مقدمة الأعمال الكاملة

د.عبد العزيز المقالح

ثمة شخصيات إنسانية يكون غيابها عن الساحة بمثابة غياب جزء أصيل وحميم من الحياة نفسها . هكذا شعرت عند غياب زيد مطيع دماج القاص والروائي والإنسان . وعندما شرعت في كتابة هذا التقديم للأعمال القصصية الكاملة التي أبدعها تساءلت: كم مضى على زيد منذ غاب جسده عن هذه الحياة الفانية ؟ وكان الرد مذهلاً : أربع سنوات فقط ، نعم أربع سنوات ، لكن هذه السنوات الأربع تبدو لنا نحن أصدقاءه المقربين وكأنها الدهر . لماذا ؟ هل لأن غيابه أحدث غياباً آخر في حياتنا كما في مجال الإبداع القصصي والروائي بخاصة ؟ أو لأن زيداً كان الوحيد القادر على جمع شتات الأشياء الجميلة وتأليف مابينها ؟ أم لأن كل يوم لا نرى فيه زيداً أو لا نسمع صوته ولا نسعد بتعليقاته وحكاياته هو أشبه بعام كامل وليس بيوم فحسب ؟؟

تساؤلات كثيرة سيظل غياب زيد يثيرها بيننا نحن أصدقاءه المقربين حتى نلتقي في عالمه الهادئ الجميل .

اشتهر زيد مطيع دماج بكونه قاصاً وروائياً ، ولم يشتهر بصفته رساماً ولا صحفياً أوبرلمانياً أودبلوماسياً . وشهرته كقاص وروائي غطت على مواهبه الأخرى كما غطت على دوره في الحياة العامة ، وما تركه من إنجازات وإضافات في كل الأعمال التي تولاها أو شارك فيها . فقد كان حتى في سنوات مرضه الذي طال أمده ، رجلاً عملياً لا يهدأ ولا يستقر . وكثيراً ما كان يطرح علينا سؤاله الجوهري : لماذا لا يمارس كل منا حريته القصوى في مجال اختصاصه إلى أن يقال له قف ؟

كانت الإجابات تأتيه متناقضة لكنه لم يكن يأبه بتلك الإجابات الهروبية التي تدعو إلى التخلي عن المسئولية ، ولا يرضيه من كل الإجابات سوى الإيجابي منها ذلك الذي لا يرى في العمل العام نزهة مترفة بل جهداً شاقاً وعملاً دووباً . كما كان يرى في رفض العمل العام تحت عبارات مبهمة ضرباً من التخلي عن أداء الواجب لا يقل خطورة عن الإهمال في هذا العمل نفسه والتقصير في أدائه على الوجه الأكمل والمفيد .

يتضح هذا الموقف في كل ماكتب زيد من قصص ومقالات ، ويظهر في أساليب وسياقات مختلفة ، إذ كانت كلها تدور حول ضرورة احترام العمل واعتباره الفضيلة الإنسانية المدفوعة الأجر . ولعله كان يدرك أن حياة الإنسان قصيرة ، وأن بلادنا التي حكم عليها القهر الاجتماعي والسياسي أن تعيش في أدنى سلم التخلف لن تخرج من وضعها هذا بالكلام وحده ، ولا بالمواقف الرافضة والمستفزة وإنما للعمل وحده وبمواجهة التخلف بالأفعال لا بالأقوال باعتبار العمل السبيل إلى تحقيق كل ما نحلم به ونريد .

لم يكن زيد يكتب ليصبح مشهوراً ، وإنما كان يكتب لأن الكتابة دعوة إلى الفعل وأداة لإيصال رسالته إلى الناس الذين يحبهم ، ويسعى إلى تغيير أوضاعهم إلى الأفضل . كل قصة كتبها زيد كانت تشكل موقفاً ، وكل مقال نشره كان تعبيراً عن رؤية وطنية أو إنسانية ، وكل رسم كاريكاتوري ما هو إلاَّ دعوة مباشرة إلى التحرر من عيوبنا الأخلاقية والفكرية التي أضافت إلى الواقع المشوه تشوهات لا تقل سوءاً وبشاعة ، ولعل تلك العيوب ، عيوب القادرين على التجاوز هي التي تشوه الواقع وتصنع فيه من دوائر اللامسئولية أكثر مما صنعه التخلف ومرادفاته . وكان زيد يرى الكتابة الصادقة تجربة للحوار بين المبدعين ، وعن طريقهم ومن خلال سلوكهم ستنتقل إلى الآخرين ، إلى هذه الجموع الغفيرة التي لا تقرأ أو تلك التي إن قرأت لا تدرك ما بين السطور ، ولا حتى ما في السطور نفسها .

لم يكن زيد عنيفاً في تعامله اليومي والإنساني حتى أنه يرى أن الصراع العنيف مع السلطة والأفكار والمبادئ يأكل الوقت ، وقت المصارع ولا يؤثر في الخصم . وما قد يؤثر على الخصم ، وربما يزعزها هو أن نحاصره بالأسئلة ، وأن نتحداه بالإبداع . وكان بينه وبين السلطة مساحة تتسع أو تضيق بحسب ما تحققه من إنجازات للصالح العام ، وما تحققه له شخصياً من حرية التعبير عن نفسه كتابة أو كلاما . ولم يكن مستعداً – تحت كل الظروف – للاستسلام لغيبوية الذات والقبول بدور الضحية البريء المحاصر من كل الجهات . كانت متعته العميقة والجميلة والراقية عندما يخلو إلى نفسه ليكتب قصة جديدة أو فصلاً من رواية .

وهنا ، يأتي الحديث عن بعض قصصه ورواياته التي لم تكتمل بفعل المرض الذي داهمه وامتص طاقاته الإبداعية ؛ بالقدر نفسه الذي امتص معه طاقاته الجسدية . كان المرض قاسياً بل متوحشاً ، ولهذا ليس غريباً أن يدعى بـ" الخبيث " تمييزاً له عن بقية الأمراض التي تنشب أظفارها بالجسد الإنساني ، وتظل تناوشه إلى أن يرفع الراية البيضاء ، وهذه الراية هي الكفن ، ذلك الذي يلف فيه الأحياء موتاهم قبل أن يواروهم في القبور . وفي هذا الصدد سوف يذكر الجميع لزيد شجاعته ، وقدرته الفائقة على تحدي المرض الخبيث ، حين لم يرفع الراية إلاَ بعد خمسة عشر عاماً واصل خلالها عطاءه وحياته وصداقاته . وهي فترة قياسية لم يصمد لها سوى قلة قليلة من المؤمنين الشجعان .

كثير هم كتاب القصة القصيرة – في بلادنا وغيرها – الذين يمتلكون براعة لغوية تفوق براعة زيد ، لكن الإبداع ليس براعة وحسب ؛ وإنما هو اختزال فني لرؤية وموقف إنساني . وذلك ما حققه زيد للقصة وبالقصة . لم يكن زيد يكتب إلاَّ بعد اختزان واستبطان تتمكن التجربة خلالهما من امتلاك تكوينها وحينما تصل ذروتها يعكف عليها ليضعها على الورق . وكان لماحاً شديد الذكاء يقرأ الإنسان منذ اللحظة الأولى ، ويصدر حكمه الذي لا يقبل الشك . هذا الذكاء وتلك الروح اللمَّاحة تجلت بأدق معانيها في رموزه القصصية وبدلالاتها المختلفة من اجتماعية إلى سياسية إذ لا تخلو قصة لزيد من رمز أو أكثر ، وأزعم أنني عايشت ولادة معظم تلك القصص الرامزة ورأيت كيف كانت تبدأ في ذهنه فكرة صغيرة ثم تتبلور وتأخذ شخوصها في الوضوح ، والمجال لايتسع لإ يراد الأمثلة وتكفي الإشارة – هنا – إلى قصة (رجل على الرصيف) وكيف تكونت ملامحها الأولى .

كان زيد قد سافر إلى الإتحاد السوفيتي السابق قبل سنوات من انهياره وعندما عاد من رحلته تلك كان يخامره شعور بأن هذا البناء العظيم يوشك أن يتهاوى ، ولكي ينقل إلى القارئ هذا الإحساس استغل حادثة واقعية رآها والتقط خيوطها بالقرب من النهر الذي يشق موسكو ، كان أحدهم يسير بجوار هذا النهر ، وهو يقرأ ثم يلقي بالكتاب في الأرض بعنف ، ويعود إليه مرة ثانية ليقرأ سطوراً منه ثم يرميه ثالثة ورابعة ، هكذا عشرات المرات . استخلص زيد من خلال هذه الحادثة الصغيرة أن شيئا ما سيحدث ، وأن الفكر الذي قامت عليه الدولة العظمى لن يصمد ، وأن الذي يلقي بالكتاب إلى الأرض دون مبالاة قد يتخلى عن محتواه بسهولة . كان البعد الرمزي للقصة – يومئذ – غامضاً بعض الشيء فما الذي يعنيه للقارئ رجل يقرأ في كتاب ، ثم يرمي به عشرات المرات غير الأحساس بالسأم والاستنكار أوالرفض لكل ما انطوت عليه صفحاته من شعارات .

إن سطحية القراءة هي أسوأ ما بلينا به في واقعنا العربي الحديث ، وأزعم إن غالبية قراء نجيب محفوظ لا يحفلون بما في أعماله الروائية من أبعاد رمزية كانت وراء وصوله إلى العالمية . بينما فقد كان زيد يرى أن
" المرايا " أهم أعمال هذا الكاتب الكبير
، وأنه استخدم فيها قدراته الرمزية من خلال تناوله لصور من الحياة ، عن طريق وصفه لأشخاص عايشهم ، أو قرأ لهم وأبدع في تقديم ملامحهم الداخلية للقارئ ، واعترف أنه فاجأني بهذا الرأيحين سمعته أول مرة وحين أعدت قراءة "المرايا" وجدتني على اتفاق تام معه ، فالمرايا مجموعة من اللوحات الرمزية البالغة الأهمية لشخصيات من المجتمع المصري يلتقي عندها السياسي بالصحفي والأديب بالممثل ، والذين يحتلون مواقع المسئولية مع الذين لا يحتلون أي موقع ، لكنهم يودون في القصص دوراً رمزياً ووجوداً تتسع دلالته لتشير إلى أعمق ما أراد الكاتب أن يلامسه من خلال خلق هذه الشخصيات والأحداث .

كان زيد كاتباً محبوباً ومحترماً يحظى بمحبة الناس والقراء منهم بخاصة . ولم تكن هذه المحبة مجانية وإنما كانت نتيجة طبيعية لإعجابهم بكتاباته التي يجدون فيها أنفسهم ويتابعون صوراً حقيقية من همومهم ومشكلاتهم ، ولعل حضوره في حياة مواطنيه يعكس حضوره العربي خارج اليمن سواء لدى القراء والمهتمين بالإبداع الأدبي أو من كتاب أو نقاد لا يكفون عن متابعة إنتاجه القصصي والروائي . وليس غريباً أن تظل أسرته تتلقى رسائل عديدة تطلب ترجمة أعماله أو إعادة طبعها أو الاستفادة منها في مجال المسلسلات الدرامية . ومنذ أيام فقط تلقت أسرته مجموعة من الخطابات كانت إحداها من مصر العربية يطلب فيها أحد المخرجين الموافقة على تحويل بعض أعمال زيد إلى مسلسلات تلفزيونية وخطاب آخر يطلب فيه مترجم روسي الموافقة على ترجمة "الرهينة" إلى اللغة الروسية .

هذا هو زيد الحاضر الغائب أو الغائب الحاضر بعد أربعة أعوام من رحيله عن هذا العالم الذي كان يحلم له بالأمن والسلام ولأبنائه بالمحبة والشعور بالمزيد من الدفء الإنساني في العلاقات الطيبة التي تحفظ لهذا الكوكب سلامته من كل ما يدبره الأشرار الذين باتوا يسيطرون على إمكاناته المادية بقوة الحديد والنار لا بقوة العقل والمنطق . ولعل في المنشور هنا من قصصه القصيرة تأكيداً لتلك الأحلام ، واستجلاءً لمظاهرها السردية وتجلياتها في مخيلة زيد القصصية وأسلوبه ورؤيته العربية القصيرة.   

 

 

كلية الآداب – جامعة صنعاء

     في 29/6/2004م             

 


الوصف: Back to Home Pageالوصف: C:\Users\user1\Documents\My Web Sites\dammaj\images\house002.gif