بيّاع من برط
عاد إلى دار والده من "العِنان" تراوده فكرة لم تختمر بعد... كان منقبضاً واجماً،
وبادره والده قائلاً:
-
ماذا بك يا ولدي..؟
-
لا شيء...
-
لكني ألاحظ عليك الانقباض... ماذا حدث في "العِنان"؟
-
لا شيء هناك حدث... فهم في النعيم ولن يحدث عندهم إلا كل خير وعافية!
وتمهل الأب في الرد... ثم قال:
-
وأي نعيم هم فيه؟
-
أي نعيم...؟! تصور!... حوانيت... حياة كلها راحة ورفاهية...
وضحك الأب ساخراً... ثم قال:
-
هه! حظ "البيّاعة" في هذا الوقت.. لكنهم مهما حدث فهم "بيّاعة".
ولم يستطع الابن الصبر على إخفاء شعوره فنهض قائلاً:
-
"بيّاعة"... وما ضرهم إن كانوا "بيّاعة"؟
وهمَّ بمغادرة المكان لكن والده استوقفه قائلاً:
-
وهل تغتر بهذه المظاهر الباهتة ؟.. إنهم حثالة... لا أصل ولا نسب ولا قبيلة... ليس
لهم وزن ولا ثقل ولا قواعد عرفية يحتكمون بها...
-
لا تردد على سمعي ذلك... أصل ونسب وقبيلة... كأنهم جاءوا من أعماق الصحارى... أغراب
عنا يدينون بدين آخر...
-
نعم أغراب وسيعيشون دائماً أغراب.. تحت حمايتنا وفي ظلنا..
-
يا والدي... لقد أصبح أصغرهم يفوقنا ثراءً..!
-
مازلت تردد على مسمعي تلك المظاهر الباهتة... ولقد كنت ألاحظ عليك دائماً شذوذاً في
أفكارك ومسلكك أمام القبائل... أنظر إلى اخوتك وأبناء عمومتك.. أنظر إليهم لتتعلم
كيف تكسب أشرف العيش... ولا أريدك بعد اليوم أن تردد على مسمعي تلك المظاهر الباهتة
للبياعة والجزارين والحلاقين..!!
وكأنما شعر بالإهانة لذكر الطائفتين الأخيرتين فقال مستنكراً:
-
لم أتكلم عن الجزارين والحلاقين... وإنما عن "البياعة"...
-
نعم... تكلمني اليوم عن "البياعة"... وغداً سوف تنبهر بغيرهم وتكلمني أن الحلاق
الفلاني قد أصبح يتجاوزنا ثراءً... وكأن المال هدفك وهدف كل قبيلي مثلك له الحسب
والنسب والرياسة!..
* * *
لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره مع أنه قد تزوج مبكراً ولديه من الأبناء
خمسة، ثلاثة منهم ذكور... وشعر "بن ثوابة" في دار والده بزدياد السكان ونتائج ذلك
السيئة... كان والده، وما يزال، من كبار نقباء "برط"، ومن عقال قبيلة "ذو محمد"
البارزين... لكن ليس معنى ذلك أنه في بحبوحة من رغد العيش بل على العكس من ذلك فكل
ما حصل عليه من مكاسب الحرب من سلاح وذهب قد تبخر في شراء "بومبة" للبئر، وحرّاثة
صغيرة مستعملة ضاع بعض أجزاء منها في سفح جبل "برط" عندما نُقلت على ظهر الإبل إلى
رأس الجبل...
في جبل "برط" الفسيح كان المرء يستطيع أن يلحظ أن هناك معالم حضارية بدأت تغزو
الجبل... عجلات نارية... سيارات لوري... وبعض "بومبات" وحراثات... أصبحت معاصم
الرجال تُزين بأفخر الساعات السويسرية الغالية الثمن... أجهزة الراديو
(الترانزستور) معلقة على فروع شجر العِلب وفي الحوانيت، وأصبحت التجارة واسعة
الحركة فالحوانيت مملؤة بشتى أنواع البضائع... أقمشة ملونة... أدوات معدنية...
روادي ومسجلات، وعلب فاكهة وخضروات... وأهم حدث حضاري لديهم هو وجود ثلاث مطارات
لنزول الطائرة... مع كونها بدائية إلا أن طائرة "الداكوتا" الصغيرة كانت تثير
الزوابع الرملية مرتين في كل أسبوع...
وسوق "العِنان" هو عاصمة "برط"، وملتقى قبيلتي "ذو محمد و"ذو حسين" بفروعهما
المختلفة... و"العِنان" مدينة متوسطة شيدت معظم مبانيها من "اللَّبِن"، وفيها منازل
فاخرة قد يتجاوز علو بعضها سبعة طوابق، بنوافذ زجاجية مسدلة بالستائر الحريرية
المزركشة... أما الحوانيت فهي في شوارع متراصة بعضها قد تزين بيافطات ملونة...
وهكذا انتعشت الحياة في "العِنان"، بينما لا يوجد من حولها سوى قرى صغيرة، وحصونٌ
متفرقة في أعالي الآكام والتلال الجرداء، صغيرةُ النوافذ تكثر فيها المتاريس
الحربية العليا لصد الغزاة...
من هنا كان الفرق شاسعاً بين مدينة "العِنان" كعاصمة "لبرط" وملتقى لقبائله وبين
ضواحيها... لكن عاصمة "برط" يسكنها أناس آخرون غير القبائل هم "البياعة"، أي التجار
الذين يتأفف القبيلي منهم ويعاملهم على أساس انحطاط في العرق... وكم كان "بن ثوابة"
يحتار لذلك وهو يتسكع في طرقات "العنان" مشدوهاً مما يراه في الحوانيت، والعجلات
النارية والأبهة والرفاهية التي يعيشها سكان "العنان"... كان في بعض الأحيان يتساءل
عن سبب ذلك: لماذا نعيشُ نحن في الحصون المظلمة على قمم التلال الجرداء في بؤس
بينما يعيش سكان "العنان" في قصور راقية على سهل أخضر وفي بحبوحة من العيش؟
ولم يستطع النوم تلك الليلة، فصعد إلى سطح الدار يريد أن يرى أنوار "العنان"
الساطعة المتلألئة... لكن المتاريس الحربية المرتفعة حالت دون ذلك فعاد إلى غرفته،
وفي كوة صغيرة نظر وأمعن النظر...
* * *
اكتظ سوق "العنان" بالناس في مختلف المناطق فاليوم هو يوم السوق الأسبوعي. كان
الجميع قد انتبه لعمله تاركاً كل همومه ومشاكل الحرب جانباً... بيعٌ وشراء
وتبادل... ولم يستطع "بن ثوابة" أن يشق طريقه إلى هدفه إلا بصعوبة، وعندما وصل إلى
باب حانوت كبير كان يريد أن يجلس داخله عند صديقه "صالح" لتبادل أطراف الحديث، لكن
شدة زحام الناس على حانوت صديقه منعته من الدخول، بل وأحرج موقفه فكيف يدخل وصديقه
في مهمة كبرى وربما عطله عن العمل، فانسحب كارهاً بين الأكتاف المتراصة يزيحها...
وخارج السوق بعيداً عن الضجيج استقر به المقام تحت شجرة وافرة وقد وضع بندقيته
جانباً بضجر... لكن الحظ لم يساعده في خلوته إذ ظهر من بعيد والده ومن ورائه غِلمه
مدججين بالسلاح تحيط به شرذمة من القبائل معظمهم من "نقباء" "برط" وأعيانه... واتجه
موكبهم نحو تلك الشجرة... وكم لعن نفسه لقدومهم لكنه كان محرجاً من الانسحاب
بعيداً... ولاحظ أن القوم تعلو وجوههم الكآبة والجدية وأنهم جاءوا في موضوع هام...
انتصب واقفاً وتكلف ابتسامة مرحبة... وصمت القوم بينما توافد "نقباء" جدد مع
أتباعهم زرافات في كل صوب، وما هي إلا لحظات حتى طغت أصواتهم على ضجيج السوق...
-
يا نقيب عبدالله!... في كل خميس من أخماس "ذو محمد" عاقلٌ يمثله...
قال ذلك أحد "النقباء" الحاضرين يريد أن يحصر الاجتماع على خمسة أشخاص فقط...
فبادره النقيب عبدالله قائلاً:
-
أنا موافق... لكن من سيمثل خميس "آل صلاح"؟ فعاقلهم غير موجود...
وسئم "بن ثوابة" ذلك وهمَّ بالانصراف لكن والده أوقفه صائحاً:
-
اذهب وادع لنا النقيب "عبده" من السوق... وارجع معه!
وذهب "بن ثوابة" وقد غضب للأمر الأخير
بالحضور وكأنه إلزامي... ولما عاد مع النقيب "عبده" جلس مع باقي الأفراد بينما كان
"النقباء" الخمسة قد انتحوا جانباً في حلقة دائرية... وطال بهم الحديث حتى ضجر "بن
ثوابة" فسأل جاره قائلاً:
-
ماذا معهم اليوم من مشكلة يناقشونها؟
-
مشكلة خطيرة.
-
هل قلت خطيرة؟
-
نعم... خطيرة جداً... أو لم تسمع بها؟
-
لا...
-
عجيبٌ ذلك!..
-
ما العجيب في ذلك؟
-
عجيبٌ أنك لم تسمع بها مع إنك ابن أحد عقال خميس كبير من أخماس "ذو محمد"!..
-
لم أُكَلف بعد بولاية العهد يا صديقي!!..
وتعجب جاره لرده لكنه قال:
-
مشكلة خطيرة... وهي شق طريق إلى الجبل للسيارات... ونحن لا يمكن أن نقبل بذلك..
-
وما الخطورة في ذلك؟
-
خطر جداً يا صديقي... أو لم تكفينا مشاكل الطائرة؟
-
وما هي مشاكل الطائرة!؟.. ألم توفر لنا الاتصال بكل المناطق مع تسهيل السفر ونقل
المهمات... لم يكن ينقصنا إلا طريقٌ للسيارات لنستطيع الاتجار مع جميع المناطق...
-
الاتجار؟!... التجارة "للبياعة"... أما نحن فسنكون تحت الخطر مهددين ولن نستطيع رفع
رؤوسنا بعد ذلك أبداً.
-
بالعكس... سأشعر بالراحة والأمان!
-
عجيب قولك هذا!!
-
العجيب هذيانك هذا! نحن في أمس الحاجة للطريق...فكم أتمنى شراء سيارة أنقل بها
المسافرين من الجبل إلى المناطق الأخرى... وتأكد أنني سأقودها بنفسي كما يفعل ذلك
أهالي "الجوف" و"سحار".. ألا تعلم أنهم يسافرون بها من "عدن" حتى "الرياض" ويربحون
المال الكثير من ذلك؟!
وقُطع حديثهم بعد أن نهض الخمسة "النقباء" من جلستهم وتوجهوا نحوهم... وهنا نهض
جاره من جانبه وهو يبتسم وقال مخاطباً والده:
-
هل تعلم يا "نقيب" أن ولدك يريد شراء سيارة ينقل بها المسافرين من "برط" إلى "عدن"
و"الرياض"؟!
وضحك بسخرية بينما نهض "بن ثوابة" ساخراً، لكن والده همس في أذنه قائلاً:
- أولم أقل لك أنك أصبحت شاذاً بين "القُبُل"!!
ولم يجبه، بل انسحب تاركاً المكان نحو السوق وقد قلَّ الزحام نوعاً ما، وتطلع إلى
صديقه "البياع" الذي كان قد جلس في حانوته يراجع خزانته ويصف النقود بترتيب منسق...
-
هل فرغت يابياع من عملك!؟
وضحك البياع لذلك وقال:
-
نعم يا نقيب النقباء.. لقد فرغت.. تفضل بالدخول!
ودخل "بن ثوابة" حانوت صديقه ورمى ببندقيته جانباً بضجر وقال محتجاً:
- يا لهم من جهلاء.؟! هل سمعت بالمشكلة الخطيرة التي يناقشها "النقباء" الأفاضل؟
-
نعم... نعم... لكن ماذا قرروا؟
-
لا أدري...
-
سيقررون الرفض أولاً...!
-
وبعد ذلك؟
-
سيبدؤون بالمماطلة والمفاوضات مع الحكومة والأهالي...
-
ثم...
-
بعد أن يدركوا أن العمل قد أصبح مهيئاً للكسب سيجمعون التبرعات من الأهالي
والحكومة...
-
وما مكسبهم من ذلك..؟
-
ربع المبلغ يا صديقي...
-
مادام سيكسبون ربع المبلغ فلماذا الرفض أولاً..؟
-
لابد من ذلك حتى لا يحاسبهم أحد... لا الحكومة ولا الأهالي... لعبة ظريفة من لعب
"نقباء" برط يا صديقي...
وفجأة سمعا صوتاً ينادي من على المرتفع في السوق، والتفتا من الباب فوجدا رجلاً
مزركش الثياب بيده حربة طويلة عرفا أنه "دوشان" القبيلة يصيح في الناس منبهاً
لاختفاء بعير أحد "النقباء" وعلى من يجده لديه جائزة ثمينة...
-
إنه بعير النقيب عبدالله...
- في محلها يا عزيزي... أتمنى ألا يجدوه...
وبعد برهة ارتفع صوت "الدوشان" مجلجلاً فقال "بن ثوابة":
-
"ظاهرة" جديدة... انصت إنه يعلن عن رفض القبيلة لشق الطريق...
وأنصتا بينما استمر "الدوشان" يعلن قرارات "النقباء" الخمسة...
-
هل سمعت؟ لقد رفضوا...!
-
قلت لك... هذه بداية اللعبة الظريفة!!
* * *
قضى "بن ثوابة" يومه عند صديقه يمضغان القات... كان واجماً، تجول في فكره هواجس
شتى... وفجأة بعد أن تأكد من خلو الحانوت من الزبائن قال لصديقه متسائلاً:
-
ما رأيك يا صديقي لو مارستُ التجارة.. فلدي مبلغٌ من المال استطيع استثماره...
-
وهل تريد أن تصبح بياعاً... يا "بن ثوابة"؟ وأنت من علية القوم؟
-
إني جادٌ ولا تحاول السخرية...
-
لكنك من علية القوم وهذا واضح...
-
دعك من ذلك وأجبني!...
-
الواقع أنها مهنة مربحة... لكنها منحطة في نظركم..!
-
لا تقل ذلك فأنتم معشر "البياعة" تخافون المنافسة وتخافون أن يصبح أكثر القبائل
"بياعة"..!
-
لا نخاف المنافسة... إنما نخاف مشاكلكم...!
-
لن أفشل...
-
لقد فشل غيرك... خذ مثلاً "بن بلال"... لقد هاجر من البلاد بعد أن قاطعه معظم
القبائل ورفضوا الشراء منه...
-
لقد فشل هنا... هذا صحيح... لكنه في "صنعاء" نجح في شراء سيارة أجرة وسواقتها..
وأصبح يمتلك منزلاً فاخراً...
-
إنما أخاف عليك الفشل ولن تستطيع بعد ذلك العودة إلى عرفك القديم..
-
لدي الثقة في عدم الفشل...
-
وأنا على استعداد لأستأجر لك حانوتاً بجانبي وأرشدك في عملك..
-
صحيح؟
-
وأقسم على ذلك.
ترك "بن ثوابة" العنان بعد الغروب وقد حشى بندقيته بالذخيرة كالعادة... ووصل دار
والده الحصين... كان عليه أن يكون شديد الحكمة قوي التصميم والإصرار... بادره والده
كالمعتاد قائلاً:
-
هه!... ماذا حدث في "العنان" يا ولدي؟
- حدث شيء خطير...!
- ما هو؟
-
سيُفتح حانوت جديد ليس له نظير يا والدي..!
-
ليس هذا بالشيء الخطير...!
-
أصحيح قولك هذا؟
-
ما الخطورة في ذلك؟
-
وإذا قلت لك لمن هو هذا الحانوت..؟
-
عسى لمن يكون "سوى" لبياع من حثالة "البياعة"!
- وإذا قلت إنه لي يا والدي؟
وصمتا وقد تجهم وجه والده ثم نهض متأثراً وقال:
-
أتقصد أنه لك... ؟ أنت "بن ثوابة"... ابن عاقل من عقال "برط" و"ذو محمد"؟... يالك
من سافل حقير!
-
وما السفالة في ذلك؟ وقد كان رسول الله يمارس التجارة. وقريش كلها "بيّاعة" وهم من
أشرف القبائل وأعرقها حسباً ونسباً.
-
لقد كانت عاداتهم وأسلافهم أباً عن جد... أما نحن فليس من عاداتنا ولا من
أسلافنا..!
-
في قبيلتنا من مارس التجارة... "بن بلال" وغيره... ولم يتغير فيهم شيء سوى أنهم
كسبوا المال الكثير.
-
لقد فشلوا وأصبحوا كلاباً منبوذة...
-
بمحاربتكم أنتم فشلوا... ولو فتحتم لهم صدوركم...
-
أتريد أن نفتح صدورنا أيضاً لمن ينحرف عن عاداتنا وتقاليدنا ويمرغ نواميسنا في
العار؟
-
يا والدي.. لم تعد التجارة على ما كانت عليه في سالف العصر والأوان...!
-
التجارة هي هي... و"البياعة" هم هم منذ سالف العصر والأوان...
-
ليس صحيحاً يا والدي... لقد تغير كل شيء وأصبحوا يربحون المال الوفير... لقد كان
"البيّاع" يأخذ حماره بخرجه ويذهب إلى صنعاء ويعود به محملاً بأشياء تافهة يظل
يبيعها طوال السنة كاملة... أما اليوم فالحوانيت مملوءة بمختلف ألوان البضاعة...
والطائرات تنقل شتى أنواع المستهلكات التجارية... أصبحوا في قصور وفي نعيم...
صمت الأب قليلاً ثم قال:
-
مهما يكن فالعيب كل العيب في ذلك... لا تدع الخزي والعار يلاحقاني أينما ذهبت...!
ولا يمكن أن أتصورك قابعاً خلف حانوت حقير وأنا أمر مع نقباء "ذو غيلان" من
أمامه... هذا مستحيل... مستحيل إطلاقاً...
-
أمستحيل هذا...؟ وأي خزي وعار في أن أكسب عيشي نظيفاً وبشرف؟!
-
إخرس! أي شرف ذلك؟! لا أريد أن أراك بعد اليوم... أخرج من أمامي...
* * *
وفي يوم سوق "العنان" الأسبوعي ارتفع رجلٌ مزركش الثياب من على مرتفع وبيده حربة
طويلة يصيح بالناس، فاشرأبت الأعناق نحوه تنصت، ولم يكن ذلك سوى "دوشان" القبيلة قد
ارتقى المرتفع ليُسمع الناس "ظاهرة" جديدة... ولما هدأت الأصوات ارتفع صوته مجلجلاً
وهو يعلن لكل قبائل "أبناء شاكر" بأن "بن ثوابة" قد أصبح "بياعاً"...
ومرت فترة حوار وهرج بين القوم ينذر بالاشمئزاز والغضب والنفور... وفتح "بن ثوابة"
حانوته وقد مُلئت جوانبه بشتى أنواع البضائع المختلفة وقد وقف بداخله مزهواً ينظم
بضاعته... كان ذلك اليوم أسعد أيامه لكنه لم يكن يسلم من الكآبة بعض الوقت. كان
يتمنى أن يمر ذلك اليوم بسلام.
وتوقف عنده بعض الزبائن. منهم من يهجوه ومنهم من يصمت وآخرون يرنون إليه بكلمة عطف
وتشجيع، لكنه لم يشاهد أحداً من أسرته.
وفي نهاية ذلك اليوم دخل عليه صديقه ليمضغ معه القات. وبادره قائلاً:
-
هل أعجبك الحانوت يا محمد؟
وأدرك "بن ثوابة" هدف صديقه ولم يعره اهتماماً لعدم مناداته "بابن ثوابة" بل باسمه
المجرد.. فأجابه:
-
نعم... وأشكرك لمساعدتك...
ولما استقر بهم المقام قال صديقه:
-
هل كان العمل ناجحاً اليوم؟
-
نعم... لكني لم أر أحداً من الأسرة والأقارب..!
وضحك صديقه لذلك، فاستفسره عن سبب ضحكه فأجابه قائلاً:
-
لم يكن لهم أثر في السوق كله يا عزيزي فاليوم بالنسبة لهم يوم شؤم.. بل يوم حداد
أيضاً.!
-
هل تقصد أنهم لم يحضروا السوق قطعاً!؟
-
نعم يا عزيزي... وهل كنت تتوقع حضورهم ليقوموا بقص الشريط وافتتاح الحانوت؟
وضحك ثم استطرد قائلاً:
-
وهل كنت تتوقع أن يحتفلوا ويسارعوا إلى إلقاء الخطب الحماسية بهذه المناسبة؟
تألم "بن ثوابة" لذلك لكنه قال:
-
لم أتوقع ذلك... مع أنني كنت أحب أن أبيعهم بلا مقابل...
مكث "بن ثوابة" عدة أيام لم يغادر فيها "العِنان" إلى دار والده... كان مشغولاً
بإعداد منزل لأسرته في "العِنان" وقد سئم ضيافات "البياعة".
طرق باب دار والده بعد العشاء، وكم كان يتمنى أن ترد عليه زوجته لتكفيه حرج اللقاء
مع والده وأفراد أسرته... لكنه سمع من كوة في رأس الدار صوتاً يسأل عن الطارق...كان
صوت أحد أبناء عمومته. ولما أجابه نزل وفتح له الباب وبادره قائلاً بصوت ساخر:
-
وأين بندقيتك يا بن العم؟
-
تركتها في الحانوت.
-
لا تتركها مرة أخرى فالأمور سيئة.
-
لماذا؟
-
الوضع توتر بيننا وبين "المهاشمة".
لم يعره اهتماماً وسأله عن والده فأخبره أنه قد أوى إلى فراشه، فصعد إلى مكان زوجته
فوجده موصداً فطرقه فأجابته مستفسرة فأجابها... لكنها لم تعره اهتماماً فكرر الطرق
عدة مرات سمع أثنائها أولاده فرحين بمقدمه بينما كانت الأم تنهرهم... واستطاع
أخيراً إقناعها ففتحت الباب فدخل وسلم ثم احتضن أولاده.
كان ينوي أن يأخذها مع الأولاد في تلك الساعة لكنها رفضت، وبذل تلك الليلة مجهوداً
سخياً، مادياً وغرامياً، حتى أقنعها بالرحيل إلى "العنان"... إلى منزله الجديد.
في الصباح بادره والده قائلاً:
-
خير ما ستفعل الرحيل مع زوجتك وأولادك.
أدرك في لهجة والده أمراً بالطرد فأجاب:
-
لقد فرشت بيتاً جميلاً، وكم أتمنى أن تزوروني فيه مع بقية الأسرة.
ابتسم الأب ساخراً ولم يجب، بينما شدَّ الرحال مع زوجته وأولاده، وقليل من العفش...
ولما وصل إلى باب الدار سمع والده يتساءل بصوت مرتفع:
- هل أتيت ليلاً بدون بندقيتك؟
لم يجب... واستمر في مسيره مع أسرته.
* * *
استقرت الحالة لـ"بن ثوابة" في حياته الجديدة، وأصبح "بيّاعاً" بكل جوارحه
وأحاسيسه، وفي بحبوحة من العيش. لكن صلته بأسرته أصبحت شبه مقطوعة، وكانوا قد فرضوا
عليه حصاراً ومقاطعة تألم لها كثيراً...
وفي يوم السوق الأسبوعي كان أمام حانوته يباشر عمله مع مختلف "القُبُل"، وقد أصبح
في نظرهم "بيّاعاً" كغيره من زملاء مهنته، ولم يعد يسمع ألفاظ التقريع والتأنيب
والتوبيخ من أفواههم، بل بيعٌ وشراء. غير أن أسرته وعشيرته كانت ماتزال على ما هي
عليه من المقاطعة له، بل وأصبح من النادر رؤية أحد من أفراد عشيرته يطيل البقاء في
الجزء من السوق الذي يقع فيه حانوته، وإذا ما مرَّ فإنه يسرع الخطى وقد أشاح بوجهه
إلى الجانب الآخر.
لكنه في هذه المرة لمح ابن عمه الذي كان يبتاع له بعض الأشياء من الحانوت الذي
يقابل حانوته. اين عمه الذي كان في يوم من الأيام يود الدخول معه في مشروعه هذا...
وتردد "بن ثوابة" في مناداته، لكنه نهض من مقعده وأسرع نحوه... وبعد جدال محرج
أقنعه بدخول الحانوت، وفي زاوية منه قبع ابن عمه يتأمل ذلك الوهج الرائع لمختلف
ألوان الأقمشة والبضائع التي ضاق بها الحانوت.
تركه "بن ثوابة" سابحاً في أفكاره ولم يعره اهتماماً بعد أن فتح له أحدى علب
الفاكهة واستمر في عمله وقد ارتفع صوته مع الزبائن في جدال حول الأثمان... وفي
نهاية وقت السوق جمع نقوده في حُزَم أمام ابن عمه وقفل حانوته ودعاه للغداء معه.
وفي منزله تعمد تقديم أفخر أنواع الغذاء الذي لم يعهده في دار الأسرة المنزوي خارج
"العِنان"، وكم أنبهر ابن عمه وقد جلس القرفصاء في حلقة أمام مائدة شهية من مختلف
أنواع الطعام أكثرها كان معلباً. ودار حديث طويلٌ بينهما كان خلاله "بن ثوابة"
فخوراً مزهواً بحياته الجديدة لكن ابن عمه كان يخلد للصمت أحياناً فسأله عن سبب ذلك
فأجابه قائلاً:
-
ليتني أستطيع أن أمتلك حانوتاً مثلك؟
-
إذا كنت جاداً فأنا على استعداد لمساعدتك.
-
إنني جاد فعلاً... لكن هنالك مشكلة نمرُ بها جميعاً... فإذا مرت بسلام فلن أتوانى
عن ذلك.
-
وما هي هذه المشكلة؟
-
"المهاشمة"... لقد أصبحت الحالة بيننا وبينهم تنذر بحدوث الفتنة.
-
أما زلتم مع "المهاشمة" في خصام؟
وأطرق ابن عمه قليلاً ثم ضحك... فسأله "بن ثوابة":
-
ماذا يضحكك؟
-
قولك هذا..
-
وما المضحك فيه؟
-
كأنك لم تعد منا؟!
-
أنتم من شئتم ذلك...
* * *
كان فجر ذلك اليوم من أيام سوق "العِنان" الأسبوعي مفعماً بالغبار والرياح المحملة
بالأتربة، وكان الناس قد توافدوا نحو السوق، يسوقون أمامهم الحمير والإبل. كان
"البيّاعة"، الذين يفترشون ببضاعتهم أرض السوق، متذمرون فهم لا يملكون الحوانيت،
وتجارتهم لا تظهر إلا يوم السوق الأسبوعي ولابد للزبائن من اللجوء إلى الحوانيت
هروباً من الجو المفعم بالحرارة والأتربة. كان حظ "بن ثوابة" رائعاً في ذلك اليوم،
إذ كان قد صنع مظلة من المعدن "الزنك" أمام حانوته أقامها على أعمدة من الخشب
المستورد المربع الجميل مما جعل الزحام على حانوته شديداً...
ومع ذلك استطاع صوت "الدوشان" أن يسكت كل ضجيج السوق حيث أعلن أنه قد حدث قتل خارج
"العِنان"، فقد دوت طلقة نارية خارج "العِنان" سقط نتيجتها أحد الرجال مضرجاً بدمه،
وانسحب من أكمة بجواره ثلاثة من الشبان المسلحين واتجهوا نحو دارهم... دار "آل
ثوابة"... أما القتيل فقد كان أحد أفراد "المهاشمة" البارزين.
توتر الموقف بشكل خطير بعد حدوث تلك الجريمة، ولم تعد ترى أحداً من عشيرة "آل
ثوابة" يتجول داخل "العِنان" أو خارجها وقد اعتصموا بحصنهم المنيع ورتبوا مواقعهم
بجواره. كان من العسير على "المهاشمة" اقتحام الحصن، وباتوا يترقبون لأي فرد من "آل
ثوابة" يصادفونه خارج "العِنان"، وكانت الحيلة قد أعيتهم للأخذ بالثأر بسبب حذر
ودهاء ومكر "آل ثوابة".
في عصر ذات يوم، والناس في ملهاة يمضغون القات كل في حانوته أو داره مع مجموعة من
أصدقائه، دخل "العِنان" ثلاثة من البدو مدججين بالسلاح يتلفتون حولهم بحذر شديد وهم
يمرون من أمام حانوت صديق "بن ثوابة". عرفهم فاصفر لون وجهه، ونهض بعجلة شديدة وهو
يتمتم بألم مكبوت. وفيما هو يسرع الخطى بعدهم سمع ثلاث طلقات نارية متتالية مكتومة،
وصياح قتيلٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة. وقف واجماً وقد فاضت عيناه بالدمع.. أسرع يجري
نحو حانوت صديقه فوجده مرمياً أمام الحانوت مضرجاً بدمه، وعيناه تنظر شاخصة نحو
حانوته كأنما انبهرت بذلك الوهج الرائع لمختلف أنواع الأقمشة والبضائع.