في الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الفقيد الشيخ مطيع دماج

مطيع دماج حي بيننا

بقلم: عمر الجاوي

 

الكتابة من الذكرة مجرد محاولة اجترار الذكريات عن الأفاضل من الناس خاصة أولئك الذين اضطلعوا بدور فاعل في الحركة الوطنية اليمنية. ومطيع دماج أحد هؤلاء الذين تميزوا بنظرة الشباب في سن الشيخوخة علي نطاق العمل من أجل إنهاء سلطة الإمام، و في النهاية الانتصار لحرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني وعملائه في عدن والمحميات ويتبادر إلى الذهن حالاً لأولئك الذين عاصروه أو تعرفوا عليه عن كثب فيما بعد. أن مطيع ظل يحلم بثورة لا تقف عند حدود تأسيس نظام جمهوري في هذا الجزء من الوطن أو ذاك وإنما كان يطلب المزيد من الإجراءات الثورية المستمرة..

وتحضرني بعض الآراء التي قيلت عنه دون أن أدونها؛ لأنها ستكون جزءا من هذه الكلمة.

الكثيرون من المهتمين بالحركة الوطنية اليمنية يذكرون الآراء التي قيلت عنه في الصحف العدنية أو مذكرات بعض الصحفيين. لقد اعتبر في بداية الأربعينيات شاباً متحمساً يطلق الآراء السريعة عن سلطة بيت حميد الدين الرجعية والاستبدادية التي أغرقت شمال الوطن "المملكة المتوكلية اليمنية" في محيط من التخلف المريع.

كان رأي مطيع وفي عدن المستعمرة التي وصل إليها في بداية الأربعينيات مجازفة غير مقبولة حتى من أولئك الذين قد تعرفوا على العالم الحديث..

وفي الحقيقة أن وصول طلائع حركة الأحرار اليمنيين إلى عدن قد فتح باباً جديداً لعمل سياسي نعرف تطوره اللاحق..

استخدم الإمام يحيى وأبناؤه كل وسائل الدجل الديني والسياسي لإطفاء نوع من القدسية على حكمهم، ولم يتورعوا حسب خطة سياسية منتقاة من أن يشعروا المواطن اليمني من أنهم هم الذين صانوا استقلال "اليمن".

يقصدون بذلك شمال الوطن. وأن العزلة التي فرضوها على المواطن والتربة كان لها ما يبررها. ابتداء من الحرص على الدين، حتى منع الاستعمار البريطاني من التوغل شمالاً.. لقد كانت الحضارة بالنسبة لهم كارثة على الوكن والدين.

يقيناً أنه عامل فاعل هذا الذي يدعون، خاصة وقد لعبت القدسية للعائلة المالكة دوراً في إقناع الناس. كما لعب القمع دوراً في لجم الأفواه. وحين وصلت طلائع الأحرار الذين كان من أبرزهم مطيع دماج بدأ التفكير والاقتناع يتجه اتجاهاً آخر.. لقد تعودت مستعمرة عدن على استقبال أفواج من مملكة الإمام يأتون للعمل في المهمة التي لا تحتاج إلى تأهيل معين، وفي أحسن الأحوال تتقبل أولئك الذين نزحوا من  وسائل الاستعباد التقليدية آنذاك. الخطاط والتنافيذ والتأديب، الذي لازم سلطة آل حميد الدين منذ خروج الأتراك.

ربما وجد نفر من السياسيين الهاربين الذين لم يسجل التاريخ لهم موقفا بهذا الحجم الذي كان في طليعته رتل من زملاء مطيع دماج، لعل الدور الرئيسي في هذه القضية يكمن في أول تصريحات قالها الفقيد لفتاة الجزيرة والتي تتركز في إنتقاد بيت حميد الدين كسلطة من منظور سياسي يسعى إلى التغيير..

وتكمن أهمية دور مطيع دماج في إثارة موضوع السلطة الاستبدادية الإمامية وبشكل جلي لأول مرة في الصحف. في محاولة لإظهار وجود فعلي لمعارضة كانت في طي الكتمان. ذلك كان أول هجوم علني سياسي ضد الحكم في "المملكة المتوكلية اليمنية"..

لقد اشترك المرحوم ورفاقه مع من تبعهم من الزعماء فيما بعد في تأسيس حزب الأحرار، الذي عرف رسمياً فيما بعد بـ"الجمعية اليمنية الكبرى" وكأي نشاط سياسي منظم، تعرضت الحركة لكثير من التناقضات بحكم تركيبها ولوجود قادتها في المستعمرة عدن. الأمر الذي أدى إلى كثير من المماحكات.

عاد مطيع دماج إلى شمال الوطن قبل الثورة في عهد الإمام يحيى في عام 1948م  وكرست كثير من التفسيرات التي أخذت جانباً واحداً  من القضية وعلى وجه الخصوص، مسألة ما تعرض له مطيع وزملاؤه من فاقة وضيق في أسباب الرزق وهم المتفرغون للعمل السياسي.

لقد سمعته يقول: "هذا جزء من القضية ولكن الأهم هو أننا اختلفنا مع البعض أيضاً في كثير من القضايا السياسية، فلقد رأيت بنفسي بعض الأفراد يتصلون وبعضهم حتى بالقنصلية الأمريكية، بل وأعتبر أن العمل السياسي كان عقيماً في عدن ولم يحدد الأشخاص الذين يتهمهم.

وفي ظروف كظروف الأحرار حينها، لم يكن بالإمكان الاستمرار في المحافظة على فرد ونبذ الاختلافات، ولا حتى البحث الدقيق عن الأسباب الفعلية بحكم عدم توفر الوسائل والوثائق.

وفي كثير من الأحيايين تصدر الأحكام علي ضوء النتائج وتطور الناس أنفسهم في خضم النضال اليومي الدؤوب..

لم تنقطع صلة مطيع بالحركة الوطنية، بحركة المعارضة ضد الحكم الحميدي وكان من البواسل الذين وقفوا مدافعين عن النظام الجمهوري في وجه كل الحملات المعادية، وفي ظل النظام الجمهوري استعاد مطيع دماج طليعته، نقصد بذلك رفضه المساومة وحتى المصالحة التي طرحت في أكثر من مؤتمر ابتداء بالكويت حتى مؤتمر الطائف وحرض.. كان يفهم النظام الجمهوري من منطلق سياسي واجتماعي ويريد السلطة للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب. واتسعت مدارك مطيع دماج لتتسع للوطن بكاملة.

لقد اعتقد كثير من المثقفين أن ما يقال عن دوره في حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني مجرد مبالغة وتمجيد معهود من أبناء الوطن. وقف مطيع مؤيداً ومدعماً مهماً للجبهة القومية أثناء الكفاح المسلح، خاصة حين اختلفت مع بعض القيادات المصرية الموجودة آنذاك في مناطق تعز وإب وغيرها. لقد كان ذلك واقع حقيقي مارسه مطيع بنفسه وبشهادات العديد من القادة والفعاليين. ولم ينفرد هو بهذا الدعم، ولكن المدلول العملي لاتجاه مثل هذا يعطي انطباعاً عن الفقيد ودرجة  استيعابه بوحدة نضال الشعب اليمني، وانخراطه شخصياً في حدث مهم وهو في منصب مستشار لرئيس الجمهورية..

ربما نجد في مذكراته الكثير من الأحداث والوقائع وربما وجهة النظر التي كان يتحدث عنها حول فهمه لمسألة النضال من أجل توحيد الوطن. والذين يعرفونه يثقون بأن الرجل لم يكن مجرد متحمس أو يطلق الحديث جزافاً، لقد كان بارعاً في وضع وجهة نظره، ومدافعاً عنيداً عن قضيته الوطنية كأنسان من هذا العصر.

لقد سمعته ليلة انقلاب 5 نوفمبر عام1967م، يتحدث بطريقة غاية في الأهمية، وبعيدة تماماً عن جوهر الانقلاب وظروفه وهدفه في تلك الليلة. كان صوته ينطلق من أجل أحفاده لأنه طالب انقلاب 5 نوفمبر بحكومة من العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين. وببساطة كان يطالب بالمستحيل  الذي فهم كما لو أنه مناورة سياسية بقصد الرفض. على أن مطيع دماج أكد بعدها أكثر من مرة أنه يعني ما يقول وأن نتاج خمس سنوات من القتال حفاظاً على النظام الجمهوري لا بد أن يكون هذا النوع من الحكم، وكان يردد ذلك بصد الشاب.

إن مطيع دماج وكل الذين قاتلوا من أجل إنها الظلم والسيطرة الأجنبية على بلادنا قد وضعوا أساساً حقيقياً لقاعدة لا يمكن التخفي عنها، وهي على الأقل ألا نفقد روح الطليعة وأن نتمسك بالفكرة والهدف وإن تحققت بعد حين..

من هنا نعتقد أن مطيع دماج رحمه الله لازال حياً بيننا...