العسكري ذبح الدجاجة

 

في الطريق بين المزارع...

-     صباح الخير

-     صباح النور..

-     عليك عسكري..

-     يا ساتر لماذا؟

-     لا أدري.. إنه في بيتك وقد ضيق الخناق على زوجتك لتذبح له الدجاجة..

-     إذاً مع السلامة..

-     مع السلامة..

ونشط في خطاه وقد انتابته الهواجس.. لابد أن يكون غريمه "مصلح" قد أنفذ عليه ذلك العسكري من عند "عامل" الناحية.. لابد أن يكون "مصلح" ولا أحد غيره.

وشعر بالحقد على "مصلح" وهو يمرق من بين المدرجات الزراعية صوب قريته وقد وضع فأسه المحمل بالأتربة اللزجة فوق كتفه العاري وتمتم ببعض عبارات الشتم لغريمه "مصلح" الذي جعل من الحبة قبة..

وخطر بباله وهو يشرف على مدخل القرية أن يذهب إلى عدلها([1]) ويقترض منه أجرة للعسكري، لكنه تروى وقر عزمه على الذهاب إلى منزله خوفاً من أن يؤذي العسكري زوجته وأطفاله وبقرته ودجاجته.

وشعر برهبة وهو يخطو عتبة منزله المظلم وكاد أن يصطدم ببقرته الرابضة في مدخل الدار. قابلته زوجته لاهثة وهي تقول:

-     لقد أراد العسكري ذبح الدجاجة.

-     وأين هو؟

-     أخذ له رداءاً من هنا وذهب إلى المسجد.

-     لماذا..؟

-     لم يعجبه البقاء هنا.

ووضع فأسه في زاوية مظلمة ثم قال متوعداً:

-     بيني وبينك يوم يا "مصلح".

-     إنه ليس مصلح.

-     ومن هو؟

-     "مسعد"..

-     أتقصدين جارنا "مسعد النجار"..؟

-     نعم..

-     ولماذا؟

-     لا أدري..

ولم يصدق أن "مسعد النجار" جاره الطيب ينفذ([2]) عليه عسكري من عند "عامل" الناحية وليس بينهما شيء. لقد تصور أن يكون "مصلح" لأنه تشاجر معه حول ساقية الماء. ولكن "مسعد النجار" لم يختلف معه أبداً. قالت زوجته:

-     اذهب إلى "العدل" واقترض منه أجرة العسكري قبل أن يذبح الدجاجة.

واتجه صوب بيت "العدل" وطرق بابه.

فأجابته زوجة "العدل" بأن زوجها ذهب لصلاة الظهر.. واتجه صوب المسجد ولم يدخل فناءه بل اتجه صوب ينبوع الماء يتوضأ منه..

وفي فناء المسجد قابله سكان القرية بنظرات عادية بينما قال صائحاً:

-     هل رأيتم.. "مسعد النجار" ينفذ علي عسكري من عند العامل!

-     "مسعد النجار" ليس موجوداً هنا..

أجابه أحدهم بينما استمر هو قائلاً:

-     هل له حق عندي ليعمل بي هكذا؟

وخاطبه آخر قائلاً:

-  أجّر العسكري اليوم.. وغداً اذهب إلى "عامل" الناحية وأنفذ عليه عسكري "قضاء بسلف..".

وقال آخر بصوت هادئ:

-  لا تؤجر العسكري بل أذهب معه إلى "عامل" الناحية وهو الذي سيقرر من تكون عليه أجرة العسكري.. فإذا كان تنفيذه عليك باطلاً فسيلزمه "العامل" بالأجرة.

واقترب منه آخر وهو يقول:

-     يا جماعة.. لا تطولوا الحكاية.. أجّر العسكري واسلم نفسك المتاعب..

-     ومن أين لي الأجرة..

-     اقترضها من "العدل".

-     وهل يرضيك أن أأجر العسكري باطلاً بباطل..

ولم يجبه بل نظر إليه بحدة وصاح غاضباً:

- قم وصل الظهر.. فأنت معاند وتريد جلب المشاكل لنفسك.

وسكت الجميع عندما خرج العسكري من داخل المسجد حاملاً بندقيته ومن ورائه "عدل" القرية بعمته البيضاء ولفيف من القرويين عراة الظهر والصدر. قال "العدل" مخاطباً العسكري:

-     هذا ضالتك المنشودة.. أريه أمر "العامل"..

-     ألم تره أنت؟

-     نعم ولكن..

قاطعه العسكري بحده وهو يقول:

-     ولكنك ماكر.. تريد هذا "الرعوي([3])" أن يتعبني.

وابتسم العسكري وهو ينظر إلى "الرعوي"، وابتسم الجميع بينما كان "العدل" قد تصنع الابتسامة وقد أحس بالحرج فقال:

-     ليس لي دخل بينكما..

ولكن العسكري تجاهل قوله واقترب من "الرعوي" وهو يربت على كتفه ثم قال:

-     إنه رعوي طيب. سيذبح لي دجاجة للغداء..

-     ولكن ليس لدي دجاجة..

-     هه.. لقد رأيتها في بيتك.. فلا تحاول خداعي وإلا ذبحت البقرة..

-     ولكن ليس لدي سواها..

وهنا سكت العسكري وحملق فيه كمن يريد إخافته ثم قال بغضب:

-     أتريد أن تقدم لي عصيداً؟

-     هذا كل ما أملك..

-     عليك اللعنة.. اذهب وأعد الدجاجة وإلا..

ثم دفعه بيده صوب الفناء، لكن الرعوي عاد وهو يقول:

-     حرام عليك ليس لدي سواها..

-     ليست كبشاً يا رعوي. خيرة الله عليك.

-     لكنني وعدت ابني بشراء ثوب له للعيد من ثمنها.

وعبثاً حاول، بينما قال أحد الحاضرين:

-     "العدل" يتكلف بغداء العسكري وينتهي الإشكال.

لكن أحد الحاضرين أيضاً اقترب من "الرعوي" وقال له هامساً بأذنه:

-     لا تصدق "فالعدل" سيطالبك بالكثير مقابل ذلك.

وصاح آخر مخاطباً الرعوي:

-     اذهب واذبح الدجاجة.

-     ليس لدي سواها يا خلق الله.

-     إذاً دع العسكري يذهب إلى بيت "العدل" ما دمت مغفلاً لا تفهم.

وكأنما شعر "العدل" بذلك التلميح فقال:

-     بيتي ليس فارغاً لأحد. دعوه يذبح الدجاجة فليست كبشاً يا خلق الله.

ونفد صبر العسكري فاتجه صوب "الرعوي" وجذبه من مئزره نحو القرية وهو يقول:

-     أمري على هذا الرعوي ولا أعرف غدائي إلا منه.

حاول الرعوي عبثاً أن يتملص من قبضة العسكري ولكن دون جدوى. ولما وصلا إلى المنزل اتجه العسكري نحو الدجاجة التي كانت تغفو فوق أحد عيدان الحطب المشوكة، وحاول الإمساك بها لكنها أجفلت ثم قفزت نحو الباب هاربة فحاول اللحاق بها لكنه تعثر في عتبة الباب فكاد أن يقع على الأرض لولا أن أمسك بعارضة الباب، بينما كانت بندقيته قد ارتمت من على كتفه إلى الأرض فلم يعرها انتباهاً وقد ازداد غيظه من الدجاجة فاتجه نحوها وهي تصيح، ولما اقترب منها وثب عليها لكنها مرقت من بين يديه بينما سقطت عمته وتدحرجت في الوحل، ولم يعرها انتباها أيضاً، بل زاد ذلك من غضبه فاتجه صوب الدجاجة مرة ثالثة وحاصرها في زاوية في عرض المنزل وأطبق بيده عليها حتى كتم أنفاسها.

رجع نحو "الرعوي" وعيناه تقدحان بالشرر بينما كان الأخير قد أخذ البندقية من الأرض، ثم لحق بالعمامة في تدحرجها فالتقطها وبدأ في تنظيف ما علق بها من الوحل.

مد "الرعوي" يده بالبندقية نحو العسكري الذي جذبها منه ثم أخذ عمته وهو يلهث، واتجه نحو الزوجة وصاح بها وهو يعطيها الدجاجة قائلاً:

-     قسماً بالله إن لم تذبحيها لأنحر هذه البقرة الآن.

وارتاع الرعوي وزوجته لقول العسكري فما كان من الرعوي إلاّ أن خاطب زوجته بحسرة قائلاً:

-     أمري لله... اذبحيها يا امرأة وأمري لله.

وحاولت الزوجة أن تتردد ولكنها انصاعت بإشارة صارمة من زوجها.

وفي المكان الوحيد في بيت الرعوي علّق العسكري بندقيته في عرض الحائط بعد أن تفقد خدوشها، بينما كان الرعوي يصلح له مكاناً ليجلس فيه. ولما جلس قال مخاطباً الرعوي:

-     هل اشتريت لي "القات" لأقيل به؟

-     ليس لدي "قات".

-     هه.. أتريد أن نعيد الكرة مرة ثانية؟

-     لكن ليس لدي "قات" وأقسم على ذلك.

وبصوت غاضب قال العسكري:

-  لا ينفع معكم إلاّ القوة.. قُم واشتري لي "قاتاً" ولا تدفعني لاستعمال العنف معك فأنا منهك من الطريق.

-     ولكن أنا لا أزرع القات..

-     قلت لك اشتريه يا رعوي.

-     ولكني لا أملك نقوداً لأشتري لك القات.

نظر إليه العسكري كمن نفذ صبره ثم قال مهدداً:

-     خيرة الله عليك يا رعوي!

وشعر الرعوي بذلك فقال بصوت خافت:

-     ولكن من أين أشتري لك قاتاً؟

-     أنت أخبر مني بذلك.

-     لا يوجد هنا "قات" إلاّ مع "العدل"..

-     اذهب إليه وأخبره أن القات من أجلي فلن يخالف ذلك.

وخرج من منزله متجهاً صوب دار "العدل" بينما كانت زوجته تذبح الدجاجة.

عندما وصل إلى دار "العدل" قال له:

-     أريد شراء "قات" منك.

-     هل جننت يا هذا؟ أتريدني أن أتلفه ومازالت غصونه صغيرة؟

-     إنه العسكري!

وما أن سمع "العدل" ذلك حتى قام من مكانه وخرج معه صوب مدرج زراعي صغير قد امتلأ بشجيرات "القات" خلف منزله، وشرع في قطف الأغصان التي بانت له كبيرة ثم قال متذمراً:

-     لا يأتي منكم سوى المتاعب..

-     وماذا جنيت؟

ولم يجبه بل ناوله حزمة "القات" وهو يقول:

-     إعلم أن ثمن هذه الحزمة ريالان..

ونهض الرعوي من على الحجر الذي جلس عليه ثم قال محتجاً:

-     إنه لا يساوي ريالاً واحداً..

ولم يجبه "العدل" بل خطف حزمة "القات" من يد "الرعوي" واتجه نحو منزله وهو يقول:

-     إذاً اذهب عني وأبحث لعسكريك عن قات

-     ولكن لا يوجد هنا قات سوى قاتك

-     يوجد منه الكثير في قرية (جَلبْ) وهو هناك صالح للقطف.

-     ولكنها بعيدة

-     وماذا أفعل لك؟

لحق به وقد غلب على أمره وقال:

-     سأدفع لك ما قلت به.

وابتسم العدل لسماع ذلك، وناوله حزمة القات بينما قال الرعوي متسائلاً:

-     كم أدفع أجرة للعسكري؟

-     ألم تتفقا؟

-     لا..

-     ادفع له ريالين كغيرك من الرعية.

-     إذاً أقرضني الريالين ..

-     الحق ورائي إلى البيت..

ودخلا المنزل. اتجه العدل صوب صندوقه الخشبي وفتحه وأخرج ريالين وقال:

-     يبقى عندك لي خمسة ريالات..

-     ولكنها أربعة ريالات فقط!

-     لا تقترض مني إن لم يرضك ذلك... قلتُ خمسة ريالات!

-     لا داعي... لقد قبلت وأمري إلى الله..

وأخذ الرعوي القات والأجرة واتجه صوب منزله وهو يلعن "مسعد النجار".

وتناول العسكري غذائه الشهي وقد جلس إلى جواره الرعوي وأسرته، ولما حان وقت تناول اللحم نهض الرعوي وأسرته وأكل العسكري الدجاجة وحده كاملة..

قدم الرعوي للعسكري المغسل ليغسل يديه فغسلهما وهو يتمتم بالحمد والثناء لله. ثم مسح وجهه بيديه ولبس عمته وجذب بندقيته من الحائط وأدخل حزمة القات في لحفته التي رماها وراء ظهره وقال مخاطباً الرعوي بتأفف:

-  لا تظن أنني سأقيل عندك هنا في هذا المكان المظلم. سأذهب أنا الآن وأنت تلحق بي في صباح اليوم الثاني.. وإياك أن تتأخر وإلا عدت لك من جديد.

-     وهل غريمي هناك؟

-     لا أدري.. المهم إياك أن تتأخر.

ثم خرج من باب المنزل والرعوي يصاحبه، بينما خرج بعض القرويين من بيوتهم لوداع العسكري والكل يظهر له المودة نفاقاً وخوفاً من أن يرميه القدر مرة أخرى على أحدهم.

صاح أحدهم بأحد الصبية ليذهب ويخبر العدل برحيل العسكري من القرية، فانطلق الصبي ورجع وبصحبته "العدل" الذي سلم بحرارة على العسكري مودعاً إياه..

وفي خارج القرية قال العدل للعسكري:

-     هل استلمت أجرتك؟

-     لا.. وسآخذها منه عند ما يلحق في الصباح.

وكأنما تنبه الرعوي لذلك فأخرج الريالين من طيات ثيابه ودفعها إلى يد العسكري الذي نظر إليهما بغضب ثم رماهما إلى الأرض وهو يقول:

-     ريالين؟ كل هذا الطريق بريالين يا رعوي!!

-     لا أملك سواها

-     دعك من المخادعة يا رعوي..

-     والله لا أملك سواهما وقد اقترضتهما من العدل

-     هه..! أتريد أن نعيد الكرة مرة ثالثة؟

وهنا قال العدل للعسكري وهو يحاول الابتسام:

-     لقد أقرضته الريالين الآن.. فخذهما..

-     ما دمت قد أقرضته الريالين فأقرضه ريالين آخرين لكي تكتمل الأجرة..

-     ولكنها الأجرة المقررة من قبل الحكومة..

-     لا تتدخل بيني وبينه يا عدل.. هه..

وسكت العدل بينما نظر العسكري نحو الرعوي وقال بهدوء:

-  لقد رحمتك، وأخبرتك أن تلحق بي في الصباح وكفيتك شر المبيت والعشاء والإفطار، لكن المعروف لا ينفع هذه الأيام.

وتحرك كمن يريد العودة إلى منزل الرعوي لكن أحد القرويين قال مخاطباً العدل:

-     أقرضه ريالا ثالثاً..

وتوقف العسكري ثم حملق في القروي وهو يقول:

-     بل ريالين.. ثم من سأل رأيك يا حمار؟

وسكت الجميع بينما اتجه العسكري نحو العدل وقال كمن نفذ صبره:

-     هات ريالين إلاِّ ربع.. هه.. رحمتك مرة أخرى يا رعوي.

وكأنما كان ذلك حلاً وسطاً في نظرهم فأخرج العدل المبلغ المطلوب من طيات ثيابه ودسه في يد الرعوي الذي دسه بحركة لا شعورية في يد العسكري ووضعه الأخير بدوره في حافظته الجلدية وهو يبتسم، بينما قال العدل مخاطباً الرعوي:

-     يبقى عندك سبعة ريالات.. تذكر ذلك.

-     ولكنها سبعة ريالات إلاِّ ربع ريال..

-     لقد قلت سبعة ريالات.. يعني سبعة ريالات.. فإذا لم يرضك ذلك فـ..

لم يقل الرعوي شيئاً بل سلم بالأمر الواقع، بينما كان العسكري يودعهم مرة أخرى. عندها قال أحد القرويين بعد أن ابتعد عنهم العسكري مخاطباً الرعوي:

-     لماذا أنفذ عليك "مسعد النجار" هذا العسكري؟

ودهش الرعوي لسؤال جاره فهو إلى الآن لم يعرف السبب، فما كان منه إلاّ أن صاح بالعسكري قائلاً:

-     لماذا أنفذ عليّ غريمي من عند العامل يا عسكري؟

وأجابه صوت العسكري ومازال قريباً منهم:

-     لأن دجاجتك نقرت عين ابنه..

وصعق الرعوي لسماعه ذلك بينما كان القرويون في حالة تعجب عادية..

ارتبك الرعوي وهو لا يدري هل يضحك أم يبكي، فقال مرة ثانية مخاطباً العسكري:

-     ولكنها لم تنقره في عينه..

أجابه صوت العسكري:

-     المهم أنها نقرته يا رعوي..

-     ولكن هذا ابنه أمامك ليس به أي شيء، وهو الذي ذهب يدعو العدل لوداعك!

-     المهم أنها نقرته يا رعوي..

-     ولكن هذا ظلم!

-     إياك أن تتأخر في الحضور صباحاً وإلا عدت لك مرة أخرى..

وأسرع العسكري في خطاه عندما رأى السحب تتجمع منذرةً بهطول الأمطار، بينما نظر الرعوي إلى الصبي نظرة تأمل ليرى نقرة دجاجته "الراحلة" له.. بينما كان الصبي يبتسم ببراءة جاهلاً ما يدور حوله...

 



([1] ) العدل: العمدة.

([2] ) ينفذ: يرسل.

([3] ) الرعوي: الفلاح.

 

 


 Back to Home Page