هـاي هتلــر

 

 

الشارع التجاري المشهور في العاصمة يعج بعشرات السيارات المارقة التي لا تترك متنفساً للرجل العادي الذي يريد العبور من جهة إلى أخرى.. ازدحام مصطنع لا مبرر له.

وأرتال من سيارات الأجرة والخاصة، والحكومي،والجيش، والمعونة الفنية، ومكاتب المشاريع للدول الشقيقة.. والصديقة.. تمر دائماً..

هي،هي.. وقد تمر في اليوم عشرين مرة.. لم أستطع تفسير ذلك.. إلا أن الجميع يسيرون بلا هدف ويحتل الفراغ معظم أوقاتهم.

تجوال ومجابرات سامجة في الزيارات، ولقاءات حول أين يكون المقيل؟.

بلا عمل .. الكل.. وشارعنا المشهور في العاصمة، هو الوحيد بشهرته، لأنه يحمل اسم أشهر شهيد في الثورة.. مزدحماً دائماً من الصباح، وحتى الظهر.. وقت تعاطي "القات"..

لا توجد إشارات للمرور.. شرطيان أو ثلاثة يقومون بالعمل بصياح، وزعيق مستمر خصوصاً مع سائقي سيارات الأجرة التي تقف دائماً لإنزال الركاب الوجلين الذين لا يقدر بعضهم على فتح الباب بطريقة بصيرة، فيتعرض للشتائم من السائق والآخرين..

كعادتي دائماً وصلت إلى "البوفية" مبكراً، والشمس لا تزال تحتجب خلف العمارة الأولى التي كانت رمزاً لكسر سور المدينة القديم، والخروج بمفهوم سكن الشقق..

أجمل ما في شارعنا، بل وكل المدينة هو موقع "البوفية" التي تحف بها الأشجار الظليلة الوافرة، والتي يعود الفضل في نموها السريع إلى جندي متقاعد من الطراز الأول، يتقاضى راتبه من البلدية ومواساة لا بأس بها من صاحب "البوفية".

نشيط دائماً، بالرغم من بلوغه سن الخامسة والسبعين من عمره.. حريص على أدوات "البوفية" أكثر من حرس صاحبها.. شغوف بتعاطي مخلفات "الزبائن" من المشروبات الغازية.. كنت قد تعودت أن أتناول إفطاري في ساحة "البوفية".. ولا أعرف سبباً لضيقي من تناول ذلك في منزلي..

عادة واستمرت.. ناديت كالعادة "السندويتش" فأجابني العامل:

-         وفنجان شاي باللبن كالعادة يا أستاذ..

هززت رأسي بالإيجاب، وقد رشفت فنجان القهوة الصباحي الذي يعيد الدفء إلى جسمي، ويعطيني الحق في إشعال سيجارة.. وبدأت أتصفح الصحيفة اليومية كالعادة.. أخبار استقبالية..زيارات دائمة.. بعض مقالات ركيكة وجلة، وتقارير لبعض الوكالات العالمية.. المسموح بنشرها طبعاً..!

- أف.. لا يستطيعون اختيار العنوان المناسب للخبر..

نظرت إليه فوجدته قد مد يده إلي وبفمه سيجارة يريد إشعالها.. نفضت رماد سيجارتي المتآكلة وأعطيتها له..

إنه أحد "مجانين" الشارع المشهور.. لكنه أخفهم وطأة علينا.. سابحاً في خياله ممعنا في تفكيره الواضح من خلال تصرفاته وحركاته.

أشعث الشعر يكاد من إهماله لنفسه أن يصبح زبالة في حارة منزوية تتجمع خلفه إينما تحرك قطعان من الذباب.

ثيابه قد عثت.. لا يوجد فيها مكان إلا وقد مرقته نار سجائره بتلذذ لم أفهمه.

-         إنه أحسن من يدخن..

ابتسمت لقول جاري في المنضدة المجاورة..

يشعلها بطريقة جميلة ثم يمضغ دخانها كأنها قرص عسل بلدي.. يحرص كل الحرص على أن لا يخرج دخانها من فمه إلا بالقدر الإجباري.

كان دائماً مثار تساؤلي. إنه الوحيد الذي طغى على زملائه في استثارة اهتمامي نحوه.. سريع الحركة في كل شيء.. في عينيه ومضات مجهولة قلقة كأنه يفكر في إنشاء دولة قوية..

يداه وراء ظهره دائماً.. بحركات عصبية تدق فجأة إحدى الماسات كيد زعيم عظيم انتهى من خطابه، وترتفع فجأة مستقيمة إلى الأمام لتحيية الجماهير المحتشدة التي يعلو هتافها قوياً تحية للزعيم القائد العابس الغارق إلى أذنيه في تصريف جيوشه في جميع المناطق الشاسعة..

كانت "البوفية" تطل على الشارع ذي الاتجاهين، اليمين واليسار.. والدخول إليها بواسطة ممر ينتهي إلى درجات يصعد بها إلى ساحة "البوفية"..

منصة للعرض العسكري تماماً..

وتعالت الهتافات مدوية بحياة الزعيم القائد.. واكتظت الشرفات بالناس، ورفرفت الأعلام على واجهة، وأسطح العمارات..

وعلقت الزينات، والشعارات في أماكن بارزة.. وامتلأت فروع الأشجار بالأطفال والشباب المتسلقين فروعها، حتى كادت تنبطح إلى الأرض.

وقف الزعيم، والقائد في مقدمة المنصة، ووقفنا خلفه.. قواداً ووزراء، وضيوف، وقد تلالأت على أكتافنا الإشارات العسكرية النحاسية..

ورفع الزعيم القائد يده إلى الأمام باستقامة صارمة ودوت من جديد هتافات الجماهير الملتهبة، والهاتفة بحياته كزعيم وقائد للأمة.

بدأ العرض العسكري الخاص بالمناسبة.. أرتال من المدرعات "البرنز" ظلت تدك شارعنا المشهور بالعاصمة دكاً.

إنها مدرعات تمر لا حصر لها.. تسير إلى جنب بصفوف متساوية وجنود يظهرون من فتحاتها العلوية يؤدون التحية العسكرية للزعيم القائد بثبات ونشوة للنصر..

هز منظرهم الزعيم القائد فجحظت عيناه بالدمع الذي بدأت قطراته تنساب بهدوء كأنها قطرات ندى تنتهي بدون لمسة منديل أو مسحة إصبع..

وتعالت الهتافات من جديد بحياة الزعيم القائد تصم الآذان وتطغى على ضجيج المجنزرات..كادت الأشجار المجاورة أن تتهاوى تحت ضغط وتكاثف الجماهير وهتافاتهم..

الزعيم القائد ما زالت يده اليمنى مستقيمة، ونظراته ما زالت صارمة والدمع يطفح منها.وفجأة انهار الزعيم القائد بجسمه إلى الأمام ، ويده اليمنى ما زالت مستقيمة.

وارتمى كلوح خشبي على وجهه، وسيجارته بيده اليسرى مشتعلة حتى نهايتها، وقميصه الرث قد انزاح عن ساقين مشعرين..

ثلاث درجات من الاسمنت المبلط هشمت وجهه.. ولمست أنفه التراب.. تراب الحديقة المؤدي إلى "البوفية".. وظلال الأشجار التي رعاها ذلك العسكري العجوز تظلله.. وتوقفت حركة المرور..

وهرعت شلل من الناس من مختلف الأشكال والألوان..وعصفت الريح بالأشجار، حيث تدانت بفروعها حتى لمست الأرض.. نهضت من مقعدي بساحة "البوفية" وقد أكملت تناول "السندويتش" مع الشاي واللبن كالمعتاد والصحيفة اليومية..

-         لقد مات..!

-         يا إلهي..!

-         مات الزعيم..!

-         مات إسماعيل الطيب..!

صنعاء: 12/12/1975م

 

 


 Go Back to Short Stories Page