عُقْدَة 


ربما كنتُ
محظوظاً عندما أرى فتيات المدينة يرمقنني بنظرات الرغبة... ولهذا فقد كان من عادتي النظر إلى المرآة كل صباح بتأن قبل خروجي... كنتُ أرى وجهي الوسيم بعض الشيء، ولونه المائل إلى السمرة العربية الموحية بصحاري العرب الشاسعة، وشعر رأس لا يشبه في قريب أو بعيد شعر "جون كندي" أو "تشومبي"...

أقول الواقع... فقد كنتُ ملفتاً للفتيات... وربما زاد وسامة وجهي شاربٌ يبدو كخيط الغسق، وذقن بدأت في النمو بأركان مبعثرة...

من هذا كله فعمري لم يتجاوز الثامنة عشرة ... وما أن حلّت أو هبطت علينا، معشر الطلبة، الإجازة حتى سارعتُ كغيري للسفر إلى "القاهرة"، عاصمة النور والأفلام والملاهي، والطعمية والفول "الدمياطي"، ومشاهدة أفلام الكاوبوي وهند رستم... الخ...

وصلت "القاهرة"، واختلطتُ بالشباب والكهول من زبائن الشارع الدائمين... أحسستُ بأني لست ذلك الشاب، شاب المدينة الريفية، الوسيم المطارد من الفتيات...

كنتُ إذا سرت في أحد شوارع "القاهرة"، وبالأخص تلك النظيفة المطرزة بالملاهي ودور العرض، راعني طول قامة الشباب ووسامتهم وهم يمرون من حولي... وعندما أمّرُ من أمام واجهات محلات البيع لا يفوتني رؤية نفسي على زجاجها أمام هؤلاء العمالقة فأكاد أجن من الغيض، ويدفعني ذلك إلى دفع عشرة قروش قيمة تذكرة دخول أحد دور العرض الكبرى... وربما صدفة أجلس بجوار فتيات وفتيان كلهم يتبادلون نظرات الغزل فأجلس لأستعيد خيالي عندما قطعت التذكرة من أمام تلك الفتاة الحسناء، وعندما دفعت لها ثمن التذكرة إذا بها تبتسم لي بدلال فأكاد أستعيد ثقتي بوسامتي... ولكن ما أن ابتعدت حتى صدمتني ضحكتها اللاذعة وهي تداعب الواقف خلفي... وكان من العمالقة...

مرة جلستُ خلف فتاة كانت في كل دقيقة تلتفت إليّ وتبتسم... جذابة... شعرٌ ذهبي يتهادى على أطراف وجنتيها... شفتان تكادان تنشعان بالدم... لكني كما ذكرت قد فقدت آخر أمل في الثقة بوسامتي فلم أبتسم لها... ولكن ربما... وأحاول أن أبدأ بابتسامة إعجاب لكنها تذوب بعد ذكرى بائعة التذاكر... و... وصممتُ على مبادلتها الابتسامة وما أكاد أفتح فمي عن ابتسامة تكلفت لها كثيراً حتى اكتشفت أنها تبتسم لشاب خلفي وقد جعلتْ من أذني "نيشاناً" عليه كما في بندقية الصيد... وكان الشاب عملاقاً...

وهكذا أُجرح في كبريائي ... مهموماً أكاد أرمي بكل شيء أمسكه بيدي... و... وأذهب إلى مطعمٍ بعد أن أكاد أموت جوعاً... ولا أدخل المطعم حتى تنساق عيناي إلى المرايا المعلقة في حيطانه، حتى عندما أغسل يدي لا أستطيع كبح رغبة عيني عن النظر إلى المرآة فأجد من حولي من العمالقة فأكاد أشرعُ في مبارزة تلك الوجوه التي خلفي.

مللتُ البقاء كثيراً في عاصمة العُقد هذه، فصممتُ على العودة إلى مدينتي التي تكفلني فيها بالراحة وإعادة الثقة بالنفس بعد تكبد العقد النفسية "الوسيمية"...

كان الحرُ شديداً عندما وصلت إلى ميدان "الأوبرا" فاضطررت للانزواء في أحد أركان قهوة عتيقة من النوع الذي تجذب بعض السائحين الأجانب لقرب فندقهم المفضل منها...

وما أن استقر بي المقام على أحد كراسيها الخيزرانية على طاولة رخامية حتى لعنتُ القهوة وصاحبها لأنه قد ملأ حيطانها بالمرايا، فأمسكتُ بجريدة الصباح وبدأت أقرأ خبراً أنساني كل العقد والحساسيات... كان الخبر عن إصدار "ناصر"، الزعيم القائد، قرارات اشتراكية ثورية جديدة...

حضرَ النادل فطلبتُ عصيراً بالثلج.. وانهمكتُ في قراءة تلك القرارات وقد تخيلت وقعها على جموع البقايا من مُترَفي الأرض... أفزعني خبطٌ عنيف وصوت يصيح قائلاً:

-      تمسح يا "بيه"؟

-      لا...

-      جزمتك وسخة يا "بيه"!

-      لا يهم...

وتابعته بنظري حتى مرَّ على جموع من البهوات والبشوات... رجعتُ إلى قراءتي وإذا ببائع متجول يصيح بصوت قد بح:

-      زراير.. امشاط.. بقرش صاغ.. عاوز زراير يا "بيه"؟

-      لا يا سيدي...

-      أصل قميصك فيه زرار مقطوع يا "بيه"؟

-      لا يهم...

-      وشعر رأسك!

-      ما به؟

-      مبهذل...!

-      لا يهم...

-      لماذا؟

-      موضة العصر... ألم تسمع عن "جيمس دين"!؟

وخرجت من فمه، الناقص قليلاً من الأسنان، ضحكاتُ استخفاف واستهجان، فقلت:

-      ما يضحكك؟

-      لا شيء يا "بيه"...

وشيعته وأنا لا أدري ما الذي دفعني لقول هذا الكلام... هززت رأسي لأتأكد من صدق وصفى لشعري... لكن الشعيرات لم تحرك ساكناً.

وعدتُ للقراءة، فمرق من أمامي كالبرق رجلٌ بجلباب بالي وقد رمى بورقة وكتيبات أمامي كالريح، وما هي إلا ثوان حتى ملأ بها القهوة كلها.. أخذتُ الورقة وقرأتها وكانت إعلان عن أحد الروايات الرخيصة الأسلوب الغالية الثمن، وزاد نفوري ذلك العنوان المايع "حبٌ وهوى"... ورميتها جانباً فإذا به قد عاد محاولاً ترغيبي لشرائها بطريقة إرغامية فعمدت إلى الصمت حتى بدأ في استرضاء ذوقي وشعوري قائلاً:

-      ثقف نفسك يا "بيه"..!

فقلت وقد عجبت لهذا النوع من الثقافة :

-      وهل هذه ثقافة؟

-      نعم يا "بيه"... حب وجنس... ومن الذي بالك منه.

ابتسمتُ باشمئزاز، وهززت رأسي إعلاناً بعدم الشراء رغم إصراره العنيف فأنصرف بعد أن كدت أشتريها لأريح نفسي منه.

عدتُ إلى متابعة تلك القرارات الاشتراكية وقد بدأ ذهني يشرد إلى مجالات أخرى من الحس الثوري لمعنى الخنوع الراسخ عند العامة بترديد آيات المذلة "كالبيه" و"الباشا" وألفاظ أخرى تدل على مدى مخلفات عصور مظلمة... ومازالت تتردد بعد كل المحاولات التي تلت الثورة.

واستفقت على مناداة أخرى لشخصٍ أخر بجلباب مماثل يصيح مستحسناً:

-      يا سلام.. يا سلام.. مناديل.. شربات.. كله نيلون في نيلون...

واتجه نحوي قائلاً:

-      خذ... رخيصة يا "بيه".

-      لا أريد...

-      شرابك مقطوع يا "بيه".

-      لا يهم... الحالة غلبانة.

-      مش معقول... شكلك "كالبيه" تماماً.

ابتسمت له بالرفض فتركني باشمئزاز.

وهكذا توالت عليَّ الهجمات من جحافل البائعين المتجولين زادتني ألماً، لكنها فتحت أماي لأول مرة فهم معنى الفوارق الطبقية وأشياء أخرى.

حانت مني التفاتة إلى ركن في المقهى فوجدت الجحافل قد تكومت على شاب وشابة أدركت أنهما سائحان أجنبيان.

كرهت الصورة التي سينقلها الشابان عن مستوى الحياة وفقر الطبقات المسحوقة إلى درجة الخنوع، وقمت بتوجيه بعض العتاب بأنه ليس من اللائق عمل ذلك، طالباً منهم الانصراف، وكادت تقوم بيني وبين أحدهم مشاجرة تخلصت منها بلباقة وأخذت السائح ورفيقته إلى طاولتي وطلبت لهما مشروباً... وقد حاولتُ بما أملك من كلمات إنجليزية أن نتعارف وأفهمهم أنه لا يخلو أي بلد من هذه العادة، وهي عادة البائعين الجائلين والشحاذين..

كان ردهما يحمل مقداراً من الثقافة والوعي لإدراك وتفهم مثل هذه الأمور... وشدني شيء... فكلما كنتُ أتكلم تنفرج عن تلك الفتاة ابتسامات ناعمة ومشجعة أيضاً وقد اتجهت بوجهها كله نحوي حتى خجلت... كدتُ أطيرُ فرحاً لأنها أعادت إليَّ ثقتي المفقودة... وقلتُ لنفسي ربما يكون تصرفي اللائق وكلامي المؤدب وشكلي أيضاً قد جذبها... وبدأت تراودني أفكار مقِدامة جريئة... ولكن ما أن قمنا ودفع السائح الحساب بعد معارضتي الشديد طبعاً حتى كانت زميلته تشرح له أسباب ضحكاتها... لقد كانت تضحك على أشياء موجودة فيّ... نعم ... ربما في شعر  رأسي أو ثيابي... أو مدى قصر قامتي... أشياء ربما زادتني نفوراً من البقاء.

وصلت المحطة وكان الشوق يهزني للعودة.. واكتشفتُ أنني لا أملك سوى قيمة التذكرة فقط... وزاد بي الحنين نسماتُ المساء المقبلة من نافذة القطار المكتظ بجحافل من البائعين... ولطفَ الجو أملي في العودة لمعاكسة فتيات مدينتي حيث أجد ثقتي بنفسي من جديد.

 

بني سويف، 1961

 



Back to Home Page