Dammaj.Net - Under Development






 

 

Back to Novel Page
Back to home page

          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

          

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Back to the novel Page
Back to home page

 

الرهينة

الفصل الثالث

انقطعت عن منزل الشريفة حفصة، شعرتُ بأن ذلك كان أمراً جازماً تلقيته من النائب، فقد بلغت الحلم وأصبحت رجلاً كما ذكّرني النائب بذلك عدة مرات.

حتى القصر نفسه لم أعد أرتاد أماكن النساء فيه ولا حتى المطابخ، ولم أعد أقوم بأي أعمال خاصة بهن.

لقد اقتصر عملي على مكان مقيل النائب... أعدّ الماء البارد المبخّر، وأصلح "المداكي" وأبدّل ماء "المدائع" وأعدّ النار "للبواري" في المواقد، وأقوم أثناء المقيل بوضع النار على التبغ وتقديم خدمات كثيرة في هذا المحيط الضيق.

كان النائب يغدق عليَّ بالقات وهو يشعر بأنني أحسُّ بالمهانة لهذا العمل الأخير الذي أقوم به، فهو ليس عملاً يُركن به إلى دويدار أو رهينة، وإنما هو عمل خاص بالخدم. إضافة لشعوره هذا، فقد خصص لي مكانا "أتكىء" فيه في سفل ديوانه الرحب.

وبدأت عادة جديدة معي هي تناول القات.

كنت أجلس في مقيلي هذا بلذة، وكان يدور حوار شبه مكتوم عن حدث سيقع. كنتُ ألتقطُ بعض العبارات المتناثرة والتي كانت توحي لي بأن هنالك شيئاً سيحدث. وكان كلاماً يدور حول قضية الأحرار والدستور وسيف الإسلام الأمير وليّ العهد ووالده الإمام الهرم.

كان النائب أكثر تحفظاً من غيره، ربما لمركزه المرموق ولكون الحديث يجري في مقيله. لكنه، وبعد أن يخرج من كانوا لديه، يستغرق في تفكير عميق. حتى أثناء قيامي بتنظيف المكان من بقايا أوراق وعيدان القات التي خلفها المريدون، وأخذ "المتافل" النحاسية وأكواب الماء الفخارية، وطيّ "قصيب المدائع"([1]) ورمي بقايا رماد "البواري"، كان النائب يظل مستغرقاً، ومداعته ما زالت قائمة وأمامه جهاز الراديو الكبير ذو البطارية الكبيرة، يقلب شوكته على محطات ربما تسعفه بأخبار يرتاح لها. وقد يستدعي صاحبي الدويدار الحالي المريض لكي ينكبّ على قدميه وفخذيه يفركها بحسب العادة.

وكم كنت أود مساعدة صاحبي في عمله هذا الممل، إشفاقاً مني عليه، لكنني كنت أمقت ذلك العمل الرخيص، وكنت أحتقره ولا يمكن أن أتصور نفسي أقوم به في أي ظرف من الظروف.

وكنتُ أعود مع صاحبي المنهك إلى الغرفة وأساعده في إصلاح فراشه بعد أن كان يساعدني. وقد قمت في ليلة بفرك قدميه فصاح بي بعصبية والشرر يتطاير من عينيه، فامتنعت!

وذات ليلة عدت من عملي المعتاد، المحدود بموجب أمر النائب، فوجدت صاحبي قد نام أو أنه تصنع ذلك وقد أسدل اللحاف على رأسه، واكتشفت أن جميع الصور الملصقة بحيطان الغرفة قد مزقت ورميت إلى الأرض وإلى خارج الباب. فوجئت أيضاً بأن أشيائي الخاصة، وهي قليلة كالفراش ولحافه والصندوق الخشبي الصغير الملون، قد رُكن بقرب الباب، كأنه يريدني أن أخرج من لديه ومن غرفته ومن عالمه، وأغادر غرفته هذه التي يعتبرها خاصة به.

كان النور المنبعث من الفانوس القديم المتآكل المهمل خافتاً كالعادة. جلست مثقل النفس برهة، فكرت في صاحبي هذا المريض الذي كان في يوم من الأيام دويداراً حالياً، والذي لا أدري الآن ما الذي حدث معه وعكّر صفو علاقتنا الحميمة.

كان بإمكانه أن يكلمني بصراحة بأن أغادر غرفته وأبحث عن مكان آخر. ففي القصر وملحقاته متسع من الغرف التي لا حصر لها، وهي غرف بالتأكيد أكثر رحابة من غرفته، وقد خُيرت في يوم من الأيام في دار الشريفة حفصة بغرفة مستقلة ذات أربع نوافذ وحمام قريب منها، ومفروشة أيضاً! لكنني فضلت البقاء معه لحبي له ولشعوري بأنه يبادلني المحبة نفسها.

لا أدري ما الذي طرأ عليه وهو بهذه الحالة من المرض! وقلت لنفسي بعد حوار عنيف، إن من غير الوفاء أن أغادر غرفته وهو في هذه الحالة من المرض، حتى لو كان يريد ذلك!

بعد فترة اقتربت منه. كان اللحاف المغطى به يكاد أن يخمد أنفاسه وأنا الذي أعرفه دائماً لا يغطي وجهه مهما كان البرد شديداً وقارساً في الشتاء بالذات، أو الناموس المزعج في الصيف.

اقتربت ومددت يدي اليمنى لكي أضعها بهدوء، وقد احترت أين أضعها على أي مكان من جسمه! لكنني فضلت أن أناديه أولاً، ففعلت، لكنه لم يجبني. كنت أسمع زفيره المكتوم، وكنت أعرف أنه ليس نائماً.

مددت يدي إلى كتفه، وقلت له:

-        ما بك الليلة؟

لم يجب، فكررت السؤال وكثفت حركة يدي على كتفه، فقال من تحت اللحاف بصوت مبتور:

-        أريد أن أنام.

-        وهل أيقظتك؟

لم يجب، بل مال بجسمه نحو الحائط، وسمعت نشيجاً مكبوتاً صادراً منه.

تمالكت نفسي ثم سحبت جسمه نحوي لكي أعرف ماذا به. لكنه تمنع، فأصررت وانزلقت يدي من على كتفه إلى وجهه أثناء محاولتي تلك. وهالني تبللها بدموعه المنهمرة على خديه، فجذبت يدي بسرعة وقد ذهلت تماماً. وكانت ليلة عصيبة. قلت له:

-        أخي الحميم! صديقي الوفي، زميلي الوحيد في غرفة الانتظار!

لم يجب، لكنني كررت عليه حتى قال:

-        دعني وشأني!

-        هل آخذ أشيائي وأرحل عن رغبة لك؟

-        أنت حر.

-        لم أعد حراً. منذ عرفت قلعة الرهائن، وقصر مولاك النائب، ودار الشريفة حفصة!

لم يجب، فكررت عليه السؤال ملحّاً وقد عزمت على المغادرة إلى أي مكان آخر.

فقال:

-        أنت حر، دعني وشأني، فأنا مريض.

-        مرضك هذا، هو ما يزعجني!

-        لا تهتم بذلك!

وصمتنا لحظة، قلت له بعدها:

-        هل أبحث لي عن مكان آخر الليلة حتى تروق ويعتدل مزاجك، وتترك هذا التعنّت!؟

-        لم يعد لديَّ أي ارتياح لتلك الأشكال الممقوتة التي ذكرتها.

تمهّلتُ قليلاً ولم أجبه بسرعة بل تعمّدت الإبطاء في الردّ وقد تكالبتْ عليَّ الهواجس، سألته قائلاً:

-        أريد أن أعرف قرارك النهائي.

-        أنا مريض وأريد أن أرتاح إلى الأبد!

-        أرجوك أن توضح بصراحة!

-        ... أرجوك أن تدبرّ لك مكاناً آخر، لا أزعجك فيه بمرضي هذا!

-        وهل اشتكيتُ من ذلك؟

-        ربما تحمّلتني أكثر مما يجب.

-        لقد تحملتني أنت منذ البداية!

-        هذا كلام عاطفي.

-        لكنه كلام حقيقيّ وعن صدق.

-        أرجوك أن تتركني وشأني!

-        وأنت بهذه الحالة؟!

-        نعم... سأجد راحة كبرى إذا تُركت وحيداً في هذه الغرفة.

-        لم يعد هنالك من يزعجنا من النسوة بعد الآن.

-    هذا كلام... اقتنعت به أنت والنائب! وهو الكلام نفسه الذي اقتنعتُ به أنا والنائب منذ سنوات. لكننا مارسنا الأشياء رغم ذلك وحتى الآن... أَوَلم تلاحظ ذلك؟!

-        لم ألاحظ!

-        أنا أكبر منك سناً!

-        لا أدري.

-    نعم أكبر منك سناً. وعندما بلغت الحلم، سن الشباب، حاولتُ التخلّص، لكنني مع الأسف ورغماً عني ظللت وعملت وتصرفت حتى الآن كطفل أهبل.

لم يعد هنالك مجال للجدل معه. أخذت أشيائي وخرجت إلى الساحة، وفكرت قليلاً أين أذهب في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

واتجهت تلقائياً إلى "نوبة" البورزان. كان ساهراً خارج نوبته، مطلاً على السور الكبير يصفّر بشفتيه ألحان بلادي الشعبية  الخاصة بأيام الحصاد.

استقبلني بشوق وترحاب كأنه يستقبل صديقاً حميماً له. ولا أدري كيف اتجهت إلى مكانه مع العلم بأن الجميع يتحدثون عن سلوكه الانطوائي وعدم قبوله لأي شخص مهما كانت أهميته.

فرش لي مكاناً ممتازاً من غرفة "النوبة" الدائرية، ولأنه صاحب مزاج متقيد بالنظام والنظافة ودقة التطبيق في ترتيب ذلك المكان فقد صنعتُ من مكاني الخاص بي داخل "النوبة" المستديرة والتي خصّصها لي، مكاناً أرقى من مكانه الخاص به.

حدثني ذات ليلة، وأنا مشغول بحال صاحبي الدويدار، عن سيرة حياته وما مرّ بها، قال لي:

-        ألم تسمع عن "حرب الانسحاب"؟

-        سمعت بها... من والدي، الذي شارك فيها وكان صبياً مع جدي الذي كان يركب الفرس دائماً.

-    هجموا علينا في أطراف تهامة "الشامية" ببنادقهم "المضلع" الألمانية الصنع. كانوا "وهابيين" و"سعاودة"، وكنا نحن يمانيون، "متوكليون" و"زيود"، نحمل البنادق "الصابة" و"الموزر" و"السكّ الفرنسية"، مع ذخائرنا "المعوضة".

كان والدي يقص علينا تلك الأحداث وبتفاصيلها الدقيقة. قال صديقي البورزان:

-        انهزمنا من تهامة، وزُجّ بنا في قارب شارد صغير متّجه إلى عدن حيث عدنا بعد الصلح.

واصل حديثه وهو يستعيد أمجاده:

-        كنتُ أضرب على هذا البورزان بعد أن أتقنت الأداء عليه من معلمنا التركي العجوز الذي بقي مع من بقي من الأتراك بعد هزيمتهم.

-        شيء رائع!

-        يبدو أنك سارح الذهن! فيم تفكر؟

أربكني سؤاله المفاجئ، فقلت:

-        أبداً! أنا معك.

-        لست معي. هنالك شيء يشغل بالك!

-        ربما! وأرجو المعذرة.

-        هل هي الشريفة حفصة؟

-        ذكّرتني بها الآن.

-        إذاً ما هو الذي يشغل بالك ويجعلك مذهولاً هكذا؟

-        صاحبي الدويدار.

-        الحالي؟!

-        نعم.

-        مسكين! فهو صاحب قلب طيب لكنه ساذج.

-        مريض، وقد اشتدّ به المرض إلى درجة خطيرة.

-        ... إنني متألم فعلاً من أجله، ولكنه لم يكن وفياً عندما طردك من غرفته!

-        معذور، وكان الواجب أن أبقى بجواره، وبالذات في حالته هذه.

-        أتريد أن نزوره ونطمئن عليه؟

-        هذا ما كنتُ أود طرحه عليك ولكنني ترددت مخافة إحراجك.

 

* * *

زرت، مع صديقي البورزان، صاحبي الدويدار الحالي المريض في غرفته الصغيرة. كان راقداً. يبدو أنه لم يخرج منذ غادرته.

كان الطعام أمامه كما هو، لم يذق منه شيئاً، وكانت رائحة الغرفة عطنة ففتحتُ النافذة الصغيرة التي كنت آنس إلى بصيص نورها في أحلك الليالي.

استيقظ وقد شعر بنا. لم يتكلم. شعرت أنه قد أصبح غير قادر حتى على الكلام.

وخرجتُ مع البورزان من الغرفة وعندي اقتناع بالعودة إليه، فأخذت أشيائي من مكان صديقي البورزان وعدت إلى غرفة صاحبي الدويدار المريض.

رتّبت مكاني كالعادة السابقة. ولا أدري كيف توفرت لديّ طاقة هائلة من التحمّل والصبر والجلد!

تجاذبتُ معه أطراف حديث فانفرجت أساريره. وتكلم وكأن شيئاً لم يحدث. واستطعت إرغامه على أكل شيء من الطعام المرصوص أمامه، وفركت قدميه الباردتين وأصلحت مرقده.

وقدته إلى الحمام لكي يقضي حاجته الحبيسة طيلة غيابي.

حتى عيناه بعد ذلك كانتا تبرقان بالحيوية والنشاط. كان سعيداً بعودتي وكأن الحياة قد عادت إليه رغم مظهره الكبريائي الذي حاول الحفاظ عليه.

مع كل ذلك، ما زالت صورة الشريفة حفصة لا تفارقني لحظة، حتى في انعزلي مع خيالي وأحلامي، كان صوتها المبحوح يرن في أذني، يناديني بأن أكون رجلاً.

كان وقع الحجر المقذوف منها على ظهري قد أعاد إليَّ الآلام وخصوصاً أنه استقر في عمودي الفقري.

كان صوت بكائها الذي تخيّلته وهي تدافع عني عند أخيها النائب يذكي لديَّ شعلة من هيجان الحب القاسي.

 

* * *

لكنني مع كل ذلك أوليت صاحبي كل اهتمامي وجهدي، برغم عملي المضني في ديوان مقيل النائب بعد الظهر والمساء. أصبحتْ مقايل النائب قلقة، كأن كل من يرتادونها يتوقعون دائماً حدوث شيء. وسعال صاحبي الدويدار المريض يزداد ليلة إثر أخرى برغم مكوثه في فراشه. وصوت صديقي البورزان، أحد أبطال هزيمة "الانسحاب"، يعلو بنشيده المنادي للهجوم على الخصوم وبإشارة النصر الذي لم يحدث!

والطبشي العجوز، الذي حفرت البغلة "زعفرانة" في رأسه ثقباً لا يندمل، ما زال يدندن بألحان "البالة" الشعبية!

وأنا! ... وأنا أتذكر "زامل" العساكر اللاصق في مخيلتي:

يا دويدار.. قد امك فاقدة لك، فاقده لك...

                                   دمعها كالمطر..!

تذكرت أمي التي هربت بي من "عكفة" و"سواري" سيف الإسلام الأمير وليّ العهد بين مزارع القصب والذرة خوفاً من خطفي في تلك الأثناء لأسجن كرهينة. ومع ذلك اُنتزعت من حضنها بقوة وقسوة لم تعهدهما المسكينة من قبل، وأُركبتُ فوق حصان مقوس الظهر يخص والدي وأسرته إلى المدينة.

 

* * *

ذات يوم، لا أدري كيف قابلتها صدفة! ارتعت، وعرتني رعشة كأني مصاب بحمى عنيفة، وتصبب العرق من جبيني مدراراً، ونشف ريقي!

حاولتُ الهروب بحركة متزنة، لكنها قالت:

-        سبحان الله! ظننت أنك قد سافرت!

-        كنت أنوي ذلك.

-        إلى أين؟

-        إلى بلادي.

-        عجيب! وأنا أعرف أنه لا يسمح لرهينة بالسفر إلى أهله إلا بعد أن يحضر بديلاً عنه!

ولم أجب، فقالت:

-        وأنت رهينة مهم! ودويدار خاص بي قبل أن يستولي عليك النائب!

-        أمرني بالبقاء في معيّته.

-        وقال لك إنك قد أصبحت رجلاً، وقد بلغت الحلم!

-        لقد قلته أنتِ من قبل!

-        ولقّنك أن تقول هذا؟

ولم أجب، فقالت:

-        وتطوّرت من دويدار حالي إلى خدام مطيع! تقوم بغسل "المتافل" وإصلاح "المدائع" وكنس المكان! وربما تقوم بأداء أعمال أخرى!

لم أجب أيضاً. فقالت:

-        أهذا ما تعتبره تطوراً في حياتك؟!

شعرتُ بثقل سخريتها فاندفعت نحو البوابة الرئيسية للقصر وقد مزق أحشائي كلامها الجارح، واحتميت منها -كأنني أعتقد بأنها تطاردني- بجوار صديقي البورزان، وأنا في حالة من تشنّج مكبوت طرأت عليّ وكنت أخاف أن تنفجر في رحاب صديقي البورزان الحنون الذي أمسك بكتفي وهزني بعنف قائلاً:

-        ماذا بك.. يا أهبل؟!

لم أجبه، فأخذني بقوة لأواجهه مباشرة، وقال:

-        ابن أمك!

تذكرت أمي، وزامل العساكر: "يا دويدار قد امك فاقدة لك.. دمعها كالمطر". تمالكت أعصابي وأصلحت من وضعي فقال:

-        هل جرى شيء لصاحبك؟

-        ... لا...

-        إذاً ما بك؟!

-        لا شيء.

-        تقول لا شيء! وأنت تبكي كطفل مدلل؟!

-        لم أبك... متى بكيت؟

-        قسماً بالله إن لم تقل ما بك...!

ولم يكمل، ولم أجب. ففكر لحظة ثم قال:

-        أهي الشريفة حفصة مرة أخرى؟!

هززت رأسي، فقال متأنياً:

-        مسكين يا صديقي الرهينة! فإما أن تموت بحبها أو ترحل به خارجاً!

-        سأرحل.

-        ماذا فعلت يا مسكين!؟

-        لاشيء.

-        ماذا قالت لك؟

-        كلام... مجرد كلام.

-        كلام قاس؟

هززت رأسي.

-        ... إنك أصبحت خادماً للنائب؟!

هززت رأسي.

-        وأنك أهبل وجبان ولن تكون رجلاً مطلقاً؟

لم أجبه. فقال بلطف حنون:

-        هل تحبها حقاً؟!

وتمهلت قليلاً+، فقال:

-        كارثة ومصيبة حلّت بك!

أجبته وقد واتتني الشجاعة قائلاً:

-        وهل الحب كارثة ومصيبة؟

-        نعم... كارثة ومصيبة، وخصوصاً إذا كان متبادلاً مع الشريفة حفصة!!

 

* * *

لم أنم جيداً بجوار صاحبي الدويدار المريض الذي أصلحت له كل ما يحتاجه.

ولأنني شربت لكي أنسى الشريفة حفصة، فقد سهرت حتى الصباح. لم تفارقني لحظة في خيالي.. كيف تكون في هذه الساعة؟ هل هي مستلقية على فراشها الناعم والأنوثة المجسّدة في جسمها الريان تبرز مفاتنه من خلال ثيابها الشفافة اللاصقة بجسمها، وصوتها الأجش كفحيح أفعى تتلوى يطرق سمعي!؟

ما زلت أتغافل هجوع صاحبي من سعاله الحاد، وارتشف كأساً إثر أخرى من احتياطه من الخمرة وسيجارة من سجائره المعروفة!

أصبحت في عالم آخر! قررتُ فيه بغير إرادة الذهاب إلى منزل الشريفة حفصة.

وارتشفت كأساً أخرى، وخرجتُ فعلاً إلى الساحة متجهاً نحو باب دارها، طرقته ففتحت لي إحدى الخادمات، ولأنها عرفتني فقد دخلت وصعدت الدرجات نحو مكان الشريفة حفصة.

وقفت برهة متردداً ماذا أقول لها في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل!

كانت قد شعرت بطارق يدقّ باب دارها فتأهّبت لتعرف من هو الطارق في مثل هذه الساعة المتأخرة.

عدت أدراجي مسرعاً لكني فوجئت بصوتها المعروف وهي تسأل خادمتها عن هوية الطارق وقد أجابتها الخادمة بأنه الرهينة.

ولم أشعر إلا بأنفاسها تلثم رقبتي وهي تقول:

-        خطوة عزيزة! يا خادم مولانا النائب!؟

ولم أجبها وقد ندمت لمغامرتي السخيفة هذه. فقالت وقد وقفت أمام وجهي مباشرة:

-        ماذا يريد جناب خادم مولاي النائب مني؟

-        لا شيء.

كان لا بد أن أنطق بأي كلمة.. فقالت بتعجب مفتعل:

-        لا شيء!؟

-        نعم.

-        وتعليل وجودك الآن في منزلي؟!

-        كنت أبحث عن شيء تركته هنا.. وربما كنت مخطئاً في ظني.. فهو في مكان آخر.

-        عجيب! وهل هو شيء هام لديك!؟

-        كان مهماً قبل الآن.

-        عجيب...! إذا لم يكن مهماً، كنت ستنتظر إلى الصباح وتبحث عنه مع الخادمات.

-        أرجو المعذرة سيدتي لإزعاجك! وعلى كل حال لم يحدث شيء يعكر صفو نومك.

-        مؤدب! مؤدب جداً! لكن الذي تبحث عنه ألا يكون مع إحدى خادماتي؟

-        لا.

-        هل تروقك إحداهن؟

ووثبتُ غاضباً لكي أخرج سريعاً، لكنها أمسكت بكتفي وجذبتني نحوها فالتصق جسمي بجسمها وشعرتُ بأنفاسها تتوالى لاهثة، وقبّلتني حتى كاد أن يُغمى عليّ. ومرقت أمامي وقد جذبتني بيدها نحو مكانها المفضّل.

وأقفلت الباب ووضعتْ يدها حول عنقي لكي تذيبني في قبلة أخرى أصبحت بعدها كمعدن مصهور في أتون صائغ أو حداد.

ورشفتُ من فمها أجمل القبل وتلمست يداي جسمها الرخو الذي كنت أحلم به منذ زمن. وهجعتُ معها في لذة صاحت لها ديوك الفجر.

 

* * *

نهضتُ من منامي فزعاً، وصديقي المريض يصيح بي متسائلاً عما جرى لي، وكيف حالي. اتجهت إلى النافذة الصغيرة لكي أرى أي بصيص من نور. كان ضوء الفجر قد انتشر، فقال:

-        ماذا بك!؟ هل أنت مريض؟

-        لا، أبداً! كيف حالك أنت؟

-        أنا كالعادة، لكنني قلقت عليك!

-        هل حدث لي شيء؟

-        كنت في حالة سيئة!

كنت في الأيام الأخيرة استيقظ متأخراً لأن عملي كان قد تحدد بعد ظهر كل يوم في مقيل النائب وحتى منتصف الليل.

وكان صاحبي الدويدار الحالي قد تدهورت صحته إلى درجة أصبح فيها عبارة عن هيكل عظمي، وما بقي من جلده فهو شاحب أصفر اللون. وكان من النادر خروجه من غرفته.

وكنت أقوم بتقديم جميع وجباته التي لا يمسّ منها إلا القليل النادر تحت إلحاحي الشديد. كان يبدو كئيباً متألماً... زاد من ذلك شعوره بعدم الرضا لعدم اهتمام سكان القصر بزيارته. قال لي ذات يوم:

-        لم يزرني أحد!

أجبته معتذراً:

-        كلهم مشغولون. وحالتك ليست سيئة!

وخرجت منه نهدة ثم صمت، فقلت:

-        ومع ذلك فقد زارك الكثيرون في الأيام الخطرة من مرضك. لم تعد تتذكر ذلك.

 

* * *

تقيّدت بقرار النائب بأن أكون بمعيته دائماً، أعدّ له المفرج للمقيل، وقد امتنعت عن زيارة الأماكن التي يتواجد فيها عادة نساء قصره.

كم يغمرني الحنين كلما تكورت بجوار تلك النافذة الصغيرة المنفية، وتهتز عصفورة صغيرة رمادية اللون فوق مزراب النافذة تذكّرني بأنكِ الملجأ والملاذ البارد الحنون:

-    منذ فترة لم يعد يطرق أذني الرنين الساحر المبحوح الصادر منكِ. كم هو رائع! في بلادي التي حكيتُ لكِ عنها العجاب، استضعفوني، واعتدوا عليَّ، ومسخوني رهينة ودويداراً في بلاطكِ وخادماً في ديوان مقيل أخيك النائب المحترم... ومع ذلك لكأن صوتك الرنان ينزلق برفق فيحول الصدى القاسي إلى موسيقى ذات نغم "حالي".

 

* * *

أدرتُ الأسطوانة في "صندوق الطرب" المصنوع من خشب الأبنوس، والذي لا يُستخدم إلا بتستر ملحوظ، ليصدح ببعض أغاني المطربين اليمنيين أمثال "العنتري" و"الماس" و"القعطبي". فعلت ذلك أثناء قيامي بترتيب مكان "مقيل" النائب.

كنت أضحك على نفسي حين أقف مشدوهاً بذلك الغناء المنبعث من ذلك الصندوق الخشبي المركب عليه اسطوانة فحمية اللون تشبه قرصاً، يصدح منها صوت المغني مع عزف العود المميز.

كم كان يذهب بخيالي آسراً هذا الإبداع، ليس في الغناء والأداء ولكن طريقة التوصيل! صندوق الطرب الخشبي والاسطوانة الفحمية!

كنت أعد ذلك معجزة! وأنا لا أسمع إلا صوت بقرتنا الغالية في سفل الدار تطلب الغذاء بصعوبة بالغة‍!

عندما أكمل عملي في "ديوان" النائب أقفل ذلك الصندوق لأنني سأسمعه في نهاية "المقيل"، وقد أسمع غناءً وعزفاً على العود بل ورقصاً مصاحباً له من أشخاص يجيدون ذلك، وما أكثرهم!

 

* * *

كم يغمرني الحنين كلما تكورت بجانب النافذة الصغيرة المنفية في غرفة صاحبي الدويدار "الحالي"، المريض:

-    وقد تهدل يمامة أو يزقزق عصفور ليذكرني بأنكِ الملجأ والملاذ البارد الحنون. إيه.. شريفتي الحبيبة ذات الصوت المبحوح! منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين الصادر منكِ!... كم هو رائع...! في بلادي التي حكيت لك عنها العجاب، استضعفوني، واعتدوا عليَّ، ومسخوني رهينة، ودويداراً في بلاطك، لكأن صوتك الرنان ينزلق في رفق،  يحول الصدى إلى موسيقى ذات إيقاع حالم و"حالي"!

 

* * *

كم تاقت نفسي لرؤية الشريفة حفصة ولو عن بعد! كنت أختلس من الوقت بعض لحظات لكي أقف وعن بعد من باب دارها عسى أن أشاهدها تخرج، أو أقف أتطلع إلى نوافذ غرفتها عسى أيضاً أن ألمح ولو مجرد طيف لجسمها!

وكنت أتردّد على الأماكن التي ربما تكون متواجدة فيها عادة، حذراً، وأتصنع أعذاراً واهية إذا سُئلت عن سبب تواجدي في تلك الأماكن.

كدت يوماً أن أغامر بزيارة لمنزل الشاعر الوسيم وهو الأبعد مسافة عن المدينة وأكثرها أخطاراً لأي مغامرة، عسى أن أجدها، داخلة إليه أو خارجة من لديه، لكنني فشلت.

 

* * *

لم أعرف في حياتي أنني مارست طقوس الصلاة باختيار حر إلا منذ عرفت الشريفة حفصة وأحببتها.

كان المسجد بجوار البوابة، صغيراً، تعلوه قبة بيضاء من القضاض والنورة. كان مسجداً قديماً جداً، أُعدّ كضريح لأحد الأولياء القدماء المُعتقد ببركاتهم.

وكان يشرف على إقامته صاحبنا "الطبشي" العجوز الذي فدغت رأسه البغلة "الزعفرانة"!

ولقرب المسجد من دار النائب فقد تكفل شخصياً وعلى نفقته الخاصة بإسراجه ليلاً بالمصباح الزيتي الذي يتصاعد دخانه صدئاً ليخفي سقف المسجد البيضاوي اللون.

وقد اعتمد النائب لذلك "الطبشي" العجوز الذي فدغت البغلة "الزعفرانة" رأسه "قدحاً" من الحبوب كل شهر مقابل إقامته للمسجد.

كنتُ أتهجّد فيه بعشرات الركعات عندما تتاح لي الفرصة في أي موقت صلاة، كنت أصلّي سائلاً الله أن يشفيني من حب الشريفة حفصة، وأن يلهم قلبي النسيان لها.

وكم كنت أطيل السجود بخشوع، وأخرج من المسجد بعد ذلك وعندي أمل في إجابة الله لدعائي الصادق الخالص.

كنت أخجل معظم الأحيان من تصرفي هذا، ومع ذلك فكل عملي هذا مرّ دون جدوى، فما أن أدخل راجعاً من بوابة القصر حتى أنظر رغماً عني إلى دارها، بل وأجلس أمامه لحظات عسى أن أرى طيفها!

 

* * *

تركت الصلاة فلم تبلغني مأربي، وعدت كما كنت أحاول أن أجرب أي طريقة أخرى أنساها بها، يا إلهي...! ألم تخلق سواها؟

كنت أكب على عملي في مقيل النائب بجهد زائد، وأعتني بصاحبي المريض معظم الوقت وأجلس مع البورزان أسمع منه حكاياته عن "حرب الانسحاب" التي هزم فيها، وأنصت لزامل العسكر المعتاد، ومع كل ذلك لم أستطع نسيانها!

كنتُ أتذكر تعبيرها لي بأنني تحولت من دويدار إلى خادم، أغسل "المتافل" وألقط الجمر "للمدائع" وأكنس مكان المقيل في وقت متأخر من الليل.

 

* * *

عدت إلى غرفة صاحبي ذات ليلة متأخراً. ارتميت بجوار النافذة الصغيرة، ينهشني الغمّ والكدر والضيق... الضيق الحقيقي من الحياة.

وسمعت سعاله مصحوباً بأنين جديد، تفقّدته، كان هامداً سوى حركات متباطئة من رأسه.. جسمه بارد ولونه شاحب.

 

* * *

قال الطبيب الأجنبي الوحيد في المدينة، وربما في البلاد كلها، بعربيته المكسّرة:

-        ما فيش خوف، واحد حبة بعد أكل، إن شاء الله تمام، بعدين، تأتي مرة يجي عندي، لازم أشوفه!

لملمت صاحبي من أمام الطبيب الذي هرع مسرعاً يتفقد أرانبه في سفل الدار. ذكّرتني رائحة مخلفات الأرانب بداري في القرية، تنشقت بشوق تلك الرائحة فهي شبيهة برائحة ثورنا وبقرتنا وغنمنا!

حاولت مداعبة صاحبي بترديد كلام الطبيب المكسر عربياً، فابتسم مجاملاً لي فقط.

كانت حالته سيئة، ومن يوم إلى يوم تسوء أكثر، وحبة العلاج التي قررها الطبيب لم تجد نفعاً.

 

* * *

أعدته إلى الطبيب عدة مرات فسمعت الكلام المكسر نفسه وحبة العلاج نفسها التي لا يملك سواها دواء للمريض.

حاولت ذات صباح أن أشدو وأنا منفرد بأغنية من قريتي فلم أستطع. وحاولت أيضاً أن أصفر بفمي لحنها فتعثرت.

لا أدري ما الذي جعلني أفقد حتى مجرد الإحساس بالسعادة لأستقبل يوماً جديداً آخر!

 

* * *

كان مقيل اليوم متوتراً، فالنائب ظل خارجاً داخلاً وحالته ليست مستقرة، بل وحالة الضيوف المعتادين في المقيل أيضاً!

أدركت أن هنالك شيئاً، ربما حدث، أو هو في طريقه للحدوث، قد أزعج الجميع!

قال أحد المقربين للنائب وقد تأكد من معرفته التامة لوجوه الموجودين:

-        ما الذي حدث في صنعاء؟

-        قُتلَ الإمام.

-        ومن قتله؟!

-        حزب الأحرار.. الدستوريين.

واستمرت فترة صمت:

-        هل غادر "السيف" المدينة؟

-        نعم.

-        وكيف غادرها؟

-        لا أعلم.

-        ألم يترك لك خبراً؟

-        لا يثق بأحد.

ذهلت لهذا الحوار المتبادل بين النائب وقريبه والذي اتسع مجاله بين المجموعة.

وغادر الضيوف مقيلهم مبكرين على غير عادتهم، واختفى النائب في أحشاء قصره وملحقاته، وعدت مبكراً إلى صاحبي حيث أخبرته بهذه الأحداث، فوثب من مرقده فجأة وهو يسألني:

-        هل قُتلَ الإمام؟

-        هذا ما سمعته.

وارتمى على ظهره وصوته يخفت:

-        هل أنت متأكد من ذلك؟

-        هذا ما سمعته.

ونهض مرة أخرى:

-        وليّ العهد... "السيف".. أين هو؟

-        غادر المدينة.

وارتمى مرة أخرى على ظهره قائلاً كمن يخاطب نفسه:

-        لقد فشلوا...! كان عليهم بسيف الإسلام قبل الإمام.

-        ماذا قلت؟!

-        لا شيء.

-        هل أنت بخير؟

-        كنت.

 

* * *

أهذا الدويدار، صاحبي، أكثر إدراكاً للأوضاع مني، وهو المريض، الآن، وربما على فراش الموت!؟

عجبت، ولمت نفسي، وأنا صاحب قضية ويهمني الأمر أكثر منه!

ارتميت على الفراش في مكاني المعتاد والهواجس تتكالب عليَّ، فقد قُتلَ الإمام الهرم في صنعاء، وسيفه ولي عهده فرّ من المدينة.

وأسرتي؟ بعضها مشرّد والآخرون في السجون أو المهجر.. وأنا رهينة، ودويدار، وخدام مؤخراً، لأن والدي يعارض سياسة الإمام وسيوفه.

لقد قُتل الإمام وهذا هو المهم، وبأيدٍ يمانية وهذا هو الأهم. أكيد ذلك، وأكيد ما حدث.

وفرّ وليّ العهد السيف المسلط على رقابنا. خيبة أمل وغمّ وخذلان، ولكن لا يهم!

 

* * *

في سجل تاريخ شعبنا اليماني أنه قادر على تنفيذ كل رغبة تجتاح مشاعره وهو ينفذها بالفعل ولو بطريقة عشوائية. ربما يقال إنها ليست ميزة، ولكنني أؤكد أنها ميزة، فباستطاعته إنهاء الظالم ولو بصبر الجمال وحقدها!

 

* * *

هيأت مكان المقيل مبكراً مما استغرب له النائب. ولم أُظهر له أي شيء عن مشاعري لما حدث، ولا هو سأل أو تكلم عن ذلك. لئيم بطبعه! وخبيث! وكنت قد اكتشفت من خلال ممارستي للعمل معه أنه يظهر للآخرين غير ما يبطن. تعلمت ذلك منه وطبقته في معاملتي معه بالرغم من استهجاني لهذا الأسلوب.

 

* * *

ونشطت لكي أسمع جديداً في الأمر، لكنهم بخلوا هذا اليوم بأن يتفوّهوا بأي حديث مهم، فكان مقيلاً صامتاً توجّست من خلاله مخاوف وذعراً وقلقاً.

لا بد أن شيئاً قد حدث! هذا ما استنتجته. وجوه القوم تعكس القلق نفسه الذي أعيشه!

 

* * *

بكرت على غير عادتي، وتجولت في أرجاء القصر وملحقاته ما شاء لي التجوال. حتى دار الشريفة حفصة، مررت بها.

يا ترى هل هي مهتمة بهذه الأحداث؟ أم أن كل همّها هو نفسها والشاعر، وربما أنا؟!

 

* * *

توافد على قصر النائب مواطنو منطقته المحيطة بالمدينة، معظمهم من رعاياه وشركائه في الأراضي، وقلة من الأنصار.

بعضهم ببنادق يحملونها على أكتافهم بملل، والبعض الآخر بعصي وفؤوس يتوكأون بها. وكانوا "يزملون" أمام بوابة القصر:

يا شجرة يا مُورِقة يا مُحْدِقة...

                                    ...يسقيك ربي بالمطر!

أشكال وألوان من البشر غير منسقة ولا منتظمة، وأفواه تنعق بكلام ليس في محله، امتعض له النائب وهو الذي كان قد أرسل لهم الرسل (القاصدة) لكي يحضروا ويشّرفوه في مثل هذه الأحداث والأزمات، وهذه المواقف التي يجب فيها الحزم والصرامة وإظهار القوة بكثرة الأتباع النافعين.

ومع ذلك فقد مرّت الأمور كما يهوى، فكان تعليل الناس هو أن النائب سيحسم الأمور لصالحه، أو لصالح السيف وليّ العهد، أو لصالح الأحرار. وقد استغل النائب هذه التآويل المتنوعة وتركها تسري وتشيع، وارتاح لها كثيراً!

 

* * *

قلت لصاحبي المريض كل ذلك، فقال:

-        النائب؟ مَلَكي أكثر من الملك!

-        كم أنا غبي!

-        أنت طفل.

-        وصفوني قبلك بهذه الصفة!

-        أتقصد الشريفة حفصة؟!

-        والبورزان أيضاً!

وسعل فجأة سعالاً حاداً لم يهدأ منه إلا عندما ضممته إلى صدري، فقال بصوت خافت:

-        البورزان؟! ليس لديه سوى قصة "حرب الانسحاب" التي هزم فيها، وهي حكاية كبيضة الديك!

كانت إجابة بعيدة عن القصد، وربما تعمّد صاحبي المريض ذلك! لكنني قلت:

-        لم أقصد ما طرق ذهنك من وهم!

-        على كل حال، ستعرف ذلك مستقبلاً!

لم أحاول الإجابة عليه بأن البورزان قد قال لي ذلك من قبل.. وشعرت بحرجه، فرقدنا هامدين مع بصيص من نور من كوة النافذة الصغيرة، وسعاله الحاد يقلقني ولا يهدأ إلا بعد أن أضمه إلى صدري كي يستردّ نَفَسه.

 

* * *

منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين الساحر الصادر عنها، كم هو رائع! في بلادي التي حكيت لها عنها العجاب، استضعفوني واعتدوا على أسرتي، وصادروا كل شيء، مسخوني إلى رهينة ودويدار ثم خادم، في بلاطها وبلاط أخيها النائب!

لكأن صوتها الرنان ينزلق الآن في رفق ويحول الصدى إلى موسيقى ذات أنغام حالمة!

 

* * *

اعترضت طريقي في فناء القصر بجوار الفسقية. كنت خارجاً لتوي من مكان مقيل النائب بعد أن قمت بإعداده حسب العادة بعد رحيل آخر مُقيّل فيه.

قالت بدلال:

-        هيه! يا سبحان الله! كأننا لا نعرف بعضنا!

أخفيت ارتباكي ولم أجبها، لكنها اقتربت مني وأمسكت بذراعي قائلة:

-        أوبه (انتبه)! أنا الشريفة حفصة!

-        لم أنكر ذلك!

-        وأنت رهينة!

-        .. ودويدار.

-        .. "حالي"!

-        وماذا؟

-        وخادم سيدي النائب! الذي يقوم..

-        بغسل الأواني القذرة، و... و... و...!

-        أو تنكر ذلك؟

-        معاذ الله!

-        حسبتُ أنك ستنكر!

لا أدري كيف واتتني الشجاعة لكي أقف أمامها في ثبات تام واعتزاز بالنفس لم أعهدهما من قبل، مما جعلني أتخطاها ماشياً إلى الأمام، نحو بوابة القصر، فقالت:

-        إلى أين أنت ذاهب؟

-        لديَّ عمل.

-        هكذا!

-        ماذا تريدين؟

-        أن أراك!

-        بهذه البساطة!

وكشّرت كعهدها دائماً، وبصوتها المبحوح المحبّب إلى نفسي قالت:

-        وتتركني لوحدي!؟

ونظرتُ حولي متصنعاً الاهتمام، كأنني وإياها في غابة موحشة وهي تخاف الوحوش الكاسرة!

وقلت:

-        أنتِ في دارك!

-        نعم؟!

صمتُّ قليلاً... كنتُ أعرف أنها أقوى مني في مجال السخرية بالآخرين فحاولت استثارتها:

-        لا يهمك إلا ذاتك الخاصة.

-        ومن أحبّ.

-        كلام!

-        هل تنكر ذلك؟

-        نعم.

-        وتقول هذا بإصرار صارم؟

لم أجبها، فتمالكت أعصابها وأخذت بيدي بعنف إلى ركن في الساحة ثم أجلستني بجوارها فجلست وقالت بصوت لم أعهده فيها من قبل، صوت مشوب بالخذلان والانهزام:

-        أريدك أن تنقذني!

لا أدري كيف صدمني سؤالها الحزين الجاد والذي هوت به على مسامعي، كان صوتاً ينمُّ عن حالة ضعف لم أعهده فيها من قبل.

قلت ملاطفاً:

-        ومن ينقذني أنا أولاً، وينقذ هذا البلد أيضاً!؟

-        أنا ربّة إبلي وللبيت ربٌّ يحميه.

-        لم أفهم!

-        هه!

-        نعم.

-        ألم تقرأ حتى كتب التاريخ؟!

-        كتب التاريخ؟! لم أقرأ صفحة واحدة! كان والدي يقرأ هذه الكتب دائماً.

ضحكتْ، وقد كادت من قبل أن تذرف الدموع الغزيرة، ثم ضمتني إلى صدرها مرحة.. فاستسلمتُ برأسي بين نهديها الناضجين بالأنوثة والمحبة والشهوة.

أزاحتني برفق قائلة:

-        هل تنقذني مما أنا فيه؟

وابتسمتُ مرة أخرى، وقد هالني طلبها المفاجئ، وبعد أن تريثتُ ممعناً في طلبها هذا أجبت بعد قليل:

-        ممَّ أنقذك؟!

-        من حياتي هذه.

كان ردها واضحاً وسريعاً، فقلت متفلسفاً بحِكَم الريف:

-        من هو في الوادي يقول ليتني في الجبل! ومن هو في الجبل يقول ليتني في الوادي!

-        حِكَم ريفية هبلاء!

-        حِكَم مأثورة وصحيحة.

صمتت برهة أتاحت لي فرصة للتأمل والتبصر، فقالت:

-        أنا وأنت في مكان واحد، حسبته أنت جبلاً أو وادياً.

-        فرق كبير بيني وبينك، كالفرق بين الجبل والوادي!

-        أنا أخت النائب! وأنت دويدار، رهينة، ...و...و...و!!

-        هذه نقطة!

-        والأخرى؟

-        لا داعي للاسترسال في حديث لا فائدة منه!

وثبتْ غاضبة واتجهت نحو دارها.

 

* * *

توهجت المدينة والقرى المحيطة بها في الجبال والسهول بأضواء هائلة على أسطح المنازل تدل على وقوع حدث هام..

 

* * *

انتصر الإمام الجديد، السيف، الأمير، وليّ العهد السابق... على الدستوريين، الأحرار، الثوريين...

 

* * *

وعلتْ دار النائب وملحقاته -برغم تخمينات العامة غير الموفقة- مشاعل النصر المعجونة من رماد وقاز.

كنت قد رفضت بشدة أن أعجن الرماد بالقاز وأشعله رمزاً لانتصار الإمام الجديد، ولكن غيري من المتطوعين قاموا بالمهمة.

 

* * *

وهمدتُ متألماً بجوار صاحبي المريض. كان يئن بفحيح مؤلم!

توجهتُ نحو النافذة الصغيرة وأضواء المشاعل تتلألأ من على سطح كل منزل وتغمر غرفتنا ذات الكوة الصغيرة بالنور المقلق الأصفر الباهت.

عاد السيف، الإمام الجديد، وقد انتصر. لا بد أن والدي أحد ضحاياه، والذين ضُربتْ أعناقهم في مدينة "حجة". وقد عاد السيف وليّ العهد الإمام الجديد بعد ذلك منتصراً بعد أن أباح "صنعاء" للنهب والسلب والقتل والدمار.

 

* * *

رقدَ صاحبي الدويدار الحالي، ورقدتُ معه رقدته الأخيرة!

ميتاً كان... وهامداً... بارد الجسم، وبشكل أوحشني!

كنت قد تمالكت أعصابي، فلم أنهر لموته، كنت من قبل أتوقع أن أُصاب بالجنون إذا ما مات صاحبي، لكني تقبلت الأمر الواقع بانفعالات صامتة وهادئة.

احتضنته. وغسلته بنفسي وهو عار، شبه هيكل عظمي، بجلده الباهت اللون الذي تبرز كل نتوءات العظام من خلاله. وكفّنته بكفن أبيض شراه البورزان، وعطرته بروائح تطوّعت بها الشريفة حفصة، وكم كانت ثمينة لديها وتحتفظ بها لمناسبات أخرى! ووضعتُ بين طيات كفنه "مشاقر" من الريحان والزهور الشذيّة.

بحثتُ عن البورزان عسى أن يفتح عيني لينهمر منها الدمع. لكنه كان مكروباً، فارّاً مع عقدته (هزيمة الانسحاب)! وربما زاده فشل هذه الأحداث انهزاماً فهرب!

كم كنت أود أن يكون موجوداً، وخصوصاً أنه شارك بشراء الكفن، ليشاركني متاعبي وهمومي أو يُفرّج عني قليلاً بقصصه عن حرب الانسحاب!

أما الشريفة حفصة، والتي ترددتُ كثيراً لأرتمي بهمومي بين أحضانها، فقد شاركت بالحضور وعلاها الحزن وهي تشم عطوراتها الخاصة الثمينة تفوح من نعش الفقيد. حضرَ أيضاً الطبشي العجوز المفدوغ الرأس.

كنا هؤلاء فقط أهم الشخصيات في جنازة الفقيد الراحل.

كانت معظم نساء القصر وملحقاته، ممن عِشْن معه في مغامراتهن، يتفرجن من بعيد.

جنازة صغيرة سارت بنعش صاحبي الخشبي المحمول على الأكتاف إلى مقبرة المدينة المزحومة بجنائز كثيرة، مصحوبة بأهازيج وتراتيل الموت الشاحبة:

لا إله إلا الله... لا إله إلا الله.

لا إله إلا الله... محمد رسول الله...

 

* * *

يا دويدار.. قد امك فاقدة لك

                        دمعها كالمطر..

يا رهينة.. قد امك فاقدة لك

                        دمعها كالمطر..

 

* * *

يا الله رضاك... يا الله رضاك... يا الله رضاك..

وارضَ علينا برضاك... يا الله رضاك..

واحنا طلبناك عظيم الشأن...

يا من تفتح لنا ابوابه!

 

* * *

طغت على مسامعي كل تلك الأهازيج الماضية وأنا أزاحم. كان عليَّ أن أشقّ بنعش صاحبي الراحل باب المدينة الضيّق إلى مقبرتها العامرة. وطغت أكثر فأكثر "زوامل" وأهازيج جند الإمام الجديد المنتصر:

يا وادي "الحوبان"([2]) توسع..

                        لجيش سيدي والمدافع..

ثم علا زعيق الجند:

سادتي أنتم نجوم الأرض دايم..

                        من سعادتكم نزلنا للتهايم..

                                                نرضى الله والإمام.

 

* * *

كان الطبشي العجوز قد أعدّ قبراً صغيراً. كنت في المقدمة وعنقي يكاد ينكسر برغم خفّة النعش ومن يرقد فيه، ولكن استمراري في حمل النعش من القصر إلى المقبرة لقلة المتأجّرين والطالبين للثواب أرهقني كثيراً، وقد انحنيت تحت مقدمة النعش. ورغم تبرّع بعض المارّة لنيل الأجر والثواب، لم يعفني ذلك من حمل المقدمة وإن كان قد ساعدني على أن يظل النعش مرفوعاً إلى الأمام والجنازة مستمرة.

كان العرق يتصبب مني بغزارة ألهبت عيني.

وضعنا النعش أمام القبر الصغير لنتلو عليه سورة "يس" من القرآن الكريم كما هي العادة.

لمحتُ الشريفة حفصة مع بعض نساء القصر وجيرانه جالسات فوق قبور مقضضة. لم أحاول إعادة النظر إليها.. ولا أدري كيف عرفتها تلقائياً مع العلم بأنها مع النسوة الأخريات يلبسن "الشراشف" السوداء نفسها!

وأهَلْنا على القبر ومن بداخله التراب. ونُصب حجر فوق القبر يدل على أن ساكنه ذكر وليس أنثى!

وقمت بنزع شجرة عشب أخضر غرستها فوق القبر وصببت عليها الماء!

أمسكتْ بكتفي الشريفة حفصة وهي تقول:

-        عظّمَ الله لك الأجر!

لم أكن أعرف ماذا يُردّ في مثل هذه المناسبة. كنت أذكر فقط أننا نخرج من القرية في أي جنازة لنصيح بالترانيم الجنائزية، ثم نقرأ "يس" والفاتحة فوق القبر.

قالت:

-        هل نعود؟

-        أريد أن أجلس قليلاً هنا.

-        لماذا؟

-        هكذا أردت!

-        لا تغضب! كلنا حزانى عليه!

-        ليس مثلي.

-        لا تكن مبالغاً في عواطفك!

-        لا وجود للعاطفة في هذا القصر وملحقاته!

ابتسمتْ، وقالت بصوت هادئ:

-        لا تكن فظاً.. وجلفاً.. ومتطرفاً..!

-        ماذا تقصدين؟

قالت بهدوء أيضاً وهي تُربّت على كتفي:

-        لا أقصد شيئاً. كل ما أقصده هو أن نعود إلى الدار لكي نستريح.. وننسى!

-        ماذا ننسى؟

وفقدتْ هدوءها، وقد علا صوتها:

-        ننسى هذا! هذا الذي رحل! وما فات مات!

-        لن أنساه!

-        لن ننساه جميعاً، ولكن ما المبرر لبقائنا وحدنا في المقبرة؟

وتلفتُّ حولي. لم أجد أحداً سواها! واقفة أمامي، وصمت المقبرة يخيم ويطغى على حوارنا المتبادل. ومع ذلك جلستْ هي على حجر وجلستُ بجوارها.

كنت أعرف أننا لن نصل إلى حل معاً.

كنت أُدبّر حالي في قضية فكرتُ بها منذ أُسرجت مشاعل النصر للإمام الجديد!

وهي؟ لا أدري بماذا تفكر! قلتُ لها إنني لن أغادر المقبرة إلا عندما أريد.

فقالت:

-        وقت الغداء قد أزف، والنائب ربما يحتاج إليك!

وتفوّهتُ على النائب وعلى الجميع بألفاظ نابية وجارحة، لكنها تمالكت أعصابها وقالت:

-        هدئ من غضبك!

-        لست غاضباً.

-        أوَ متألم أنت؟

-        لا.

-        حزين؟

-        ربما!

 

* * *

ومرّ الوقت وكاد المساء أن يهجم علينا، قالت:

-        ألديك فكرة ما؟

كان الصمت يطبق على كل أرجاء المقبرة، والأصيل يكاد ينتهي بشمسه الحالمة المؤثرة المحببة إلى نفسي. ليت حياتنا كلها أصيل دائم نحلم فيه بمرح الحشاشين، وخيال وطموحات السكارى، وبحرارة توقُّد أفكار "المقيِّلين" بالقات!

أجبتها:

-        نعم.

-        الهروب؟

-        نعم.

-        لا يمكن!

-        وما المانع؟

صمتت لحظة ثم قالت بتحدٍّ سافر وجادّ:

-        لن أتركك!

-        هذه المرة سأفلت منكِ.

-        لن تستطيع!

تأملتها قليلاً، ثم قالت ساخرة:

-        هذا منك مجرد طموح لا تقوى على تنفيذه!

-        بل تصميم!

-        سأضطر لرميك بالحجارة حتى أدميك!

-        حتى ولو بالقنابل!

 

* * *

عاد الصمت بيننا مع انتهاء الأصيل وإطباق الليل العابس وسكون المقبرة الموحشة. قالت متسائلة:

-        إلى أين ستذهب؟

-        إلى الجحيم!

-        أسألك بهدوء، فلماذا تجيب بغضب؟

-        هذا طبعي!

-        ليس هذا طبعك! أنت "حالي" دائماً!

-        كان ذلك قبل هذا اليوم!

وعاد الصمت.

اقتربتْ مني أكثر، أكثر من أي يوم سابق، وأحسستُ بجسمها المكتنز بكل أنوثة العالم يطويني بحراراته.

كان فمهما العذب يتكلم أمام وجهي مباشرة.

عيناها مركزتان على عينيّ اللتين هربتُ بهما بعيداً!

لم أستطع أن أقابلها وجهاً لوجه، أن أتكيف حتى بمجرد الجلوس معها. لم أستسغ ذلك، ربما رعباً ورهبة!

 

* * *

قالت وقد مضى الوقت إلى الظلام الدامس وهي تهز كتفيّ تريد أن أواجهها وجهاً لوجه، وبصوت جاد وحازم:

-        خذني معك!

-        ... إلى أين؟!

-        إلى الجحيم!

-        أي جحيم؟!

-        الذي ستذهب إليه!

ارتعت لقولها. كانت جادّة، وحازمة، وبصوتها المبحوح المحبب إلى قلبي. قلتُ بتروٍّ وبعقل:

-        سيدتي!...

وقاطعتني بنرفزة:

-        لا تخاطبني هكذا!

-        عزيزتي!...

-        كن رجلاً وحدِّدْ موقفك!

-        أيّ موقف تريدين مني تحديده؟!

-        هل تحبّني؟

-        نعم.

-        هل تؤمن أو تثق بأنني أحبك؟

-        ... ربما!... يخامرني الشك في ذلك!

-        قلت لك كن رجلاً!

-        سمعت منكِ هذا من قبل! مجرد نزوة كلام!

-        ليس كلاماً فارغاً الآن.

-        بل هو مجرد كلام! أعرف من تحبين... وما هو طموحك!

-        عُدتَ إلى الطموح مرة أخرى!

-        حقيقة... لا مناص منها!

-        الحقيقة أنكَ لا تفهم!

-        والحقيقة أنكِ تطمحين ولا تحبين!

تمالكت أعصابها قليلاً ثم قالت:

-        قلتُ لكَ خذني معك!

-        كلام فارغ!

-        أنت جبان!

-        في نظرك.

وتمالكتْ أعصابها وتظاهرتْ بأنها تصلح من شأنها واستدارت نحوي قائلة:

-        لن أتركك!

-        ستتركينني كرهاً عنك!

 

ووثبت قائمة حيث أخذت حجراً من الأرض لتقذفني به، لكنني كنت قد أطلقت لساقيّ العنان،  فابتعدتُ، وانهالتْ خلفي الحجارة المقذوفة منها. لم أتوقف برغم إشفاقي عليها.

وعلا صياحها بصوتها المبحوح الذي أحبه، يطرق مسامعي... وتلقّفتني ظلمات الجبال المطلة على الوادي الموحش المنحدر إلى المستقبل المجهول، وأنا أتوقع صوتها أو حجراً مقذوفاً منها سيقع على ظهري، لكنني كنت قد قطعتُ مسافة كافية في طريق جديد مؤدٍّ إلى المستقبل... مخلفاً ورائي صوتها المبحوح المحبب إلى قلبي، وذكرياتي مع صاحبي المرحوم والبورزان والطبشي الذي فدغت البغلة رأسه، وزملائه الجند المنشدين:

يا رهينة قد امك فاقدة لك..

دمعها كالمطر!!...


 

([1]) قصيب: جمع قصبة
([2]) الحوبان: وادي مشهور في اليمن.