الظـــاهري

 

 

- عدت إلى منزلي بعد المقيل حسب العادة، متأخراً بعض الوقت.. لكي أصل إلى البيت وقد هدأت حدة أطفالي المشاغبين، الذين يقتحمون غرفتي باستمرار لكي يعكروا مزاجي، وصفو أفكاري التي كنت قد اختزنتها في المقيل لأبثها على الورق..

بادرتني طفلتي الكبرى قائلة:

-         بابا..

-         قلت لك ألف مرة.. أبي ..أبي..!

هزت رأسها بعدم مبالاة:

-         بابي..!!

-         يا لطيف..! لن أجيبك..!

لم تنهزم.. ووضعت ورقة بخطها الردئ أمام وجهي.. "اتصل من الحديدة شخص يسأل عن الظاهري"..

أخذت منها الورقة.. أمعنت النظر فيها.. طلبت منها قراءة الاسم لأتاكد .. قرأته.. نعم الظاهري..!

سألتها ماذا يراد منه..؟.. أجابت بأن عليه سرعة السفر إلى الحديدة، لأن والدته أو زوجته أو شخصاً مهما لديه في حالة خطيرة كما فهمت.. كان علي أن أتأكد من الزوجة..

أسكت بقية الأطفال بحدة.. احتجت والدتهم لذلك.. اعتذرت وأنا اسألها عن ذلك الاتصال التلفوني، فأجابت:

- كنت مشغولة..

أظهرت غضبي لعدم اهتمامها الدائم بمن يتصل بي..

لوت "شفتيها" كالعادة، ورددت مقولتها الدائمة:

- عسى من سيتصل بك..؟!

كانت تلك هي العبارة الساخرة التي تلوكها دائماً..

لم أعرها اهتماماً. بل عدت إلى مكاني الخاص بعد أن حاولت إبعاد الأطفال عن متابعتي بأذيتهم.. كان أكثرهم إلحاحاً، ذلك الصغير الذي ما زال يزحف على يديه، والذي تعود عندما يراني أن يعبر عن شوقه إلي ببكائه وتحفز نحوي لكي يقضي معي بضع دقائق.. كان صادقاً فعلاً في مشاعره.. التي ربما كانت أمه قد عودته عليها كما عودت إخوته، لكي تشغلني عن كتاباتي التي تحرمها دائماً من الجلوس معي ومن ملاطفتها وسماع أخبارها الطويلة عن فلان، وفلانة، وما حققه بعضهم من مكاسب مادية كشراء أحدهم بعض الحلي الثمينة لزوجته.. إلى آ خر الاسطوانة..!

أقنعت طفلي الصغير بعبث محاولاته، عن رجائه لي بأخذه بين يدي، وتركته يعبر عن سخطه لموقفي الشاذ ببكائه الصارخ، ورفضه لتناول رضاعته التي كانت خير وسيلة لإسكاته دائماً..

محمد الظاهري.. زميل في درب ما أطوله.. لكن  أقول الحق، لم أكن مهتماً في تلك اللحظات بما قد يحدث لعائلته، أو أعز وأقرب الناس إليه..! كان اهتمامي منصباً على الكيفية التي تم بها معرفة رقم تلفوني..

وكيف خطر لهم بأن الظاهري يتردد علي، أو هو على صلة بي.. مع العلم أنه لا يبقى إلا في حالة الضرورة القصوى، عندما يكون مختفياً أثر هروبه من سجن أو ملاحقته لاعتقاله..

هالتني الظنون والأوهام.. وزادها إزعاجاً وصول بعض زملاء يريدون قضاء جزء من ليلتهم معي لإستجرار الهموم!!

محمد الظاهري.. ذلك الشاب الملتهب حيوية ونشاطاً.. والذي عركته الأيام بأحداثها.. لم تزده الملاحقات الدائمة إلا صلابة واستمرار في طريقه الذي نهجه..

ملامحه العامة توحي بالوداعة والبراءة.. وربما توحي لمن لا يعرفه بالسذاجة! عندما يدخل أي مقيل يحكم عليه من لا يعرفه أنه شخص عادي.. من أبناء الساحل الذين صهرتهم حرارة الشمس، فأوقدت في بعضهم قوة وصلابة في المواقف الوطنية النضالية العنيدة..

باسم دائماً.. ومنصت أيضاً.. ولكن عندما يستشار تزداد وتتسع تلك الابتسامة فتصبح ضحكة قوية مدوية يعتبرها الذين لا يعرفونه شاذة، وفي غير محلها..!!

كيف يتحول ذلك الوديع الساذج إلى كتلة من التفجر!؟

كيف يتحول ذلك الوجه البرونزي اللامع إلى وجه اصطبغ باللون الأحمر القاتم..!!

كيف يطغى منطقه في الكلام على كل كلام؟.. ويصبح سيد الموقف في أي اجتماع.. وينسحب بعد ذلك دون أن يشعر به أحد..

* * *

إذا اختفى.. يعرف الكل أنه معتقل.. وكأنه لا عمل لأجهزة الأمن سوى مراقبته واعتقاله.. وعندما تجتاحهم أمزجة طارئة لكي يمارسوا نوعاً من السادية في تعذيب شخص.. يأخذونه من أي مكان يكون موجوداً فيه..

ويخرج بعد ذلك ليحدث الآخرين بسخريته المعهودة عن فترة غيابة.. وكأنها مغامرة قام بها لتعطيه معلومات جديدة يضيفها إلى معلوماته السابقة التي ستفيده مستقبلأً لتقديم رسالته العلمية حول "الطرق المستعملة في استخراج المعلومات من المعارضة عبر التاريخ"!!.

قال أحدهم أنه رأى "الظاهري" منذ فترة.. وآخر قال أنه رآه في نفس اليوم.. واقترح ثالث أن نتصل ببعض الأصدقاء الذين يمكن أن يكون موجوداً لديهم.. هو بلا مقر معروف حتى لدى الإدارة التي يعمل فيها..

حاولنا الاتصال دون جدوى.. فغرقنا في همومنا..

* * *

أرهفت سمعي لوقع طرقات على الباب.. غمرني شعور بالخوف أن يكون الطارق أحد المندسين الثقلاء، ممن يتصيدون لحظات الانسجام والراحة التي أخلو بها مع أصدقائي في مثل هذه الساعة..

نهضت بينما وجم الأصدقاء بكآبة..

فتحت الباب..

كان هو أمامي.. الظاهري بعينه..!

اندهش باستغراب واضح لعناقي الحار له، عناق غير مألوف.. البسمة تعلو شفتيه كالعادة.. اعتبر لقائي هذا الزائد عن حده ناتجاً عن صفاء السهرة..!!

دخل وسلم بعد أن تخلص من حرارة الاستقبال..!

لم أحاول أن أفاجئه بذلك الاتصال التلفوني..

ابتسم للجميع محييا وهو يقول:

-         ما فيش فايدة؟!

وأخذ مكاناً استقر فيه وقال وهو يبتسم:

-  وصلتني مذكرة غاضبة.. رسمية طبعاً!!

تقبلنا الخبر كالعادة فهذا مألوف ومعروف!!

قال بعد ذلك وبضحكته المعتادة:

- وصادروا جميع النسخ..!

هز الجميع رؤوسهم وكأن الحدث عادي.. فتابع كلامه بسخرية:

- لقد كانت المواد المنشورة مصرحاً بنشرها..!!

تطلعنا إليه لنعرف السبب. فأسهب.. كالعادة.. ما دخل مجلساً إلا وأثار أكثر من قضية، وطرق أكثر من موضوع يفرزه مستقبلاً..

* * *

كان منطلقاً مع الزملاء في حواره المعتاد.. الحوار المركز حول قضاياه الهامة..

لم أشارك.. كنت متألماً ومشغولاً.. كيف أخبره بذلك الاتصال التلفوني.. وهو في نشوة الحوار الممتع..؟!

* * *

الورقة التي كتبتها ابنتي بخطها الردئ ما زالت أمامي أقلبها بين يدي فترة، وأضغط عليها بأصابعي مرة أخرى.. لاحظ ذلك.. أوقفت سير الحوار والمناقشة.. فتوقع الحاضرون شيئاً.. لم استطع أخباره بذلك الاتصال التلفوني.. لم أدر أكان إشفاقاً به أم إشفاقاً بي؟!!

* * *

كان مستمراً في حواره المهم.. ولم يأكل تلك الليلة رغم إلحاحي عليه لمعرفتي بأنه الوحيد الذي يقضي على كل ما يتبقى من مخلفات المائدة في أي ليلة نجلس فيها..

انشغلنا بالعشاء.. فلم يتركنا فجأة.. بل انتظر حتى تأكد من أننا قد انتهينا من الأكل فقال مستأذنا:

-         أعزائي.. سأغادركم.. وربما لفترة.. أرجو نقل اعتذاري للأخوة الذين ارتبطت معهم بمواعيد..

أخذ همومه معه، وتركنا لهمومنا..!

صنعاء: 20/5/1980م

 

 


 Go Back to Short Stories Page