العائد من البحر 

 

كان الشيخ صالح ولفيف من "خُبرته"([1]) وعسكره المحيطين به في فناء المسجد الصغير المطل على الوادي الأخضر، الذي يمتلك الشيخ نصف أرضه، يتمازحون ويمرحون أمام الشيخ الذي بدا لهم صباح اليوم كئيب الوجه محمر العينين فاتحاً فمه يستنشق الهواء منه وقد تدلت شفته السفلى حتى كادت تلمس ذقنه الصغير.

وكان لفيف من القرويين أيضاً قد صلوا صلاة الظهر وانزووا في ركن من الفناء يرقبون شيخهم وخبرته يتمازحون، وقد بدت على وجوه القرويين بسمة ساذجة لما يحدث أمامهم.

ولما نهض الشيخ معلناً توجهه نحو داره سارع "خُبرته" لأخذ بنادقهم ليسيروا أمامه وخلفه.. وما أن هموا بالمسير حتى وصل قروي من "رعية" الشيخ يحمل على ظهره حزماً كثيرة من القات وبادره الشيخ وقد وقف عن المسير قائلاً:

-      لقد حسبت أنك ستتأخر. أرني نوع القات الذي اشتريته!

وفتح القروي التابع لحافه الكبير الذي امتلأ بالقات، وجلس الشيخ يقلب الحزم بينما "خُبرته" يرمقون القات بنظرات جشعة. كان يهز رأسه مستحسناً لكل حزمة جيدة، ويهز شفته المتدلية لكل حزمة رديئة من القات ثم صاح بتابعه:

-      عليك اللعنة.. لم تحضره كالمرة السابقة.

-      لقد جمعته من كل شِعب.. ولم أجد أحسن منه.

-      وبكم..؟

-      بعشرين ريالاً فقط.. وهذه خمسة ريالات لم أشتر بها.

-      لماذا..؟

-      خفت أن لا يناسبك القات فأعود به إلى موطنه كما حدث في المرة السابقة.

وابتسم التابع بينما قهقه "الـخُبرة" والعسكر، ونظر إليه الشيخ وقد استلطف قوله:

-      خذها.. هي لك مني.

وركع التابع على ركبة الشيخ يلعقها بحرارة.. ولم يحاول الشيخ منعه من ذلك. ربط التابع حزم القات من جديد ثم قال مخاطباً الشيخ:

-      لقد عاد "علي بن علي" يا شيخ.

-      ومن هو "علي بن علي"؟

-      ابن "علي عبده"... شريكك في الأرض سابقاً... الذي أشركت في الأرض آخر بعد وفاته.

-      ومن أين عاد..؟

-      من البحر..

-      منذ متى..؟

-      منذ شهر..

وعقد الشيخ حاجبيه غضباً وقال:

-      ولم يزرني..!؟

-      لا... وقد علمت اليوم وأنا اشتري القات من بلده أنه قد بنى له طبقة([2]) مكلفة..

-      لابد أن لديه المال الكثير..

-      طبعاً يا شيخ.. وخصوصاً أنه قد غاب عن البلاد خمس عشرة سنة.

-      وأين كان يعمل..؟

-      في البحر.. بحاراً متجولاً على باخرة انجليزية كما قالوا...

-      وكم عمره؟

-      لقد سافر من هنا وعنده عشر سنوات في عهد والدك الله يرحمه.

-      مازال صغيراً إذاً..؟

-      نعم.. عنده خمس وعشرون سنة، وقد خطب ابنة "حمادي الحاج" ونزل عنده ضيفاً إلى أن ينجز داره.

وصمت الشيخ لحظة ثم قال متعجباً:

-      وهل رضى حمادي الحاج؟!

-      كيف لا يرضى يا شيخ؟ لقد أنزله في دراه.

-      ولكن ليس معنى ذلك أنه راضٍ عن زواجه بأبنته..

-  هل تعتقد يا شيخ أن "علي بن علي" "رعوي"([3]) عادي..؟! لا لقد عاد من البحر ومعه المال الكثير... يلبس الأبيض والأزرق ولديه بندقية "زكي كرام" وجنبية مذهبة وحذاء من "عدن"... ويشرب السجاير الفاخرة ويُـحمل له الماء البارد في ثلاجة صغيرة أينما ذهب ليقيل في مقايل القات..

-      إلى هذه الدرجة؟

-      بل إلى أبعد من ذلك.. فالكل هنالك يتسابقون لدعوته لديهم.

-      ربما كان كريماً معهم.

-      لقد علمت يا شيخ أنه لا يوزع المال إلاّ للفقراء فقط..!

-      إذاً لماذا يوجهون إليه الدعوات؟

-  يقولون أن يحكي لهم مغامراته في البحر ومشاهداته في البلدان التي رآها.. ثم لا تنس يا شيخ أن والده قد مات وهو في الغربة..!

وتناول الشيخ في ذلك اليوم غذاءه مع خبرته وعسكره وبعض من رعيته وكان واجم الوجه قلقاً ولم يلفظ بكلمة على غير عادته عندما يتناول غذاءه.

وفي مفرجه([4]) الفخم في رأس الدار جلس أمام النافذة الكبيرة المطلة على الوادي الأخضر الذي يمتلك نصف أراضيه، وإلى جواره اتكأ القوم مرتبين بحسب أهميتهم لديه.. فعلى يساره جلس وكيل أعماله الكبير، ثم فقيه الناحية وعدلها([5])، ثم رئيس خبرته وعسكره ولفيف من أبناء عمومته.. وفي سفل المفرج جلس الخدم إلى جوار "المدائع"([6]) وبجوارهم بعض رعيته.. ووزع الشيخ القات بينهم بأن كان يرمي لكل واحد حزمة منه بحسب أهميتهم لديه أيضاً.. فالوكيل له الحزم الفاخرة وهكذا..

في منتصف المقيل قال الوكيل ليبدد الصمت مخاطباً الشيخ:

-      لقد علمنا يا شيخ أن "علي بن علي" يريد شراء أرض هنالك ليفلحها وقد رحب الرعية بأن يبيعوا له..

وكأنما بهت الشيخ لذلك فقال غاضباً..

-      يشتري أرضاً..؟ هل بلغت به الجرأة إلى هذا الحد..؟

-      لقد عرض عليهم أي ثمن يريدونه..

-      ومن باع له أرضاً..؟

-      لم يبع إلى الآن سوى "محمد حسن" فقط.

وتجهم وجه الشيخ، وتناول ورقة في يده ثم كتب فيها وهو يقول ما يكتبه بصوت غاضب:

-       ينفذ([7]) عسكري حالاً على "محمد حسن" لإحضاره.

وقّعَ على الورقة بعصبية ثم طواها، بينما كانت أعناق عسكره ترتفع، كلٌ يتمني أن يرميها الشيخ إليه.. وطوحت يده بالورقة إلى عسكري من خُبرته وقال:

-      الآن... أحضره على وجه السرعة!

وانطلق العسكري كالبرق وقد أخذ بندقيته معه.

وما كاد الليل يخيم بظلامه على تلك الجبال حتى دخل العسكري ومعه الرعوي المدعو "محمد حسن" يلهث وعلى وجهه أمارة الفزع، فرمى لحفته في الأرض واتجه مسرعاً صوب الشيخ وارتمى على ركبتيه يقبلهما بحرارة، بينما كانت يدا الشيخ تهوي على ظهره العاري وهو يقول مازحاً:

-      مازال جلده قوياً كجلد الثور...

وضحك الحاضرون، بينما رفع الرعوي رأسه من جديد قبل أن يهوى على ركب الشيخ يقبلها، وهنا تدخل العسكري الذي كان مازال واقفاً وأمسك بالرعوي وهو يقول:

-      يكفيك ذلك.. قم معي إلى سفل المكان.

ونهض الرعوي، واستقر به المقام في سفل المفرج، بينما أخذ الشيخ حزمة صغيرة من القات ورمى بها نحوه فالتقطها شاكراً. وما كاد الرعوي يدخل القات إلى فمه حتى بادره الشيخ قائلاً:

-      كيف حال "علي بن علي"...؟

-      على ما يرام يا شيخنا.

وصمت الشيخ بينما قال الرعوي متسائلاً:

-      لماذا أنفذت علي عسكرياً يا شيخنا وأنا رعويك المطيع المخلص.

-      أريد أن أراك فقد اشتقت لذلك.

وقهقه الحاضرون بينما ابتسم الرعوي بسذاجة واضحة، لكن الشيخ صاح به:

-      لقد بعت "لعلي بن علي" أرضاً.. هه..؟!

وذابت ابتسامة الرعوي.. وجم وقد أحس بالحرج... لكنه تشجع وقال:

-      لقد كنتُ محتاجاً يا شيخنا.

وكأنما قوله هذا زاد الشيخ غضباً على غضب فصاح بالجميع متسائلاً:

-      أرأيتم..؟ أنا هل اختفيت من الوجود يا "محمد حسن".!؟

-      لا سمح الله بذلك يا شيخنا.

-      ألا تدري أنني أعين كل محتاج..؟ من يكون "علي بن علي" هذا؟

ووجم الحاضرون والشيخ ثائرٌ يهدد ويرعد ويتوعد... ثم هدأ وقال:

-      بكم بعت له القصبة؟

-      بأربعين ريالاً يا شيخنا.

-       كنتُ سأدفع لك في القصبة خمسين ريالاً.

-      لم أكن أعرف ذلك... وكنتُ أحسب أنك ستدفع لي كما دفعت "لأحمد ناجي" جاري في الأرض.

-      وكم دفعت "لأحمد ناجي" يا "محمد حسن"..؟

-      لقد قال أنك دفعت له خمسة ريالات ثمن القصبة.

-      كذاب.. عليه اللعنة... أيكذب عليّ..؟

وهنا تدخل الوكيل لأول مرة وقال مخاطباً الرعوي:

-  ربما لم تسمعه جيداً فقد دفعنا له خمسين ريالاً في القصبة الواحدة وربما سمعت الخمسين على أنها خمسة.

-      ولكني متأكد من قوله.

-      إنت لست متأكداً، بل غبياً..

ولم يكن بيد الرعوي إلاّ أن يسلم بالأمر الواقع فانكمش في زاويته وقد جف حلقه. رمى بالقات من فمه والعرق يتصبب من جبينه وهدأ المكان إلاّ من قرقرات المدائع([8]) ونحنحة من كاد يشرغ بالقات... ورمي الكثيرون بالقات من أفواههم وقد حان موعد صلاة العشاء، أما صلاة العصر والمغرب فكانت مجرد قضاء. قام الحاضرون ينفضون من ملابسهم عيدان القات وأوراقه التي لم تمضغ، ثم أخذ كل لحافه واستأذنوا الشيخ بأن يصلوا في المسجد، وبقي الشيخ مع الوكيل ورئيس الـخُبرة.. وكذلك الرعوي الذي لم يتحرك من مكانه قيد أنمله بل كان ينظر إلى الأرض وقد أظلمت الدنيا من حوله.

بعد أن خلا المكان قال الوكيل مخاطباً الشيخ بصوت أراد أن يسمعه الرعوي..

-      أنا متأكد أن "محمد حسن" رعوي طيب ويحبك كثيراً..

وهنا صاح الرعوي في شبه بكاء:

-      نعم لقد خدمته وخدمت والده الله يرحمه، وأنا دائماً تحت الخدمة..

وصاح الوكيل بغضب:

-      اسكت ولا تتكلم أبداً..

وحول الوكيل نظره عن الرعوي ثم قال مخاطباً الشيخ:

-      إنه مستعد أن ينفذ ما تقول به.

-      أنا مستعد يا شيخنا لكل ما تأمر به فأنا رعويك المطيع..

-      لقد قلت لك اسكت وإلا أخرجتك من المكان..

قال الشيخ مخاطباً محمد حسن:

-      قم وصل.. وأجر العسكري.. وارجع لتنام هنا..

ونهض الرعوي وهو يقول:

-      أمرك يا شيخنا، ولكن كم أدفع للعسكري أجرة..؟

-      اتفق معه على ذلك..

-      ولكن ما تأمر به سأدفعه..

-      قلت لك اتفق معه هيا واذهب!

وأخذ الرعوي لحفته وخرج من المكان، ولما خرج اقترب كبير الـخُـبرة من الشيخ والوكيل وقال:

-      عندي رأي يا سيدي..

-      ما هو..؟

-      نقضي على "علي بن علي"..

-      كيف..؟

-      دع الأمر لي..

-      لا.. أريد أن أقضي عليه بطريقة أخرى.

وهنا قال الوكيل بهدوء:

-      نقضي عليه بالغرامة.. ونجره إلى المشارعة عند كل عامل وحاكم حتى ينفد ما عنده من مال..

-      وما الفائدة..؟ لن يستفيد من ذلك إلاِّ العامل والحاكم..

-      إذاً كيف..؟

-      سأنفذ عليه عسكري من عندي وبعد ذلك سترون..

وصمت الوكيل وكبير الخبرة بينما قال الشيخ مخاطباً كبير خبرته وهو يبتسم:

-      استدع العشاء.. ولا تنس الشراب..!

ونهض كبير الخبرة ثم اتجه إلى باب المفرج وصاح بصوت عال:

- يا ولد هات عشاء الشيخ.. وإياك أن تنسى الشراب..

وبعد لحظة أقبل خادم الشيخ الصغير الذي يملك حرية الطلوع والنزول في داخل الدار وبيده طبق من اللحم المشوي مع كسرة من الخبر وثلاجة صغيرة مليئة بالخمر البلدي المعصور من العنب في سفل دار الشيخ.

* * *

كان الفجر قد بزغ، وبدأ القمر في الانسحاب من الكون تاركاً مكانه للشمس التي بدأت أشعتها الحمراء تنساب من قمم الجبال الخضراء... وتساقطت قطرات الندى من على الأغصان الهامدة، وبدأت صيحات الديوك تعلو، وزقزقة العصافير ترتفع في أرجاء الجبال، وتراكمت طبقة من الدخان الصادر من مطابخ البيوت تخترق الأجواء، وخرج كلٌ إلى عمله في الحقول والأسواق..

أما في القرية فقد خرج "علي بن علي" من منزل "حمادي الحاج" متجها نحو البناء الذي كاد أن ينجزه.. وتوافد عليه العمال يلقون عليه تحية الصباح، وكان يرد عليهم التحية باسماً..

كان "علي بن علي" فتى في الخامسة والعشرين من عمره؛ حليقُ الذقن مفتول العضلات فارع الطول معتدل السمنة، أضفى عليه البحر سمرة جميلة، وكان قد شـمّـرَ عن ساعديه، ولبس طاقية مزخرفة فوق رأسه وجلباباً أبيض.. وحزم وسطه بخنجر جميل مذهب، وكان بيته المكون من طابق واحد قد قارب على الانتهاء.

ونظر "علي بن علي" إلى داره الجديدة وهو يقول لنفسه "هذه غرفة للنوم.. وهذه غرفة للأولاد.. وتلك للأكل، وهذا مطبخ وهذا حمام.. وهذا مخزن للحبوب.. أما بيت البقرة فسيكون خارج الدار".

وابتسم عندما رأى العمّار ينظر بإعجاب إلى الخشب المستورد الجميل، وإلى أكياس الأسمنت الذي لم يعهده من قبل في القرية.. وجاء صبي صغير يحمل بيده طبقاً من الخبز وجمنه من القهوة وهو يقول "لعلي بن علي":

-      هذا فطورك من البيت..

وابتسم "علي بن علي" وهو يتناول من يد الغلام فطوره ثم نظر إلى نافذة صغيرة في دار "حمادي الحاج" حيث رمق فتاة تبتسم وهي تنسحب من أمام النافذة مولية الأدبار..

وعندما همَّ "علي بن علي" في تناول إفطاره سمع ضحكات هامسة من العمال فنظر إليهم بخجل وقال:

-      تفضلوا معي.

فأجابوه ضاحكين:

-      لقد سبقناك..

وفجأة سمع جلبة فالتفت، ووجد عسكرياً مقبلاً نحوه وحوله لفيف من القرويين صامتين. ولما اقترب العسكري من مكان البناء قال بصوت متعجرف:

-      أين "علي بن علي"..؟

-      أنا "علي بن علي"... ماذا تريد..؟

-      لدي أمر عليك..

-      ممن..؟

-      من عند الشيخ..

-      ومن هو الشيخ...؟

وصمت العسكري ثم حقق فيه النظر وقال:

-      الشيخ "مصلح بن محمد"..

-      ولماذا..؟

-      لإنصاف غريمك.

-      ومن غريمي..؟

-      "محمد حسن"..

ونهض "علي بن علي" من مكانه وقد دهش لذلك ثم اقترب من العسكري وقال:

-      والسبب..؟

-      لأنك نهبت أرضه..

ودهش القرويون لذلك بينما قال "علي بن علي" بغضب:

-      لم أنهب أرض أحد

قال العسكري:

-      المهم هو حضورك معي... فهيا بنا..

-      أرني الأمر..!

وأخرج العسكري من جراب خنجره ورقة أخذها منه "علي بن علي" ثم نظر إليها بسخرية ومزقها ثم رماها إلى الأرض وقال:

-      أنت مُضَمّر يا عسكري..

وبهت العسكري لذلك فقال:

-      هل أنت ممتنع يا "علي بن علي"..؟

-      لقد سمعت قولي..

-      هل تُضمّر عسكري الشيخ..؟

-      نعم..

وحاول بعض القرويين التدخل لكن "علي بن علي" قال غاضباً:

-      أرجوكم كلٌ في حال سبيله.

لكن "حمادي الحاج"، الذي كان قد أقبل عليهم، قال مخاطباً طعلي بن علي":

-      لا يصح ذلك.. اذهب مع العسكري إلى عند الشيخ..!

-      وهل نهبتُ أرض "محمد حسن" يا عمي..؟

-      اذهب وقل الحقيقة للشيخ.. ونحن سنشهد بذلك معك.

-      لن أذهب إلاّ إلى الحكومة.

-      ولكن هذا شيخنا وأمره مطاع..

-      دعك من هذا الهراء يا عمي فما فائدة الحكومة إذاً؟

وهنا تدخل العسكري وقد بانت على ملامحه علامات الغضب فقال مخاطباً "حمادي الحاج":

-      هل رأيت يا "حمادي الحاج"؟ لقد مزق أمر الشيخ، ولولا خوفي من الشيخ لسحبته إليه سحباً..

واغتاظ "علي بن علي" عندما سمع ذلك من العسكري فاقترب منه وقال صائحاً:

-      لا أنت ولا غيرك يستطيع ذلك يا عسكري.

-      كذاب أبوك!

-      كذاب أبوك أنت ياسفيه يا ابن السفيه..

ورفع العسكري بندقيته إلى نحره بينما استل "علي بن علي" خنجره من جرابه وكاد أن يهوي به على رأس العسكري لولا تدخل "حمادي الحاج" ولفيف من القرويين. أمسكوهما ثم أخذوهما بعيداً وكلٌ من العسكري "وعلي بن علي" يصيحان بالشتائم..

قال "حمادي الحاج" مخاطباً "علي بن علي":

-      هل جننت يا ولدي..؟

-      لم أجن..

-      هل تريد جلب المصائب لنفسك..؟

-      دعك من الخوف يا عمي فما هو إلاِّ مجرد عسكري ضمّرتهُ وانتهى أمره..

-      لست أعني العسكري وإنما أعني الشيخ..

-      وماذا سيفعل الشيخ..؟

-  يا ولدي.. الشيخ يملك نصف هذه الأرض بما عليها من أشياء، حتى الرعية هم ملك الشيخ يا ولدي..

-      ولكني لست من أملاكه..

-      أعرف ذلك ولكنك تعيش فوق أرضه..

-      إنني أعيش على الأرض التي عاش عليها أبي وجدي... إنها أرض الله..

-      لقد عاش جدك على أرض يملكها جده.. وعاش أبوك على أرض يملكها أبوه..

-      ولكنني لن أعيش مثلما عاشوا ويجب أن تفهم ذلك..

-      إذاً بعنادك هذا ستجلب لنا الخراب والدمار وستحيل هذه القرية إلى بؤس وشقاء..

-      أتخافونه إلى هذه الدرجة..؟

-  اسمع يا ولدي.. لقد كنتَ غائباً فترة طويلة، أما نحن فعشنا هنا ونعرف كل شيء فقم معي إرضِ العسكري وسأتوجه معك إلى الشيخ..

-      لن أذهب.

-      لمجرد معرفة شكوى "محمد حسن" بك..

-      إذا أراد أن يشكوني محمد حسن فأمامه الحكومة بعاملها وحاكمها.

وعبثاً حاولوا إقناعه، وأقبل لفيفٌ من القرويين وخاطب أحدهم "حمادي الحاج" قائلاً:

-      لقد عاد عسكري الشيخ وهو يتوعد..

فقال "حمادي الحاج" بجزع مخاطباً "علي بن علي":

-      انتهى الأمر إذاً.. فتحمل نتيجة عملك..

-      وماذا جنيت يا عمي؟

-      لست عمك يا "علي بن علي"..

بغضب اتجه "حمادي الحاج" نحو داره وتفرق القرويون من حول "علي بن علي" ما عدا لفيف منهم، وما أن رأى "علي بن علي" ذلك حتى اتجه نحو دار "حمادي الحاج" مسرع الخطى، ودخل الدار ثم اتجه إلى مكان "حمادي الحاج" وخاطبه قائلاً:

-      لم يكن لائقاً أن تقول ذلك أمام الناس..

-      وماذا أعمل لك..؟ لم تسمع نصيحتي..

-      هذا أمر خاص بي أنا وحدي...لا دخل لك به..

-      ولكنك أحمق..

-      أنا أتحمل نتيجة تصرفي هذا..

-      ولكنك ستجر عليّ المشاكل... والشيخ يترقب لي أدنى هفوة ليبطش بي..

-      إذاً سأخرج من دارك وأفسخ خطبتي لابنتك..

-      لم أقصد ذلك..

-      إذاً ماذا تقصد؟

-      لست أدري.. نم الآن والصباح رباح..

وخرج "علي بن علي" صباح اليوم التالي وقد احتزم بحزام الذخيرة، وبندقيته معلقة على كتفه، واتجه صوب البناء... وكم دُهش حيث لم يجد أحداً هناك، فتلفت حوله ولما همَّ بالرجوع إلى أدراجه رأى "حماي الحاج" مقبلاً عليه:

-      هل رأيت..؟ لم يحضر أحد من عمالك..

-      ولماذا؟

-      لا تسألني..!

-      ولكني أسألك السبب.

-      لأنهم خافوا.

-      إلى هذه الدرجة..! يا لكم من جبناء...إلى هذه الدرجة؟

-      لا تقل ذلك..!

-      إنك تحمل على كتفك سلاح وعلى وسطك حزاماً مليئاً بالذخيرة وخنجراً مذهباً.

-      لكن هذا هو الواقع.

-      دعك من ذلك.

-  هذا هو الواقع... وتأكد أن ذلك لن يفيدك في شيء.. فأنت وحيد والشيخ لديه العشرات من أمثالك يحملون البنادق ويحتزمون بالذخيرة والخناجر المذهبة.

-      الحق بجانبي يا عمي.

وكأنما سئم "حمادي الحاج" كلامه فقال:

-      اسمع يا ولدي.. قُم معي.. نأخذ كبشاً ونتوجه به إلى دار الشيخ.

-      لن أفعل ذلك.

-      اسمع مني ذلك ولن يضرك شيئاً.

-      لا تحاول.. فلن ألبي طلباً إلاّ إذا أتى من قبل الحكومة.

واسترعي انتباههم موكبٌ كبير مقبل نحوهما، وصاح "حمادي الحاج" وقد ارتجف صوته:

-      إنه الشيخ يا "علي بن علي".. لقد جنيت علينا.

-      لا تخف إلى هذه الدرجة.

-      تحمل المسئولية وحدك يا "علي بن علي"...

-      لقد قلتُ لك ذلك مساء البارحة.

* * *

اقترب الموكب، وكان الشيخ راكباً بغلة وحوله لفيف من عسكره وخبرته وقد تجمع حولهم القرويون كلٌ يقبل ركبته حتى وصلوا إلى مكان البناء... نزل الشيخ من على بغلته بينما هرول نحوه "حمادي الحاج" يقبل ركبته والشيخ ينظر إليه باسماً وقد تمطت شفته السفلى حتى كادت تلمس ذقنه الصغيرة وقال:

-      "طبقة" مكلفة لا بأس بها...

وتحركت شفته إعجاباً ثم نظر إلى "علي بن علي" وقال:

-      هل هذا "علي بن علي"؟

وتحرج "علي بن علي" فما كان منه إلاّ أن اقترب وصافح الشيخ وهو يقول:

-      نعم أنا "علي بن علي".

وصمت الشيخ برهة وهو يمعن النظر نحوه ثم قال مشيراً نحو بندقية "علي بن علي":

-      "زكي كرام"..! من أين حصلت عليها؟

-      من ساحل "الحبشة"..

-      وبكم..؟

-      بسبعمائة ريال..

-      رخيص جداً..

واستغرب الحاضرون للحوار الذي دار بين الشيخ و"علي بن علي"، وشعر "حمادي الحاج" بالارتياح لذلك، وحاول الكلام لكن الشيخ خاطبه بتهكم:

-      وهل لديك يا "حمادي الحاج" بندقية مثلها؟

وبهت "حمادي الحاج" لقول الشيخ، فقال متلعثماً:

-      نحن رعيتك يا شيخنا.. وأنت حامينا..

-      ولكني سمعت أن معك بندقية..

-      ومن أين لي المال لذلك؟

-      من صهرك "علي بن علي"..

-      ولكنا رعية لا نحمل السلاح يا شيخنا..

-      ولكن "علي بن علي" يحمل السلاح..

-      لقد فتح الله عليه الرزق في بلاد الغربة.

وهنا تقدم "علي بن علي" وقال باسماً:

-      يا شيخ ليس حراماً أن نحمل سلاحاً.

والتفت إليه الشيخ وصاح:

-  نعم ليس حراماً أن تحمل سلاحاً، ولكن حراماً إذا أشهرته على عسكري من خبرتي "يا علي بن علي".

-      لم أشهر سلاحي فوق أحد.

-      لقد أشهرت بندقيتك فوق هذا العسكري.

-      لم أكن أحمل بندقية لأشهرها عليه.. بل العكس.. هو الذي أشهرها عليّ وكلهم يعرفون ذلك.

-      ولماذا لم تأت معه؟

-      لم يكن عندي الوقت فأنا كما ترى مشغولٌ ببناء منزلي.

-      ولماذا مزقت أمري؟

وتمهل "علي بن علي" في الإجابة عندما رأى القوم ينظرون إليه وقال بهدوء:

-      لقد كان أمراً باطلاً..

وارتعش القرويون عند سماع ذلك، بينما تحفز خبرة الشيخ ببنادقهم... لكن الشيخ صاح بهم:

- لا أريد أحداً أن يتصرف إلاّ بأمري..

فقال "علي بن علي" ويده على سلاحه، وقد رجع خطوة إلى الوراء:

-      لن ترعبني بقولك هذا يا شيخ..

-      ستندم على قولك هذا "يا علي بن علي"..

وتدلت البندقية من يد "علي بن علي" وقد اتجهت فوهتها نحو الأمام وقال بهدوء:

-      اسمع يا شيخ.. أنا لا أعرفك ولم يكن بيني وبينك على ذلك أي عداوة فاتركني في حالي..

-      ولكنك نهبت أموال "محمد حسن"..

-      إذا كان ذلك صحيحاً فأمامه الحكومة يطلبني فيها لإنصافه..

-      ولكني شيخ هذه البلاد وأمرها بيدي وأنا حامي رعيتها..

-  مع احترامي لك يا شيخ إلاّ أنني لا أحتكم إلاّ بأمر الحكومة.. فإذا كان "محمد حسن" يريد مقاضاتي فأنا مستعد لذلك حتى عند الإمام نفسه.

-      وأنا أقسم لك بالله يا "علي بن علي" أنه لن يقاضيك إلاّ عند الإمام وفي مقامه الشريف..

-      وأنا قابل يا شيخ.. وما جاء به شرع الله فأنا متحمل له..

-      ولن يقف وحيداً

-      أنا معي الله يا شيخ.

وعاد "حمادي الحاج" وبيده لحماً وقهوة، ووجد أن الجو قد تكهرب. وكان "العدل" قد أحضر من منزله فراشاً وجلس عليه الشيخ وتناول القهوة مع خبرته وقال مخاطباً "حمادي الحاج":

-      أريد "هجراً" من "علي بن علي" ويكون ثوراً يُذبح أمام داري.

-      هو ما أمرت به يا شيخنا..

ولكن "علي بن علي" قال:

-      ثوراً.. لماذا يا شيخ؟

-      رد اعتبار لأمري الذي مُزق..

-      لا أملك ثوراً يا شيخ..

-      اشتري ثوراً..!

-      لم أتعود شراء الثيران..

-      ماذا تقصد؟

-      أقصد أن عسكريك هو الذي عليه أن يذبح لهذه القرية ثوراً لأنه اعتدى عليّ.

وهنا تدخل "حمادي الحاج" وهو يصيح بـ"علي بن علي":

-      اسكت يا "علي بن علي" ونفذ ما قاله الشيخ!

ثم التفت نحو الشيخ وقال بتودد:

-      أمرك مطاع يا شيخنا. والثور إليك الآن..

وصاح بأحد القرويين قائلاً:

-      اذهب واحضر الثور من سفل داري الآن واذهب به إلى دار الشيخ!

وحاول علي بن علي أن يعترض لكن مجموعة من القرويين سحبوه بعيداً وهم يراجعونه ويجادلونه، بل ويناشدونه أن يسكت. وابتعد "علي بن علي" عن الجموع مع لفيف من القرويين وقال الشيخ لـ"حمادي الحاج":

-      إنه سفيه ولن أتحرك من هنا إلاّ وقد تركت خبرتي تأدبه.

وما أن سمع عسكر الشيخ قوله حتى تأهبوا، فما كان من "حمادي الحاج" إلاّ أن أخذ عمامته ورماها أمام الشيخ وهو يصيح:

-  لا داع لذلك يا شيخ فهو سيكون خادمك المطيع ولا تأخذ عليه جرأته هذه.. لأنه مجنون يا شيخنا..

وحاول الشيخ أن يزيد في القول لولا أنه رأى الثور يقاد من أمامه متجهاً نحو داره فقال:

-      لولا معزتك عندي يا "حمادي الحاج" لسويت به الأرض.

-      أنا رعويك دائماً وهو كذلك كما كان أبوه وجده..

ولم يزد الشيخ بل نهض واعتلى بغلته ثم صاح بالقرويين قائلاً:

-  والله لو علمت أن أحداً منكم عمل مع "علي بن علي" لأسحب من تحته الأرض والبيت وأطرده من بلادي وأجعله يموت وتأكل منه النسور.. وبعد ذلك فقد أعذر من أنذر..

وهزَّ القرويون رؤوسهم بالطاعة، واتجه الشيخ بموكبه نحو داره.

* * *

توافد القرويون على دار "حمادي الحاج" حتى امتلأت بهم، وفي داخل ديوانه المظلم كان يعلو الصياح والهرج والمرج، وانبعث صوت "حمادي الحاج" صائحاً:

-      كلٌ يذهب إلى داره وكفاني متاعب.

لكن أحد القرويين قال:

-      كيف تقول ذلك يا حمادي الآن.. لن نذهب إلاّ ونحن على بينة من أمرنا..

ولم يجبه "حمادي الحاج"، بل اتجه بنظره نحو النافذة الصغيرة وهو يتمتم بعبارات مبهمة، وكان "علي بن علي" ينظر من حوله فيجد القرويين قد انتابهم الفزع وكأنما يريدون منه أن يغادر البلاد. حتى أولئك الذين أحسن إليهم لم يجد في نظراتهم له سوى القلق منه والضجر به.. تمالك نفسه وقال:

-      لا أدري ما الذي تخافون منه؟

والتفت نحوه "حمادي الحاج" وقال بضجر:

-      يا ولدي.. نحن أعلم بأحوال بلادنا أحسن منك فلا داعي لتأنيبنا.

                  -            ولكن..

                  -            لن تجد بعد اليوم من يبني معك منزلك ولن تجد أحداً يعرفك.

                  -            لست بحاجة لأحد.. سأجد لمنزلي عمالاً من قرى أخرى.

                  -            ومن سيتركك تبني؟

                  -            الحق..

                  -            هه.. الحق..؟!

وضرب "علي بن علي" كفاً بكف بشبه سخرية وقال:

                  -            لم أجد في العالم حكماً كهذا.. ولم أجد أناساً في العالم يتقبلونه صاغرين خائفين..

                  -            المشكلة أنت المسبب لها..

                  -            إذاً لا تقلقوا أنفسكم ودعوني أتصرف ما دمت مسئولاً عنها وما دمت المسبب لها..

                  -            ولكنها جرّت علينا الغرامة..

                  -            لم أقل لك أن تعطي الشيخ ثورك..

                  -            لقد أعطيته الثور خوفاً عليك.

                  -            إذاً هذا ثمنه وسأتحمل من الآن كل ما سيحدث لي ولا تقلقوا.

وأخرج من جيبه عدة ريالات فضية ورماها أمام "حمادي الحاج" الذي قال:

                  -            يا ولدي.. ما الذي سيضرك لو جاملت الشيخ وذهبت إليه؟

                  -            بأي حق؟

                  -            أنه شيخ هذه المنطقة.

                  -            يا لدنياكم العجيبة التي تعيشون فيها!

                  -            لم نعرف دنيا غيرها لنعيشها.

                  -            ولكني عرفت العالم كله وتجولت في أنحائه فلم أجد شيئاً يحدث كهذا.

                  -            إذاً لماذا عدت يا "علي بن علي"؟ كان من الأحسن لك أن تعيش الدنيا التي تجولت بها.

                  -            هذه بلادي..

                  -            إذاً تقبل عذابها.

                  -            بل سأقاوم كل مسبب لهذا العذاب.

                  -            هراء..

                  -            ليس هراء.. بل سأقاوم حتى ولو دفعت كل ما أملك.

                  -            كنت ستدفع للشيخ مبلغاً وتريح نفسك..

                  -            لن أدفع له شيئاً ولديه كل شيء..

وصمت "حمادي الحاج".. وصمت معه "علي بن علي".. ولم يحاول أحد من الحاضرين الكلام، وتجلمش كلٌ بردائه الصوفي، وبعد برهة تجاهل "حمادي الحاج" "علي بن علي" وخاطب الجميع:

                  -            لقد قررت أن أذهب مع عدل القرية وأربعة آخرين منكم إلى الشيخ..

وهز الجميع رؤوسهم بالموافقة بينما أكمل "حمادي الحاج" كلامه قائلاً:

                  -            فاذهبوا إلى العدل الآن وادفعوا له المال اللازم لرد اعتبار الشيخ.

وتدخل "علي بن علي" قائلاً:

                  -            وما دخلهم في ذلك؟

                  -            هذه قريتهم.. يا "علي بن علي".

                  -            أنا أعرف ذلك..

                  -            ولكنك لا تعرف أنهم شركاء الشيخ في هذه القرية وأرضها.

                  -            هل تقصد أن بيوت القرية ملكاً للشيخ..

                  -            نعم جميع البيوت ما عدا بيت الله..!!

                  -            والأرض التي أبني عليها داري..؟

                  -            ليست أرضك بل هي أرض الشيخ..!!

                  -            ولكنها كانت خالية من الزرع.. ولا يمكن أن يملكها أحد.

                  -            لا شيء في هذه البلاد إلا وهو ملك للشيخ.. فاسمع نصيحتي.

                  -            وهل عند الشيخ وثائق بهذه الملكية؟

                  -            وماذا ستفعل إذا لم يكن لديه وثائق..؟

ولم يجبه "علي بن علي"، بل أطرق إلى الأرض، ثم نظر إليهم نظرة كلها رثاء.

* * *

تصاعد الدخان من البيوت في صباح هذا اليوم كعادته إلى السماء ببطء، ومرقت أشعة الشمس الصفراء من خلال قمم الجبال الخضراء، وذهب كلٌ إلى عمله، ونهض "علي بن علي" ثم اتجه إلى داره التي مازالت كما هي منذ ذلك اليوم، وألقى نظرة إلى المطبخ وغرفة النوم والمخزن وغرفة الأطفال التي مازالت بلا سقف.. ثم وضع بندقيته على كتفه واتجه نحو طاحون القرية الذي بدأ يرسل صيحاته المتقطعة..

رأى القرويات يدخلن وكلٌ تحمل غذاء زوجها من الحبوب..

                  -            صباح الخير يا "محسن"..

                  -            صباح النور يا "علي بن علي".. كيف حالك اليوم؟

                  -            كالمعتاد..

لم يكن "محسن" سوى شاب حليق الذقن يعمل في إدارة الطاحون الذي يملكه الشيخ، وقد عاد إلى القرية من بلاد الغربة ليعمل في هذا الطاحون فهو ليس بفلاح ماهر ليزرع أرضاً بعد أن كان يعمل في هندسة السيارات في عدن، وكان "علي بن علي" يقضي معه كل وقته، فقد وجد لديه أفكاراً تلائم أفكاره.. ربما لأنه عرف الغربة والتشرد مثله.

                  -            ألم تجد عمالاً..؟

                  -            لقد تعبت من البحث فلم يرض أحد..!!

                  -            وهم في أمس الحاجة للنقود!؟

                  -            نعم.. بل عرضت عليهم ضعف ما كنت أدفعه من أجر.

وفجأة سمعا جلبةً خارج الباب فخرجا، وإذا بمجموعة من القرويين متجمعة أمام الباب..

قال أحدهم وهو يلهث:

                  -            لقد بحثنا عنك في كل مكان يا "علي بن علي".

                  -            لماذا..؟

                  -            هنالك خمسة عساكر يبحثون عنك..

                  -            وأين هم؟

                  -            في بيت عمك "حمادي الحاج".

ذهب "علي بن علي" معهم، وأسكت "محسن" الطاحون، ولحق به. وفي ديوان "حمادي الحاج" كان هناك خمسة من العسكر يلبسون الجلابيب الزرقاء وقد علقوا بنادقهم على الحائط وجلسوا يرشفون القهوة، ولما دخل "علي بن علي" الدار قابله حمادي الحاج قائلاً:

                  -            ادخل إليهم يا "علي بن علي" وأنا سأذهب لأذبح كبشاً غداءً لهم.

                  -            ولماذا كبشاً..؟

                  -            إنهم ليسوا عساكر عاديين.. أنهم من العكفة... حرس الإمام الخاص.

ولم ينتظر بل اتجه مسرعاً خارجاً من الدار قبل أن يسأله "علي بن علي".

دخل "علي بن علي" ومن خلفه "محسن" إلى الديوان، ووضع بندقيته جانباً فقال أحد العساكر:

                  -            من منكم "علي بن علي"؟

                  -            أنا "علي بن علي"..

                  -            عليك أمر من "المقام الشريف"..

                  -            ومن غريمي؟

                  -            "محمد حسن".. فهل تريد أن تقرأ الأمر؟

ولما همَّ "علي بن علي" أن يأخذ الأمر ليقرأه سارع "محسن" قائلاً:

                  -            لا داعي لذلك.. أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم..

ونظر إليه "علي بن علي" مستنكراً، لكن "محسن" فلم يعره انتباهاً..

* * *

وصل "علي بن علي" إلى المقام الشريف، ودخل إلى مجلس حاكم المقام، فوضع بندقيته جانباً واتجه نحو الحاكم العجوز وصافحه ثم جلس بعيداً.

ودخل على إثره "محمد حسن"، فاتجه نحو الحاكم وقبل ركبته، ثم دخل على إثره وكيل الشيخ الذي انحنى على الحاكم مقبلاً ركبته، فلما عرفه الحاكم أجلسه بجواره..

كان المجلس مكتظاً بأناس يلبسون العمائم البيضاء المدورة من أصدقاء الحاكم وكبار علماء القوم وهم يمضغون القات، كلٌ قد اتكأ على كوعه الأيسر، وأحس "علي بن علي" بأنه غريب بين هؤلاء القوم ينظر إلى زاوية المكان التي كان يقبع فيها "محمد حسن" منكساً رأسه إلى الأرض، وابتسم ابتسامة باهتة ثم سرح ذهنه ولم ينبهه إلا صوت الحاكم المبحوح قائلاً:

                  -            هل حضر "علي بن علي"؟

                  -            نعم.. أنا "علي بن علي" يا سيدي الحاكم..

                  -            إذاً تكلم يا "محمد حسن".

ورفع "محمد حسن" رأسه ثم نظر إلى وكيل الشيخ وقال مخاطباً الحاكم:

                  -            لقد وكلت عني "محمد عبدالجبار" يا سيدي الحاكم.

ونظر الحاكم من خلال كتفة شزراً نحو "محمد عبدالجبار" وكيل الشيخ وخاطبه:

                  -             ما دعواك يا "محمد عبدالجبار" على "علي بن علي"؟

وتمهل "محمد عبدالجبار" ثم قال:

      -    يا مولانا، لقد جاء "محمد حسن" إلى الشيخ "مصلح" يشكو إليه شخصاً يدعى "علي بن علي" قد بسط على أرضه دون حق شرعي، فلما حاول الشيخ معرفة الحقيقة استدعى المدعو "علي بن علي" فلم يحضر بل أشهر سلاحه على رسول الشيخ، وبعد ذلك صرف "محمد حسن" لحاله ونصحه باللجوء إلى مقامكم الشريف..

                  -            ولكن ما هي دعواك على "علي بن علي"؟

                  -            هذه دعواي يا مولاي.. فقد بسط على أرض موكلي دون حق شرعي..

                  -            ما ردك على قوله يا "علي بن علي"..؟

                  -            يا سيدي الحاكم لقد اشتريت أرضاً من "محمد حسن" ولدي ورقة الشراء وهو يعرف ذلك وليس هو غريمي..

                  -            ومن غريمك؟

                  -            الشيخ غريمي.. يا سيدي الحاكم..

وهنا صاح وكيل الشيخ "محمد عبدالجبار":

                  -            كيف اشتريت أرضاً؟

                  -            هذه ورقة الشراء..

ونهض "علي بن علي" نحو الحاكم ووضع الورقة أمامه بينما قال "محمد عبدالجبار" مخاطباً "علي بن علي":

                  -            ومن كتب هذه الورقة؟

                  -            فقيه القرية يا "محمد عبدالجبار"..

واستدار "محمد عبدالجبار" نحو الحاكم، واستل خنجره من جرابه ووضعه أمام الحاكم وهو يقول:

                  -            هذه "جنبيتي" مقابل مائتي ريال إذا كان الفقيه قد كتب هذه الورقة بخط يده يا مولاي..

واستشاط "علي بن علي" غضباً فما كان منه إلاّ أن استل خنجره هو الآخر ووضعه أمام الحاكم وهو يقول:

- وهذه جنبيتي مقابل مائتي ريال إذا لم يكن الفقيه قد كتبها.

قال الحاكم:

                  -            وأين الفقيه؟

فأجابه "محمد عبدالجبار" قائلاً :

                  -            في البلاد يا مولانا..

                  -            وما الحل؟

                  -            تخرج بنفسك بيننا ناظرة لترى بعينك إدعاء "علي بن علي" الكاذب

وصاح "علي بن علي" غاضباً:

                  -            احترم نفسك في مقام سيدي الحاكم يا "محمد عبدالجبار"..

وحاول "محمد عبدالجبار" أن يرد لو لا تدخل الحاكم قائلاً:

                  -            هل تقبل يا "علي بن علي" أن أخرج ناظرة بينكما؟

      -    نعم يا سيدي الحاكم وسترى أن الشيخ حاول محاربتي باطلاً في باطل.. بل ومنع الناس من العمل معي في بناء بيتي..

وهنا صاح "محمد عبدالجبار":

      -    وهل لديك بيتاً يا "علي بن علي؟ إذا كان له بيت في البلاد يا سيدي الحاكم فسأدفع ألف ريال غرامة مني، وإذا صح أنه لا يملك داراً فعليه أم يدفع ألف ريال غرامة لكم..

                  -            أتنكر أنني أملك بيتاً؟

                  -            نعم.. كيف تملك داراً؟ إننا لا نعرف من أين أنت ولا من أين أتيت... تنهب أرض الرعية المساكين..

وبهت "علي بن علي" لسماع ذلك، فاتجه نحو الحاكم وهو يقول:

                  -            لقد قبلت يا سيدي الحاكم أن تخرج غداً وستعرف الحقيقة كلها.. وترى أعمال الشيخ التي لن ترضوا عنها.

وعارضه "محمد عبدالجبار" قائلاً:

                  -            مولاي الحاكم يعرف الشيخ.. يحمي رعيته ويعمل من أجلهم الخير.. وهي بلاده وبلادهم أما أنت فمن أين؟

                  -            هي بلادي كما هي بلاد الشيخ يا "محمد عبدالجبار"..

                  -            أنا منكر أنها بلادك..

وهنا قاطعهم الحاكم وهو يسعل..

                  -            لا داعي لكثرة الكلام فموعدنا غداً هنالك.

* * *

دوى في أحشاء الجبال صوت النفير معلناً قدوم الحاكم فهرع إلى مشارف القرية مجموعة من القرويين ينظرون إلى أسفل الوادي حيث شاهدوا موكب الحاكم يجتاز الوادي متجهاً نحوهم..

كان الحاكم يمتطي بغلته، ومن حوله عساكر يهرولون أمامه وخلفه وبينهم نافخ النفير ينفخ فيه محدثاً صوتاً موسيقياً مزعجاً أجفلت له طيور الوادي..

وكان "علي بن علي" يسير مع الموكب وهو ينظر إلى "محمد عبدالجبار" الذي كان يمتطي حماراً محاذياً به بغلة الحاكم.

ولما اقترب الموكب من القرية لمح "علي بن علي" الشيخ وصحبه يهرعون لاستقبال الحاكم وهم يطلقون الرصاص ابتهاجاً بمقدمه، وجاوبهم عساكر الحاكم فأطلقوا الرصاص من بنادقهم إلى السماء بينما علا صوت النفير.. ولما اقترب الشيخ وخبرته نزل الحاكم من على بغلته وصافح الشيخ ثم تعانقا، وأمسك كلٌ بيد الآخر حتى وصلا إلى مسجد القرية الذي كان قد فُرش فناؤه، وبحث "علي بن علي" بين الجموع عن "حمادي الحاج" فلم يجده بل وجد "محسن" ينظر إليه بحسرة لم يعرفها، ولما استقر بهم المقام في فناء المسجد قال الحاكم:

                  -            أين "علي بن علي"؟

                  -            أنا هنا يا سيدي الحاكم..

                  -            أرني منزلك الذي قلت عليه!

                  -            إنه في الجانب الآخر من القرية.

ونهض الحاكم بعصبية فساعده الشيخ على النهوض، واتجه الموكب إلى الجانب الآخر من القرية و"علي بن علي" أمامهم وبندقيته على كتفه، ولما وصلوا توقف "علي بن علي" عن السير فجأة وارتسمت الدهشة في عينيه وتلفت يميناً وشمالاً بعجب فلم يجد لداره أثراً، بل وجد زرعاً صغيراً قد نبت... ودارت به الأرض ولم يصدق أن ذلك حدث.. لم يصدق أن بيتاً يختفي عن الوجود وتقوم مكانه أرض صالحة للزرع ومنبتة أيضاً.. وظن أنه ربما أخطأ المكان، لكن هذا منزل "حمادي الحاج" أمامه، وذلك الطاحون أيضاً... ونظر إلى "محسن" فوجده لا يحرك ساكناً بل أطرق بوجهه إلى الأرض محاولاً إخفاء وجهه..

وهنا صاح الحاكم:

                  -            أين دارك يا "علي بن علي"؟!

وتلعثم "علي بن علي" وقال وهو تائه:

                  -            هنا كانت داري يا سيدي الحاكم..

                  -            وأين ذهبت؟

                  -            لا أدري..

وهنا قال الشيخ مخاطباً الحاكم وهو يبتسم:

                  -            هل حدثكم "علي بن علي" أنه يملك داراً هنا يا سيدي الحاكم؟

                  -            نعم يا شيخ مصلح وقد خرجت على هذا الأساس..!!

                  -            هذه أرضي يا سيدي الحاكم أزرعها منذ الأزل.

وهنا صاح "علي بن علي" والدموع تكاد تخرج من عينيه:

                  -            لقد خرّب الشيخ داري يا سيدي الحاكم..

فأجابه الحاكم بهدوء:

                  -            وأين آثارها؟ لابد من حجارة أو خشب لتثبت ذلك يا "علي بن علي"..!

وتلفت "علي بن علي" بين القوم عساه يجد أثراً لداره تحت أقدامهم دون جدوى، فقال بتأثر:

                  -            لا أدري يا سيدي الحاكم ولكن كلهم يعرفون ذلك..

قاطعه الشيخ قائلاً:

      -    يا سيدي الحاكم..! اسأل أي رعوي هنا عن ذلك..! إذا أخبرك أحد بأن لـ"علي بن علي" داراً هنا فأنا مستعد أن أعطيه داري وكل ما أملك..

فقال الحاكم مخاطباً الجموع:

                  -            ماذا تقولون؟

                  -            لا نعرف "علي بن علي" هذا ولا يملك هنا داراً..

وأظلمت الدنيا في عين "علي بن علي" عندما سمعهم يقولون ذلك، وتلفت حوله فلمح "محسن" بين الجموع تكاد تذرف من عينيه الدموع، فقال بتأثر مخاطباً الجموع:

                  -            يا لكم من جبناء.. إلى هذه الدرجة تخافون الشيخ! إلى درجة قول الباطل وشهادة الزور! ألا تعرفونني؟

ولم يجبه أحد، فوجه كلامه نحو "محسن" قائلاً:

                  -            ألا تعرفني يا محسن؟ يا لك من بائس مسكين...

ولم يجبه "محسن"، بل خرج من بين الصفوف مهرولاً نحو الطاحون، وألقى "علي بن علي" نظرة على دار "حمادي الحاج" فوجدها هامدة لا حياة لها، وسمع صوت الطاحون يدوي محدثاً ذلك الصوت المتقطع الرتيب... واقترب من الحاكم وبندقيته متدلية إلى الأمام بيده تترنح، وأشار الحاكم نحو عساكره فتحركوا نحو "علي بن علي" ليطوقوه.. ولما اقتربوا منه دوت طلقة نارية سقط على إثرها الشيخ مضرجاً بدمه..

 


([1]) الخُبرة: نوع من الحرس الخاص.

([2]) طبقة: منزل من طابق واحد.

([3]) الرعوي: الفلاح.

([4]) مفرجه: مكان المقيل.

([5]) عدلها: عمدتها.

([6]) مدايع: جمع مداعة، وهي النارجيلة أو الشيشة.

([7]) ينفذ: يرسل.

([8]) المدائع: النارجيلة.

 

 


 Back to Home Page