ليل الجبل
أقفل المقهوي([1]) باب
مقهايته بعد أن صلى صلاة العشاء، ولم يكن لديه في المقهى الكثير من
المسافرين سوى عدد قليل قد تجلمشوا بجوار دوابهم بعد أن شربوا القهوة
ومضغوا بعضاً من أوراق "القات". ونام بعضهم بينما كان آخرون يتفقدون
دوابهم... فهذا يخلع سرج دابته ويزيل من على ظهرها ما علق بها من عرق بيده
ثم يعطيها عشاءها من الحبوب داخل "مخلة" ربطت إلى عنقها وكادت تكتم
أنفاسها.. وذلك آخر يتفقد خرج دابته خوفاً من أن يكون قد فقد منه شيء في
الطريق.. أما أصحاب الجمال التي تحمل التجارة في ذلك الوقت فقد "غرزوا([2])"
لجمالهم بشيء من البرسيم و"العجور([3])"،
وقفلوا راجعين إلى داخل المقهاية حيث كانت الجمال بالخارج لا يخشى عليها من
نمر أو "طاهش([4])"
فقد عُرف عن الجمال أنها تدافع ببسالة عن نفسها...
كانت المقهاية تربض بجوار عين ماء
بُنيت عليها شبه قبة صغيرة بجوارها بركة لتروي منها الدواب المسافرة، وكان
يطلق على هذه العين اسم "سبيل المرحل([5])"،
وبجوار المقهاية شجرة يطلق عليها "الطولق" مدت فروعها على جزء كبير من
المقهاية و"السبيل"، وبجوار الشجرة كانت هنالك سمسرة([6])
امتلأت بالدواب والجمال التي لم يرض أصحابها الدخول إلى المقهاية ليوفروا
بعض النقود..
وهدأت الحياة على سفح هذا الجبل
الأشم الذي حجب ضوء القمر عن الطريق، وسكنت حتى أشجاره المطلة من على
البواسق الصخرية، ولم يكن يسمع في أحشاء الجبل إلاّ زقزقات لحشرات صغيرة
ونعيق البوم وعواء كلاب في القرى المجاورة.. وفجأة دوت في أرجاء الجبل
زأراتٌ متتالية صادرة من لبؤة كانت تقطن في أحد أحراش الجبل، وتناقلت
الجبال الأخرى صداها فهمدت زقزقة الحشرات، واكتتمت صيحات الكلاب وأجفلت
الدواب مع أصحابها في المقهاية وكل قد تجلمش وهو يتمتم وينظر إلى دابته
شزراً.. إلاّ ذلك "المقهوي" فقد صعد إلى سطح مقهايته حيث أشعل ناراً وجلس
بجوارها يصنع له القهوة ويشوي له بعض كيزان الذرة. وفجأة لمح من بعيد في
سفل "المرحل" شبحاً يكاد في خطاه يسابق الريح يتسلق الدرجات المتباعدة
"للمرحل" ويتلوى مع الطريق في منحنياته وعصراته الكثيرة.. ونهض المقهوي إلى
حافة السطح ليمعن النظر في القادم المجهول، ثم سمع نغمات غنائية صادرة من
ذلك القادم كأنما يسلي به تعبه من المشي ويؤنس وحدته في الطريق الكئيب.
ولما اقترب من ينبوع الماء أدخل رأسه في فجوة داخل القبة وشرب حتى ارتوى ثم
تلفت حوله فوجد المقهاية خامدة لا حياة فيها.. وأمعن المقهوي بنظرة فاحصة
ليعرف من أي "القبل" يكون هذا القادم فوجد شاباً في مقتبل العمر حافي
القدمين يلبس السواد... وعلى رأسه "صبيغة"([7])،
وجلباب أسود وحول خصره "جنبية"([8])، ومن
الحزام يتدلى سيف لا يملكه إلاّ أفراد قبيلة اشتهرت بالشجاعة.. ولما همَّ
القادم الشاب أن يصعد الجبل صدرت من المقهوي "نحنحة" فزع لها الشاب والتفت
وراءه بغضب وهو يقول:
-
من...؟
-
أنا المقهوي يا سيدي..
-
وهل لديك قهوة ساخنة وعشاء دسم يا مقهوي..؟
-
نعم يا سيدي.. لدي كل ما قلت.. وفراش وثير..
-
لا حاجة لي بفراشك الوثير فأنا على عجل من أمري.. أنزل وافتح لي الباب.
نزل المقهوي وأيقظ زوجته وابنته
وأمرهما بإعداد "جمنة"([9]) من
القهوة، وكذلك إعداد دجاجة وخبز في الحال.. ثم فتح الباب وسلم على الشاب
الذي دخل ووضع من على كتفه كيساً من الجلد بجانبه وقال له المقهوي:
-
إذا فضلت الابتعاد عن شخير هؤلاء ورائحة دوابهم فعندي على السطح مكان يليق
بمقامك..
وأجابه الشاب إلى ذلك.. وقام وقد
حاول المقهوي أن يحمل كيسه الجلدي لكن الفتى نهره عن ذلك.. ولما استقر به
المقام داخل المكان على السطح أدخلت ابنة المقهوي مصباحاً زيتياً وضعته على
رف في المكان ونظرت نحو الفتى بخجل.. نظر إليها هو بدهشة لجمالها الجذاب
وسأل المقهوي قائلاً:
-
هل هذه ابنتك يا مقهوي..؟
-
نعم يا سيدي.. ليس لي سواها.. أما أخوها الأكبر فهو في جيش الملكة "أروى بنت
أحمد" في حامية "زبيد".
ولم يعره الفتى اهتماماً بل أمعن في
النظر إلى تلك الفتاة التي انسحبت من داخل المكان وهي تبتسم بدلال.
وتنبه الفتى لقول المقهوي سائلاً:
-
ما الذي جعلك تسافر في الليل..؟
-
أمر هام..
-
وهل مررت من هنا قبل اليوم..؟
-
بل كان والدي يمر من هنا كل شهر يحمل البريد.
-
هل "الحاج صالح" والدك..؟
-
نعم.. وهل تعرفه..؟
-
كيف لا أعرف ذلك الإنسان الطيب.. لقد كان كل شهر يصل عندي في مغرب الشمس ولا
يسافر إلاّ في صباح اليوم التالي... أو لم يخبرك عن اللبؤة التي تقطن في
رأس هذا "النقيل"([10])؟
-
لا.. لقد كان مريضاً عندما كُلفت بحمل هذا البريد بدلاً عنه..
-
ولماذا لم تتأخر في سوق "القاعدة" حتى يأتي الصباح؟
-
لقد أخبرتك أن ما أحمله مهم جداً.. فهو بريد من قائد الملكة في "زبيد".
-
على ذلك ستذهب إليها في "جبلة"؟
-
نعم..
وهنا دخلت الفتاة وقد أزالت من على
وجهها ما علق به من آثار النوم، وحملت في يدها "جمنة" القهوة وفنجاناً من
الفخار، وتقدمت من الفتى الذي حملق بها إعجاباً.. ثم صبت له القهوة وأمرها
والدها بأن تستعجل والدتها في طبخ الدجاجة، لكن الشاب قال مسرعاً:
-
لا داعي للعجلة..
وأمعن النظر بها فتلاقت نظراته
بنظراتها وهنا تدخل المقهوي، فقال سائلاً ابنته:
-
ألا تشبهينه يا "فاطمة"؟
وأطرقت الفتاة نحو الأرض، ثم قالت
بحياء وبصوت أذاب الفتى:
-
إنه يشبه عمي "الحاج صالح" صاحب البريد..
وضحك المقهوي بينما انتشى الفتى
وهمَّ بأن يتكلم، لكنها خرجت مسرعة فأطرق بوجهه نحو الأرض..
بعد برهة دخلت الفتاة تحمل الخبز،
تصحبها أمها وهي تحمل الدجاجة المطبوخة وقالت مرحبة:
-
يا أهلاً وسهلاً بابن "الحاج صالح" على الرحب والسعة..
ثم سلمت الأم عليه وقدمت له العشاء..
سألهم أن يشاركوه عشاءه لكنهم أجابوه
بأنهم قد تعشوا في أول الليل.. جلست الفتاة بجوار أمها ترمقه بنظراتها وهو
يتناول أكله ويحاول أن ينظر إليها فيجدهم ينظرون إليه فيغض الطرف عن ذلك.
بعد أن أكمل الفتى عشاءه قال المقهوي، وقد أشار لزوجته وابنته بالانصراف:
-
ندعك لتنام هنا..
-
لا لن أنام، فلدي أمر بتسليم البريد في فجر الليلة..
-
ولكن يا ولدي لن تستطيع صعود "المرحل" وهذه اللبؤة تتقطع فيه.
-
لا يهمني من أمرها شيء.
-
لا يسافر أحد في الليل يا ولدي في هذه الطريق.
وأكملت زوجة المقهوي حديث زوجها
فقالت:
-
وخصوصاً أنها قد ولدت، وزاد بها الجوع. إنها لا تترك عيناً تنام في هذا
الجبل..
ورمقته الفتاة بنظرة إعجاب فكأنما
زاده ذلك غروراً فقال باسماً:
-
وأنا عائد من "جبلة" سأحضر لكم أشبالها لأتعشى بهم؟
وعبثاً حاول المقهوي وزوجته أن
يثنيانه عن عزمه.. دفع قيمة العشاء والقهوة ثم خرج من المكان بينما كان
المقهوي يحاول معه مرة أخرى.. حاولت الفتاة أن تترجاه لكنها خجلت عندما نظر
إليها فوجد في عينيها نظرة خوف وفزع إلا أنه لم يأبه لذلك.. فتح باب
المقهاية بينما قال له المقهوي راجياً:
-
أرجوك يا ولدي لا تذهب..! فما فرق هذا الوقت القصير؟
-
لا تحاول.. فأنا أحمل أنباء هامة للملكة، ويجب أن أوافيها وهي تصلي الفجر في
المسجد الكبير..
-
مادمت مصراً فخذ حذرك.. جرد حسامك من الآن ولا تضرب به إلاّ حين تتمكن منها
فهي ماكرة يا ولدي..
-
لا تخف عليّ فقد صرعت طاهشاً..
-
ولكنها لبؤة يا ولدي.. واللبؤة لا تنطح.. بل تغدر..
مرق الفتى من باب المقهاية بينما
صيحات التحذير من المقهوي وزوجته تعلو إلى أن غاب في منحنى من منحنيات
"المرحل" الصاعد إلى الخطر.. ضرب المقهوي كفاً بكف ثم قفل باب مقهايته وصعد
مع زوجته إلى السطح، بينما ترقرقت في عيني الفتاة الدموع وهي تلحق بهما..
صعد الفتى بخطوات ثابتة درجات
"المرحل" المعبدة بالحجارة السوداء.. وظل يمرق من منحنى إلى آخر، وفجأة سمع
صوت طرقعة حصى صغيرة من جوار أذنيه فاقشعر "بدنه" ومشق سيفه الذي لمع على
ضوء القمر الخافت ونظر أمامه فرأى صخرة صغيرة تسد عليه ممر الطريق، ودقق
النظر فوجد لبؤة قد وثبت إليها وربضت فوقها بهدوء..
خف من خطاه بينما كانت اللبؤة هامدة
لا تبدي حراكاً. وقف وتمالك نفسه ونظر حوله باحثاً عن منفذ يعبره فلم يجد..
لقد كان الطريق هنا ضيقاً جداً، وتحته "حيدٌ([11])" يطل
على الوادي الأخضر، وفوقه مرتفع أملس لا تستطيع حتى المعيز تسلقه..
تردد في أن يعود أدراجه. سيشعر
بالعار إذا ما عاد وقابل الفتاة.. ولم يكن له بد من أن يقتحم الطريق.. فشمر
عن ساعديه وقد أشهر حسامه إلى الأمام، وهو يهزه في الهواء كمن يريد تجربته
إلى وقت الموقعة المرتقبة. اقترب أكثر فأكثر ولم تتحرك اللبؤة من مكانها..
فاقترب وصاح صيحة الحرب الجنونية.. فلم تتحرك اللبؤة من مكانها.. واقترب
منها حتى إذا ما سمع أنفاسها تزفر وشم رائحتها أخذ نفسه على يمينها فحركت
رأسها في اتجاهه وقد كشرت عن أنيابها البيضاء دون صوت بل فحيح مخيف يصدر
منها، فما كان من الفتى إلاّ أن هوى بحسامه بكل ما لديه من قوة الشباب
عليها فمرقت من الحسام نحوه بينما هوى الحسام على الصخرة وانكسر إلى نصفين.
ارتبك الفتى وهو يجد بيده نصف سيفه فقط، وعاجلته اللبؤة بضربة من مخالبها
أطاحت به على درجات "المرحل" المعبدة بالحجارة السوداء، وسقط مضرجاً بدمه..
وعلى سطح "المقهاية" كان المقهوي
وزوجته ينصتان لأصوات المعركة غير المتكافأة وفجأة سمعوا صوتاً يصيح صيحة
الموت ثم صوت فرقعة مدوية قال بعدها المقهوي بتأثر:
-
يا إلهي.. لقد التهمت رأسه..
وهنا صاحت الزوجة وهي ترى ابنتها
تهوي على الأرض فاقدة الوعي..
وما أن بزغ الفجر حتى أخذ المقهوي
نفسه إلى مكان الحادث فلم يجد للفتى أثراً سوى دماء متناثرة هنا وهنالك،
وسيفه المكسور، وكيسه الجلدي الذي يحتوي على بريد الملكة وعمامته وخنجره..
تلفت نحو عرين اللبؤة البعيد فوجد آثار دماء تشير نحوه. عاد وهو يذرف
الدمع، ووجد المسافرين قد تأهبوا للسفر كل يشد خرج دابته ويحاسب زوجته على
أجر المبيت وثمن القهوة والعشاء، ولم يحاول إخبارهم بما حدث ما داموا
يعرفون بأمر تلك اللبؤة.
سافرت القوافل نهاراً دون خوف أو فزع
وقد امتلأ "المرحل" بالدواب والناس الهابطين من القمة والصاعدين إليها
يغنون ويتحادثون، وأجفلت الدواب عندما كانت تمر بمكان المعركة.
لم يكن بيد "المقهوي" شيء يعمله سوى
أن يعلق تلك المخلفات في سقف "المقهاية" ليراها المسافرون أو من يعرفون ذلك
الشاب إذا ما مات والده.
ومرت الأيام والأسابيع دون أن يتعرف
عليها أحد، فأيقن "المقهوي" أن "الحاج صالح" قد مات.
وفي ليلة من الليالي الموحشة صعد
"المقهوي" كعادته إلى سطح "مقهايته" يصنع لنفسه القهوة ويشوي بعض كيزان
الذرة.. ولمح شبحاً من بعيد يسرع الخطى ويمرق من بين منحنيات "المرحل"
المعبد بالحجارة السوداء فأحس برعشة في بدنه وأطل من حافة سطح "المقهاية"
ليمعن النظر ثم نزل وأخبر زوجته بأن تعد قهوة وعشاءاً.. وصعد ثانية.
ولما اقترب ذلك الشبح من منبع الماء
لم يتجه إليه بل اتجه نحو باب "المقهاية" وهنا صاح "المقهوي" قائلاً:
-
من بالباب؟
-
أنا يا مقهوي..
-
من..؟ الحاج صالح؟
-
نعم يا مقهوي.. افتح الباب فأنا أحمل لك بريداً من ابنك من زبيد مع ما أحمل
من بريد الملكة (أروى)!
ونزل المقهوي وهو يرتعش ثم نظر إلى
مخلفات الفتى المعلقة فأمر زوجته بأن تخفيها في صندوق كبير.. وفتح الباب
وعانق "الحاج صالح" الذي قال له:
-
أريد قهوة فقط ولا أريد عشاء.. إخبر "نعيمه" بذلك.
ثم أخرج من كيسه الجلدي بعد أن استقر
في المكان العلوي مكتوباً أخبر "المقهوي" أنه من ابنه في "زبيد"، ثم تنهد
وقال متسائلاً:
-
ألم يمر بك فتى يحمل البريد قبل شهر؟
لم يستطع "المقهوي" أن يجيب بل حاول
أن يخرج عن الموضوع فقال وهو يعطي الحاج صالح مكتوب ابنه:
-
اقرأه لي. فأنا كما تعلم لا أعرف القراءة.
-
لقد سألتك يا "مقهوي" عن فتى يحمل البريد؟
-
سأتذكر بعد أن تقرأ المكتوب.
-
على رسلك..
وأخذ الحاج صالح يقرأ للمقهوي خطاب
ولده الذي يخبره أن الحالة مستقرة في "زبيد" وأن الجميع قد بايعوا الملكة
ورضوا بها، وأن المدينة جميلة فيها كثير من المدارس الفقهية والمساجد وأنه
قد انتظم في الدراسة هنالك، وربما تزوج عن قريب بعد أن يصبح فقيهاً.
ولما نظر الحاج صالح نحو المقهوي
الذي لم يكن يعره انتباهاً قال:
-
ألم يفاجئك بنبأ زواجه يا مقهوي؟
ولم يجب المقهوي بل طفرت من عينيه
دموع حاول إخفاءها، بينما قال الحاج صالح باسماً:
-
يا لكم من بشر يا معشر "المقهويين"... دعك من البكاء السخيف على ولدك لأنه
يريد الزواج.
وهنا قال "المقهوي" بصوت مبحوح:
-
لا أبكي على ذلك..
-
إذاً لماذا تبكي؟
-
لشيء آخر.. لا أود إخبارك به يا حاج صالح..
-
إذاً على رسلك..
وأدخلت الفتاة "القهوة" وهي تذرف
الدمع ثم وضعتها وانسحبت من المكان مسرعة واستغرب الحاج صالح لذلك فقال:
-
ما بالكم.. هل جننتم جميعاً؟
ولما لم يجبه أحد قال:
-
المهم.. أجب عن سؤالي الأول..
ومسح المقهوي رأسه ثم قال:
-
نعم لقد مر بنا ابنك قبل شهر..
-
وهل نزل عندك هنا في المقهاية؟
-
نعم..
-
لقد خفت عليه.. فلم يعد منذ ذلك الوقت.. وهل بات ليلته هنا؟
-
لا..
-
أو تركته يذهب ليلاً؟
-
لقد حاولت المستحيل يا حاج صالح..
وهنا وقف الحاج صالح وقد تغير لون
وجهه ثم قال:
-
أتقصد أنه سافر من هنا ليلاً؟
-
نعم..
-
عليك اللعنة! وتركته..؟
-
لقد عملت المستحيل دون فائدة.. أخبرني بأنه يحمل بريد الملكة..
وأيقن الحاج صالح أن ابنه قد هلك،
فجلس واجماً ثم قال بهدوء:
-
وأين ثيابه؟
-
هنا في الصندوق..
-
أرني إياها!
ونهض المقهوي ليحضر ثياب الفتى بينما
أطرق الحاج صالح واجماً وقد علت وجهه مسحة من لون أصفر وكادت عيناه أن
تخرجا من مآقيهما.. أخرج المقهوي ثياب ابنه فأمره بالخروج، ولما خرج
المقهوي نظر الحاج صالح إلى ثياب ابنه نظرة فزع ثم احتضنها وأجهش بالبكاء..
مرت لحظة وإذا بباب المكان ينفرج
ويخرج منه الحاج صالح الذي ناهز الستين من عمره، وقد مسح عينيه وأمسك بذقنه
الأيمن ثم استل حسامه ومرق من أمام المقهوي إلى حافة السطح ثم وثب إلى
الطريق وانطلق صاعداً بينما كان المقهوي يصيح باكياً وقد حاول أن يستنجد
بالقوم النائمين اللذين هبوا من مراقدهم على صوته:
-
يا مسلمين.. يا أمة محمد.. الحقوا بالحاج صالح.. فهو في خطر..
وتجمهرت جموع المسافرين على سطح
المقهاية ولم يجرؤ أحد على اللحاق بالحاج صالح.
وبخطى ثابتة وبيد تحمل ذلك الحسام
ترتعش، ليس من الخوف ولكن من الحمية والنشوة للانتقام، تسلق الحاج صالح
العجوز "المرحل" الملتوي.. ولما وصل إلى تلك المنطقة سمع فرقعة الحصى فوقف
ووجد اللبؤة قد وثبت إلى تلك الصخرة.. ثم فكر بسرعة.. فرجع عدة خطوات حتى
تفادى ذلك الممر الضيق وتسلق جانب الطريق العلوي بينما كان رأس اللبؤة
يتحرك صوبه.. وبخطوات هادئة اقترب الحاج صالح من موقع اللبؤة التي بانت له
من تحته على ضوء القمر، ثم بدأ في الانزلاق نحوها بهدوء وحسامه موجهاً
نحوها.. وبدأ يقترب منها رويداً رويداً حتى إذا ما كاد يسمع أنفاسها
اللاهثة تلذع وجهه، عندما كشرت عن أنيابها محدثة ذلك الفحيح الرهيب الخافت،
هوش بحسامه كمن يريد ضربها فوثبت من مكانها إلى مكان آخر ثم اندفعت نحوه
بوثبة عالية وقد فتحت ذراعيها لتطبق عليه.. فما كان منه إلاّ أن نصب حسامه
إلى نحرها فاخترقه حتى ظهر من خلفها.. فارتمت بعيدة عنه تتلوى على درجات
"المرحل" المعبد بالحجارة السوداء.. ثم أطلقت صيحة الموت ولفظت أنفاسها..
واقترب منها "الحاج صالح" واستل سيفه
من نحرها فلم تبد حراكاً.. ثم اتجه صوب الصخرة فوثب عليها وسيفه بيده، ومن
فمه تعلو أنشودة حزينة يرثى بها ابنه..
بعد ذلك اليوم بدأ الناس يصعدون
الجبل ليلاً...
