عمر النسور ..!

 

كنتُ في حانوتي الذي هو جزء من منزلي البسيط... منه أرتزق وأعيش مع زوجتي وأولادي... كنتُ "مُقيّلاً" أمضغ القات مع بعض سكان القرية الذين هم عادة زبائني الخصوصيون، جذبهم إليّ "مداعتي" الجديدة وتبغي النكه المذاق...

لم أكن أحسب أي حساب لمصروفاتي في التبغ ما دامت من الحانوت. قد يُطلق عليّ محتكراً في القرية لكوني الوحيد الذي فتح حانوتاً بها، أو الوحيد الذي استطاع ذلك، لأني عدت من الغربة إلى القرية بمبلغ من النقود فتحت بها حانوتاً صغيراً فيها... حاول الكثير منافستي دون جدوى، فما أن يصل أحدهم من الغربة إلى القرية إلا وأول ما يقوم به هو شراء الملابس لزوجته التي تكون في بيت والدها "حانقة"، ثم يصرف ما تبقى في شراء راديو وبطاريات، وشراء القات لفترة طويلة وببذخ إرضاءً لزوجته التي هو متلهف لإرضائها... وبعد شهر تعود حياته كما كانت قبل الغربة...

نفض جيراني أرديتهم من بقايا عيدان القات المستهلك، ودخلت زوجتي من باب جانبي وكنست ما تبقى من عيدان القات ثم أسرجت لمبة الغاز لأني مازلت مستمراً في "مقيلي"، وكم كانت تزجرني دائماً لعدم ذهابي لصلاة المغرب والعشاء، وكنت أقنعها دائماً بأني أقوم بذلك جمعاً...

دخل من باب الحانوت رجل عرفته بارتياح... إنه "حمادي غانم" وبيده فأسه وعدة قطعٍ من الحديد مدببة الرأس... أنه "مُفلّق" البلدة كلها.. ذلك الرجل الذي يقطع الأشجار، التي يبست وأثّرَ عليها الدهر، إلى قطع صغيرة تكون حطباً للأفران... فركَ يديه ومسح بعض أثار الدم من عليها، ثم مد رجليه بعد أن ألقى التحية وحاول إخراج بعض الأشواك من قدميه الخشنة... ظننته يريد شراء ملح أو قليل من الغاز لسراجه، لكنه لم ينطق بذلك بل أخذ له ركناً من الحانوت وأخرج من لفافة تحت إبطه "ربطة" من القات ووضعها أمامه، وأخذ في تقطيف أوراقها ومضغها... فرحتُ بذلك لأنه لابد أن يعطيني بعض ما معه ثم نتجاذب أطراف الحديث ونقتل الملل بذلك.

هو قد اعتاد التأخر في "المقيل" بحسب عمله.. وأنا كذلك بحسب مهنتي، لأن نسوة القرية لا يزرنني إلا عند ما يكون الأزواج في المسجد لصلاة المغرب والعشاء...

لم يبادلني الحديث وإن كان قد أكرمني بالقات... لم يخطر ببالي أنه يفكر في أمر يشغله ويجعله شارد الذهن... حاولت أن أناوشه حتى يسترسل في الحديث ويطيب المقيل... فكرتُ في أي موضوع يمكن أن أستدرجه به لبدء الحديث وقتل الملل... ذكرتُ أننا كنا قد تبادلنا الحديث في أول المقيل عن الذين يذهبون الحجاز هذه الأيام دفعات دفعات، ويجتازون المخاطر في سبيل لقمة العيش، وكيف يعود بعضهم في أثناء الطريق بعد أن تنهبه بعض القبائل أو المرتزقة في الحدود إلى غير ذلك من العوائق.

-   لقد سافر اليوم من القرية المجاورة أكثر من عشرة أشخاص، هم "أحمد الحاج"، و"علي بن علي" و....

-   أعرف ذلك...

-   وهل تعتقد أنهم سيعودون؟

-   ربما يعود بعضهم...

كان يحدثني وهو شارد الذهن وفجأة تحرك وفرك يديه، وقال:

-   أريد منك تسعين ريالاً...

استغربت طلبه بدهشة...

-   لماذا؟

أجابني وفي صوته رنة جادة حازمة:

-   لكي أسافر إلى الحجاز...

زاد عندي العجب، شخص "كحمادي غانم" يذهب إلى الحجاز..! ماذا عساه سيفعل؟ هل سيقطع عيدان الحطب أو يقلم الأشجار اليانعة؟ قلت له محاولاً أن أعرف أكثر:

-   من أشار عليك بالذهاب إلى هنالك؟

-   الفقيه... "الفقيه عبدالرحمن" الذي يرافق الكثير إلى الحدود مقابل أجر يُدفع له...

-   أعرف ذلك... لكن حالتك هنا مستقرة وعملك يكاد لا ينقطع...

-   إنه عمل متعبٌ جداً.. فكم أطوف قرى الجبل أبحث عمن يبست له شجرة أو حان قطع فروعها!

-   ومع ذلك فأجرك في اليوم الواحد أكثر من أي عمل يقوم به غيرك.

- صحيح ذلك.. لكن الشوك ووخزها.. وأناملي كما تعرف قد كادت تختفي.. وهذه المطرقة قد سلخت ساعدي.. وهذا الفأس كم قد سقط على يدي.. ألا تعلم أنني قد قدمت حياتي هدراً عدة مرات وأنا أتسلق الهاويات أتتبع الأشجار!

-   لكن الطريق غير مأمون.. أولم تسمع بحصار صنعاء؟

-   لا تهمني صنعاء ومن فيها.. المهم أنني صممت على ذلك.

-   لكن الوصول حتى إلى خارج صنعاء أصبح صعباً حيث تقطع الطريق أمام المهاجرين قوات من الشرطة والأمن.

- لا يهمني ذلك أيضاً.. لقد اتفقت مع الفقيه ومعنى ذلك أنه كفيلٌ بوصولنا الحدود.. فهو كما تعرف ماهر وماكر وله أسلوبه الخاص بهذه الرحلات.

كم حاولت تعريفه بالحالة البائسة التي يقاسيها اليمنيون باعتباري مجرباً لذلك، لكنه كان يبحث عن أي شيء ليغير من وضعه الاقتصادي ومظهره، خاصة بعد أن وفّقَ بالزواج من فتاة جميلة تريد الثياب المزركشة والراديو المسموع عند الجيران والفرش الإسفنج المريح عند النوم... كل تلك المتطلبات كان لابد منها لكن تكاليف الزواج كان قد كلفه كلما ادخره طوال سنين عديدة... بل أنه استلف فوق ذلك لسداد متطلبات الأشهر الأولى من الزواج، وقبلها حق "الفتاشة" و"الدخلة"..

تمنيت له النجاح وأقرضته المبلغ. تذكرتُ نوادره الجميلة وحياته المرحة. لقد كان شعلة في النكتة اللاذعة، وكم كان يزهو عندما يشبّه نفسه بالنسر ذي العنق الطويل.. ذلك النوع الذي يقال أنه يُعمر ألف سنة، وإن رزقه دائماً من بعيد، مثلاً من موت بقرة أحد المزارعين في أي قرية كانت قريبة أو بعيدة.

كان القرويون يحكون أيضاً نوادره مع زيادة فيها، وكان بعضها يظل متداولاً لفترة طويلة، مثل تلك الحادثة التي رويت عنه فقد حدث أن شجرة عملاقة يبست أمام دار أحد المزارعين الأثرياء، وقام "حمادي" بتسلقها برشاقة وبدأ في قطع فروعها لكنه اندهش عندما وجد ابنة المزارع الرائعة الجمال والذائعة الصيت ترمقه من النافذة المقابلة بنظرات مغرية فاستطاب له المقام فوق تلك الشجرة عدة أيام وكان بإمكانه إنجاز مهمته خلال يوم واحد... كان السذج يتلذذون برواية ذلك وهم يموتون من الضحك لكن الدهاة منهم كانوا يعللون ذلك بطمع "حمادي" في مضاعفة أجره... والحق أنه لم يتفق اثنان على وصفه أو على تحديد معنى واحد لنوادره الكثيرة.

لذلك كان بالنسبة لي صديقاً محبوباً، أنزوي معه ساعة الغروب حتى انقضاء الربع الأول من الليل.. نمضغ القات ونتبادل النكات ونتناقل الأخبار غير السارة عن العساكر والتنافيذ، وعن الفروقات التي يأخذها العدول والأعيان والمشايخ... كان يضحك دائماً مزهواً لأنه لا يدفع، فقد كانت له طرقه الخاصة بإقناعهم بعدم جدوى ذلك عن طريق النوادر التي كانوا يعجبون بها في مقايلهم...

* * *

ودعته فجر أحد الأيام مع مجموعة من الشباب يتقدمهم "الفقيه عبدالرحمن" بثيابه البيضاء ووجهه الذي أكله الجدري... الضاحك دائماً بدهاء... لقد أصبح يجمع من عمله هذا أموالاً طائلة واستطاع خلال سنوات الحرب أن يشتري طاحوناً يزعجنا بصوته داخل القرية...

كان "حمادي" الباسم الوحيد في المجموعة المسافرة، وقد حمل كغيره صرة من الزاد... نظر نحوي باسماً وبطريقته المرحة قال:

-   وداعاً للجيّف يا صديقي...

-   أرجو أن تكون نسراً هناك...

-   بل سأكون "بازاً" أنقض على الأعمال بكل جرأة...

-   أرجو ذلك...

-   لا تكن متشائماً يا صديقي فحيث فشلت أنت هنالك نجاحي...

 وقاطعه الفقيه عبدالرحمن ليشرح له عملية الدخول إلى مدينة "إب" بحيث لا يشعر رجال الأمن أنهم مسافرون إلى السعودية... وقال لهم أنه ليس هناك قانون يمنع ذلك لكن رجال الأمن يرتزقون من هذه العملية... أخبرهم أيضاً أن أول شيء يجب عليهم عمله هو عدم الظهور بمظهر المسافرين كمجموعة، بل الدخول أفراداً إلى داخل المدينة ثم يكون الملتقى في "مقهاية" عامة... قال "حمادي" مازحاً:

-   ثم بعد ذلك يا زعيم؟!

-   ثم نبحث عن سيارة نقل صغيرة بأجر معقول تنقلكم إلى "خولان"...

-   ثم...؟

- علينا الخروج أولاً من المدينة أفراداً إلى وادي "السحول" بين المزارع لانتظار السيارة... يجب أن أنبهكم إلى نقطة هامة وهي أن تكونوا في الوادي أيضاً مجموعات صغيرة سأحدد مكانها بعد ذلك...

-   ثم...؟

- ثم أصل أنا مع السيارة إلى كل مجموعة... وأنادي عليكم بأسماء سرية سأختارها فيما بعد... فمن كان موجوداً في مكانه المحدد ووثب بسرعة إلى السيارة كان أحسن حظاً من غيره لأن السيارة لا يمكن أن تقف أكثر من لحظات...

-   لماذا...؟

-   لأن رجال الأمن يراقبون ذلك ويرتابون.. ولن نعلم بهم إلا وهم وراءنا...

-   وإذا داهمنا رجال الشرطة؟

- سيكون العمل شاقاً وخسارة كبيرة عليكم... وإذا كنتم بني آدم ولستم حميراً ستقولون أنكم تتسوقون في سوق "السحول" الأسبوعي...

-   وإذا لم يصدقوا ذلك؟

-   ستُضرب يا "حمادي"... ثم ستدفع مالاً كثيراً كأدب... هو مصروف رحلتك..!

-   وأنت هل ستدفع أدباً مالياً يا فقيه؟

وهنا تعالت ضحكات بعضهم لقول "حمادي" هذا... فهم يؤمنون أن "الفقيه" داهية وماكر ويعرف كيف يتجنب ذلك... وكان الأذكياء من أهل القرى، ممن فشلوا سابقاً في مثل هذه الرحلات، يؤكدون أن "الفقيه" على وفاق تام مع رجال الأمن...

كان "الفقيه" من النوع الذي يُشعر الغير بأنه صاحب خطط عملية مرسومة بالدقيقة وبالثانية، وأن من يخالف تلك الخطط لابد أن يفشل ويلاقي المتاعب.. وقد أثبت جدارته ودهائه في ذلك بعد أن أصبح "عدلاً" للقرية، وخصوصاً عندما كان يصل إلى القرية عساكر من المركز لأي سبب، وكان "الفقيه" يقوم بدفع الأجرة للعساكر مقدماً عن الرعية ليأخذ ضعفها بعد ذلك عند الحصاد...

وكان قد رسم للقرويين قانوناً كان يعتبره حكمة خالدة وهي "من لم يسلم أجرة العسكري فسوف تتضاعف عليه العساكر عدة مرات وهذا يعني مضاعفة الأجرة... ومن لم يخضع للشيخ من أول مرة ولا يستمع ويقبل الصلح لابد أن يغرمه الشيخ أدباً باهظاً"...

وقد كان "حمادي" يتندر بذلك بقوله "لقد كسب الفقيه الشيخ وجهنم معاً..."

* * *

ملّت المجموعة البقاء تريد السفر... لكن "الفقيه" أوهمهم أن الوقت ليس مناسباً لعدة أسباب وجيهة شرحها لهم، وأن عليهم الانتظار والتحرك للوصول إلى الطريق العام في الساعة التي رسمها في خطته... واقتنع الجميع...

وبعد لحظات تحرك "الفقيه" في مقدمة الرحلة بعد أن مر بنظره عليهم جميعاً خوفاً من تخلف أحدهم...

ولوحت بيدي مودعاً "حمادي غانم" الذي كان قد أخذ مركزه الثاني بعد "الفقيه"...

 

 


 Back to Home Page