الذي أضاع أمه
-
- سيدي...! لقد أضعت أمي...
-
- سيدتي
..! لقد أضعت أمي...
نظرتْ المرأة إليه شزراً، وتلمست محفظتها اليدوية بحركة
تلقائية... وسار الصبي بجوارها إلى أن وصل إلى نقطة البداية.
كان قد وضع لنفسه حدوداً لا يتعداها على الرصيف أمام المتجر
الكبير الذي يحتل الدور الأرضي لعمارة عملاقة تعانق السحاب...
-
-
أيها السيد المحترم...! هلّا ساعدتني؟
نظر إليه الرجلُ ويداه في جيبي معطفه الدافئ، وواكب سيره...
-
-
لقد أضعت أمي...
-
- أوه...! ستجدها يا عزيزي...
* * *
سقطت من عينيه دموعٌ ساخنة... كان قد أجهد نفسه أن لا يستسلم
للحزن والبكاء خوفاً من أن يفقد توازنه الذهني الذي يجب أن يكون مُرَكزاً في هذه
اللحظات الحرجة لكي لا يتوه في غابة المدينة المتوحشة، وتبتعد أمه كثيراً عن
الدائرة التي رسم حدودها على الرصيف المحاذي للمتجر الكبير الذي يحتل الدور الأسفل
من البناية العملاقة التي تناطح السحاب...
كان عليه أن يستريح.. أن يبلع ريقه.. أن يتذكر أين افترق عن
أمه... الجو بارد، والدخان يخرج من أنفه وفمه... تذكَّر الثور الاسباني في حلبة
المصارعة...
كانت أمه قد حرصت قبل خروجها من المنزل أن تلبسه ثياباً صوفية
اتقاءً لموجة البرد والصقيع. كم كانت حنونة عليه! تفقدته وهو يخطو معها عبر عتبة
الباب... اطمأنت بأنه على ما يرام... أصلحت عنق "الفنلة" الصوفية على رقبته وشدّت
طاقيته الصوفية المزركشة على رأسه، وتأكدت أن قفازيه الصوفيين على يديه.
كان يلحُّ عليها أن تأخذ معهما كلبهم الفتوة "مارادونا"...
قالت له:
-
- سنذهب إلى المدينة... إنها مدينة ولا كل المدن يا
ولدي...
-
- نحن نأخذه معنا دائماً يا أمي...!
-
- في الضواحي يا ولدي... أما هذه المدينة فالوضع
مختلف.
-
-
سيكون داخل السيارة...!
-
-
لن نأخذه.
-
-
لماذا؟
-
- خوفاً من سرقته...
-
- تشعرينني بالخوف يا أمي...
-
-
سنستقل القطار...
-
-
أفضل البقاء مع "مارادونا"...
-
-
أريدك أن ترتاد عالماً آخر...
-
- لماذا؟
-
-
للمعرفة... لقد كبرت... نوعاً ما..!
وابتسمت أمه... وابتسم هو أيضاً لأنه سيرتاد هذا العالم
الآخر...
* * *
-
- سيدي...! إذا تكرمت...!
-
- إبعد عني...!
فاجأه الرجل بقسوة، لكنه صمم وتحدث إليه مرة أخرى:
-
- أنا لا أشحذ منك إحساناً...
نظر إليه الرجل شزراً...
-
- أضعت أمي... أرجوك أن تساعدني في العثور عليها...
تأمله الرجل ملياً وهو ما زال يمشي بجواره. وجد أن هندامه
ومظهره لا يوحيان بأنه شريد...
تفاءل الصبي خيراً، لكن الرجل قال:
-
- ستبحث عنك... وستجدك... لا تقلق...!
* * *
توقف قليلاً يلمح الرجل وهو يمرق إلى الرصيف المقابل خوفاً أن
تنتهي الإشارة الخاصة بعبور المارة... في المقابل كانت أيضاً تعبر الطريق امرأة
عجوز مسرعة آتية إلى رصيفه الذي حدده...
-
- سيدتي...!
-
- ...
-
- هلّا ساعدتني!
-
- بماذا؟
-
- فقدتُ أمي... أضعتها... بل أضاعتني...
توقفتْ العجوزُ متأملة كما بان على ملمحها..
-
- هل ستساعدينني...؟
-
- ... أوه... بقدر الإمكان يا عزيزي...
فرح كثيراً، وعلته البهجة لهذه الروح الإنسانية التي افتقدها
على هذا الرصيف...
-
- أين فقدتها؟
-
-
... دخلتُ
معها هذا المتجر الكبير... تجولنا معاً فيه... كانت أمي مهتمة بشراء محتاجاتها...
وكنتُ أنا مشدوهاً بالنظر إلى ألعاب الأطفال المتنوعة التي لم تكن واردة في قائمة
مشتريات أمي... و... و...
كان قد بلغ به الإعياء فوق تحمله... فاستند على عمود النور
مسترخياً على قارعة الرصيف بتدرج...
أخذته المرأة العجوز من يده واتجهت به إلى باب المتجر الذي
أقفلت أبوابه الزجاجية تلك اللحظة...
* * *
انكمش بجسمه في ركن بوابة المتجر الكبير... وبدأ النوم يداعب
جفنيه... لم يكن معتاداً على السهر إلى هذه الساعة المتأخرة من الليل... ما زالت
الأضواء تبهره... وحركة السيارات تخف نوعاً ما... وأشتات من الناس معظمهم خارجون من
الحانات يترنحون ويطلقون ضحكاتهم المدوية...
بدأ جسمه ينساب تدريجياً مسترخياً... وبدأت أصابع يديه تنسلخ
عن بعضها ببطء عن ركبته..
"نكَزَ" فزِعاً فجأة... لكن أصابع يديه ارتبطت من جديد خلف
رأسه وقد مدَّ قدميه إلى الأمام... حدَّث نفسه:
-
-
أمي... امرأة شجاعة... هي بطلة... لا تيأس أبداً... لديها
رجولة مستعصية...
بدأت أصابعُ يديه تنسلخُ عن بعضها بهدوء، وتنحدر عن قفا رأسه
قبل أن تستقر يداه على صدره...
حدَّث نفسه وهو شبه نائم:
-
-
ستجدني أمي... بالتأكيد ستبحث عني في كل شبر وتحت كل زبالة،
وفي كل منعطف... وفي كل المحطات...
تنهَّد بارتياح...
-
-
أمي بطلة... إنها في طريقها إليَّ...!
وعلا شخيره... والابتسامة تعلو شفتيه..
القاهرة، 20 يناير 1988م