الذبابة

  همدان دماج

آلاف اللحظات الصعبة مضت عليه دون هوادة. لقد أمضى النهار كله بحثاً عن الحقيقة، لكن دون جدوى. أدرك تماماً أنه لن يستطيع النفاذ إلى العالم المشرق المليء بالضوء والحرية اللذين يراهما أمامه بوضوح من وراء هذا الجدار"اللامرئي" للعين. لقد ملَّ من خيبة الأمل والفزع المفاجئ، اللذين يصيبانه كلما اصطدم وجهه بهذا الجدار "اللامرئي" الذي لايزال لغزاً كبيراً، ليس فقط بالنسبة له، بل ولمعشر الذباب جميعاً. لقد سمع عنه من أحد رفاقه في الماضي، لكنه لم يكن يتخيله بهذه الغرابه وبهذا الرعب.

لقد تقيد طيرانه في مساحة مربعة من الفضاء لا تسمح له حتى بالدوران بحرية؛ فلم يعد قادراً على الطيران لمسافة طويلة، مما جعله يبدو  "كبرغوث حقير"، حدث نفسه بكبرياء، والصق وجهه المثخن بالجراح، على زجاج نافذة غرفة النوم المغلقة في المترل رقم 13 في الحي الإذاعي القديم. بدأ يفكر بقلق:

-يا للكارثة! هل عليَّ الآن أن أموت كما تموت الصراصير!؟

* * *

لقد بكى كثيراً منذ الصباح. لم يتذكر مطلقاً كيف أوقع نفسه بهذا الشرك اللعين. كل ماكان يتذكره هو أنه كان للتو يمرح في الهواء بحرية بعد وجبة دسمة من مطبخ الجيران.

-         لم يكن الأجدر بك أن تغلق عينيك وأنت تطير أيها الـ…!

حدث نفسه بحنق، بينما انهمرت دموعه البخارية فاختلطت بعرق جسده القذر، الذي كان حريصاً دوماً على إزالته بحركاته المعتادة.

تذكر أنه رأى قبل أيامٍ عديدة، عندما كان لا يزال شاباً، صرصاراً يحتضر.

-لقد كان المشهد رهيباً!

هزته الذكرى بعنف، ولازمته تفاصيلها طوال مسيرة حياته القصيرة، فكانت دائماً تبعث في نفسه رهبة أشد من رهبة "الموت في فم ضفدعة".

كان لايزال عائداً للتو، ظهيرة ذلك اليوم، من وجبة صباحية مع الرفاق، عندما تناهى إلى سمعه صوت كئيب بعث في جسده قشعريرة أوشكت أن تفقده توازنه. كان الصرصار راقداً على ظهره، وكانت أرجله الضخمة تتمرجح في الهواء بعشوائية مقززة تثير في النفس الغثيان، بينما ظل هو يستغيث محدثاً أصواتاً ملأت المكان برائحة الموت. لم يستمر ذلك المشهد طويلا،ً فبعد برهة قصيرة كانت أولى النمل قد ظهرت على مسافة غير بعيدة.

- كلا، لا يمكن لي أن أموت هكذا!

هز رأسه بضجر محاولاً طرد هذا الأفكار المزعجة. كان يفضل أن يموت ميتة طبيعية، كتلك التي ماتها زعيم جماعته قبل خمس ساعات، بعد عمر طويل، مختنقاً بوجبة "نهائية"؛ أو حتى أن يموت في مذبحة جماعية بالغاز السام مع رفاقه، على أن يموت وحيداً وهو ملقى على ظهره.

* * *

 

قرر أن يستأنف عمله من جديد، في البحث عن مخرج من هذه الورطة، بعد أن أخذ قسطاً من الراحة استطاع خلالها أن يهدئ من روعه وأن يزيل ما تبقى من آثار عرقه القذر من على جناحيه. وبدأ يفتش كل أرجاء الجدار الزجاجي بدقة، علَّه يعثر على فتحة يستطيع النفاذ منها إلى الخارج. وبينما هو منهمك في عمله بدأت أفكار عظيمة تداعب عقله الصغير، وبدأ إحساسٌ مفعم بالأمل ينمو شيئاً فشيئاً في داخله.

- نعم، سينتهي كل شيء عما قريب.

حدث نفسه بتفاؤل، بينما بدأ جناحاه يضربان بقوة على زجاج النافذة الصلب، محدثاً صوتاً مزعجاً.

أنهكت قواه، فقد تحكمه وسقط إلى الأسفل؛ لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن الاسترسال في المستقبل الذي ترسمه مخيلته المتعبة. وبدأ يحدث نفسه بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنه سيعود للطيران مرة أخرى. نعم سيطير، لكن بقوة هذه المرة، وعندما يعانق ذلك الفضاء الرحب لا بد وأن يعيد حساباته ويبدأ حياته من جديد. نعم سيطير، سيحلق بعيداً، ولن يقيد حياته في جو هذا المترل التعس. سيزور كل زبالات المدينة، وسيرى أشياء لم يتسنَّ له رؤيتها من قبل، وسيأخذ دوماً حذره الشديد من هذه الأشراك "الغامضة" القذرة. وبالتأكيد فإنه لن يموت كما تموت الصراصير، بل سيموت مختنقاً بوجبة "نهائية"، كما مات زعيمه من قبل. ومن يدري!؟ ربما سيكون زعيماً يوماً ما؛ إذ ما المانع!؟

- بل لا بد لي أن أكون زعيماً، و...،و....

وبينما هو غارق في هذه التخيلات المشبعة بالأمل، داعب النعاس جفونه الثخينة. وقبل أن يتمكن من إغلاق عينيه الخلفيتين، كانت يد غليظة قد أطبقت عليه بقوة، وبدأ يحس من خلال العتمة بأصابع هذه اليد الصخمة تضيق عليه الخناق حتى لامسته، ثم "فعصته" ومعه آماله الكبيرة؛ فتلاشى كل شيء من حوله بسرعة، الفضاء، الضوء، الحرية، الرفاق... وأدرك أنها النهاية. لكنه رغم ذلك كان سعيداً، وكانت ابتسامة ساذجة قد ارتسمت على وجهه المدبب، عندما تذكر لوهلة قصيرة أنه لن يموت على ظهره كما تموت الصراصير.

ربيع 1995