ذلك اختفى..!

 

* * *

أيقظتني ارتعاشة الجمل وهو ينوخ ويدور حول نفسه.. كانت الشمس في وقت الأصيل.. وكنت لا أزال على ظهره المثخن بالجراح التي تفوح منها رائحة عفنة.. لكن الجمل كان قد همد إلى الأبد بعد أن نبضت رجلاه الخلفيتان بتوتر عدة نبضات.

 تلفتُّ بصعوبة حولي فلم أجد أثراً للقافلة..  لقد رحَلتْ.. لم أكن أعي أين أنا وما هي المخاطر المحدقة بي..!! عجزتُ عن البحث بنظري وعجزت عن الصياح فغمرتني الحمى بسلاحها ونمتُ في غيبوبتها القاتلة وقد تدحرجتُ بلا وعي إلى تحت رقبة الجمل وبين ذراعيه (المناخة) الهامدة.

 

* * * 

-يا إلهي..! مازال حياً..!

- والجمل..؟

- مات..!

- يا ألطاف الله..!

- معجزة..!

- فعلاً معجزة..

- وفي هذا الوادي.. و"الطاهش"([15]) الكاسر..!؟

 

استطعت أن أميز جدي مع قلة من مرافقيه الذين شاركوه في البحث عني وعن "الجمل وما حمل".  

- لقد دافع الجمل عن الصبي من بطش "الطاهش" ببسالة.

- ربما..!

- ألا ترى الزبد الذي قذفه الجمل من فمه محاطاً بدائرة مكانه..؟

- نعم.

- وما قولك في وضع الجمل للصبي بين ساعديه..؟

- ماذا تقصد..؟

- لقد حماه.. وتفرغ بعنقه الطويل للدفاع عن الصبي..

- لكن الجمل مات.. !!

- لأنه أجهد كثيراً.. وكان قد أصبح عجوزاً.. والجراح قد أنهكته وأخذت آخر رمق في حياته.

 

* * *

ظلَ جدي لأيامٍ ولأشهر، بل ولسنين عديدة، يقص حكاية الجمل العجوز الذي أنقذ حياة حفيده لكل الناس حتى مات.. وحوَّل من هذا الحدث أسطورة غنّت لها نساء القرى في منطقتنا.. وأصبح مكان موت الجمل في تلك الطريق نصباً يزار من المسافرين عبر السنين.

 

* * *

كنتُ دائماً ما أتوقف عندما صرت شاباً ورجلاً فيما بعد عند تلك البقعة التي مازالت حجارتها باقية كما وضعها جدي.. واقرأ الفاتحة.. غير آبه بتعجب أولادي الذين، وهم يعرفون القصة، كانوا قد ملّوا من تكرار زيارتي وتقديسي لذلك النصب التذكاري والتزامي بالوقوف أمامه بعد أن أعرج بهم بالسيارة من الطريق المعبدة إلى تلك الطريق القديمة.


 


([1]) المرحل: طريق معبدة بالحجارة بين القرى الجبلية. 

([2]) سودي: نوع من الجمال. 

([3]) شاسايرك: سوف أسير معك.

([4]) نادش: مرسلٌ شعره

([5])  الحيد: الهاوية. أنا ربيعك: المقصود أنا فداء ك.

([6])  السمسرة: الخان التقليدي

([7])  النخلة: وعاء يصنع من سعف النخيل يعلق بعنق الدابة ويوضع فيها أكلها.

([8]) ذمار علي: أحد ملوك الدولة اليمنية القديمة.

([9]) الخطام: الخزام، حبل يربط كحلقة يخزم بها أنف الجمل.

([10]) القتب: خشبة تفصل بين ظهر الجمل وسرجه.

([11]) الهرد: مطحون ذو لون أصفر تتزين به النساء في الأرياف.

([12]) السائلة: مجرى السيل

([13]) المخلف: شبه ممر مبلط بالحجارة بين حقول المزارع

([14]) ضمد: زوج من الثيران

([15]) الطاهش: الوحش البري والمقصود هنا (طاهش الحوبان) الشهير.