الرمال العابرة

 

تحت شجرة صغيرة صحراوية يابسة ربض في ظلالها بجوار الطريق المعبد يحرك رأسه تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار، وقد سال اللعاب من فمه المفتوح وعظامه تكاد تبرز من جلده... لم يكن أمامه تحت ذاك القيض أي بوادر للحياة سوى عشة متآكلة يرقد فيها بضع من الأطفال العراة وعجوز عمياء... الشمس تقترب من الظهيرة وتكاد تصهر تحتها كل شيء.. وسكينة مميتة... لكن الطريق مازال خالياً... كان عليه أن ينتظر "الباص"، تلك الحافلة التي أغاثت سكان الطريق بما تلقيه من نوافذها من أقراص "الروتي" الأبيض اليابس غذاء سكان المدن... تثائب بملل، ثم نظر بألم نحو الطريق المقبل من "الحديدة"، ووضع رأسه فوق يديه... كان منظر الطريق قطعة من جهنم، والوهج الحار يتصاعد منها والسراب الشفاف يتناثر فوق الطريق الطويل الممتد كخط مستقيم، وأعمدة التلغراف قد شقتها الشمس وأسلاكها تأثرت من شدة الرياح العاتية...

كان أكثر ما يسليه منظر الرمال التي تعبر الطريق مسرعة كأنها هاربة من وهج الحرارة التي تأتي من جهة الساحل... وكم كان يضايقه إذا ما قررت الرمال العبور من مكانه! فقد كان عليه أن يقترب من "العشة" ليحتمي منها، وكان ذلك يكلفه حجراً تُقذف على ظهره من صبي أو من الفتاة الشرسة...

وعبرت الرمال وهو في استرخائه المميت في مكانه، واضطر بملل أن يقترب من "العشة" بهدوء ليحتمي بها.. لم يكن يستطيع تفسير العداوة التي يكنها له سكان "العشة"... صحيح أنهم أغراب جميعاً، وجياع أيضاً، اضطرهم الجوع جميعاً للجوء بجوار الطريق العام..

لقد ترك أسياده في عشتهم يموتون جوعاً في أعماق "تهامة"، واستطاع أن يقطع القفار ويهيم نحو لا يدري أين... ولما استقر به المقام بجوار الطريق العام عثر صدفة على قرص "روتي" أبيض أكل نصفه ودفن نصفه الآخر بمنخاره لكنه في اليوم التالي سمع هدير سيارة كبيرة حمراء، كانت هي "الباص"، ففر مسرعاً بعيداً، ذلك أنه لم يكن قد رأى من قبل مثل هذا الوحش الصاخب، لكنه لاحظ تسارع سكان الطريق الجياع يهرعون نحو "الباص"، ويلتقطون من بعده بعض أقراص "الروتي" الأبيض، فوقف وشده المنظر لقد رأى أناساً، لكنهم ليسوا من "أسياده".. وفجأة قُذف من النافذة أحد أقراص "الروتي" الأبيض اليابس فاصطدم بالطريق المعبد، وبشده اندفع القرص نحوه نتيجة سرعة "الباص"، وبلمح البرق اندفع دون شعور وقبض بفمه على القرص قبل أن تنهال عليه بعض الحجارة من الصبية العراة والرجال العجزة، ومن نساء الذي رأى فيهن التوحش، فترك القرص وفر بعيداً يعوي بألم...

كان ذلك أول درس تعلم منه البعد عن الناس، وأخذ مكان لائق بالخطف السريع للقرص والفرار به قبل أن يتمكن أحد الجياع من اللحاق به وقذفه.....

طابت له الحياة نوعاً ما فكان باستطاعته في بعض الأحيان أن يصطاد قرصاً في اليوم الواحد، وإذا لم يحالفه الحظ كان يوفر لنفسه نصف قرص من المدفون تحت التراب...

لكن الحالة ساءت عندما حل في "العشة" الهادئة المجاورة له عجوز عمياء وشرذمة من الأطفال العرايا... كانوا يطاردونه دائماً قبل مرور "الباص"، ويقذفونه بأحجام متفرقة من الحجارة كانت نتائجها تعيقه بعد ذلك عن الخطف السريع... وقلَّ محصوله فلم يعد يستطيع دفن أي قرص احتياطي، بل كان رابحاً إذا قُدّر له أن يصطاد قرصاً في خلال الثلاثة أيام... لذلك قرر الابتعاد نحو شجرة يابسة صحراوية صغيرة بعيدة عن الكوخ المحتل من قبل العجوز العمياء وشرذمتها...

وانتهت الرمال في عبورها للطريق هاربة نحو الجبال... جبال الهضبة الخضراء... وانسحب بهدوء نحو المكان، وبحذر شديد عاد ووضع رأسه فوق يديه ونظر نحو الطريق الآتي من "الحديدة"...

لقد كان موعد الباص، فالوقت ظهراً، وظله أصبح تحته تماماً، ذلك أنه لاحظ بالممارسة السيارات تنقطع عن المرور خلال الظهر، إلا ذلك "الباص" الكبير... وفجأة من خلال سراب الطريق لمح شبحاً أحمر يمخر عباب السراب المبعثر، ويتمايل كأجزاء منسقة من خلال وهج الحرارة...

وخرجت فتاة من الكوخ ثم عادت وخرجت مع العجوز العمياء وشرذمة الأطفال العراة، وتسارعت جحافل مبعثرة تهرول نحو الطريق وتلتقط من الأرض أقراص "الروتي" الطائرة فوق الطريق وعلى جانبيه...

استقام وقد ارتكزت أذناه.. ووقفت العجوز العمياء وبجوارها الشرذمة العارية... وهون "الباص" سرعته ثم وقف بجانب العجوز، ونزل منه "قاطع التذاكر" وقد أمسك بيده طاقيته المزركشة المتصببة عرقاً وقد احتوت نقوداً متفرقة قام بتسليمها للعجوز قبل أن يعود ويقفل الباب.. لكن بعض المسافرين ممن هزهم المنظر لأول مرة كانوا يريدون مزيداً من التبرع والإحسان، لذلك أنفتح باب "الباص" مرة أخرى...

انتظر وقد تألم، وغضب لهذا الإجراء غير العادي... وقرصه الجوع فاقترب من الجهة الأخرى من "الباص" لكي لا تراه الشرذمة... وتلفت نحو النوافذ لكن المسافرين كانوا جميعاً ينظرون من الجانب الآخر نحو العجوز وشرذمتها...

واستاء لذلك، ولعدم اهتمامهم به... وعاد بعض الرفاق إلى مقاعدهم في الجانب الآخر... حاول استرعاء انتباههم فابتعد قليلاً لكي يروه... ولمحه أحد المسافرين فنظر إليه وهز ذنبه مستعطفاً، وبدون إرادة نبح بلطف، ثم ذُعرَ كأنه ارتكب خطأ قاتلاً... وما هي إلاّ برهة حتى انهالت عليه حجرة قذفها صبي عاري الجسد باغته من الخلف... فارتبك وعلا صوته بألم دون إرادة منه، فانهالت عليه قذيفة أخرى في عموده الفقري... وحاصرته الشرذمة، بينما بدأ "الباص" بالتحرك،  ورمى رجلٌ بقرص من "الروتي" الأبيض... ولشدة ارتباكه حسبه حجراً مقذوفاً لكن رائحته أعادت له الأمل فخطفه بفمه بينما اشتد عليه الحصار، ولم يعد أمامه منفذ للعبور سوى من تحت "الباص"، فمرق لكن "الباص" كان قد تحرك بسرعة... وما هي إلا ثانية حتى كان جثة ممهودة ملطخة بالدماء، واختلط الدم بقرص "الروتي" الأبيض وبجثته الممزقة... وعبرت الرمال مسرعة من فوق جثته نحو الجبال...جبال الهضبة الخضراء..

 

 


 Back to Home Page