أن يختفي مبدع عن الساحة الأدبية بالمرض أو بالموت معناه أن تختفي مساحة إبداع ، وان يخسر الوطن والناس تلك المساحة من الضوء البديع . وغياب المبدع الكبير زيد مطيع دماج صاحب " الرهينة " الرواية الأشهر في اليمن وفي الأقطار العربية بشكل خسارة فادحة وبخاصة للساحة الأدبية اليمنية التي تفتقر إلى المواهب الحقيقية والتي كانت قد رأت فيه واحداً من آمالها العريضة في الإبداع القصصي والروائي المعجونتين بتراب الأرض والناهضين من قلب الأوجاع الإنسانية ، فقد كان زيد – وهنا تكمن الخسارة والفجيعة معاً في غيابه – الأقدر على التقاط الساخن والأهم الماضي المنقرض أو الواقع المعاش ، كان الأقدر كذلك على المزج بين الذاتي والعام بين الواقع والمتخيل ، وكل النقاد الذين تابعوا أعماله الإبداعية وتناولوها بالنقد يجمعون على تميزه وانفراده بامتلاك الخصائص التي تجعله يقترب مما صار يسمى بالواقعية السحرية دون حاجة إلى استخدام الأساطير الخارجة عن واقع المجتمع الإنساني بهمومه ونضالاته وأخطائه وخرافاته وتوقه الدائب إلى التغلب على حالات القهر والإذلال . وفي العودة إلى تلك الكتابات النقدية التي تناولت أعمال زيد الإبداعية بما فيها روايته الرهينة نجد أصحابها يؤكدون بما يشبه الإجماع على حقيقة واحدة هي أنهم يقرءون اليمن في كتابات زيد ، وأنه نجح في تمثل المحلية التي هي أساس العالمية كما لم يحدث عند كاتب آخر في هذه البلاد ، وتعــد مجموعته الأولى " طاهش الحوبان " بما استعادته أقاصيصها من الماضي القريب بانوراما فنية تقبض على ناصية الزمن الذي كان لتصنعه على الورق بلحمة وشحمة بعد أن تضع عليه اللمسات الفنية اللازمة لتجعله ينبض بالحيوية والحياة ، وكذلك هو الحال مع مجموعته الثانية " الجسر " التي يتقدم بها خطوات نحو استكمال مقومات القص ، ويقدم فيها أنماطا لشخوص من قاع الحياة وسطــحها . أما " العقرب " وهي مجموعته الثالثة فتحتشد بفيض هائل من الرموز ، لم يكن أهمها واسطعها بطل قصة " المجنون " الذي ذهب ذات مساء إلى "جرن" القرية والناس نيام وقام بجمع محاصيل الحصاد وخلط الأكوام الصغيرة والكبيرة في كومة كبيرة ليتم توزيعها فيما بعد بين الجميع بالتساوي !! لقد اهتدى زيد مطيع دماج إلى أسلوب من القص فريد في نظامه يجمع في براعة فائقة بين الحكاية ذات الدلالات الشعبية القريبة من وعي القارئ وتلهفه إلى معرفة معنى الحدث وبين القص الناضج الذي تنمو معه الأحداث في إطار غرائبي مثير للدهشة متوسلاً إلى ذلك بأدوات تعبير تحقق المكونات الدلالية بأقل قدر من الكلمات .وهو في مجموعاته القصصية كما في رواياته ( لم ينشر منها حتى الآن سوى الرهينة ) يثبت أنه كان يغترف من نهر الواقع ومن صفحات الماضي القريب ما يجعله قادراً على أن يقدم لقارئه العربي والعالمي نماذج مدهشة من الحياة والناس تم اختيارها بعناية فائقة مصحوبة بظروفها الاجتماعية وفي إطار من التقاليد والأعراف التي أجاد رسمها بلغة مكثفة توجز معنى السهل الممتنع في الفن الأدبي ، وتؤكد أن السرد في الإبداع القصصي لا يعني الاسترسال والثرثرة ، ، كما ان الاستطراد والتزيد في التقصي شأن صحفي لا يمت إلى الفن الأدبي بصلة . وإذا كان هذا هو حال زيد في كل أعماله القصصية فان رواية الرهينة تعد – حسب نقادها – نموذجاً للتكثيف والاقتصاد في استخدام الكلام ، أنها تومئ ولا تقول ، تشير ولا تتحدث . ولهذا السبب – ربما – تعرضت بعد ظهورها مباشرة ، لعدد من القراءات غير البريئة منها قراءة خطيب الجامع ذلك ( الورع الفاضل ) الذي طالب بإجراء حد السكر على الكاتب لأنه أعترف في ثنايا الرواية بأنه تناول الخمرة ، وقد أصر الخطيب أن الكاتب الذي كان يتحدث بلسـان بطل روايته يستحق الجلد فقد أعترف بذلك علناً والاعتراف سيد الأدلة !! ، ولعل هذا الخطيب ( الفاضل ) لم يقرأ في حياته رواية واحدة ، ولم يدر بخلده أن الكاتب مجرد راوٍ لا أكثر ، وان أبطاله من ورق وليسوا من لحم ودم وإذا كانوا يعاقرون الموبقات فان الكاتب ليس مسئولاً عن تصرفاتهم وما يرتكبونه من خروج على التقاليد . وربما كانت هذه القراءة غير البريئة لخطيب الجامع – رغم قسوتها – أرحم من القراءة السياسية المغلوطة التي قاد أصحابها حملة هوجاء لا ضد الرواية وحسب وإنما ضد مؤلفها وكانت النتيجة أن أثارت هذه القراءة الخاطئة عدداً من الناس الطيبين الذين لا يقرءون الروايات ولا يهتمون بالأدب ، بل ومن الذين يجهلون القراءة والكتابة ولا يجيدون فك الخط ، وإذا كان بعض أصحاب الحملة الهوجاء قد قرءوا الرواية حقاً فهي إما قراءة خاطئة ومتعسفة تعمل على تحميل النص الأدبي ما لا يحتمل وتعرضه لتفسيرات لم تخطر على بال وتفتح جراحاً قديمة كانت قد اندملت منذ زمن طويل ، وأما أنها قراءة ذات هدف عدواني وموقف مسبق من الكاتب نفسه ولا علاقة له بالرواية التي حرصت كما قال أحد النقاد الأشقاء على أن تقدم فصلاً قصيراً من فصول العبث التي شهدتها اليمن ، ولذلك احتلت مكانة مرموقة بين أهم الروايات العربية على الإطلاق ، كما أردف ان من بين " مميزات هذا العمل الروائي الفريد " قدرته على الجمع " بين ملامح المعاش - المتخيل اليمني وبين إيماءات واختلاجات الموروث ، وان رواية الرهينة ترتسم مثل شريحة عمودية لحالة عربية تتجاوز حدود اللغة والأدب والاجتماع لتعكس بمراياها الداخلية سؤال الزمن العربي الإسلامي بين الماضي والحاضر " ومن تحصيل الحاصل القول بأن كل قراءة سياسية للفن في أشكاله المختلفة تقتل روح هذا الفن ولا تعطي أية أهمية لما يشيعه في حياة الناس من دفء ومن انتصار لمعاني الحرية ، وقد حملت الرهينة – شأن كل أعمال زيد الإبداعية – بعداً رمزياً وتورية مضمرة تجاه ما كان وتجاه ما هو كائن ، والفرق شاسع بين نقد العمل الأدبي وعدائه ، ويبدو أن الاهتمام الذي لقيته الرهينة خارج اليمن لم يشفع لها عند أعدائها ، فقد تم نشــرها في معظم العواصم العربية عن طريق " كتاب في جريدة " كما سبق نشرها في أكثر من دار نشر عربية ، وفي أكثر من عاصمة غربية وأعيد طبعها مرات وترجمت في البداية إلى الفرنسية ثم الإنجليزية والألمانية ، وهي في طريقها الآن لتترجم إلى لغات أخرى منها الصينية واليابانية ، وهو نصر تحققه الرواية العربية في عصرها الجديد وإنجاز يحققه لنا ولها الغائب الحاضر زيد مطيع دماج . ولا عزاء للرواية والقصة ولا عزاء للإبداع وللمبدعين .
|