الفتى "مبخوت"
|
-
مبخوت.. يا مبخوت.. على أبوك لعنة الله..!
-
وأبوك.. !
-
(لقن)([1])..!
-
ماذا تريد ..؟
-
يا الله رضاك .. أطلب الله من الصباح الباكر..؟!
-
كل شيء لديك..!
-
خنزير..!
-
وعق والديه!..
-
صحيح.!
-
وإياكم!!
وحرك بائع (البرعي)([2])
ملعقته الخشبية داخل قدر (البرعي) النحاسية الكبيرة المتسعة من أسفل والضيقة من
أعلى والتي تتصاعد منها الأبخرة بفعل الحرارة الموضوعة تحتها تلهب الأنوف وتستدعي
الزبائن للتزاحم..
كان بائع (البرعي) فعلاً مشغولاً بقدره
النحاسية وبتنظيف الأواني الفخارية وبعضها قد تحولت إلى أوان بلاستيكية حديثة
يغسلها ويضع للزبائن كل حسب قدره في الطلب بحسب ما دفعه.
وكانت مهمة الفتى (مبخوت) تجميع الأواني
الفارغة من الزقاق والحارة ومن أمام حانوت بائع (الزلابياء) وبائع (القنم)([3])..
ومن أمام حانوت بائع الكباب المغلي بالزيت..
-
مالك اليوم يا مخبوت..؟
-
..
العجوزة
الكاهنة..!
-
من هي؟
-
بائعة (الكدم)([4])
-
أتركها في حالها يا مبخوت.. وانتبه لعملك..
-
..
ملعونة..
-
اتركها يا ابن القذر!.
-
ما قذر إلا أنت..
-
عفا الله عنك.. انتبه إلى عملك!
-
ملعون أنت وهي..
لن أهتم بالعمل قبل أن أصفي حسابي معها..؟
-
يا فتاح يا عليم..! مالك اليوم "نزق".
-
.. قلت لك العجوز الكاهنة بائعة (الكدم)..!
-
نحن وإياها دائماً، يا مبخوت!.. ماذا حدث اليوم؟
-
اتهمتني القذرة بالسرقة..!
-
حسن ألفاظك (يا مبخوت).. وانتبه إلى عملك..
-
لن أعمل شيئاً حتى أصفي حسابي معها، هذه العجوز القذرة..
-
عيب عليك يا مبخوت.. أطلب الله وقل يا عليم من صباح الصبح..
كان الحوار ساخناً.. لم أعهده من قبل ..
فأنا زبون دائم..
أتجه
كل صباح إلى بائع (البرعي) القابع في حانوته القديم الضيق.. كأنه زنزانة تذكرني
بالحبس الإنفرادي..
ومع ذلك فقد طاب لي هذا الحوار الساخن
النزق بين الفتى (مبخوت) ورب عمله (العم) بائع البرعي..
الفتى (مبخوت) لم يبلغ الحلم.. تأملته
اليوم ملياً لأول مرة..
لم يكن يخطر على بالي من قبل.. كنت أنشه
وأنا أزاحم لأخذ إنائي من (البرعي) وكأنه كالآخرين.. مجرد حشرة هامشية أو كتف بشر
من الهامشيين المتهافتين على باب الحانوت الضيق..
حتى بائعة (الكدم) العجوز الرابضة بشوال
(الكدم) أمام باب حانوت بائع (البرعي) لم أهتم بها أيضاً منذ طاب لي شرب (البرعي)
الحار بالزعتر والكمون والبسباس الحارق.. حتى هذه اللحظة..!
ما ألذ رشف (البرعي) الحار بالبهارات في
صباح يوم شتوي بارد وقارس..!
الأكف
تحتك والأفواه تخرج شبه ضباب والأنوف حمراء والأرجل مشققة..
يموت الذباب في باب (السباح) هذه الأيام
وتعيش بعض الصراصير بين مزالق الأبواب الخشبية للحوانيت..
فباب
السباح معدة صنعاء.. فواكه وحلويات ومخابز ومجازر لبيع اللحوم وذبح الدجاج
الحي..ومعسكر لعمال البلدية من (الأخدام) ومحطة لبيع التنباك (التهامي) و(السارعي)
بكل أنواعه.. وباعة من صغار السن متجولين وباسطين بضائعهم الرخيصة على جميع أرصفة
باب السباح..
الفتى (مبخوت).. صبي يافع.. مليح
الطلعة.. وسيم المحيا.. قوي البنية.. لا هو بالثخين ولا بالنحيف.. جميل الوجه .. ذو
أنف بديع التكوين يعلوه حاجبان شجاعان غامقا السواد.. وذقن حادة التكوين. وجنتان
حمراوان بشقوق واضحة من أثر الصقيع..
سليط اللسان تلمع عيناه وكلماته
بالذكاء.. معتمد على نفسه..
لا يعرف له أصل ولا حسب ولا نسب.. ولا
من أي منطقة هو..!
فلهجته تختلف عن كل اللهجات المستعملة
والمتداولة الصادرة من عشرات من خلق الله أمام حانوت بائع (البرعي).. إلا أن شكله
وطبيعته ونزقه وكل السمات تدل على أنه يمني.. وربما من باب السباح أيضاً..
يستهويه ويروق له أن يلبس بنطالاً من
(الجنز) الأزرق و(بلوفر) من الصوف (المحلي).. وحذاء رياضي..
يبدو أنه يلعب به كرة القدم مع أقرانه بعد
الظهر.. وشعر رأسة طبيعي كما خلق..
يرقد عليه عشرات الأيام دون
أن يمسه ماء أو مشط.. ومع ذلك فهو مجعد مغرٍ حتى لعدسات السائحات الأجنبيات
الداخلات إلى صنعاء القديمة من باب (السباح)..
الفتى (مبخوت) .. سريع الحركة.. نشيط في
إعادة الأواني الفارغة التي يتركها الزبائن أمام باب بائع (الزلابياء) أو بائع
(القنم) أو بائع الكباب.. ويلاحظ إعادتها من ممرات الأزقة المتفرعة والخبز
والزلابياء من الأرض خوفاً من تدنيسها بالأقدام ويعتقد بأنه سوف ينال أجراً عند
الله في الآخرة..!
-
يا (مبخوت ).. اتق الله. مالك اليوم (قتر)..؟
واغتاظ الفتى (مبخوت)..وأجاب صائحاً
بألفاظ نابية..
رشفت ما بقي من مدرة البرعي المخلوط
بذرات من مسحوق الزعتر والكمون والبسباس اللاهب.. وهززت الأناء بيدي لأبرد ما تبقى
من نطف وحبوب وأنا أتمنى أن أشرب المزيد.. وأثناء ذلك قدم الفتى (مبخوت) مسرعاً
فاصطدم بي واندلق بعض بقايا (البرعي) على ثيابي.. في الحقيقة تألمت لأنني ذاهب إلى
العمل والوقت قصير جداً لكي أعود إلى منزلي وأغير ثيابي..
لم يأسف الفتى (مبخوت) لخطئه..
وإن كان بائع (البرعي) قد صاح به قائلاً:
-
عليك اللعنة يا مبخوت..
-
وإياكم..!
-
وسخت ملابس (المدير)..
-
هو السبب..
-
عيب عليك!.. شاهدت ذلك بنفسي..
-
مديرك.. كان سابحاً..!
-
على أبوك اللعنة..
-
وأبوك.. !
وابتسمت رغم ذلك!
وحرك بائع (البرعي) الملعقة الخشبية
داخل القدر النحاسية بعنف ثم نظر إلى يطلب مني المسامحة والغفران..
فأعطيته إشارة بذلك فما كان منه إلا أن ملأ لي
(مدرة) أخرى من (البرعي) تناولتها ورشفتها..
-
..
مبخوت….
-
.. نعم..؟
-
صلي على النبي..
-
أقسم لك بالله بأنني أصلي عليه كل يوم.. إلا هذا اليوم لن
أصلي عليه لأنك طلبت مني ذلك..
-
يا ساتر.. أعوذ بالله.. مالك اليوم..؟!
-
قلت لك.. هذه العجوز القذرة.. بائعة (الكدم)..
اتهمتني بأنني تحايلت عليها.. وسرقت
الكدم..
وصاحت العجوز بصوت خفيف ساذج قائلة:
-
نعم ..(الكدم) ناقصات فقد
عددتها..
-
وما دخلك بها يا (مبخوت)..
- عملت خيراً..
-
انتبه إلى عملك.. مالك ومالها..؟!
-
عهدت إلي بأن أبيع لها (الكدم) أثناء غيابها.. وكنت أظن أن
مغصاً أصابها أو حاصرها (البول).. هذه الملعونة..!
-
نقضي حاجتنا في بيتنا يا وسخ.. وأنا ركنت عليك بالذمة
والأمانة...
وبكت العجوز متشنجة كأنها طفلة..
-
يا قليل الذمة والأمانة.. لقد خسرت يومي..
-
من قال لأبوك أن تخسري يومك..؟
-
ذهبت أقطع (البطاقة)..
-
من تكونين يا مجنونة..؟
-
(شلعة) بنت (محاسن)..!
-
على أبيك وأمك اللعنة..!
-
وابوك يا خائن..
-
لم
أخنك .. !
-
بل خنتني..
وصاح بائع (البرعي).. يريد أن ينهي
الموضوع:
-
وهل قطعت البطاقة..؟
-
لا.. لم أقطعها. بل قطع رزق يومي..
وعلق الفتى (مبخوت):
-
حرام أن يعطوا بطاقة لمثل هذه الحشرة..!..
وتشنجت العجوز صائحة:
-
حرام أن يعطوها لك.. يا .. زنوه..!
وهاج الفتى مبخوت وتحول لون وجهه إلى
لون أسود كالح محروق وصاح زاعقاً بأعلى صوته:
-
أنا (مبخوت) يا مجنونة..!
-
... زنوة..!
-
كذاب أبوك يا عاهرة..
-
وأبوك..
وهوى الفتى مبخوت بكفه بصفعة قوية على
خد العجوز. رنت تردد صداها بيوت الأزقة المتفرعة في باب السباح، وقذف بقدر
(البرعي) النحاسية إلى الأرض وبإناء (الكدم) وهاج كأنه ثور محاصر.. وتحول مدخل باب
السباح إلى ساحة معركة..
وعلا الهرج والمرج والفوضى.. واستطعت أن
أنفد بجلدي وببدلتي المتسخة والفتى (مبخوت) ما زال يجندل من حوله من (الغيلان)
كأنه سيف بن ذي يزن أو عنترة بن شداد... |
|