الغـجـرية
لا
يدري كيف
اعترته نوبة من خيلاء برجوازية بكل مظاهرها الارستقراطية المتعجرفة وهو يتنزه على
رصيف شاطئ النهر إثر ليلة ساهرة ولا كل الليالي في "النادي" الغجري"...!
كان الجو
إثر غيم الصباح قد اعتدل نوعاً ما... لكنه يبشر بالمزيد من التحسن، خصوصاً أن بعضاً
من أشعة الشمس بدأ يخترق ويذيب سحائب الغيم من على سماء المدينة.
* * *
يَفِرُّ
من المدرسة، ويتسكعُ بجوار "دار الأمير" المزدحم بخلق الله ليشاهد فتاتين سمراوين
تقرعان الدفوف وتقومان بحركات مغرية راقصة... وعليهما ألبسة لاصقة بجسميهما تبرز
معالم الأنوثة المغرية التي تسيل اللعاب...
كانت
إحداهما تضرب بالدف وهي تهز جسمها... والأخرى تقوم بألعاب بهلوانية وتتقوس إلى
الخلف لتصل برأسها إلى قدميها وبين ذراعيها، وتلتقط العملة النحاسية بجفون
عينيها...!
يختبئ خلف
برميل قديم مليء بالمياه الآسنة ينبي بهياج جنسي... ويتبلل مئزره وفخذاه إثر حركات
جامحة طائشة...!
* * *
الكاميرا
معلقة على كتفه اليسرى... والساعة تهتز على معصمه الأيمن... آثار الدبلة ناصعة
الوضوح على إصبعه الخنصر في اليد اليسرى، وحلت بدلاً عنها خواتم مذهبة على أصابع
اليد اليمني.. وسلسلة شبه ذهبية على معصمه الأيسر يتدلى منها رسمٌ لقلب وسهم
يخترقه... ينفخ بسيجارٍ تقليد لسيجار "هافانا" المشهور... وحذاؤه عالي الكعب يؤلمه
ويدفعه للترنح في بعض الأحيان..
* * *
سألته
زوجته مرة بخبث:
-
لا أجد على إصبعك الدبلة!
-
سُرقتْ أثناء الرحلة...
-
عجيب، كيف سُرقت!؟
-
ما العجيب في ذلك..؟!
-
من المعقول أن تقول مثلاً بأنهم سرقوا منك شنطة ثيابك، أو
حافظة نقودك أو آلة التصوير... مثلاً... لكن أن تقول سرقوا الدبلة من إصبعك فهذا
غير منطقي..!! ألستَ معي..!؟!
-
أقسم...
قاطعته
بسرعة:
-
هه...! لا تقل بالله ولا بحياة الأولاد أو حياتي...!
قاطعها
بسرعة أيضاً:
-
بشرفي... بمعزتكِ عندي...
-
أصدقك الآن..!!
* * *
نظر إلى
إصبعه وخجل... أخرج من جيبه الدبلة وأعادها إلى إصبعه وأشعل من جديد سيجارة... وأخذ
يلتقط صوراً للمناظر الخلابة على الشاطئ الآخر للنهر، وبحركات فنانٍ مبدعٍ ورسامٍ
قدير... ومع ذلك لم تنجح له أي صورة التقطها طوال حياته...
-
يا أخي... لو كان الحجر يستخدم هذه الآلة المتقدمة لتعلَّم مع الوقت...!
-
لا تدقق يا أخي... المهم المظهر..!
* * *
" النادي
الغجري" هو شبه ملهى صاخب يطل على شبه بحيرة متفرعة من النهر... خافت الأنوار في
داخله، لكنه من الخارج ساطع النور، وخصوصاً على شعاره الذي كان عبارة عن لوحة
عملاقة لصورة فتاة غجرية ترقص...
كانت
اللوحة على واجهة النادي أكبر بكثير من حجم مبنى النادي شبه الملهى بكل ملحقاته.
* * *
-
الغجر... هم قوم رُحَّل يا صديقي...
-
بدو...؟
-
لا... ليس بهذا المفهوم...
-
دواشن([1])..!؟
-
لا... لا...
-
أخدام([2])...؟
-
... ربما..! لكن لا اعتقد ذلك...!
-
"نَوّر"([3])..؟
-
يشبهونهم نوعاً ما... لكن ليس بالتحديد..
-
"غوازي"([4])...؟
-
يكاد ربما..! نعم... بالتأكيد... هم كما ذكرت...
* * *
ظلت
الغجرية الحسناء ترقص، تهز جسمها الفاتن الذي أبدع الخالق في تكوينه... شعرها
المرسل المجعد الفاحم يهطل على ثدييها وظهرها وكتفيها العاريتين كأنه مزنٌ متموج من
المطر الغادق...
كان خداها
اللذان يكادان ينفجران أنوثة يلمعان من بين خصلات شعرها، وابتسامتها الجذابة على
شفتين مبللتين بريقها تهز السامرين، ورموش عينيها المكحلتين "تشق القلوب قبل
الجلود"...!
* * *
كانت
"الفودكا" قد عصفت به وبصاحبه، وبالموسيقى الصاخبة المصاحبة للغناء والرقص... في
البداية لم يتذوقها، وكان وقعها عليه كالهم والغم على القلب، لكنه قد تحول الآن إلى
عزف وغناء نابع من ظلال الجنة العابقة بحور العين، والولدان المخلدين، والأنهار
العسلية والخمرية واللبنية..!
حاول كبح
نشوته المتقدة للاندفاع نحو حلبة الرقص ومعانقة الغيد الحسان اللواتي يقطر منهن
السائل المقدس كأنه حبات عرق..!
لم يستطع
احتمال ذلك الموقف رغم تحرج صديقه ومحاولته تثبيط عزيمته بكل وسائله المنطقية
والعملية وحتى العنيفة أيضاً...!
كانت هي
قد اتجهت إليه من على المنصة باندفاع خافٍ منه، وتلوَّت بجسمها المشحون بكل متفجرات
الأنوثة والإغراء، واقتربت منه بشدة...
وجِلَ هو وارتبك... لكنها لم تمهله ثانية واحدة لاسترجاع شجاعة نشوته التي صنعتها
"الفودكا"...
أطبقتْ
على عنقه بكلتا يديها، وجلست على ركبتيه بعجزها
الدافئ المكتنز... ولذعته بقبلة عميقة أدخلته إلى عالم لم يكن يحلم به...
ذكرته بجنات "الحشاشين" في عهد "صلاح الدين"...
شعر بأن
الجموع في داخل "النادي الغجري" قد وقفوا على أقدامهم وأنظارهم تتجه نحوه... حاول
أن يزيحها من على جسمه لكنها كانت كحيةٍ ملساء لصقت به وطوت جسمها الناعم على
بدنه... وغابت معه في قبلة أخرى والتصاق يفجر البراكين الخامدة في كل بقاع الأرض...
* * *
بدأ الجو
يتحسن... وبقايا السيجار شبه الكوبي "هافانا" تكاد تنتهي... وهو ما يزال يذرع رصيف
شاطئ النهر... تنبه لتوقف سيارة "أجرة" بجواره، وسألته فجأة فتاة سمراء بتودد واضح
وبرقة عذبة:
-
من فضلك..!
-
مرحباً..!
اعترته
رعشة... واستجاب لندائها باندفاع بعد أن خيل إليه أنها تلك الفتاة الغجرية راقصة
"النادي الغجري"...
قالت:
-
ممكن أن تقدم لي خدمة..؟
-
بكل سرور... يا...
-
أريدُ صرف عملة ورقية كبيرة بأعداد متفرقة من العملات المعدنية لكي يتسنى لي دفع
أجرة السيارة...
اندفع
بسرعة البرق إلى حافظته وأخرجها، وقد لمعت في ذهنه خاطرة أنها قد وجدته بعد أن بحثت
عنه طويلاً لكي تقضي معه ليلة أو أياماً بلياليها في ربوع هذا الوطن المعطاء،
يرتشفان كؤوساً من اللذة والمتعة...
ناولها
حافظة النقود لتأخذ منها ما تشاء...
أخذت منه
الحافظة، وانطلقت السيارة بسرعة محدثة أزيزاً مذهلاً في أذنيه... ما زال يعاني منه
حتى الآن...
[1] دواشن: جمع دوشان، وهو في
أعراف القبائل اليمنية رجل الإعلام الناطق باسمها حرباً أو سلماً وفي
الأسواق.
[2] أخدام: قوم في اليمن سُمر
البشرة يشتهرون بالغناء والرقص والترحل.
[3] نوّر: معروفون في بلاد الشام.
[4] غوازي: معروفة في بلاد مصر
وشمال أفريقيا.