ليلة

 

انتظره في مطعم الفندق... تأخر كثيراً...كم يكره السهر خارج غرفته! ومع ذلك تحلى بالصبر، عسى أن يأتي ذلك الصديق... قُدمتْ له الوجبة تدريجياً... كان منتشياً بدرجة معقولة... وبدأ زبائن المطعم يتركون موائدهم ليشاركوا في حلبة الرقص.

تأمل الوجوه العابرة من أمام مائدته الصغيرة... فتيات وفتيان معظمهم على قدر كبير من الجمال والأنوثة الصارخة، مما دفعه للاسترخاء برجليه تحت المائدة حيناً، والاتكاء بمرفقيه على طرفها حيناً آخر، والتركيز على حلبة الرقص التي تعج بأولئك الشباب الراقصين على نغمات الموسيقى الصاخبة.

تأخر صديقه... بدأ يقلق... لكن الرقص والموسيقى الصاخبة خففا من قلقه... حيث بدأت النشوة تسري في الجميع... والغمز والتودد يسود المحيط الراقص، وظهرت حركات الإغراء تدفعه للمشاركة في الرقص...

اندفعت نحوه فتاة منتشية، وانتزعته من مقعده... كان قد أمعن التركيز عليها بنظراته منذ البداية... أعجبته فعلاً... من بين ذلك الحشد الراقص... لديها من الملاحة المحببة التي تفتن الألباب... كانت تعرف أنه يركز بنظراته عليها، رغم أنه كان يتحاشى نظراتها، ويقوم بتحويل نظراته إلى جهة أخرى عندما يشعر بأنها تنظر إليه بابتسامتها الساحرة...

بدأ يرقص معها... جسمه يكاد يلتصق بجسمها... ونهداها يكادان يحرقان صدره... يفضل في هذا الموقف أن يكون في غرفته المهيأة بكل وسائل المرح والهدوء... لم يكن يميل إلى هذا الصخب، ويحبذ دائماً الصديقات الهادئات مثله... يقرأ معهن عن أشياء مدهشة، وتدور بينهم أحاديث متنوعة، عن المعرفة عموماً، وبالذات عن بلد كلٍّ منهم.

عرفتْ بأنه نزيل في الفندق، وبأنه بوقار وحياء يريدها معه... تركتْ هي، كما توهم، صاحبها الذي تصوره هو أنه عفن... حمار وبغل... وتأبطت ذراعه...

* * *

كانت غرفته شبه جناح، معدة بشكل جيد، وتتوفر لها كل المستلزمات المريحة... "صالون" وثلاجة ومائدة صغيرة لشخصين... وحمام وغرفة نوم شبه مستقلة بسرير واحد. كان حريصاً على مظهر غرفته أكثر من حرص عاملات الفندق... ويعدُّ ذلك من محاسنه... لم تنبهر هي بهذا الترتيب الجيد كما كان يتوقع، ورمتْ حقيبتها اليدوية على كرسي مجاور... فتحت التليفزيون فلم يعجبها البرنامج المذاع... فتحتْ المسجل الذي صدح بموسيقى كلاسيكية يحبها هو، لكن لم تُعجَبْ هي بها..!

نظرتْ إليه بابتسامة لم يستطع فهمها بالضبط.. وبحثت في الأشرطة فلم تجد ما تصغي إليه من الموسيقى الحديثة الصاخبة الراقصة.

غـيَّر ملابسه، واعتنى أن يكون ملبس نومه ناعماً حريرياً ومغرياً... وأطمأن إلى مظهره وشكله في مرآة الحمام، وأعاد تسريح شعر رأسه، ومصمص شفتيه لتبدوا ناعمتين حمراوي اللون... وقلَّب "بوزه" ورسم ابتساماته كبروفة أمام المرآة...

دخل عليها، وقدم كل لوازم السهرة... ابتسمتْ... وبدأ هو في الحديث... أدخلها في حكايات أسطورية خيالية، وبطولات خجل بعد ذلك أنه حكاها لها... وأدخلته هي بتساؤلات عن البلدان وطبائع الشر واختلاف الأمم والأجناس والملل.. وقال في نفسه "والليل والقمر"..‍!

اختصر الحديث... كان يريدها أن توجز فلا وقت لديهما. كان ينظر إلى جسمها المكتنز، والرخو نوعاً ما عند صدرها... يلتهم كل حركة لشفتيها... اندمجت معه في حديث عن اختلاف البلدان والناس... ودخلت في حديثها إلى عالم العادات والتقاليد والأزياء والغذاء... ومع ذلك ما زالت تصغي إلى موسيقى راقصة من النوع الصاخب.

فتحتْ المسجل من جديد تبحث عن أقرب موسيقى لذوقها... خُيّل إليه بأنها معجبة بشكله الغريب، وبأسلوب حديثه وإجادته للغتها، وللحكايات الطريفة التي حكاها لها والتي تخيَّل أنها انبهرت لها.

خُيّل له ذلك.. كما خُيّل له أيضاً بأنها معجبة بشعر رأسه المجعَّد، وبرموش عينية السوداوين البارزتين... وربما بشاربه الكث المهيب..!

* * *

نظرتْ إلى ساعتها وأدرك أن الوقت قد صار متأخراً، فالمواصلات تكاد تكون في هذا الوقت شبه مقطوعة... وهذا ما كان يتحسب له برغبة شديدة... وصديقها ذلك البغل يتخيله قد رحل الآن، أو أن تكون الفودكا قد أنهكته فانبطح تحت إحدى الموائد أو في إحدى محطات المترو حيث يعلو شخيره المزعج...!

نهضتْ فجأة، فارتعد وقد شعر بأنها ستغادره وهو بهذه الحالة التي لا تطاق من الصبر لالتهامها.

نهض وهو يحاول أن يلملم أفكاره... كيف يطلب منها البقاء..!؟ كان مستعداً أن يقوم بأي شيء حتى لو بلغ به الأمر التوسل إليها وتقبيل يديها وركبتيها وقدميها... بل وصل استعداده النفسي لتقبيل حذائها ذي الكعب العالي..!!

اتجهتْ نحو غرفة النوم... ما زال هو واقفاً... سمع فتح دولاب الملابس... لم يخف لأنه لا يملك أشياء ثمينة في جيوب ملابسه.. وجواز سفره وما بقي من نقوده محفوظة في حقيبته اليدوية... تذكر بأن خاتم الزواج وصورة صغيرة لأولاده كانت على الطاولة الصغيرة التي بجوار السرير وبعض أشياء لا قيمة لها... جلس وارتشف كأساً... وأشعل سيجارة... لم يحاول كبح نظره نحو باب الغرفة... اطفأ السيجارة وارتشف كأساً أخرى ثم أشعل سيجارة أخرى..

حقيبتها ما زالت على الكرسي كما هي... اطمأن لذلك، وازداد لديه الأمل بليلة ولا كل الليالي..!

لم تكن مبتذلة في ملبسها أو في رقصها أو في ابتسامتها ونظراتها نحوه في المطعم الراقص، أو في تصرفاتها معه بعد ذلك... حتى في غرفته، رغم الموسيقى الكلاسيكية والجو الرومانسي القديم الذي يحبه هو، حاولتْ هي جاهدة أن لا يبدو عليها عدم الارتياح... تأكد أنها تريده... وخصوصاً أنها تركت صاحبها البغل وتأبطت ذراعه متجهة معه نحو المصعد، والابتسامة تضيء محياها الجميل، ونوع محبب من الدلال والغنج داعبته به في الممر، وداخل المصعد وأمام باب الغرفة.

تذكر ذلك بلمح النصر... ورشف كأساً ثالثة، وأشعل سيجارة رابعة..

حقيبتها ما زالت على الكرسي المجاور له... اختلس النظر إليها فأطمأن... ثم غادره الاطمئنان... نظره على باب غرفة النوم... يتوقع متى تظهر وتعلن عن رحيلها... وكيف سيقدم كل أنواع التنازلات المقيتة لكي تبقى...

ظل نظره على باب الغرفة... اختلس منه لحظة نحو حقيبتها على المقعد المجاور له... كأس أخرى وسيجارة أخرى..‍‍!

خرجتْ من باب الغرفة، ونهض هو وجِلاً، ولم يكمل رشف كأسه... كانت قد ارتدت شيئاً من ملابس نومه فاسترجع أنفاسه بارتياح طفولي، وارتمى على الكرسي... بينما جلستْ هي بجواره على المعقد الآخر... ورشفتْ كأساً وأشعلت سيجارة... وفتحتْ جهاز التليفزيون، وجعلت صوته خافتاً...

ذهب إلى الحمام ليطمئن في المرآة على مظهره وكيف أصبح..! وجده لائقاً بعد أن أصلح ما يجب إصلاحه... وجنتاه محمرتان، وعيناه مدعوجتان، وشفتاه مغريتان... كل شيء على ما يرام... مشَّط شعر رأسه المجعد الأسود فزاد إعجابه بنفسه... وألقى نظرة أخيرة ثم خرج من الحمام متجهاً إليها وقد فتح أزرار لباس نومه الحريري الناعم ليظهر مفاتن صدره الذي دعكه بيديه لتشوب جلده حمرة مغرية محببة... لا يطيق الروائح العطرية لكنه، وبتقزز للضرورة، ضخَّ بعضاً منها على رقبته وإبطيه...

أخذ على طريقه من الثلاجة بعض مسليات "مزة"، ووضعها أمامها... وجلس واضعاً رجلاً على رجل، يختلس بعض نظرات متأنية نحوها.

كانت جالسة بشكل عفوي، لكنه اعتقد بأنها تتعمد ذلك، فملامح الأنوثة بارزة من جسمها تكاد تخترق قميص النوم الناعم الذي لبسته... كان صدرها شبه عارٍ إلى أخدود النهدين.

نظرتْ إليه متسائلة، وبيدها صورة صغيرة تنظر إليها بإمعان:

-     متزوج أنت؟

-      نعم...

-       ألديك أطفال...؟

عرف بأنها أخذت الصورة من على طاولة السرير...

-       نعم.

-      كم هم؟

-       ........

أعادت النظر إلى الصورة وسألتْ:

-     هؤلاء أطفالك؟

-      بعضٌ منهم...

-       نصفهم؟

-       تقريباً...

-      لكنهم الأربعة يشبهونك تماماً...

قال منفعلاً بغضب:

-      أتحقيق بوليسي تجرينه معي؟

-      معاذ الله..!

نهضتْ وقد عرتها دهشة غير مصدقة:

-        ثمانية؟

-       فليكن...!

-      هل أنت جاد فعلاً أم تمزح..؟

-      أنتِ أردتِ هذه النتيجة...

-      لكنك صغيرٌ جداً..!؟

-      يخيل إليك ذلك..!

ابتسمتْ، فجلس وارتشف كأساً، وأشعل سيجارة، وقرع معها نخباً في صحتها فقالت:

-    في صحة الكتيبة..!

وضحكت حتى تدفق شعر رأسها خلف المقعد كموج عارم... حاول جاهداً أن يغير الموضوع الذي بدأ يعكر صفو ليلته إلى حديث آخر، لكنها لم تتح له الفرصة...

قالت متسائلة والابتسامة تعلو محياها بحنان:

-   كم صبيان، وكم بنات؟

لم يعد السؤال والحديث عن هذا الموضوع يريحه، لكنها توددت إليه باستعطاف مغرٍ...

-   ثلاثة صبيان... وخمس بنات... هل استرحتِ؟

رشفتْ كأساً أخرى، وأشعلت سيجارة أخرى، وقدمت له كأساً مماثلة، وأشعلت له سيجارة مماثلة أخرى...

-     وأمهم..!!

-    ...

-    كم عمرها..؟

-    أصغر مني...

-    يعني في مثل عمري!؟

-       تقريباً...

-      يا إلهي..؟!

تعكر مزاجه أكثر... نهض وفتح المسجل... كانت قد استوت على المقعد بصورة مدهشة... أطفأ الأضواء الساطعة وترك سراجاً خافتاً، ولم تعترض هي، بل كانت مسترخية بصورة مدهشة...

شعر بأنها تحاول استعراض بعض مفاتنها الأنثوية فاشتد هياجه... دخل إلى غرفة النوم وأصلح السرير والوسائد، وأسرج النور الأحمر الخافت لأنه لم يجرؤ على الهجوم عليها في الصالون...

سألته بعد أن عاد وهي ما زالت مستلقية:

-    عجيب أنكم تجيدون لغات الآخرين بإتقان...!

لم يكن يتوقع هذا السؤال... فلم يجبها...

-      غيركم لا يتقنونها مثلكم...!

قال لنفسه بضجر.. "يتقنون اللغة أو لا يتقنونها من يهتم! ملعونة هذه اللغات، لماذا وجدت؟"... كان يتمنى لو كانت اللغة مجرد إشارات حب فقط... لكنه شعر بأن عليه أن يجيبها فقال:

-     ربما لغتنا لديها من الحروف والإيقاعات الصوتية ما يستوعب حروف اللغات الأخرى مجتمعه... هي غنية بالمفردات الصوتية...

-       مثلاً..؟

-        تحقيق آخر..؟!

-      رجاءً..

ملَّ أن يقوم بشرح حرف الخاء والطاء، الظاء والحاء والعين والقاف...!

شعرتْ بملله من الحديث، قبلته ونهضت إلى الغرفة... شعر هو بالسعادة والنشوة إثر ذلك الحدث، وتبعها...

كانت قد استلقت على السرير فاحتلته كاملاً... أرجع باب الغرفة وحاول الاستلقاء بجوارها، فنهضت وهي تبتسم...

جلس على حافة السرير وهو يحاول خلع ملابس النوم، فتساءلت:

-       ماذا تصنع..!

-       أنام...

-        هنا..؟!

-      طبعاً هنا.. وليس في الشارع..!

زادت مساحة ابتسامتها:

-      وماذا تريد أيضاً..؟

-     كمخلوقات الله..

-      .هكذا ببساطة..؟!

-      أنا على استعداد...

وقاطعته ولم تدعه يكمل والابتسامة قد بدأت تتحول إلى ضحكة محببة:

-    بيع وشراء...! أهذه لغتكم الجميلة..؟!

لم يجبها فقد كان ثملاً، واستلقى على حافة السرير محاولاً أن ينكمش معها تحت الفراش...

-    أنت مغرٍ وجميل وجذاب...

نهض فرحاً... فقاطعته والابتسامة ما زالت تعلوها:

-    لكنها لا تؤخذ بهذه البساطة..!

لم يجبها... نهضت قائلة:

-   بإمكاني أن أرحل إلى الشارع...

-    هذا مستحيل..!

-     لا مستحيل في هذا العصر..!

-      ما الذي ضايقك مني...؟

-       تصرفك هذا...

-     هل هو تصرف أرعن؟

ابتسمت للتعبير وقالت ضاحكة:

-    نعم يا عزيزي...

-    لكن هذا شيء طبيعي...!

-    تقدميون أنتم...! إلى هذه الدرجة يا عزيزي!؟

-      نتعلم منكم يا عزيزتي...!

وسادت فترة صمت... قالتْ والابتسامة ما زالت على محياها:

-    بإمكانك أن تنام بجواري...

فرح في سريرة نفسه، لكنها أضافت:

-     بأدب واحتشام..!

لم يجبها...

تغطَّت بالرداء وهجعت في سبات عميق...

حاول أن ينام وهي بجواره بجسمها المغري... سهر وزاد سهاده، وأدرك أنه تصرف معها بأسلوب شرقي عفن أساء إليها بقدر ما أساء إلى نفسه وإلى بلده وإلى لغته الجميلة... كانت النشوة الثملة قد طارت وفارقته...

نهض، ورنا إليها، ثم اقترب من وجهها... وبهدوء أجهد نفسه أن يكون متزناً... قبلها على جبينها بحنان، فانقلبت إلى مرقدها على الجانب الآخر...

غادر غرفة النوم بعد أن أقفل بابها بهدوء شديد، واستلقى على الأريكة يحاول إغراء النوم دون جدوى... ظل يتقلب من جانب إلى جانب على الأريكة حتى مطلع الفجر...

* * *

شعر بقبله حانية على خده... قام وجلاً على إثرها.. .كانت هي قد جلست على طرف الأريكة بعد أن أكملت زينتها، واضعة أيضاً حقيبتها اليدوية على كتفها وقالت:

-    إلى لقاء آخر...

انتفض مذعوراً متسائلاً:

-    إلى أين؟

-     إلى هذه الدنيا...

شعر بالاكتئاب وخيبة الأمل...

قبلته مرة أخرى وبحرارة أشد، ونهضت وأقفلت الباب خلفها والابتسامة ما تزال تضيء محياها.

 

 

 

 

صنعاء، 5 يناير 1988م

  



Back to Home Page