حكاية غير مرتبة |
انتقلت المحادثات بين الجانبيين إلى قاعة فخمة أخرى... ظلت عيناي تتجولان في أنحاء تلك القاعة الفخمة جداً مشدوهتين بالتحف النادرة والنجف المتلألئة والمتدلي بعضها من سقف القاعة. * * * امتدت أكف الوفدين المتقابلين على المائدة حيث انزويت بين زملائي المرافقين متطلعاً... . الورق ما زال أمامهم... بين أيديهم... والأقلام ما زالت هامدة فوق الورق والوجوه باشة والأفواه باسمة... والسعادة لابد أن تحل... يا إلهي أكيد ذلك! لملمت أناملي التي عصرها العرق... شعرت بالسعادة والزهو لأن رئيس وفد بلادي استطاع بأسلوبه اللبق إقناع الأشقاء... في هذه اللحظة سيتم التوقيع النهائي... سيكون اتفاقاً مثمراً يعود بالرخاء والإزدهار... كم من طرق ستشق وتعبد...! وكم من مدن ستضاء...! وكم من مدارس ومستشفيات ستقام...! وكم وكم...!! الوفدان يتكونان من أبرز الشخصيات... كلهم وزراء... حتى المرافقون يحملون درجة "وزير"... القاعة الفخمة التي نحن فيها ما زالت تشد انتباهي... ربما لأنني أخرج لأول مرة من البلد إلى الخارج... حيث تعودت على قاعاتنا المعتمة البسيطة المهملة التي تقول لزائريها "رجاءً اتركوني"...! تأهبتْ الأيدي بأناملها البيضاء الرقيقة لتناول الأقلام... لم يعد هنالك أي كلام بل ابتسامات عريضة بعضها ممل ومصطنع مرسومة على الوجوه... تأهب رئيس وفدهم لينظر إلى رئيس وفدنا القابع بجواره والذي علته السعادة... فرحاً مسروراً لهذا التكرم السامي...! وفجأة أمرَ رئيس وفدهم بالسماح بإدخال مصوري التليفزيون والصحافة ووكالة أنباء بلده فقط إلى القاعة. غمرت القاعة الأنوار المكثفة المزعجة والمربكة... وظل مصورو التليفزيون والصحف يختارون الزوايا المناسبة لتصوير رئيس وفدهم ويتابعون حركاته الصامتة، بينما ظل رئيس وفدنا يلملم ريقه ليمسح به شفتيه... وانصرف المصورون... وعمَ الهدوء القاعة... هدوءٌ تام... وفجأة دوى صوت فرقعة اهتزت له الآذان... وكبّرَه صدى القاعة الفخمة... إنها (ضرطة) فاحت رائحتها على المجاورين... ولاحظتُ أن رئيس وفدهم قد علته مسحة من الارتباك الممزوج بالخجل والغضب... وانفجرت، كقنبلة، ضحكةٌ قوية-استهولتها- من أحد زملائي مرافقي الوفد والذي لم يستطع كتمها لعدم توقعه حدوث ذلك، وكان قد حاول دون جدوى... ثم هرع بسرعة خارج القاعة وصوت ضحكاته المكتومة يرددها صدى القاعة... وقد تجاوب معه بعض الموجودين في القاعة رغماً عنهم... وسادت لحظة صمت مهيبة، حاولت خلالها كما حاول الآخرون أن نشغل أنفسنا بأي شيء... أي شيء! وانفضتْ الجلسة فجأة بعد أن غادرها رئيس وفدهم بخطوات سريعة يحف به الحشم والخدم والحراس... وأعضاء وفده... لم يبق في القاعة سوى رئيس وفدنا وأعضاء وفده والمرافقين، وقد أطفئت الأنوار... والأوراق ما زالت أمامهم بيضاء... * * * في اليوم التالي... تأزم الموقف... وانقطعت عن الصحف والإذاعة والتليفزيون أخبار ذلك الاجتماع الهام... وفي نهاية اليوم شوهد أعضاء وفدنا في المطار مستظلين من حرارة الشمس تحت جناحي طائرة قديمة استعداداً للمغادرة... * * * نُقل عن هيئة الإذاعة البريطانية ما أوردته من أخبار متفرقة لمراسليها بصدور اتهامات متبادلة بين البلدين الشقيقين... * * * تطورت الأخبار الصادرة من إذاعة (لندن) بأن تأزماً شديداً قد طرأ بين البلدين الشقيقين... حيث تم قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما... ولم تفسر إذاعة (لندن) أسباب ذلك...! * * * وفي خبر مهم من إذاعة (لندن) أنه تم إقفال الحدود بين البلدين الشقيقين... وعرضت الصحف الأجنبية (فقط)، كما تقول إذاعة (لندن)، صوراً لأعضاء البعثة الدبلوماسية في كلا البلدين وهما يغادران البلدين قبل انتهاء المدة المحددة... وقالت إذاعة (لندن) إنه يبدو من الصور بأن بعض أعضاء السفارتين قد تعرضوا لنوع من الاعتداء حيث ظهرت آثار جراح ودماء غزيرة تنزف...!! ولاحظ مراسل هيئة الإذاعة البريطانية أن أحد أعضاء بعثتنا قد مُزقت ثيابه وأن الدماء تنزف منه بغزارة من حاجبه الأيسر... وبأن زوجته وأطفاله شوهدوا في حالة نفسية سيئة. * * * وتطورت الأحداث... حيث أوردت إذاعة (لندن) أخباراً متضاربة عن حدوث اشتباكات على الحدود بين البلدين الشقيقين... وكلُ طرفٍ اتهم الآخر بالبدء بها... * * * ووصلت الحالة إلى درجة أن يقوم سكرتير الأمم المتحدة بإرسال مبعوثيه لتسليم رسائل عاجلة تنصح البلدين الشقيقين بضبط النفس وبإجراء مفاوضات سلمية بإشراف الأمم المتحدة... * * * وأذاع راديو (لندن) مؤخراً عن مراسليه في المنطقة بأنه قد تم فعلاً إغلاق جميع المطارات في البلدين الشقيقين... وعتمت الأنوار في جميع المدن والقرى... وأُضيف في خبر لاحق بأن أمريكا قد بدأت بترحيل رعاياها من المنطقة على طائراتها (العملاقة)... * * * قمتُ بإطفاء الراديو... وحاولت الخروج إلى الشارع لكي أبحث عن أحد... أبحث عن زميلي المرافق... الذي لم يستطيع كبت نفسه لكي لا يضحك...
الكويت: 15/2/1981.
|
|