المجنــون 

 

همدت القرية مع إطباق الليل كغيرها من قرى الجبل وسفحه وسهله ووديانه... لا صوت لمخلوق حي سوى نباح بعض الكلاب الجائعة تريد إثبات وجودها عند أصحابها لتنال بعض نفايات حقيرة من بقايا أقراص الذرة اليابسة... وبعض أغانٍ جميلة حزينة تتصاعد من الأدوار الأرضية للمنازل من نسوة يقمن بطحن الحبوب على المطاحن الحجرية... مع بصيص من ضوء صادر من مصابيح صدئه قديمة تشعل (بالصليط).

القرية توحي بالكآبة كأنها جاثمة عليها... مسجدها الأثري المنزوي في بقعة خارج القرية يزيد من عمق الكآبة بمياهه الآسنة داخل بركة (مقضضة)([1]) بالنورة تنبعث منها رائحة عفونة صادرة عن ذلك الماء الراكد...

أنظف وأجمل ما في القرية هواؤها النقي وصفاء سمائها وسطوع شمسها... وذلك القمر البازغ الآفل الذي يلقي بضوئه البارد الشاعري الجميل في فترات خفوته المحبب إلى النفس.

* * *

خرج (حُمادي) من زاويته التابعة للمسجد كعادته في مثل هذا الوقت من الليل... وعند حلول هذا السكون المؤقت توضأ على حافة البركة وطرطش بالماء الأخضر العفن بإعجاب... ثم استلقى على الصرح المرصوص بالحجارة التي يتخللها ذلك القضاض من النورة الصلبة التي مضى عليها أكثر من مائة عام... كان الصرح بارداً كبرود عقله...

قام بأداء طقوس العبادة بحركات مضحكة، وكانت تلك هي صلاته المعتادة... ثم خرج وقد وارب باب صرح المسجد ولم يتجه نحو القرية بل اتخذ طريقه نحو (مجران)([2]) القرية... كانت النشوة قد غمرته وسكنت كل أحاسيسه

 بالبهجة... تلك الليلة المقمرة الساكنة الباردة المثلجة للصدر والقلب والجسد النحيف.

* * *

انتهى موسم الحصاد... وأصبحت (المجارين) في كل قرية من قرى الجبل بسفحه وسهله ووديانه ملئ بكل أنواع الذرة من مختلف الألوان... وقد صارت أكواماً.. كل كوم منها يختلف في حجمه بنسب متفاوتة تدل على أن هناك من يملك أرضاً كثيرة وعلى أن آخرين، وهم الأغلبية، يملكون أرضاً أقل..

الجو صاف.. والفزع يشغل عقول المزارعين من أن تهطل بعض الأمطار الخفيفة فجأة فتؤثر على المحاصيل المكومة وتفسدها وقد تؤدي في بعض الأحيان إلى إنبات الحبوب في سنابلها المعرضة لحرارة الشمس ولفحات الهواء لكي تكون صالحة للدرس.

كان (مجران) القرية الواقع في جزء من مقبرة (موقوفة)، واسع الإرجاء كميدان فسيح بحشائشه الخضراء المنسقة الصلبة بعد أن أجهد أهالي القرية أنفسهم، شأنهم في كل عام، في تنظيفه من بعض الحصى العالق بالعشب الأخضر لكي يكون نظيفاً وخالياً من الأوراق الجافة وذرات التراب الصغيرة.

تُجمع في ذلك المجران كل محاصيل أهالي القرية في وقت واحد وكان كل فلاح قد وضع محصول أرضه في مكان معلوم ومعروف من المجران بحسب العادة المتوارثة.. وكان المحصول محاطاً برزم معصوبة من قصب الذرة لكي لا تشذ سنبلة من كومة إلى أخرى.. الأكوام ذات الحجم الصغير هي الأكثر وهي السائدة..أما الكبيرة جداً فهي قليلة، ومع ذلك فهي تطغى بمساحتها على تلك الأكوام الكثيرة العدد.

توجد في المجران أيضاً أنواع مختارة من السنابل بعيدانها مرصوصة إلى جوار كل كومة صغيرة أو كبيرة بأعوادها المعقوفة قد خصصها المزارعون لتكون بذوراً لسنة قادمة.. إنها منتقاة من السنابل الجميلة والكبيرة والأكثر صحة.

في القرية يوجد الشيخ... وكومته معروفة في المجران بكبر حجمها واحتلالها لمساحة واسعة.. كذلك يوجد (عدل القرية) وكومته تقترب في حجمها من كومة الشيخ..

يوجد أيضاً في القرية (العاقل) وبعض (الأعيان) من كبار المالكين وتأتي محاصيلهم بعد الشيخ والعدل. وفي القرية فقيه القرية الذي يقوم بتدريس الأطفال.. وله مردود لا بأس به من المحصول قد كوره في كومة منحازة على جانب من المجران.

هؤلاء يحتلون بمحاصيلهم المساحة الثانية من المجران.. أما بقية المساحة فهي مخصصة لصغار المزارعين ملاكاً أو أجراء أو شركاء.. حيث تشكل كومات محاصيلهم أحجاماً صغيرة متفاوتة نسبياً..

ثم تأتي في زوايا المجران بعض الأكوام الأصغر حجماً ربما لا تلفت النظر.. وهي لفئة (المزاينة)"[3]" (والدواشين)"[4]" و(الأخدام)"[5]" وهذه الفئة تحصل على تلك الغلال من عملها الذي تؤديه لسكان القرية طول العام.

إن مجران القرية في مثل هذا الوقت من العام يبدو وكأنه قباب متنوعة الأحجام لجامع عثماني في (اسطنبول)، قباب كبيرة وقباب صغيرة.. وأخرى أصغر فأصغر لا تكاد ترى.

(حُمادي) (المجنون) هو ابن فقيه وقور من القرية.. كان والده قبل أن يرحل عن الدنيا معلماً وكاتباً موثوقاً به عند أهالي القرية والقرى المجاورة.. بل لقد امتدت شهرته إلى أطراف بعيدة من الناحية.. وجعلته شهرته بالأمانة والصدق يتفوق على أي فقيه آخر.. فالوثائق التي يحررها معتمدة عند كل مسئول في الحكومة والقضاء..

لكن أهالي القرية كانوا يرددون بعد وفاته "ذروة الفحل نحل".. وهم يشيرون بذلك إلى (حمادي) المجنون.

الليل عميق بسكونه وهو يتهادى إلى نهايته.. كل فلاح قد قبع في عريشته المصنوعة من سيقان الذرة يحرس محصوله المكوم في الجرن الكبير من جيرانه ومن الكلاب والثعالب والقنافذ المسلحة بدروعها الشوكية المخيفة.

ما قبل نهاية الليل وبداية النهار يكون التعب قد أصاب الجميع فيخلدون إلى النوم ساعة واحدة بعد أذان الفجر ليقوموا قبل أن تطل الشمس بأشعتها على الجرن..

وإذا كانوا قد خلدوا إلى النوم المتقطع بعضاً من الوقت أثناء الليل فإن كل واحد يخفي ذلك عن صاحبه في الصباح حتى لا يسخر منه ويتهمه بالتقصير.. وعند طلوع الشمس بأشعتها يقومون بنثر تلك الأكوام المكدسة من السنابل كي تستقبل أشعة الشمس الدافئة التي تتبخر من خلالها قطرات الندى وما علق بتلك السنابل من لدونة رطبة في ليلة مقمرة.

وفي الأصيل يقوم الجميع بتكويم السنابل من جديد بشكل هرمي لكي لا تتأثر ببرودة الليل وندى الصباح الباكر واحتمال هطول رذاذ من المطر.

* * *

بدأ الليل ينحسر.. (حُمادي) ما زال ساهراً داخل قبة ضريح الولي الصالح المشهود له بالتقى والسيرة الحسنة والمعجزات الخارقة.. قبة الضريح تطل على جرن القرية.. مقضضة بالنورة منذ مئات السنين.. وقد علقت بها أشجار بذرتها الطيور فنمت وترعرعت وبدأت جذورها تشقق القبة وجدرانها مما أدى إلى تسرب مياه الأمطار.. بعض الطيور تعشعش في أخاديدها أو تصنع لها أوكاراً.. يتوسط القبة من الداخل قبر الولي، وبجانبه كما يقولون قبر زوجته الطاهرة النقية الشابة ذات الحسن والجمال..

وعلى سطح القبة نمت أيضاً بعض الشجيرات التي أصبحت فيما بعد أشجاراً عملاقة.. وفي باحة القبة توجد بركة مقضضة قديمة كقِدم القبة مملوءة بمياه الأمطار.. تحف بها زهور ورياحين ونباتات ذات روائح زكية..

يحيط بالقبة وساحتها وما فيها سور من الحجارة قد تسلقته الأعشاب الشوكية وبعض الزهور البرية المتوحشة..

* * *

كان حمادي يقبع داخل القبة بجوار ضريح الولي.. يمضغ القات وأمامه مسرجة من رخام منحوت يعلوها (قمع) سراج متسخ ينفث دخانه الأسود..

يبتسم لأي سبب. وبدون سبب أيضاً.. البسمة لم تكن تفارق شفتيه.. ذلك ما كان يحببه للناس.. كانت القبة هي حياته.. صنع منها مرقداً ومأوى، وجعل في صدرها زاوية للتكفير والتأمل.. وكان في بعض الأحيان يرسم على جدرانها آيات ونقوشاً بديعة.. كما كان دؤوباً على تنظيف مدخلها وكل ما يتصل بها من مرافق..

* * *

في يوم مطير استمر من الصباح حتى المساء، شعر (حُمادي) بأن القبة رغم قدمها وإتقان بنائها لن تصمد... فالمطر المستمر قد تسبب في توسيع الشروخ فتساقطت مياه المطر بكثرة.. وحدثت أضرار أخرى أهمها ذلك الشرخ الكبير في مقدمة القبة القائمة على الباب..

وأصبح الدخول والخروج من باب القبة نوعاً من المخاطرة بالحياة انتبه له حمادي بالفطرة فعمل على إصلاح هذه الأضرار بجد ومثابرة متحلياً بابتسامته المحببة..

كان يتذكر عمله هذا الذي مضى عليه زمن طويل بإعجاب ويشعر بالزهو كلما تذكره..

* * *

كان القمر ساطعاً وحمادي يتجه نحو جرن القرية والابتسامة المحببة تعلو شفتيه.. كان يقف لحظة أثر أخرى قبل أن يواصل مسيرته نحو الجرن..

يداه تصفقان بحركات راقصة.. وجسمه النحيل يهتز وهو يسير بأداء راقص متناسب مع موسيقى يديه.. إنه يدور حول نفسه عدة مرات حتى يقع على الأرض ويركع على ركبتيه القويتين.. ثم ينهض  والابتسامة قد تطورت إلى ضحكة عالية مدوية تعلو وتنخفض..

أصبح يشرف على مدخل الجرن.. كل شيء هامد.. والابتسامة ما زالت تعلو شفتيه مصبوغة باندهاش كأنه اكتشف على الفور منجماً من ذهب أو حقل بترول..

واندفع نحو الجرن بكل طاقته..

* * *

كان الشيخ قد كلف الفقيه المؤتمن والد (حمادي) بإخراج الحبوب من (مدفنه) العميق الواسع المملوء بالحبوب، وكيله للجائعين والمحتاجين بالثمن الذي فرضه وحدد سعره الشيخ..

كان المدفن قد مضت عليه سنتان منذ اختزانه غلال الشيخ من الذرة..

وكان حمادي طفلاً في ذلك الوقت يذهب مع والده إلى كل مكان يذهب إليه.. لا يفارقه..

ونزع الفقيه حجرة ثقيلة مربعة الأضلاع.. هي فتحة المدفن.. وتأكد من ختم الشيخ المعروف على زاوية من الحجر..

وهبط الفقيه.. والد(حُمادي).. بحبل لكي يكيل حبوب الشيخ الكثير للناس بالسعر الذي حدده الشيخ..

* * *

بجوار مبنى القبة كان يطيب لحمادي أن يتأمل حركة النمل وهي تنقل مؤونتها من الطعام وقد اشتقت لها طريقاً طويلاً بين كل المعوقات..

تذكر والده.. كان كواحدة من هذه النمل.. هبط إلى جوف المدفن ولم يعد مطلقاً.. مات لعدم توفر الهواء.. وأطبق الشيخ وحاشيته عليه بحجر فوهة المدفن..

* * *

الدنيا هامدة... عندما توسط (حُمادي) جرن القرية كانت الكلاب التي تتسلل لسرقة سنابل الذرة لا تنبح لأنها خائفة من العقاب..

كل كلب يأخذ سنبلة رغدة بفمه ويفر هارباً بين مخابئ السائلة وجدران الحقول المدرجة والمرتفعات الصخرية.. القمر يشع بضوئه الفضي.. لا سحابة قائمة تحجب ضوءه.. فالسماء صافية والنجوم تكاد تكون مسارح براقة بجوار القمر.. الابتسامة المحببة ما زالت على شفتيه، ونظره يتجول بين أكوام الذرة المتنافرة الأحجام..

هذه كومة كبيرة.. وتلك صغيرة.. وأخرى أصغر فأصغر..

وانهال بكل طاقته وقوته على الأكوام المتفرقة يساويها بيديه لكي يدمجها مع بعضها البعض وتصبح كومة واحدة.

العرق يتصبب منه وهو منهمك في عمله.. عروق يديه انتفخت.. أنفاسه تلهث.. عيناه تبحلقان.. والابتسامة المحببة ما زالت على شفتيه..

وتوقف بعد وقت من الجهد المبذول لينظر إلى الجرن الذي أصبح كومة واحدة..

* * *

كان حمادي قد اتخذ مكاناً قريباً عندما بزغ الفجر.. ليشرف منه على الجرن.. وشاركته في ذلك بعض الكلاب والثعالب والقنافد ذات الأشواك المخيفة..

ذلك الجرن الذي أصبح كومة واحدة مملوءة بسنابل الذرة.. الابتسامة المحببة ما زالت على شفتيه.. وفجأة أزعجه الصياح والهرج والمرج والبكاء والنواح والشجار أيضاً..

نظر حمادي إلى الجرن وقد اكتظ بجميع سكان القرية.. كلهم الصغار والكبار.. الطفل والمرأة والعجوز.. كلهم مشدوه لمنظر الجرن وما حل به.. وتطورت ابتسامة حمادي المحببة لتصبح ضحكة عالية مدوية.. تلقفتها الجبال والسهول والوديان بصدى عجيب كأنه ترانيم صلاة في مسجد أو كنيسة أو معبد.. أو قاعة موسيقى...!

صنعاء 25/10/1984م


 

[1] مقضضة= مبلطة بالجص.

[2] مجران = جرن- بيدر.

[3] المزااينة= الحلاقون والجزارون وقارعو الطبول.

[4] الدواشين= النوّر.. وهم يقومون بدور الإعلام في أوساط القبائل.

[5] الأخدام= فئة من أصول زنجية.

 

 


 Go Back to Short Stories Page